زراعة البحيرة تنظم دورة تدريبية لرفع كفاءة العاملين بالجمعيات الزراعية    الرئاسة التركية: أردوغان يشارك في قمة شرم الشيخ للسلام    زيلينسكي: بحثت مع ترمب تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك وأنظمة باتريوت    استشهاد الصحفي الفلسطيني صالح الجعفراوي على يد عصابات خارجة عن القانون في غزة    أجواء احتفالية في ستاد القاهرة قبل مواجهة مصر وغينيا بيساو    اجتماع جديد لمجلس الزمالك لبحث أوضاع النادي    ذهبية المنياوي وبرونزية صبحي تزينان اليوم الثاني من بطولة العالم لرفع الأثقال البارالمبي    كشف ملابسات مقطع فيديو لشخص روع المواطنين بسلاح أبيض في الإسكندرية    صحة مطروح تُكثف لجان البيئة لمراجعة المدارس والمياه والمنشآت قبل العام الدراسي    وزير الأوقاف: إعادة انتخاب مصر رئيسا لمنظمة العمل العربية يعكس مكانة الدولة الرفيعة    مساعد وزير الخارجية الأسبق: مصر حائط الصد الأول ضد تهجير الفلسطينيين    أحمد فتحي: فرحة التأهل لمونديال روسيا مختلفة عن أمريكا.. واحتفلت مثل الطفل    إصابة أولمو تربك حسابات فليك قبل مباراة جيرونا    تعرف على تشكيل كرواتيا ضد جبل طارق بتصفيات المونديال    «مدبولي» يتلقى مكالمة هاتفية من نظيره الجزائري لمتابعة تحضيرات اللجنة العليا المصرية الجزائرية المشتركة    أحمد موسي: كانت هناك محاولات لإفشال مفاوضات شرم الشيخ لكن ترامب ضغط لإجرائها    التحريات تكشف تفاصيل جديدة في حادث سقوط السقالة بمدينة السادات في المنوفية    مستشار وزير الري الأسبق: إثيوبيا ارتكبت أخطاء جسيمة في ملء وتشغيل سد النهضة    بيحبوا يصحوا بدري.. 5 أبراج نشيطة وتبدأ يومها بطاقة عالية    محمد رمضان يهنئ لارا ترامب بعيد ميلادها: «اتمنى لكي سعادة لا نهاية لها» (صور)    هل التدخين يبطل الوضوء؟ أمين الفتوى: يقاس على البصل والثوم (فيديو)    أسامة الجندي: القنوط أشد من اليأس.. والمؤمن لا يعرف الإثنين أبدًا    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : أول الحذر..ظلمة الهوى000؟!    قافلة طبية بجامعة الإسكندرية لفحص وعلاج 1046 مواطنًا بالمجان في الكينج مريوط (صور)    «الحصاد الأسبوعي».. نشاط مُكثف لوزارة الأوقاف دعويًّا واجتماعيًّا    بعد حادث الوفد القطري.. رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية القطري يستقبل سفير مصر في الدوحة    وزير خارجية لبنان يوجه بتقديم شكوى عاجلة لمجلس الأمن والأمم المتحدة ضد الاعتداءات الإسرائيلية    محافظ القليوبية يقود حملة مفاجئة لإزالة الإشغالات بمدخل بنها    وكيل صحة الدقهلية يبحث خارطة عمل المرحلة المقبلة مع مديري المستشفيات والإدارات الفنية    أوسكار عودة الماموث.. فيلم يخطو نحو الإبهار البصري بقصة إنسانية مؤثرة    20 أكتوبر.. انطلاق جولة «كورال وأوركسترا مصر الوطني» بإقليم القناة وسيناء    الخريف.. موسم الانتقال والحنين بين دفء الشمس وبرودة النسيم    مصر تدين الهجوم على مركز لإيواء النازحين بمدينة الفاشر السودانية    دمياط: فصل المياه في بعض المناطق منتصف الليل حتى الثامنة صباحا    رئيس منطقة مطروح الأزهرية يكرم الطالبة هاجر إيهاب فهمي لتفوقها في القرآن والخريدة البهية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم 12-10-2025 في محافظة الأقصر    تأجيل إستئناف المتهم الرئيسي ب " تظاهرات الألف مسكن "    مي فاروق: أغنية «باركوا» علامة في كل الأفراح.. ومشاركة زوجي في ألبوم «تاريخي» صدفة    الخريف موسم