«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. أسامة السعيد يكتب: مصر والسودان.. الشقيق وقت الضيق 1-3
خارج النص
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 26 - 08 - 2024

د. أسامة السعيد يكتب من بورتسودان عن 500 يوم من الألم والأمل
لا أحتاج هنا إلى مقدمة توضيحية لأسباب الاهتمام المصري بالسودان، فوثيقة الارتباط بين الشعبين والبلدين كتبها القدر على صفحة الجغرافيا بحروف التاريخ ومداد النيل الخالد، ففى كل المنعطفات التاريخية وأياً كانت الظروف التى يواجهها البلدان فلا غنى لأحدهما عن الآخر، وفى لحظات الأزمة تتجلى المواقف الحقيقية للشعبين والبلدين.
محطات عديدة يمكن الإشارة إليها لمن أراد أن يقرأ بعضًا من سطور العلاقة التاريخية بين مصر والسودان، بداية من أقدم العصور حيث كان السودان - ولا يزال - العمق الاستراتيجى الجنوبى لمصر، مرورًا بوجود كيان واحد بين الشعبين فى عهد مصر الملكية، وصولاً إلى الارتباط الوثيق بين البلدين فى مرحلة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الأجنبي.
فلم تغلق مصر يومًا بابها أمام الأشقاء، بل كانت دائمًا الملاذ الآمن لهم عندما تتلبد سماء الجنوب بغيوم الأزمات، وكان حرص القاهرة الدائم على استقرار السودان ووحدة وسلامة مؤسساته، ليس فقط التزامًا بأواصر العلاقة الطيبة والتاريخية، ولكن أيضًا وفق رؤية نابعة من نظرية الأمن القومى المصرى القائمة منذ فجر التاريخ، والقائمة على بناء علاقة مستدامة مع جيران الجغرافيا، وشركاء صناعة التاريخ.
وفى الأزمة الأخيرة التى انفجرت قبل نحو 500 يوم، لم تتردد القاهرة لحظة فى الوقوف بكل ما أوتيت من قوة وإمكانات إلى جانب الأشقاء، فكانت مصر الوجهة الأولى التى نزح إليها مئات الآلاف من السودانيين، عندما حاصرت أعمدة النار والدم سماء وأرض الخرطوم ومدنًا أخرى، لينضموا إلى نحو 5 ملايين من الأشقاء كانوا يقيمون فى مصر لسنوات طويلة بين أهلم فى أرض الكنانة.
في فترة مفصلية من عمر هذه الأيام الحاسمة فى تاريخ السودان الشقيق جاءت زيارتى إلى مدينة بورتسودان التى باتت المقر الحالى للحكومة السودانية ولمجلس السيادة، ضمن وفد صحفى مصرى سودانى مشترك للوقوف على مجمل الأوضاع هناك، الزيارة كانت حافلة بلقاءات عديدة مع مسؤولين وصناع قرار فى الحكومة ومجلس السيادة السودانية، واختتمت بمقابلة مع الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني، والذى أشاد بعمق العلاقات المصرية السودانية، والمواقف الداعمة والمخلصة التى تقدمها القاهرة لمساندة الأشقاء فى السودان للخروج من المحنة الراهنة، ووجه الشكر للرئيس عبد الفتاح السيسى ولشعب مصر على المواقف النبيلة، مؤكدًا أن مصر تقف قلبًا وقالبًا مع السودان فى محنته.
◄ امتنان سوداني عميق
الإشادة بالمواقف المصرية كانت دائمًا قاسمًا مشتركًا فى أحاديث كل من التقيتهم من كبار المسؤولين السودانيين، فهناك تقدير وامتنان عميقين للدور المصرى على كل المستويات السياسية والإنسانية، وعلى الإصرار المصرى الذى لا يقبل تنازلاً فى الدفاع عن وحدة وسلامة الدولة والشعب السوداني، والمساندة المصرية لكل جهد مخلص يقود لإنهاء الأزمة الراهنة ويجنب الأشقاء مزيدًا من الخسائر واستنزاف مقدراتهم.
