■ كتبت: منى سراج في ظل الفراغ المعلوماتي للمحتوى العربي، وتقنيات التلاعب الرقمي، ووسط التطورات التكنولوجية المتلاحقة، التى أصبح معها المحتوى الرقمى يلعب دورًا حاسمًا فى تشكيل الوعى العام، ويؤثر بشدة على المجتمعات، وبينما يتقدم العالم نحو الاعتماد على الذكاء الاصطناعي كمصدر رئيسى للمعرفة، ويتزايد الاعتماد عليه فى إنتاج ونشر المحتوى، يواجه المحتوى العربى أزمة كبيرة، وهنا يبرز سؤال هام حول كيفية تأثير الذكاء الاصطناعي على صناعة المعلومات في العالم العربي؟!.. في السطور التالية سنكتشف كيف يمكن للتوغل العبري في الذكاء الاصطناعي أن يغير قواعد اللعبة فى مجال المعلومات؟ وما هى التحديات التي تواجه المحتوى العربي في مواجهة التكنولوجيا الحديثة؟ وكيف يمكننا كشف التزييف وتحديد الحقيقة فى الفضاء الرقمي؟. ◄ د.عبود: التقنية الجديدة غير مسئولة عن تزييف وتحريف التاريخ ◄ د.الحارثي: خوارزميات التزييف العميق تتغذي على البيانات المتاحة وغير المحمية الحروب لم تعد فقط على الأرض، بل امتدت ساحاتها إلى الفضاء الاصطناعي، حيث تصنع أو تزيف الحقائق وتعاد صياغة الروايات بشكل يومى، وفقا لمن يملك السيطرة على تدفق البيانات، والآن يمكن للذكاء الاصطناعى أن يزيف التاريخ بطرق متعددة، بما في ذلك التلاعب فى النصوص والصور والفيديوهات، مما قد يؤدى لتغيير الحقائق التاريخية وتشويهها. التزييف العميق، ليس مجرد خدعة تقنية، بل هو سلاح إعلامي جديد، له تقنيات وخوارزميات معقدة، وقادر على إعادة كتابة التاريخ والتأثير على المجتمعات، نرصد هنا واحدة من أشهر حالات التزييف التاريخى، حيث انتشرت صورة لإبراهام لينكولن يظهر فيها واقفًا بوضعية رسمية، لكن «البحث العكسي» - وهو إحدى أدوات الذكاء الاصطناعى لكشف وضبط المحتوى الزائف - كشف أن الجسد ليس جسده، بل يعود للسياسى الأمريكي جون كالهون، مع استبدال رأسه برأس لينكولن، تحليلات الأدوات الرقمية مثل FotoForensics أظهرت اختلافات فى الإضاءة حول الرأس. ◄ صنع الخداع ومن الأحدث إلى الأقدم، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فقد شهد العالم العديد من وقائع الخداع، ففى سبتمبر 2024، انتشرت صور زائفة تظهر متنزه ديزنى وورلد غارقا فى المياه بعد إعصار ميلتون، وصور مُفبركة لطائرة تهبط في مطار بيروت وسط انفجارات، كذلك، اُستخدم الذكاء الاصطناعي فى النزاعات السياسية، حيث تم التلاعب بصور وأصوات شخصيات معروفة، مثل الصورة المفبركة لمدير مستشفى الشفاء في غزة. وفي 2023، انتشر مقطع فيديو يظهر الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وهو يعلن استسلام بلاده، لكن سرعان ما تبين أنه مزيف بالكامل، وكان جزءًا من حملة تضليل إعلامى، وفى 2024، تم استخدام صوت إيلون ماسك فى عملية احتيال مالى، حيث تلقت آلاف الحسابات مكالمات تدعى أنها له، مما تسبب فى خسائر بملايين الدولارات، كما اكتشف باحثون تقارير إخبارية تاريخية تم تعديلها باستخدام التزييف العميق، مثل صور تُظهر شخصيات تاريخية في أحداث لم يشاركوا فيها أصلًا. وفي 2021، قدّم موقع «ماى هيريتج» (MyHeritage) أداة تدعى «ديب نوستالجيا» (Deep Nostalgia) تستخدم تقنية التزييف العميق لتحريك الوجوه فى الصور الثابتة، استخدمت هذه الأداة لتحريك صور شخصيات تاريخية، بما فى ذلك الرئيس الأمريكي الراحل إبراهام لينكولن، مما أثار جدلا حول استخدام هذه التقنية فى إحياء صور المتوفين. ◄ ديب نوستالجيا أداة «ديب نوستالجيا (Deep Nostalgia) طورت بواسطة شركة