الانتقال... وصراع المناعة مع الفيروسات الموسمية    بالأسماء.. الرئيس السيسي يُصدر قرارا بتعيينات في مجلس الشيوخ    سويلم يلتقى نائب وزير البيئة والزراعة السعودى ضمن فعاليات أسبوع القاهرة الثامن للمياه    "سلامة الغذاء" تنفذ 51 مأمورية رقابية على السلاسل التجارية في أسبوع    إصابة 5 فى تصادم سيارة ملاكى وتوك توك وتروسكيل بطريق برج نور أجا بالدقهلية    رئيس حزب الإصلاح والنهضة: قمة شرم الشيخ تتويج للدور المصرى التاريخى الحكيم    مستشفيات مطروح تقدم 38 ألف خدمة طبية وتجرى 206 عمليات جراحية خلال أسبوع    محافظ الدقهلية يتفقد شوارع حي شرق المنصورة وقرار عاجل بشأن النظافة والإشغالات    رئيس الضرائب: التعامل بالفاتورة الالكترونية والإيصال الإلكتروني يعزز الشفافية    تنفيذ ورش تدريبية مجانية لدعم الحرف اليدوية للمرأة في الأقصر    الداخلية تضبط أكثر من 106 آلاف مخالفة مرورية في 24 ساعة    "الوطنية للانتخابات" تواصل تلقي طلبات الترشح لانتخابات مجلس النواب 2025 لليوم الخامس    محافظ أسوان يتابع استكمال تشغيل المراكز الطبية ضمن منظومة التأمين الصحي الشامل    مراكز خدمات «التضامن» تدعم ذوى الهمم    محمود ياسين من نادى المسرح فى بورسعيد إلى ذاكرة الوطن    مدارس التكنولوجيا تعيد رسم خريطة التعليم الفنى    مصر تتسلم رئاسة المنظمة الدولية للتقييس "أيزو" لمدة 3 أعوام بعد فوز مشرف ومستحق    «كفى ظلمًا».. حسام المندوه: أدخلنا للزمالك 800 مليون جنيه    استبعاد معلمي الحصة من حافز ال 1000 جنيه يثير الجدل.. خبير تربوي يحذر من تداعيات القرار    تركيا تكتسح بلغاريا بسداسية مدوية وتواصل التألق في تصفيات كأس العالم الأوروبية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل حقًا مات «الخليفة»؟!
نشر في الشروق الجديد يوم 16 - 07 - 2017

وسط أهازيج الاحتفال بما اعتبر «انتصارًا» عسكريًا في الموصل «المدمَّرة»، عاد الخبر ليصبح عنوانا، وعاد التساؤل عن تأكيد مقتله ليصبح علامة الاستفهام الأبرز. فماذا يعنيه موت الرجل إذا كان قد مات؟ أو بالأحرى، هل بموت الرجل، إذا كان قد مات، يموت ما يرمز إليه، وتنتهي القصة؟
في ظل غموض متوقع، تناقلت لنا الأخبار غير مرة تؤكد / أو تشكك في نبأ مقتل أبي بكر البغدادي، رأس «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، أو «الخليفة» كما بايعه مناصروه هنا وهناك، قبل أن يخرج علينا خطيبا في ثياب «أمير المؤمنين» من على منبر الجامع الكبير بالموصل في الرابع من يوليو 2014 والذي دخله جنود الجيش العراقي قبل أيام، لتخرج علينا مرة أخرى أنباء البغدادي؛ قتيلًا أو جريحًا أو هاربًا. لا أحد يستطيع أن يقطع (حتى اللحظة على الأقل)، ولكن كلنا نستطيع أن نقرأ في سيرة الرجل، وسيرة ما حدث لنطرح السؤال الأهم: هل كانت «مفاجأة الخليفة» خارجة عن السياق؟ وهل بموت «الخليفة»، يموت ما يرمز إليه؟ وتنتهي القصة؟
في فصول القصة أن إبراهيم عواد إبراهيم البدري، الذي كنى نفسه بأبي بكر البغدادي بعد أن سمى «خليفة للمسلمين» ولد عام 1971 في سامراء على الحافة الشرقية من المثلث السُني شمالي بغداد، ليعيش سنوات عمره الأولى في «عراق صدام»، الذي، كما لم يوفر جهدًا في تأكيد ثقافة الحكم بالحديد والنار، لم يوفر أيضا جهدا في استخدام شعارات التراث ومشاعر الدين، ليس بداية «بقادسيته» المقدسة، وراية «الله أكبر» وليس نهاية بتبرعه بلترات من دمه لاستخدامها كحبرٍ في إعداد نسخة من القرآن الكريم، توسَد في «مسجد أم المعارك».