ربما كان الدعم الإنساني، هو الصورة الأبرز فى تلك الفترة، لكن الجهود المصرية للحفاظ على تماسك الدولة السودانية ووحدة مؤسساتها لم تتوقف للحظة، فهذا مبدأ ثابت وقيمة لا تتخلى عنها القاهرة فى تعاملها مع الجميع، فما بالنا إن تعلق الأمر بدولة بقيمة ومكانة السودان بالنسبة لمصر.
تحركت القاهرة على عدة مستويات، منذ اللحظة الأولى للأزمة، بل أكاد أجزم بأن القاهرة حاولت استباق الوصول إلى تلك اللحظة الخطرة، إدراكًا منها لتعقيدات المشهد السوداني، فقد استضافت قبل أيام معدودة من اندلاع الصراع ورشة عمل للقوى السودانية فى «القاهرة الجديدة»، سعت من خلالها إلى توفير مناخ عمل ملائم للقوى السودانية كى تتوصل إلى توافق يجنب البلاد الفرقة والصراع.
وحتى عندما وقعت «الواقعة» فجر 15 أبريل 2023، تحركت مصر على كل المستويات السياسية والدبلوماسية والإنسانية، فأكدت مصر حرصها على وحدة السودان وأمنه وسلامة أراضيه واستقرار شعبه، وأهمية التوصل إلى تسوية دائمة وشاملة للنزاع فى أسرع وقت، كما أكدت رفضها الحاسم لأى تدخل خارجى فى الشأن الداخلى السوداني.
واستقبلت مصر خلال الأيام والأسابيع الأولى من الأزمة أكبر عدد من النازحين السودانيين، تليها تشاد وجنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى، وخلال الشهور ال 16 الماضية من عمر الحرب لم تتوقف المساعى المصرية من أجل وقف إطلاق النار وإحلال السلام فى السودان، وربما لا يمكن إحصاء عدد الاتصالات والمقابلات التى أجراها الرئيس عبد الفتاح السيسى شخصيًا وتعلقت بالأزمة فى السودان، فإلى جانب قمتين مصرية سودانية فى أغسطس 2023 ومارس 2024، كانت السودان حاضرة وبقوة على أجندة النشاط الرئاسى المصرى وجزءًا أصيلاً من الاتصالات والتحركات المصرية، ولعل الإشارة إلى التباحث بين الرئيس السيسى ونظيره الأمريكى جو بايدن مؤخرًا بشأن السودان كانت لها دلالة واضحة على أن انشغال المنطقة بالحرب فى غزة وسبل التوصل إلى تهدئة لم تحل دون الاهتمام بالشأن السودانى وسبل إنهاء الحرب هناك، ومناقشة الأمر على مستوى القمة مع جميع قادة دول العالم ذات الصلة بالأمر.
◄ رسائل خاصة للمصريين
لا أنسى كلمات الفريق أول شمس الدين كباشي، عضو مجلس السيادة السوداني، وهو يستقبلنا فى بيته ويتحدث عن الدور المصرى بحفاوة شديدة، ويخص الأخبار بأن تنقل عنه إلى الشعب والحكومة المصرية الشكر والتقدير لما قامت به القاهرة من جهود فى إطار الرباط التاريخى بين الشعبين، ويضيف أن «الدعم الذى تلقيناه من مصر لم تقم به دولة غيرها»، مؤكدًا أن استضافة مصر لملايين السودانيين سواء قبل اندلاع الحرب أو بعدها محل تقدير بالغ من كل السودانيين، ويتابع: «نعلم أن مصر تحملت الكثير من الضغوط بسبب مواقفها الداعمة لنا ونحن ممتنون لهذه المواقف التى تعكس حجم وطبيعة العلاقات الوثيقة مع مصر والتى لا تعتمد على أفراد يتغيرون من حين إلى آخر، بل ترتكز على شعوب باقية، والشعوب تعرف جيدًا من يقف إلى جوارها بصدق وإخلاص فى أوقات الأزمات».
