- التغيير الذى صنعه محفوظ فى الحكاية الأصلية يؤكد أن الفن يعيد تشكيل الواقع لكى يصنع واقعًا موازيًا - «اللص والكلاب» حولت شخصًا بسيطًا إلى نموذج أدبى أكثر خلودًا من الأصل الفانى - الرواية تطرح السؤال الأعمق: لماذا يعاقب القانون على السرقة ولا يعاقب على الخيانة؟ لا تُذكر رواية «اللص الكلاب» للراحل الكبير نجيب محفوظ، إلا ويذكر معها اسم بطلها الحقيقى، اللص السفاح محمود أمين سليمان، كما أطلقت عليه الصحف المصرية، والذى أفزع البلاد والعباد، حتى قتله البوليس المصرى فى إحدى مغارات حلوان، فى مطلع الستينيات من القرن الماضى. لا تخلو أى دراسة نقدية من هذه الإشارة المقتضبة عن أصل الحكاية، وعن مصدر شخصية سعيد مهران الروائية، التى لعبها فى السينما شكرى سرحان فى فيلم «اللص والكلاب»، ولعبها على المسرح الراحل صلاح قابيل، وأصبحت مرادفا فى تاريخ الرواية «للحلم والأمل وفدية الجبناء، وللدمع الذى يفضح صاحبه»، هكذا قال سعيد مهران فى مونولوج شهير. ألقاه وهو ينظر إلى القبور المتناثرة، تحت ضوء القمر. محمود سليمان هو أصل سعيد مهران الواقعى، انتقل من خلال رواية محفوظ من صفحة الحوادث والقضايا إلى صفحة الأدب والفن، وصار نموذجا أدبيا مستقلا، بل إن سعيد مهران أصبح أكثر خلودا وبقاء من البذرة التى صنعته، حتى إننا نستطيع أن نقارنه بشخصية راسكولينوكوف فى «الجريمة والعقاب» لديستوفسكى، كان بطل هذه الرواية أيضا مستلهما من شخصية واقعية، ارتكبت جريمتها، ثم اندثرت مع الزمن. لم يكن اللص البائس محمود أمين سليمان يحلم بأكثر من أن يعيش على صفحات رواية، أو فى فيلم سينمائى، وهو الذى أنفق أوقاتا طويلة فى قراءة روايات أرسين لوبين، وهو أيضا الذى أراد نهاية ملحمية لمصرعه، وكان قد طلب أوراقا بيضاء ليكتب عليها مذكراته، قبل أن يموت. التغيير الذى صنعه محفوظ فى الحكاية الأصلية، والذى انعكس بدوره على الفيلم، يؤكد من جديد، أن الفن يعيد تشكيل الواقع، لكى يصنع واقعا موازيا، له قانونه الخاص. الواقع مثل قطعة الصلصال، هو المادة الخام التى لولاها ما صنع التمثال، ولكن التمثال، مع ذلك، ليس قطعة الصلصال، ولكنه لمسات الفنان وبصمته فوقها. صدرت رواية «اللص والكلاب» بعد مصرع بطلها الحقيقى محمود سليمان بشهور قليلة، مات اللص القاتل، لم يعد يتذكر حكايته إلا الجيل الذى عاصرها، أما سعيد مهران، فقد عاش وسيعيش ما بقى «الحلم والأمل والعزاء والدمع الذى يفضح صاحبه». (1) صريع المغارة إبريل 1960.. إنه شهر الغبار والأكاذيب كما وصفه محفوظ فى رواية «ثرثرة فوق النيل». كل شىء يجرى فى مساره المعتاد لولا استمرار الحديث عن مطاردة الشرطة للسفاح محمود أمين سليمان. شائعات تملأ العاصمة عن ظهوره فى كل مكان: ظهر فى الدقى وفى بولاق.. شاهده بعضهم وهو يدخن الحشيش فى مقهى بالسيدة نفيسة.. أقام فى حجرة متواضعة بشارع محمد على. منذ شهرين والبلاغات مستمرة، تذهب الشرطة إلى المكان فلا تجد أحدا. الرعب يجتاح المدينة خوفا من لص قاتل وشرس وذكى ومسطول معظم الوقت. الداخلية تعلن عن مكافأة ضخمة قدرها ألف جنيه لمن يرشد عن السفاح. إبريل 1960.. طار عبدالناصر