بعد سقوط بغداد، وبعد ما بدا من انقلاب دفة التمييز الطائفي التي كان قد بدأها صدام إلى الناحية المقابلة، انضم الشاب الصغير إلى صفوف المقاومة، ليكون مصيره في النهاية المعتقل مع ما يناهز 24 ألفا من العرب «السنة»، معظمهم من الذين كانوا قد خدموا في جيش صدام حسين وأجهزة استخباراته (لأسباب طائفية وأمنية بحتة، كان صدام يعتمد على السنة، وبشكل رئيس على عشيرته) . وفي «السجن»، كما تقول القصة الكلاسيكية المكررة في تاريخنا المعاصر كله، صُنع «تنظيم الدولة» من أولئك الذين كانوا حقا، أو باطلا يشعرون بأنهم مظلومون، أو على الأقل يشعرون بأن لا مستقبل لهم بعد أن أصبحت ظهورهم إلى الحائط. لاحظوا من فضلكم أن القصة تكررت، وتتكرر في غير مكان من عالمنا العربي. لا فارق ربما بين سجن «بوكا» العراقي، ومعتقل «العقرب» المصري. أو «السجن الحربي» في قاهرة ستينيات القرن الماضي الذي تخرج منه أفواج ممن شكلوا نواة كل تنظيمات العنف الديني التي عرفنا بعد ذلك.
سجين سابق قال نصا لمراسل جريدة «الجارديان» البريطانية إنه لو لم يكن هذا السجن لما كان تنظيم الدولة.. «كان سجن بوكا مصنعا. لقد صنعنا جميعا، وأسْهمَ في بناء أيديولوجيتنا» وحسب السجين السابق ذاته، فالسجناء كانوا أطلقوا على معتقلهم «الأكاديمية»، وخلال الأشهر العشرة التي مكثها البغدادي فيه، عمل كأنه العضو الأهم في هيئة التدريس.
كم «أكاديمية» مثل تلك في سجوننا العربية؟ لا أعرف.. ولكن السؤال مشروع ومطروح، سواء مات البغدادي أو لم يمت.
***
خريطة «الدولة» - يناير 2016
كسؤال السجن، فالأسئلة المشروعة والمطروحة كثيرة.
كيف أصبح الفتى «الانطوائي» كما يصفه أقران طفولته، أميرا للمؤمنين؟ وكيف صار له أن يحكم فعليا، لثلاث سنوات كاملة «دولة» تتجاوز في مساحتها ربما مساحة دول كثيرة معترف بها، ويأتلف لمحاربتها «التناقضات» من أكثر من ستين دولة (إذا أخذنا البيانات الرسمية لشرعنة الحرب «دوليا» في الاعتبار)؟ وكيف أصبحت «الدموية» عنوانا إعلاميا لتلك الدولة؟
للقصة مشاهد متعددة وكلاسيكية في آنٍ.
أعرف أن الأصابع الاستخباراتية توغلت في كل إناء. وأعرف أن هناك أسئلة كثيرة حول المستوى التقني لإعلانات «داعش» التلفزيونية. ولكني أظن أيضا أننا جميعا قبل هذا كله نعرف من أي ثقافة جاء البغدادي؟ وفي أي بيئة فكرية واجتماعية وسياسية تربى.
جاء البغدادي من ثقافة توارثناها تكرس لحكم الفرد. وتتجمل بمقولات دينية، كما تَربى، مثلنا جميعا في بيئة فكرية تشرعن «للاستبداد»، مستحضرة «نصوصا» دينية بغض النظر عن «المقاصد» والجوهر.
تربى البغدادي، كما مناصروه في أحضان ثقافة ألفنا في مناخها كيف يرفع الحاكم المستبد سيفه في وجه مخالفيه (باسم الدين ونصرته) لا فارق بين معاوية بن أبي سفيان (الأموي)، وأبي العباس السفاح (العباسي). وبين وارثيهما في تاريخنا الحديث.