وزير الثقافة والإعلام السودانى الدكتور جراهام عبد القادر، والذى كان أول مسؤول نلتقيه خلال الزياة إلى بورتسودان، كانت كلماته نابعة من القلب وهو يحيى دور مصر الشقيقة قيادة وشعباً، مؤكدًا أن الوجدان المشترك بين شعبى وادى النيل هو الذى دفع السودانيين إلى التوجه للأراضى المصرية بعد الحرب وأضاف «شكرًا لمصر الكبرياء وللقيادة والشعب المصرى الشقيق».
وتقريبًا فى كل اللقاءات التى أجريتها فى العاصمة السودانية المؤقتة، كانت مصر حاضرة دائمًا على ألسنة المسؤولين السودانيين، فوزير المالية جبريل إبراهيم كرر الإشادة بدعم مصر فى توفير احتياجات الشعب السودانى من الأغذية والمساعدات الطبية فى وقت بالغ الدقة، وفى أعقاب تدمير قوات الدعم السريع لمخازن الحبوب والأدوية، وأشار إلى أن 65 فى المائة من المساعدات التى وصلت إلى السودان جاءت من دول عربية تتقدمهم مصر، فضلاً عما تقوم به الدولة المصرية من جهود سياسية للتوصل إلى إنهاء مستدام للحرب، إضافة إلى دعم المؤسسات السودانية للتعامل مع التحديات الخطيرة التى أدت إليها المعارك غير المسبوقة فى تاريخ السودان.
◄ دعم صادق وراسخ
والواقع أن مصر لا تنظر إلى السودان والأزمة الجارية فيه باعتبارها شأنًا خارجيًا، بل تنظر القاهرة إلى الحرب الراهنة بقلق بالغ، لأن مصر تدرك جيدًا خطورة هذا الصراع وتأثيره السلبى على مقدرات الشعب السوداني، فضلاً عن أن هذا الصراع يفتح المجال أمام سيناريوهات خطرة تتناوش مستقبل العمل الاستراتيجى الجنوبى لمصر، فاستمرار الصراع يفتح المجال أمام تدخلات خارجية، غالبًا ما تعقد الصراع ولا تساهم فى حله، فضلاً عن امتداد أفق الصراع يشجع جماعات وتنظيمات على الدخول على خط الأزمة، وهذا حدث بالفعل من خلال دخول أعداد هائلة من المرتزقة والعناصر الإجرامية إلى الأراضى السودانية بحثًا عن فرصة للسرقة والنهب، وعلى حد وصف أحد القادة العسكريين الذين التقيتهم فى بورتسودان، فإن تدفقات هؤلاء المرتزقة من بعض دول جوار السودان أشبه ب»الجراد» على حد وصفه، فأعدادهم هائلة، ويموتون بالآلاف، ومع ذلك يواصلون التدفق إلى الأراضى السودانية بحثًا عن فرصة لنهب ثروات المواطنين السودانيين، وربما بحثًا عما هو أكبر بإقامة كيان مستدام لهم على الأراضى السودانية، وهو ما يمثل خطرًا كبيرًا على أمن واستقرار الإقليم برمته.
تأثير دخول عصابات الجريمة المنظمة والجماعات المسلحة وانتقالها من مناطق الغرب الأفريقى والساحل والصحراء إلى السودان مهدد خطير للأمن الإقليمي، لا سيما وأن تلك الجماعات تجد فرصًا للتمويل والإمداد بالعتاد والسلاح الأمر الذى يتسبب فى زعزعة استقرار المنطقة، وإخراج السودان من معادلة القوى الفاعلة فى الإقليم.
