فى السياسة كما الجغرافيا، لا تُختار الجيرة ولكن تُصنع المصائر ولعل العلاقة بين مصر والسودان تمثل واحدة من أعمق نماذج الجوار فى تاريخ المنطقة: علاقة تتجاوز المشتركات اللغوية والعرقية إلى تداخل استراتيجى يشبه التلاصق البنيوى بين الجسد والظل من هنا، لا يمكن أن نتعامل مع لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسى والفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، الذى جرى منذ أيام فى قصر الاتحادية، بوصفه لقاء دبلوماسيا فى زمن الحرب، بل باعتباره حلقة متقدمة فى معركة إنقاذ جيوسياسى ممتدة، تديرها مصر بحكمة وتوازن ووعى عميق بحجم اللحظة. المعادلة ليست من نوع «دولة داعمة وأخرى مدعومة»، بل من نوع «شعبان فى قارب واحد يحاولان النجاة من غرق جماعي». حين تستقبل مصر على أراضيها أكثر من 1.2 مليون سودانى خلال عام واحد فقط، فهى لا تمارس دور الدولة المضيفة، بل تنخرط فى دفاع عملى عن عمقها الاستراتيجى وحين تفتح مدارسها ومشافيها وحدودها، رغم أزمتها الاقتصادية، فهى لا تقدم خدمات إغاثية، بل تضخ فى شرايين الجوار الحياة التى تضمن استمرار نبضها هى أولاً. لكن اللقاء الأخير لم يكن عن الإغاثة فقط، بل عن التحول من الدفاع إلى البناء، من رد الفعل إلى الفعل، ومن الاستيعاب الطارئ إلى التخطيط الاستراتيجى العميق. إعادة إعمار السودان الحديث عن التعاون فى الربط الكهربائى والسكك الحديدية والزراعة والصحة والتعدين لم يكن حديث مشروعات اقتصادية تقليدية، بل خارطة استقرار مبنية على قناعة أن استعادة السودان ليست فقط مهمة داخلية سودانية، بل ضرورة إقليمية تمس الأمن القومى المصرى من أقصاه إلى أقصاه، هذه القطاعات التى تم الاتفاق على تعميق التعاون فيها تُقرأ فى ضوء معادلتين: الأولى: معادلة التفكك/التكامل فإما أن يُعاد بناء السودان بوصفه دولة مركزية قادرة، متصلة بمحيطها الحيوى من الشمال، أو أن ينهار كليًا ليصبح بؤرة نزاع طويلة الأمد على حدود مصر الجنوبية. الثانية: معادلة التدخل/ الاحتواء فإما أن تقود مصر الإطار السياسى والاقتصادى لإنقاذ السودان بمشروع واقعى ينطلق من احتياجات الناس، أو أن تترك فراغًا تملؤه قوى خارجية تسعى لاستخدام السودان كساحة صراع بديل. خطاب القاهرة ومنطق الدولة ما يميز الموقف المصري، كما عكسه هذا اللقاء، هو أنه لا يقوم على دعم طرف ضد طرف فمصر لم تسعَ، لا عبر الإعلام ولا عبر الاجتماعات المغلقة، إلى تأجيج الصراع لصالح حلف دون آخر بل راهنت على الجيش السودانى بوصفه العمود الفقرى للدولة، وليس كقوة عسكرية فى صراع نفوذ والفرق بين النظرتين جوهري. حين تحدث الرئيس السيسى مع البرهان عن «ضرورة تكثيف الجهود لتوفير الدعم للسكان فى مناطق الحرب»، فإنه يضع الإنسان السودانى فى بؤرة الاهتمام، لا موقع السلاح ولا حصة السلطة وحين تطرقا معًا إلى الأوضاع فى حوض النيل والقرن الإفريقي، فإن الموقف المصرى يعلن دون مواربة أن أمن السودان المائى هو خط دفاع أول عن الأمن المائى لمصر. مصر لا تملك خيار التردد العالم قد يغضّ الطرف، يعبّر عن «القلق»، يرسل بيانات ويجمع مؤتمرات، ثم يرحل لكن مصر تعيش الأزمة يومًا بيوم، ولا تملك ترف المراقبة من بعيد إذ أن كل طلقة تُطلق فى الخرطوم، وكل قرية تنهار فى دارفور، وكل لاجئ يعبر النيل، هى فى عمق التأثير المباشر على الدولة المصرية، مصر لا تنقذ السودان من أجل السودان فقط بل من أجل الإقليم كله ولذلك، فإن دعم مصر للسودان لم يكن موقفًا لحظيًا ولا مناورة دبلوماسية إنه جزء من استراتيجية عميقة تدرك أن النهوض بالسودان هو استثمار طويل المدى فى استقرار مصر نفسها وهذا ما يغيب عن أعين الكثيرين، الذين ما زالوا يتعاملون مع الأزمة فقط كملف إنسانى أو سياسى يمكن احتواؤه ببعض الضغوط والوعود. وفى هذه اللحظة التاريخية، حيث تتصارع إرادات الخارج على الجغرافيا السودانية، تقف القاهرة لتقول: لن نسمح بانهيار شقيقتنا، لا من أجلها فقط، بل من أجل كل من يفهم معنى الأمن الحقيقي. السودان ليس عبئًا على مصر، بل فرصة لإعادة بناء مشروع تكاملى فقدته المنطقة لعقود وإذا كانت القاهرة قد دفعت ثمن السلام فى غزة، فإنها الآن تدفع ثمن الأمل فى الخرطوم.