عبد الرحمن نصر كثيرًا ما يظن الإنسان أن أسرته أو قبيلته أو حتى مجتمعه الصغير، هو كيان فريد لا يشبهه أحد فى هذا العالم. عبد الرحمن نصر يُخيَّل إليه أن عاداته، ملامحه، وطريقة حياته، وحتى مشكلاته، لا تتكرر فى مكان آخر. لكن رواية «ساعية البريد» للكاتبة الإيطالية فرانشيسكا چانّونيه، بترجمة أنيقة ل علا محمود (دار العربى للنشر والتوزيع)، جاءت لتكسر هذه الفكرة، لتقول لنا ببساطة: مهما اختلفت الجغرافيا والثقافات، تظل الهموم الإنسانية واحدة هناك دائمًا من يشبهنا فى أفكاره وآلامه وأحلامه، حتى وإن فصلتنا عنه آلاف الكيلومترات. تأخذنا الرواية إلى جنوبإيطاليا، فى فترة تمتد من ثلاثينيات القرن الماضى وحتى بدايات الستينات، مرورًا بالحرب العالمية الثانية. تبدأ الحكاية بانتقال أنّا، بطلة الرواية، إلى قرية زوجها كارلو فى الجنوب كانت أنّا من نساء الشمال المتعلمات، المحبات للحياة، المنفتحات على العالم. لم تكن راضية تمامًا عن الانتقال، لكنها كانت تحب كارلو حبًا يكفى لأن تتخلى عن كل شيء وتذهب خلفه. إلا أن هذه الخطوة كانت بداية لصدام طويل مع عالم لم تتوقع قسوته. فى القرية الجديدة، وجدت نفسها غريبة وسط مجتمع مختلف فى كل شيء: فى طريقة الكلام، والعادات، وحتى النظرة إلى المرأة. لم تكن الغرابة فى المكان، بل فى الذهنيات التى تحكمه. فبينما نشأت أنّا فى بيئة أكثر انفتاحًا، وجدت فى الجنوب منظومة من القيم الجامدة التى تجعل النساء يدُرن فى فلك الرجال، بلا صوت ولا رأى. ومنذ اللحظة الأولى، تبدأ معركتها مع مجتمع يرى فى استقلال المرأة خطرًا يهدد توازن الكون. ولعل القارئ العربى، خصوصًا المصرى، سيشعر بدهشة مألوفة، إذ يرى نفسه بين سطور الرواية. فمشكلات النساء فى الجنوب الإيطالى فى ذلك الزمن تشبه إلى حد بعيد ما تعيشه نساء كثيرات فى عالمنا العربى اليوم. ف أجاتا، زوجة أنطونيو شقيق كارلو، تمثل صورة نمطية للمرأة التى تتبنى قيم مجتمعها دون مساءلة. تراها تردد معتقدات سمعَتها ولم تختبرها، مثل ضرورة الزواج المبكر للفتاة خوفًا من ألسنة الناس، أو أن التعليم العالى لا يليق بالنساء لأنه «لا يُطعم خبزًا". وهى شخصية مألوفة فى ثقافتنا، حيث يتحول الخوف من التغيير إلى قيد أبدى على العقول والقلوب. أما أنّا، فهى على النقيض تمامًا؛ متعلمة، حرة، مؤمنة بحقها فى الحياة والعمل والمعرفة. وبين هاتين المرأتين تتشكل دراما الرواية الكبرى: دراما الصراع بين القديم والجديد، بين التقاليد الراسخة وحلم التحرر، بين الخضوع للقدر والرغبة فى تغييره. ولأنها لا تعرف الاستسلام، تبدأ أنّا نضالها حين تتقدم لوظيفة ساعية البريد — وظيفة كانت حكرًا على الرجال لأنها تتطلب جهدًا بدنيًا وتحمّلًا للمشقة، والمسؤولية. تتعرض للسخرية والرفض، لكن إصرارها يغيّر نظرة أهل القرية ببطء. تبدأ النساء فى رؤيتها كقدوة، كمنارة صغيرة تُضيء لهن طريقًا لم يكنّ يجرؤن على السير فيه. ومع الوقت، تتحول أنّا إلى رمز للتحرر، لا لأنها ترفع شعارات نسوية، بل لأنها اختارت أن تعيش بحرية ببساطة وصدق. لا تكتفى الكاتبة بجعل بطلتها تعمل وتكافح، بل تمنحها حلمًا أكبر: أن تؤسس بيت النساء، مكانًا آمنًا لكل من تعرضت للقهر أو التهميش. هناك، تجد النساء مأوى ومعنى، يتعلمن ويعملن ويدرن حياتهن بأيديهن. ولعل أجمل ما فى هذا الحلم أنه لا يقوم على مواجهة الرجال بقدر ما يقوم على استعادة التوازن الإنسانى بين الطرفين. تبدو الرواية وكأنها تقول: لا نريد عالماً بلا رجال، بل عالمًا لا يُبنى على الخوف منهم. تُثرى چانّونيه نصها بشخصيات جانبية نابضة بالحياة، تُكمّل لوحة الجنوب الإيطالى فى تلك الحقبة. نلتقى دانييليه وأمه كارميلا ونتعرف على علاقتهما بكارلو، وعلاقة دانييليه المتوترة مع لورينسا ابنة انطونيو، وچوفانا المنبوذة من نساء