وإذا ما نظرنا إلى طرفى الخريطة شرقى وغربى السودان، وما تموج به المنطقتان من وجود للميلشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية، فإن استشعار القلق يبدو كبيرًا بالنظر إلى خطورة الموقف، خاصة أن الحدود المصرية السودانية حدود طويلة وممتدة، ومن ثم فإنه لا بديل عن تعزيز قدرات المؤسسات السودانية والحفاظ على وحدة واستقرار الدولة والمؤسسات كى يمكنها القيام بدورها فى حماية أمن السودان والسودانيين فى المقام الأول، والاضطلاع بمسؤولياتها فى حفظ الأمن والسلم الإقليمى فى المقام الثاني.
الأزمات فى البحر الأحمر ليست ببعيدة أيضًا عن السودان، وهذا الملف يمثل أولوية أيضًا بالنسبة لمصر، فالسودان يمتلك سواحل يصل طولها إلى 750 كم تقريبًا على البحر الأحمر، بداية من الحدود السودانية الإريترية جنوبًا، وصولاً إلى الحدود مع مصر شمالاً، وهو ما يجعل الشواطئ السودانية واحدة من أطول السواحل على البحر الأحمر، الأمر الذى يجعل من السودان طرفًا مهمًا فى تأمين عمليات الملاحة فى هذا الممر الهام، والذى كانت كتب الجغرافيا تتباهى بأنه «بحيرة عربية»، لكن ثمة محاولات حاليه لتغيير تلك الحقيقة التى استقرت لآلاف السنين.
ومن هنا فإن الدعم المصرى للسودان، هو دعم صادق وراسخ، وينطلق من محددات الأمن القومى ومن ثوابت السياسة المصرية التى ترتكز على احترام سيادة واستقرار الدول، وعدم التدخل الخارجى فى شئونها الداخلية، كما تستند السياسة المصرية إلى أهمية تعزيز كيان الدولة الوطنية، وعدم السماح بتهديد هذا الكيان لصالح تنظيمات أو ميلشيات دون الدولة، والحقيقة أن تلك المواقف الواضحة ضمنت للدور المصرى مصداقية كبيرة على المستويين الإقليمى والدولي، خاصة أن التجارب أثبتت صحة وعمق الرؤية المصرية، فالرهان على تمكين ميلشيات أو تنظيمات أثبت أنه «لعب بالنار» فى منطقة مليئة بأسباب وعوامل الاشتعال مثل منطقة الشرق الأوسط، وبالتالى لا سبيل لضمان الأمن والاستقرار الإقليمى إلا بتعزيز قدرة الدولة الوطنية ومؤسساتها على التعامل مع التحديات، وهذا ما أكدته مصر فى مختلف الأزمات التى تشهدها دول المنطقة فى ليبيا وسوريا والسودان وغيرها.
◄ دور لا غنى عنه
وأتصور أن الدور المصرى فى الأزمة السودانية - بل وفى كل ملفات المنطقة - لا غنى عنه لا حاليًا ولا مستقبلاً، فمصر لديها من العلاقات مع مختلف الأطراف سواء داخل السودان أو فى المحيطين الإقليمى والدولى ما يمكنها من لعب دور حميد وميسر لسبل إنهاء الحرب، ولعل ما قامت به مصر من استضافة قمة دول جوار السودان فى يوليو من العام الماضى يمثل واحدًا من المسارات الحيوية والجهود الدؤوبة التى تبذلك حاليًا للتوصل إلى تسوية للصراع، فضلاً عن انفتاح مصر على مختلف القوى السياسية السودانية ووقوفها على مسافة واحدة من الجميع، فقد التزمت مصر دائمًا بثوابت راسخة فى هذا الصدد، وهو اعتبار كل ما يجرى على أرض السودان شأن سودانى خالص، لا تتدخل فيه، وإنما يمكنها أن توفر الأجواء المناسبة لحوار سوداني- سودانى بناء.
