السودان لا يعيش حربًا تقليدية يمكن احتواؤها بوقف إطلاق نار أو مبادرة وساطة عابرة، بل يمر بلحظة انهيار بطيء لمفهوم الدولة ذاتها، ما يحدث ليس صراعًا بين أطراف سياسية أو عسكرية فقط، وإنما تفكك تدريجى للروابط التى تجعل من الكيان دولة قابلة للحياة لذلك، فإن السؤال الأخطر لم يعد متعلقًا بمن سينتصر عسكريًا، بل بكيفية الحفاظ على وطن اسمه السودان فى هذا المشهد المعقد، يبدو واضحًا أن مصر تنظر إلى الأزمة السودانية من زاوية مختلفة تمامًا عن كثير من الأطراف الدولية القاهرة لا تتعامل مع السودان كملف نزاع يمكن إدارته عن بُعد، ولا كأزمة إنسانية فقط، بل كجزء لا ينفصل عن معادلة الأمن القومى المصرى لهذا جاءت تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسى حول «الخطوط الحمراء» بوصفها توصيفًا سياسيًا دقيقًا، لا تهديدًا ولا تصعيدًا وحدة السودان بالنسبة لمصر ليست خيارًا دبلوماسيًا، بل شرط استقرار إقليمى لا يمكن التهاون فيه. ما يغفله كثيرون فى قراءة المشهد السودانى أن طول أمد الحرب لم يعد مجرد نتيجة لتعقيد الصراع الداخلي، بل أصبح أداة فى يد أطراف ترى فى استمرار النزاع مصلحة مباشرة فكل يوم حرب إضافى يعنى مزيدًا من إنهاك الدولة، ومزيدًا من تفكيك النسيج الاجتماعي، ومزيدًا من الاعتياد على غياب السلطة المركزية هذا النوع من الحروب لا يُحسم عسكريًا بقدر ما يُدار سياسيًا، وتحديدًا عبر إطالة الزمن حتى يفقد المجتمع قدرته على تخيل الدولة نفسها من هنا يصبح التحذير المصرى من تجاوز الخطوط الحمراء ليس تحذيرًا من حدث بعينه، بل رفضًا لتحويل السودان إلى ساحة مفتوحة بلا سقف زمنى ولا نهاية واضحة أخطر ما يواجه السودان اليوم هو سيناريو «التطبيع مع الفوضى» أن تتحول الحرب إلى وضع اعتيادي، وأن تتعايش الأطراف الإقليمية والدولية مع « التفكك «باعتباره أمرًا واقعًا لا يمكن تغييره هذا السيناريو لا ينتج دولة فاشلة فقط، بل يخلق فراغًا مفتوحًا على تدخلات متعددة، وتحالفات ميليشياوية، واقتصاد حرب يعيش على استمرار النزاع فى مثل هذا المناخ، تصبح وحدة السودان شعارًا فارغًا، وتتحول السيادة إلى مفهوم نظرى بلا مضمون فعلي. الخطر الأكبر فى سيناريو التفكك لا يكمن فقط فى انقسام الجغرافيا، بل فى انهيار المعنى السياسى لفكرة المواطنة، عندما تتعدد السلطات المسلحة، وتتشظى مراكز القرار، يفقد المواطن مرجعيته، ويتحول الولاء من الدولة إلى الجماعة أو السلاح أو الجغرافيا الضيقة هذه اللحظة تحديدًا هى ما تحاول مصر تفاديه فى السودان، لأن استعادة الدولة بعد فقدان معناها تصبح أصعب بكثير من إعادة بناء مؤسسات متضررة الحفاظ على وحدة السودان هنا ليس شعارًا أخلاقيًا، بل محاولة استباقية لمنع الانزلاق إلى نموذج يصعب الرجوع منه. السيناريو الثاني، وهو لا يقل خطورة، يتمثل فى فرض تسوية سياسية سريعة تُنهى القتال دون معالجة جذوره، هذا النوع من «السلام المتعجل» قد يرضى المجتمع الدولى مؤقتًا، لكنه يزرع بذور انفجار جديد دولة تُعاد صياغتها دون عدالة انتقالية، ودون إعادة بناء المؤسسات، ودون حسم مسألة احتكار السلاح، هى دولة مؤجلة الانهيار ، مصر تدرك أن الحل الحقيقى لا يكون بوقف النار فقط، بل بإعادة تأسيس فكرة الدولة نفسها، وهو مسار شاق لكنه الوحيد