فى رحلة إلى آسيا وبالتحديد إلى الهند وباكستان. ظهر فيلم جديد بعنوان «بهية» تملأ إعلاناته صحف الصباح. الفنان فريد الأطرش يواصل حفلاته الناجحة مع صباح وسمية جمال. وزير الداخلية عباس رضوان يتابع لحظة بلحظة مطاردة الشرطة للسفاح، الذى تقول المعلومات إنه فى مكان ما بالقاهرة أو الجيزة، وما عدا ذلك فلا يوجد شىء مؤكد. يوم التاسع من إبريل كان يحمل جديدا: معلومات سابقة كانت قد أفادت بأن السفاح قد ظهر فى سيارة النقل السريع للسكة الحديد، واليوم يؤكد الخفير النظامى عبدالعظيم دياب أنه التقى وجها لوجه مع السفاح، وتبادل معه حديثا طويلا. كان السفاح يرتدى جاكيت وبنطلونا، ولذلك طلب من الخفير أن يعطيه جلبابه بدلا منهما. استجاب الخفير على الفور بسبب التهديد، وعاد مسرعا ليبلغ الشرطة. تحركت قوات ضخمة على الفور إلى البدرشين، بعد أن وصلتها معلومات عن ظهور السفاح هناك، ثم تلقت تلك القوات إشارة عن ظهور السفاح فى القرية القبلية بحلوان، والمتاخمة للجبل. لم تكذب القوات خبرا وانتقلت، ومعها الصحفيون، من البدرشين إلى حلوان، استعدادا للمعركة الأخيرة. الصحفى الشاب وقتها جمال بدوى (هو نفسه رئيس تحرير جريدة الوفد فيما بعد) كان أحد شهود هذه المعركة، وقام بتغطية أحداثها لجريدة «الأخبار» مع الصحفى عبدالسلام داود. يذكر بدوى فى كتاب له أن السفاح تراجع تحت ضغط الشرطة إلى أحد الكهوف الحجرية، مجرد كهف صغير فى حضن الجبل يرتفع مترا ونصف المتر عن الأرض. صحيفة (الأهرام) تقول فى تغطيتها للحادث، الذى نشر جنبا إلى جنب فى الصفحة الأولى مع وقائع رحلة عبدالناصر إلى الهند، إن مناقشة مطولة قد جرت بين اللص القاتل والشرطة استمرت لمدة 75 دقيقة، وكانت قوة الحصار بقيادة اللواء عبدالحميد خيرت، حكمدار العاصمة شخصيا، فى ذلك الوقت. استفاد محفوظ كثيرا من الحوار الذى دار قبل مصرع السفاح خصوصا أنه يدل على يأس اللص القاتل وتأكده من الموت، ولكن الروائى الكبير ابتكر حوارا جديدا بتناسب مع نموذجه الأدبى الجديد. الحوار الأصلى مثلًا كان يأخذ مسارات عجيبة وغريبة: الضابط: سلم نفسك يا محمود محمود: إذا كنتم عايزين تموتونى أنا مستعد أخلّص على نفسى.. طلقة واحدة الحكاية تخلص! كان ذلك تهديدا صريحا من السفاح بالانتحار، ولكنه سرعان ما عدل عن الفكرة طالبا استدعاء زوجته نوال سبب مأساته، وهذا الطلب لم يتحقق، أما جمال بدوى فيضيف إلى مطالب السفاح التى سمعها ضرورة استدعاء محمد حسنين هيكل رئيس تحرير (الأهرام)، وكان وقتها مرافقا للرئيس عبدالناصر فى جولته الآسيوية. لكن الحوار مع الشرطة، والذى استغرق كما ذكرنا ساعة إلا الربع، كان يتخذ مسارا مضحكا أحيانا. على سبيل المثال قال اللص من داخل الكهف: «هاتولى ورق أبيض.. أنا عاوز أكتب مذكرات!»