وهذا ما حدث على مدى السنوات الماضية، سواء قبل اندلاع حرب 15 أبريل أو بعدها، فمنذ أسابيع استضافت القاهرة أوسع لقاء سياسية للقوى السودانية منذ اندلاع الحرب، وشارك وزير الخارجية المصرى د. بدر عبد العاطى فى جلستى الافتتاح والختام للقاءات السودانية، وكانت له كلمة قوية أوضح فيها أن «أجندة مصر واضحة بخصوص الوضع فى السودان، وتتضمن الحفاظ على وحدة وسيادة السودان وسلامة أراضيه، والحفاظ على أرواح السودانيين التى تراق يومياً».
وأصرت الدولة المصرية على عدم حضور المشاورات التى عُقدت فى المؤتمر، حيث ضمت اللقاءات السودانيين فقط، كتأكيد لا يتزحزح على إيمان مصر بأن الحل يجب أن يبقى سودانيًا، وأنه لا سبيل لإنهاء أزمات السودان إلا بإرادة أبنائه فى المقام الأول والأخير.
رهان السودانيين على مصر ودورها المخلص فى دعمهم ومساندتهم لا يقتصر - كما استمعت فى بورتسودان- على إنهاء الحرب، فهناك ثقة فى أن تلك الحرب ستنتهى يومًا ما يرجونه ونأمله قريبًا، لكنه يمتد إلى ما بعد الحرب، فالجميع يدرك حجم ما خربته تلك الحرب الكارثية، وما يحتاجه السودان فى مرحلة ما بعد الحرب من مساندة ودعم من جانب الأشقاء فيما يتعلق بإعادة الإعمار، وقد استمعتُ إلى إعجاب متكرر بتجربة مصر التنموية وحركة العمران التى تشهدها كل ربوع مصر فى العقد الماضي، وهو ما يأمل السودانيون أن يروه يومًا ما على أرضهم بمشاركة الشركات والمؤسسات المصرية التى باتت تحظى بسمعة عالمية فى تنفيذ المشروعات العمرانية وكفاءة تجوب الأفاق.
حفظ الله مصر والسودان ... وأنعم على منطقتنا بنسائم من الاستقرار والهدوء بعدما عصفت بجنباتها أعاصير الاضطرابات، ونواصل قراءة الواقع السودانى فى ظل الحرب الراهنة غدًا بمشيئة الله.
◄ رجال السفارة المصرية.. أبطال فوق العادة
يستحق رجال السفارة المصرية فى السودان، بقيادة الدبلوماسى النشط والمتميز السفير هانى صلاح، كل التحية والإشادة، فهم بالفعل أبطال فوق العادة، وخاصة أنهم عملوا فى فترة بالغة الدقة والخطورة عقب اندلاع الحرب فى السودان، وقادوا ما يمكن أن نصفه بأنه «ملحمة دبلوماسية» حقيقية، فرغم المخاطر التى كانت تتهدد جميع العاملين فى السفارة، إلا أنهم واصلوا الليل بالنهار، ليس فقط لإجلاء آلاف المصريين من عدة مدن سودانية، بل لإصدار عشرات وربما مئات الآلاف من تأشيرات الدخول للأشقاء السودانيين، وهو ما كان يفوق قدرة الأجهزة القنصلية التى كانت تصدر شهريًا فى الأحوال الاعتيادية بضع مئات فقط من تأشيرات الدخول، فإذا بها تفاجأ بأن عليها أن تصدر آلافًا عديدة فى أيام معدودة.
ليس هذا فقط، بل كان على الأجهزة القنصلية المصرية أن تتعامل أيضًا مع آلاف من طلبات الدخول لمصر من جانب الأجانب الفارين من القتال، ولم تقصر الأجهزة والمؤسسات المصرية فى الوفاء بالتزاماتها، وظلت طيلة شهور الحرب - ولا تزال- هى الباب المفتوح أمام الأشقاء السودانيين، بعدما أغلقت سفارات وقنصليات معظم دول العالم أبوابها، لكن مصر ما كان لها أن تغلق بابها، فانتقلت السفارة بصورة مؤقتة إلى مدينة بورتسودان، وواصلت العمل ليل نهار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.