القابل للاستمرار هنا يظهر الفارق الجوهرى فى المقاربة المصرية، القاهرة لا تروّج لوهم الحل السهل، ولا تنحاز لمنطق القوة، بل تطرح معادلة أكثر صرامة: لا دولة بلا وحدة، ولا وحدة بلا مؤسسات، ولا مؤسسات بلا جيش وطنى يخضع لسلطة الدولة لا العكس، دعم مصر للجيش السودانى فى إطار الحفاظ على الدولة لا يعنى دعم العسكرة، بل منع تفكك الكيان لصالح قوى لا تؤمن بالدولة أصلًا. البعد الإنسانى فى الموقف المصرى ليس تفصيلًا ثانويًا، بل عنصر مركزى فى التحليل فالحديث عن الجرائم والانتهاكات، وعن الكلفة الإنسانية الباهظة، يعكس إدراكًا بأن الحرب فى السودان لم تعد تُقاس فقط بالخسائر العسكرية، بل بانهيار حياة ملايين البشر. أى مسار سياسى يتجاهل هذه الحقيقة، أو يتعامل معها كملف إغاثى منفصل، سيكون مسارًا منقوصًا وغير أخلاقي. الموقف المصري، فى جوهره، يقوم على إدراك أن الجيوش الوطنية فى الدول المهددة بالانهيار ليست ترفًا سياسيًا، بل آخر خطوط الدفاع عن بقاء الدولة الفارق بين دعم مؤسسة عسكرية باعتبارها عمود الدولة، ودعم سلطة قمعية، فارق جوهرى يتجاهله كثير من النقاش الدولي، مصر لا تطرح الجيش السودانى كبديل عن السياسة، بل كشرط لعودتها فلا سياسة بلا أمن، ولا انتقال بلا حد أدنى من السيطرة على السلاح، هذه معادلة واقعية قد تبدو قاسية، لكنها أقل كلفة من ترك البلاد نهبًا لقوى السلاح المنفلت. إقليميًا، لا يمكن فصل ما يجرى فى السودان عن توازنات حوض النيل والقرن الإفريقى دولة سودانية ضعيفة أو منقسمة تعنى فتح الباب أمام إجراءات أحادية، وصراعات مائية، وتدويل دائم للأزمة من هنا، فإن تطابق الرؤى بين القاهرة والخرطوم بشأن الأمن المائى ليس بندًا فنياً، بل صمام أمان استراتيجى فالحفاظ على السودان الموحد هو شرط لحماية مصالح الجميع، وليس مصلحة مصر وحدها. الدعم المصرى لرؤية إنهاء الحرب، حتى عندما تتقاطع مع مبادرات دولية مثل الطرح الأمريكي، لا يعنى تفويضًا مفتوحًا ولا قبولًا بأى صيغة، القاهرة واضحة فى هذا السياق: أى حل لا يحمى وحدة السودان، ولا يمنع تفكيكه، ولا يضع حدًا لدورات العنف، هو حل مرفوض مهما كانت الجهة الراعية له هذه ليست سياسة ممانعة، بل سياسة مسئولية. من زاوية أوسع، فإن ما يجرى فى السودان يعكس أزمة إقليمية أعمق تتعلق بفشل النظام الدولى فى التعامل مع الدول الهشة إلا بعد انهيارها الكامل و السودان ليس استثناءً، بل نموذج متكرر: انتظار الكارثة، ثم إدارة آثارها الإنسانية، دون معالجة سياسية جذرية فى هذا السياق، يصبح التحرك المصرى محاولة لكسر هذا النمط، عبر ربط الحل الإنسانى بالحل السياسي، وربط السلام بوحدة الدولة، لا بتجميد مؤقت للصراع وهو طرح قد لا يكون الأسرع، لكنه الوحيد القادر على إنتاج استقرار حقيقى لا سلامًا هشًا فى النهاية، السودان يقف اليوم أمام لحظة فاصلة: إما استعادة الدولة بصعوبة وتضحيات، أو الانزلاق إلى نموذج التفكك طويل الأمد وفى مثل هذه اللحظات، يصبح الصمت تواطؤًا، والحياد انسحابًا من التاريخ مصر اختارت أن تكون جزءًا من منع الانهيار، لا جزءًا من إدارة الفوضى. وهذا بالضبط ما يجعل الموقف المصرى فى السودان موقفًا يتجاوز السياسة إلى الدفاع عن فكرة الدولة نفسها فى إقليم لم يعد يحتمل دولة أخرى تسقط.