MyHeritage، وهى شركة إسرائيلية متخصصة فى علم الأنساب (Genealogy) وتحليل الحمض النووى، وهذه الأمثلة تعكس التحديات الخطيرة التى تفرضها تقنيات التزييف، مما يستدعى تعزيز مهارات التحقق الرقمى لمواجهة التضليل الإعلامى المتزايد. وتكشف دراسات حديثة أن أدوات الذكاء الاصطناعي برغم إمكانياتها المُذهلة لتوثيق الماضى وإحيائه، ترتكب أخطاء جسيمة عند الإجابة عن أسئلة تاريخية معقدة. أحد أمثلة هذه الأخطاء عندما وجه سؤال لنموذج GPT-4 Turbo عن وجود الدروع المدرعة في فترة معينة من مصر القديمة، فأجاب إجابة خاطئة بوجودها قبل 1500 عام من ظهورها الفعلى، كما أخطأ النموذج فى الإجابة عن سؤال حول وجود جيش محترف فى مصر القديمة خلال حقبة زمنية معينة، مشيرا إلى وجوده رغم أن الحقيقة التاريخية تثبت عكس ذلك. هذه الوقائع ليست استثناء، فقد كشفت دراسات حديثة أن أدوات الذكاء الاصطناعى، مثل ChatGPT وGemini وLlama، ترتكب أخطاء عديدة عند الإجابة عن أسئلة تاريخية معقدة، وأظهرت دراسة أخرى أن نماذج الذكاء الاصطناعى، مثل GPT-4 من OpenAI وGemini من Google وLlama من Meta، تعانى عند التعامل مع أسئلة تاريخية معقدة، وعلى سبيل المثال، فى اختبار حديث، حقق نموذج GPT-4 Turbo دقة بلغت حوالى 46% فقط فى الإجابة عن أسئلة تاريخية متعددة الخيارات، وهى نسبة أعلى بقليل من التخمين العشوائى. ◄ اقرأ أيضًا | احذروا Meta AI.. تطبيق الذكاء الاصطناعي يهدد خصوصيتك ويكشف محادثاتك علنًا ◄ خوارزميات مُعقدة خوارزميات الذكاء الاصطناعي شديدة التعقيد ولا يتم فهمها بسهولة، خصوصا فى نماذج التعلم العميق والشبكات العصبية، مما يجعل قرارات وتنبؤات الذكاء الاصطناعى بشفافية أمراً شديد الصعوبة، ولأن الكشف عن التزييف الناتج عن هذه الأدوات أصبح ضرورة ملحة، يمكن استخدام عدة أدوات للكشف عن المحتوى المزور، مثل تحليل النصوص المولدة بالذكاء الاصطناعى باستخدام أدوات مثل AI Text Classifier من OpenAI، وأدوات مثل Deepware Scanner للكشف عن الفيديوهات المزيفة (Deepfake) إضافة إلى ذلك، هناك أدوات مثل FotoForensics وJPEGsnoop التى تساعد فى اكتشاف التلاعب بالصور، كما يمكن استخدام أدوات مثل Hoaxy وClaimBuster للتحقق من صحة المحتوى المنتشر عبر الإنترنت، ومع تطور الذكاء الاصطناعى، تزداد الحاجة إلى هذه الأدوات المتطورة لضمان التحقق من مصداقية المحتوى وحمايته من التلاعب. ◄ مصدر غير موثوق يعود سبب هذه الأخطاء - المسئول الأول والأكبر عن انتشار المعلومات والبيانات المزيفة - كما يفسر الدكتور محمد الحارثى، استشارى وخبير تكنولوجيا المعلومات، إلى أن الذكاء الاصطناعى ينتج مخرجاته بناء على البيانات المتاحة على الإنترنت، والتى تتفاوت فى دقتها بين معلومات موثوقة وأخرى مشوهة أو غير دقيقة، وبما أن هذه الأنظمة لا تمتلك آلية ذاتية للتحقق من صحة البيانات أو توثيقها، فإنها تقدم استنتاجاتها وفقًا لما تم تدريبها عليه، دون القدرة على التمييز بين الحقائق والمغالطات، لذلك لا يمكن الاعتماد على الذكاء الاصطناعى كمصدر موثوق للتأريخ أو توثيق الوقائع، إلا إذا قامت كل دولة بتطوير نماذجها الخاصة، وتدريبها على بيانات مدققة وموثقة، مما يسمح باستخدامها بفعالية فى توصيف الأحداث التاريخية، أما الأنظمة المتاحة حاليًا، مثل «ChatGPT»، فلا يمكن التعامل معها كمصدر نهائى للمعلومات، بل ينبغى استخدامها كأداة مساعدة، مع ضرورة إخضاع نتائجها للتحقق والتدقيق. أضاف، أنه لتفادي المخاطر الناجمة عن تزييف الحقائق، يصبح