جاء البغدادي، وأشباهه من خلف أسوار سجون يدرك فيها المظلومون أن ظهورهم إلى الحائط، وأنه طالما لا أمل لهم في حياة كريمة في هذه الدنيا (الظالمة)، فليس أمامهم غير المراهنة على الحياة الآخرة؛ استشهاديين، كما يطلقون على مرتدي الأحزمة الناسفة، أو جهاديين في سبيل الحق (الذي هو «العدل»، لا تنسوا) كما تقول أدبياتهم المحرضة على «الثأر» والقتال.
أعرف أن هناك من «لواءات الفضائيات» (من عينة ذلك الذي حاول إفهامنا أن الرياح الغربية كفيلة برد الصواريخ الاسرائيلية القادمة من الشرق) من لم يتردد أن يقول لنا (لا تستغربوا) أن هناك «شريحة إلكترونية» مركبة في مخ أبى بكر البغدادي يتحكم فيها رجال ال CIA من واشنطن (!) لا أريد أن أضيع وقتكم، أو أن أهدر هذه السطور في مناقشة «مسألة الشريحة» تلك علميا أو منطقيا، فالمنطق في منطقتنا فى إجازة.
الذين يستمرأون وهم المؤامرة، ويدمنون حكايا الجنرالات «الاستراتيجيين» عن الخلية المزروعة في رأس البغدادي، ربما عليهم أولا أن يعودوا إلى قصة أحد رواد هذا الفكر (صالح سرية - قائد مجموعة الفنية العسكرية في سبعينيات القرن الماضي) وأن يستمعوا إلى مرافعة كارم الأناضولي أمام المحكمة (1974). ثم ربما عليهم ثانيا أن يعيدوا قراءة تاريخنا وتراثنا أن القتل السياسي «تحت رايات الدين» كان دائما هناك. وأن «التكالب على السلطة» في ثقافتنا كان دائما طريقا للدماء.. وأن الخلاف الذي من المفترض «ألا يفسد للود قضية» كان الخلفاء، (وما زال ورثتهم) يحسمونه دوما بحد السيف. ومنهم تعلم الناس. أكرر: «ومنهم تعلم الناس».
لا أظن أننا بحاجة للقول بأن من الصعب أن نحصي في تاريخنا عدد من قتلوا تحت رايات الدين (وإن كان بأهواء السياسة). ربما يكفي فقط التذكير بأن عثمان بن عفان؛ ثالث الخلفاء الراشدين، لم يحمه ورعه فقُتل. وكذلك قُتل خليفته علي بن أبي طالب (رضى الله عنهم أجمعين). وفي التفاصيل أن ذلك وغيره، وإن كان بأسباب سياسية. إلا أنه كان دائما تحت رايات ترفع شعارات دينية. لا جديد هناك.
لم يكن البغدادي / الخليفة ولا دولته الأكثر دموية في تاريخنا (كما لم يكن تاريخنا بالمناسبة أكثر دموية من تاريخ الغرب قبل أن يعرف التحرر من استبداد الكنيسة وفاشية العسكر .. ولكن تلك قصة أخرى)
***
كغيره من تلك التنظيمات، استندت شرعية البغدادي على «البيعة».. ثم على السمع والطاعة. وهل في منطقتنا شرعية أخرى وإن اختلفت اللافتات؟ وهل هناك فارق حقيقي بين احتكار (نصي) لأهل الحل والعقد لسلطة هذا القرار، وبين احتكار (واقعي) لأهل السلطة والنفوذ في هذا القُطر أو ذاك؛ سواء كانوا عسكريين أو حزبيين أو حاملين لمفاتيح بيت المال؟ هي «الأوليجاركيا» الحاكمة ذاتها. وهي الثقافة الحاكمة ذاتها. وهو حكم الفرد ذاته. سواء دعا له الأئمة على المنابر، رغم ما يعرفونه من فسقه وظلمه وفساده، أو طبّل له الإعلاميون (فقهاء العصر) على هذه الفضائية أو تلك.
ما الفارق، «ثقافيا» بين «بيعة البغدادي» على السمع والطاعة، وبين أن يقف أحد رجال الدولة في مؤتمر يناقش رؤية مصر 2030 ليقول: إننا لا نحتاج لكل هذا النقاش «فلدينا زعيم ملهم، علينا أن نسير وراءه.. وكفى» هي الثقافة ذاتها «السمع والطاعة»، سواء كان خليفة، أو أميرا، أو زعيما ملهما، أو مرشدا للثورة الإسلامية، أو للإخوان المسلمين.