القرية، تلك التى يحيطها المجتمع بنظرته القاسية لأنها تختلف عنهن، وغيرهم. من خلال هؤلاء، ترسم الكاتبة صورة واقعية لعالمٍ صغير تغذيه التقاليد وتكبّله المعتقدات، لكنها تفعل ذلك بحنان لا يخلو من النقد، فتجعل القارئ متعاطفًا حتى مع الشخصيات التى يرفض أفكارها. ومن اللافت أن الحرب العالمية الثانية تمر فى الرواية كظل خفيف، لا كحدثٍ مركزى. فالكاتبة لا تسعى إلى تأريخ الحرب، بل إلى استكشاف ما هو أعمق منها: الحرب اليومية التى تخوضها المرأة فى سبيل كرامتها. تلك الحرب الخفية التى لا تُكتب فى كتب التاريخ، لكنها تترك جراحها فى الذاكرة الإنسانية. إحدى أجمل الرسائل التى تتركها الكاتبة دون تصريح مباشر هى أثر القراءة فى حياة الأفراد. الكتب فى هذه الرواية ليست مجرد خلفية ثقافية، بل عنصر حيّ يحرك الشخصيات. حين تقرأ أنّا لسلفتها أجاتا رواية مرتفعات ويذرنج لتواسيها فى محنتها، تتحول القراءة إلى فعل شفاء ومواساة. وحين يمنح أنطونيو أنَّا رواية «الجريمة والعقاب»، نقرأ فى ذلك محاولة لتطهير ذاته من شعور بالذنب ورغبة دفينة فى القرب. الكتب هنا تصبح لغة بديلة للحب، وللاعتراف، وللتوبة. وكأن الكاتبة تقول إن الكلمات قد تُخفف ما لا يستطيع القلب قوله. أما لحظة تعليم چوفانا القراءة بمساعدة رواية «كبرياء وتحامل»، فتمثل ذروة هذا المعنى. إذ تتحول القراءة إلى وسيلة خلاص حقيقية، تفتح لعقل چوفانا بابًا لم تعرفه من قبل، وتمنحها أدوات لتغيير مصيرها. فالقراءة فى هذه الرواية ليست هواية، بل شكل من أشكال المقاومة. أسلوب السرد الذى اختارته الكاتبة يعزز هذا الإحساس السينمائى الجميل. فالفصول معنونة بفترات زمنية محددة بالشهور والسنوات، مما يجعل القارئ يشعر أنه يشاهد فيلمًا حيًا، ينتقل من مشهد إلى آخر بسلاسة، دون أن يفقد دفء التفاصيل الصغيرة. صوت الرياح فى الأزقة، طعم البيستو الذى تعده أنّا، رائحة كيكة الشكولاتة التى تعدها أجاتا، أحاديث النساء المختلفة. تغمرنا الرواية بحياة كاملة، بتفاصيلها القاسية والناعمة معًا. أما الترجمة التى قدمتها علا محمود، فهى عمل أدبى قائم بذاته. استطاعت أن تنقل روح النص الإيطالى بلغته البسيطة والعميقة فى آن، دون أن تفقده نكهته المحلية. جمعت بين الدقة والدفء، وأضافت لمسات تجعل النص قريبًا من القارئ العربى. من الذكاء أن تترجم المترجمة الأمثال الإيطالية بما يقابلها فى ثقافتنا مثل «الطيور على أشكالها تقع» و«البعيد عن القلب بعيد عن العين»، وهو اختيار يدل على تذوق عالٍ للنص الأصلى وفهم عميق لتفاعل الثقافات. بل إن هذا التوازى بين الأمثال الإيطالية والمصرية يعمق الرسالة الأولى للرواية: أن التشابه بين البشر أعظم مما نتصور. فى نهاية القراءة، لا يمكن اختزال «ساعية البريد» فى كونها رواية نسوية فحسب، رغم أن صوت المرأة فيها هو المحرك الرئيس. هى عمل اجتماعى وإنسانى وتاريخى، يصوغ بأسلوب حميمى رحلة نضال امرأة ضد القيود، لكنه فى العمق يحكى عن الإنسان فى سعيه الدائم إلى الكرامة والحرية، أيًّا كان جنسه أو موطنه. إنها رواية عن الاختيار فى مواجهة القدر، وعن الوعى فى مواجهة الجهل، وعن الإيمان بالحب كقوة قادرة على التغيير. تتجاور فى صفحاتها المشاعر المتناقضة: الحب والخيانة، الغضب والتسامح، الصداقة والخذلان وفى كل ذلك، تظل اللغة بسيطة ومشرقة، كأنها قادمة من ضوء البحر الإيطالى نفسه. لقد صنعت الكاتبة والمترجمة معًا عملًا مدهشًا من حيث الصدق والدفء والوعي عملًا يُذكّرنا بأن النساء، فى كل مكان وزمان، حين يكتبن أو يترجمن أو يحببن، فإنهن يُحدثن فى العالم معجزات صغيرة لا تُرى بالعين، لكنها تُغيّر مسار الحياة. ف «ساعية البريد» ليست مجرد رواية عن امرأة تحمل الرسائل، بل عن امرأة تحمل الأمل — أمل أن تصل الإنسانية يومًا إلى حياة أكثر عدلًا ومساواة.