من الضرورى تعزيز الوعى بأساليب التحقق من المعلومات، يجب تدريب الطلاب والصحفيين والباحثين على كيفية استخدام الذكاء الاصطناعى بحدود واضحة، مع إتقان مهارات التحقق والتوثيق عبر أدوات استقصائية موثوقة كما أن على الدول العربية تطوير نماذجها اللغوية الخاصة، بما يتناسب مع احتياجاتها الثقافية والتاريخية، وهو ما يتطلب استثمارات ضخمة ودعما حكوميا لتشجيع الشركات الناشئة فى هذا المجال. ويقول إن أخطر أشكال التزييف التاريخى تظهر بوضوح في القضايا الجدلية، وعلى رأسها الصراع «الفلسطيني - الإسرائيلى»، حيث تتكرر المُغالطات فى توصيف الأحداث والمُصطلحات، كما تنتشر معلومات غير دقيقة حول الفراعنة، مثل الادعاءات التى تصورهم وهم عمالقة، فى حين تفتقر هذه المزاعم لأى دليل علمى موثق، فى ظل هذه التحديات، يصبح دور الباحثين والصحفيين أكثر أهمية فى التصدى للمعلومات المُضللة، لضمان أن يبقى التاريخ فى أيدى من يسعون إلى الحقيقة، وليس من يحاولون إعادة كتابته وفقا لأجنداتهم. ◄ من يحكم الإنترنت؟! ومن جانبه يفُجر الدكتور محمد عبود، أستاذ الشئون الإسرائيلية بجامعة عين شمس، مفاجأة تكشف توغل «المحتوى العبرى» على شبكة المعلومات الدولية، فيقول: «بصفتى متخصصا فى الشئون الإسرائيلية وغير متخصص فى الذكاء الاصطناعى، وجدت نفسى مضطرا لاختبار تغلغل المعرفة الإسرائيلية داخل أنظمة الذكاء الاصطناعى، فتوجهت إلى مخاطبته باللغة العبرية، وكانت المفاجأة مذهلة؛ إذ قدم لى إجابات دقيقة حول قضايا محلية معقدة، بل واحتوى على معرفة واسعة حتى بأحدث الأعمال الأدبية العربية والمصرية»، مؤكدًا أن المحتوى العربى على شبكة الإنترنت يعانى من أزمة حقيقية تتعلق بالمصداقية والجودة، لا سيما فيما يخص القضية الفلسطينية والصراع العربى- الإسرائيلى، إذ تظل الدراسات والمقالات المتاحة باللغة العربية محدودة للغاية، وغالبا ما تكون مجرد ترجمات مباشرة عن مصادر عبرية، مما يجعلها منحازة ومشبعة بمصطلحات وأفكار صهيونية، بالإضافة إلى اعتمادها على أرقام غير دقيقة. أضاف، أنه فى ظل اعتماد أنظمة الذكاء الاصطناعى على البيانات المتاحة على محركات البحث الكبرى مثل «جوجل» وموسوعة «ويكيبيديا»، فإن غياب المحتوى العربى الجاد والموثق يجعل المؤسسات العربية نفسها جزءا من المشكلة، حيث تترك الساحة مفتوحة لروايات أحادية الجانب تسهم فى صياغة الوعى العام والتاريخ المستقبلى، والأدهى أن عدد المحررين العرب النشطين فى موسوعات إلكترونية مثل «ويكيبيديا» لا يكاد يتجاوز عدد الأصابع، مما يعمّق الأزمة أكثر. ◄ مستقبل في خطر وأكد، أنه على النقيض، نجد أن الإسرائيليين يعملون وفق استراتيجية مدروسة، إذ يُنتجون محتواهم بلغتين أساسيتين، العبرية والإنجليزية، ويربطون مراكزهم البحثية بأجهزة أمنية متخصصة تعمل باستمرار على تدقيق وصياغة المعلومات لضمان انتشارها عالميا، بينما لا يزال العديد من المراكز البحثية العربية تعتمد أساليب تقليدية، وتبقى دراساتها حبيسة الأدراج، دون اتخاذ أى خطوات جادة نحو إتاحتها على منصات إلكترونية منظمة يستفيد منها الباحثون والمؤرخون الدوليون. واختتم، أنه فى ظل هذا الفراغ المعلوماتى، يفاجئنا المحتوى العبرى باحتوائه على معرفة واسعة حتى بأحدث الأعمال الأدبية العربية والمصرية، وهذا يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الإسرائيليين يدركون تماما أهمية المحتوى الرقمى فى تشكيل التاريخ القادم، ويواصلون استثماره بذكاء لضمان أن يكون صوتهم هو الصوت المهيمن فى المُستقبل.