***
عدا ما بدا من «خروج عن أدبيات العصر» في طرحه، فالواقع أن البغدادي / الخليفة لم يأتِ «اصطلاحيا» بما يخرج عن «لغة حكم» متواترة، أو سند شرعية عرفته نظم الحكم في منطقتنا في تاريخها (الحديث). فمثلما كل الخلفاء، والملوك، والرؤساء (لا يخدعنكم اختلاف الألقاب والأسماء والآليات) تعتمد شرعية البغدادي، ومن هم مثله من أمراء لتلك الجماعة أو ذاك على «السمع والطاعة» وأن لا مجال لمعارض أو رأي آخر. فكل معارض «هادم للدولة»، وكل المعارضين «خوارج» كما تقول الثقافة المتوارثة. وكل المطالبين بحقوق الناس «مفسدون في الأرض»، إذا لم يعحب كلامهم الحكام والولاة، حتى لو كانوا من الصحابيين الأوائل مثل أبي ذَر الغفاري. وكلهم متهمين بالزندقة مثل الحلاج (الآن يتهمونهم بالخيانة)
حتى الحشد لمعارك العصر يستدعي اللغة «الصدئة» ذاتها، فهؤلاء هم الصليبيون، وهؤلاء هم النواصب أو الروافض… إلى آخر قاموس لا ينتهي من المصطلحات الشبيهة. هي لغة «الحشد الديني» ذاتها، وخلف العباءات وفيما تضمره النفوس، تختبئ «الفتنة» ذاتها.. لا جديد هناك غير الطائرات التي يبيعها لنا دونالد ترامب بديلا عن الرماح والسيوف.
***
لا جديد هناك، ففي تاريخنا، لم ينج لقب «الخلافة» (مثل كل المفاهيم الدينية) من استخدامه مطية سياسية، كذلك فعل الملك فؤاد الأول في مصر (1924) حين دفع فقهاءه لتسميته «خليفة المسلمين» لولا سعد زغلول وعلى عبدالرازق، فاكتفى في النهاية بلقب «ملك مصر، وسيد النوبة وكردفان ودارفور». وكان الشريف حسين قد سبقه (1922) بعد أن تمكن السعوديون من الإطاحة بالأشراف في الحجاز. محاولة الملك فؤاد، حاولها أيضا خليفته / ابنه فاروق منذ اليوم الأول وإن لم تأخذ محاولته صبغة رسمية. وكان من الطبيعي، كما جرت العادة المتوارثة من أيام الأمويين أن يجد كل أولئك «المحاولين»، كما غيرهم من الذين يتصدرون سدة الحكم، من يدعو لهم كل جمعة على منابر المساجد. وأن يجدوا من المتدينين البسطاء من يردد «آمين».
***
يبقى أن موت أبي بكر البغدادي قد يتأكد اليوم أو غدا. ولكن سيظل السؤال رغم ذلك،حتى وإن تأكد الخبر قائما: هل بموت الرجل مات «الخليفة»، (الذي أراد أن يتمثله) أو انتهت القصة؟
لا أظن.. انظروا حولكم جيدًا. هو موجود في كل قصر عرفنا، حاكما مطلقا وإن تباينت الأسماء والألقاب. وهو موجود في ثقافة توارثناها تُبجل «السمعة والطاعة». وهو موجود في نظمنا السياسية التي «تُحرم المعارضة» وإن تزينت بها؛ شكلا لا مضمونا. فهكذا كل النياشين والأوسمة لازمة ليكتمل بها رونق كل بزة عسكرية، أو عباءة دينية.
هو موجود في «بنية ثقافية رأسية» تتركز فيها الصلاحيات كما المسئوليات. ويصبح فيها «رأس النظام»؛ أيا كان هذا النظام (من العائلة إلى الدولة) ليس فقط محتكرا لكل الصلاحيات، بل وعليه أيضا مسئولية إطعامنا وسقايتنا. ومن ثم تربيتنا. في منظومة هرمية ثقافية فريدة للسطوة والسلطة.
هو موجود في مصطلحات تحاول أن تضفي القداسة كما «الأبوية» على الحاكم … عرفنا في مصر «الرئيس المؤمن»، كما سمعنا على الشاشة رجل دولة عربية لم يتردد أن يقول في القرن الحادي والعشرين أن «الأرض وما عليها ملك للحاكم.. ونحن راضون بذلك» هل أتى البغدادي إذن بجديد؟
دعونا نتصارح، هل يزيد عدد ضحايا أبي بكر البغدادي (الخليفة) عن ضحايا كيماوي صدام حسين، أو براميل بشار الأسد المتفجرة، أو الذين سيقضون بالكوليرا في اليمن؟
هل حقًا مات «الخليفة»؟
انظروا حولكم جيدا. كم هو قدر الظلم والتهميش والإقصاء الذي يسمح بتربة تنمو فيها مثل تلك الأفكار التي تربي عليها «إبراهيم عواد إبراهيم البدري» الشهير بأبى بكر البغدادي / الخليفة؟.
***
والحال هكذا، متى يمكننا إذن (واقعيا) أن نقول بموت أبي بكر البغدادي (أو بالأحرى ما يرمز إليه)؟
أحسب أن الإجابة الحقيقية ليست فيما سمعناه من إعلان روسي متسرع، ولا فيما ننتظره من إعلان أمريكي متوقع. الإجابة الحقيقية تصبح كاذبة لو تجاهلت ما نعيشه من بيئة ثقافية واجتماعية وسياسية؛ تمييزا وتهميشا وإقصاء وعدلا غائبا ونظم حكم فردية مستبدة. ثقافة «أحادية» لا تحترم حق الآخر في الاختلاف، ناهيك عن حقه في الحياة. ثقافة مجتمع ونظم حكم لا تعرف غير «السمع والطاعة»، وتكره التفكير النقدي Critical Thinking
متى يمكننا واقعيا أن نقول بموت أبي بكر البغدادي (أو بالأحرى ما يرمز إليه)؟
عندما ندرك أن ما نحتاجه حقيقة ليست دعوة تَرفع شعارا، بات مبتذلا من كثرة ما سمعناه: «تجديد الخطاب الديني»، تنفق تحت عنوانه الأموال، وتؤسس المؤسسات. بل الحاجة الحقيقية هي لتحرير الخطاب الديني، من إسار ثقافة الاتباع «والسمع والطاعة».
وواقع الحال، وبحكم طبائع الأمور، وتكوين الثقافات، فلا تحرير لخطاب ديني أو غيره، إلا بمناخ من الحرية يسود المجتمع ويصبح عماد ثقافته؛ حرية تسمح بمعارضة الرئيس أو الأمير أو الخليفة، فتسمح بالتالي بمعارضة أو مناظرة هذا الفقيه أو ذاك الشيخ؛ كبيرا كان بقامة المودودي، أو صغيرا لا يعدو أن يكون إماما لزاوية صغيرة في زقاق تونسي أو سوري. حرية تربي عقلية نقدية تسمح بمعارضة الحاكم / الأمير، لا تأليهه، فيتعلم ذلك الشاب الصغير أن «يفكر» قبل أن يرتدي حزاما ناسفا تنفيذا لتوجيهات «أمير جماعته».
باختصار: الحرية ثقافة وتربية.. والمرء على ما تربى عليه.
***
وبعد …
فتحت عنوان «مائة بن لادن» كنت قد كتبت في «وجهات نظر» يونيو 2003 أتنبأ بأن حرب جورج دبليو بوش على الإرهاب لن تؤدي واقعيا إلا إلى مزيد من الإرهاب، «قد يموت بن لادن، ولكننا سنرث مائة بن لادن.. طالما أن الأسباب قائمة». والحاصل أن بن لادن مات (مايو 2011) فهل حقا مات بن لادن؟ أو بالأحرى ما يعنيه الرجل؟
على الذين يحتفلون بموت مفترض «للبغدادي» أن يسألوا أنفسهم السؤال ذاته. والذي هو بالضرورة مطروح اليوم رغم رقصات الانتصار على أنقاض الموصل.
لمتابعة الكاتب:
twitter: @a_sayyad
Facebook: AymanAlSayyad.Page
روابط ذات صلة
عن الخليفة والأمير والرئيس.. «والثقافة الحاكمة»
ما لا نراه خلف القضبان
العراق.. فى القصة تفاصيلٌ أخرى
عن العنف والدبح والوحشية .. قراءة مغايرة
«الإرهاب» هو الحل!
كيف صُنع تنظيم الدولة؟
معسكر بوكا .. حيث ولدت داعش


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.