، وبعد فترة من الوقت، استمعت الشرطة بوضوح إلى صوت راديو ترانزستور كان السفاح يحمله معه، وكان الراديو يذيع وقتها برنامجا شهيرا بعنوان «أكاذيب تكشفها حقائق» لمقدمه المذيع اللامع أحمد سعيد. الحصار لم يكن حوارا فقط، ولكن تخلله تراشق بالرصاص بين الشرطة والسفاح، مما أسفر عن إصابة جنديين من جنود الأمن. قائد القوات المحاصرة أمر أيضا بضرب المغارة بالقنابل الغازية، ولكن جمال بدوى يؤكد أن القنابل اصطدمت بالجدار الخارجى للكهف، فارتد الدخان إلى الصحفيين وإلى رجال الشرطة. صرخ السفاح فى يأس: «إذا ضربتونى بالقنابل ح اموّت نفسى.. ابعدوا عنى.. أنا مش سفاح.. أنا اللى قتلتهم غصب عنى.. أنا معايا رصاص كتير وممكن أقتلكم». لم يكن هناك مفر من اقتحام الكهف. صدرت الأوامر فتحرك المقدم عبدالرحيم العبودى والنقيب صفوت ثابت للتنفيذ، وفى يد كل منهما مدفع رشاش. سادت لحظات سكون بين القوات والصحفيين وجموع الأهالى، لم يقطعها سوى سماع أصوات رصاص كثيفة ومتتابعة. بعد دقائق خرج الضابطان وهما يحملان جثة السفاح، ليستقبلهما تصفيق الجمهور، وكأنهما على خشبة المسرح! نُقلت الجثة إلى سيارة النجدة. قالت (الأهرام) إن 17 رصاصة مزقت جسد اللص القاتل. وزير الداخلية عباس رضوان كافأ كل ضباط الحملة التى طاردت محمود أمين سليمان مستخدمة الكلاب البوليسية المدربة. مكافأة الألف جنيه مُنحت مناصفة للخفير عبدالعظيم دياب، ولإبراهيم على طايل سائق سيارة النقل السريع التابعة لهيئة السكة الحديد، التى استقلها السفاح فى رحلته الأخيرة. (2) نوال والمحامى مات السفاح لتنهمر حكايات الصحف عن قصة حياته. كان عجيبا أن تعثر الشرطة على رسالة كتبها السفاح، وتركها فى حجرته بشارع محمد على باسم محمد حسنين هيكل رئيس تحرير (الأهرام). دافع محمود أمين سليمان فى الرسالة عن نفسه، كما طلب أن تنشر على صفحات (الأهرام)، وعلى حلقات مسلسلة قصة حياته، لكى يفهم الناس أنه ليس سفاحا، ولكنه إنسان منكوب بخيانة زوجته، وبظروفه البائسة، أما ضحاياه فقد قتلهم بطريق الخطأ. «الأهرام» لم تقبل هذا المبرر، ذلك أن السفاح فى رأيها ارتكب قبل جرائمه الأخيرة 58 جريمة قادته إلى السجن. مع ذلك فقد نشرت الصحيفة رسالته، والغريب أنه على الرغم من أخطاء الرسالة اللغوية والإملائية، فإنها كتبت بخط جميل وبأسلوب روائى مستمد على الأرجح من الروايات التى كان يقرؤها محمود سليمان، على سبيل المثال فهو يصف زوجته نوال بأنها: «ثمرة للجريمة وللرذيلة، ويستطيع الدارس والمحقق أن يلمس جذورها الممتدة فى أعماق نفسها وبنيتها وأعراق أهلها». ويذكر سليمان فى رسالته أن زوجته قالت له بعد زواجهما: «سوف أكون لك الروح مدّة حياتى.. وهذا عهد منى مهما كانت الفوارق والعواقب»، ولكنه يعترف بأنه ولد فقيرا، ثم أصبح لصا فى وقت مبكر، وأنه قبض عليه عام 1958 لسرقة معطف السيدة أم كلثوم، ثم يتهم زوجته بأنها أرشدت عنه بعد ذلك لكى يعتقله البوليس، كما يعترف بأنه كان يريد قتل زوجته وصديقها المحامى، وكان يعرف بعد ذلك أن مصيره سيكون الموت. الشاعر الكبير الراحل أحمد فؤاد نجم له شهادة مهمة جدا عن محمود أمين سليمان نشرها فى مذكراته «الفاجومى» الجزء الأول.. حيث ساقته الظروف لمقابلة محمود سليمان بالمصادفة فى حبسخانة محكمة عابدين. كان محمود وقتها مجرد لص متهم فى أكثر من قضية، وفى العنبر حكى الرجل لنجم حكايته «من طقطق لسلامو عليكو» على حد تعبير نجم. كان محمود سليمان مثل أى شاب صعيدى ضاق عليه الرزق فى بلده فنزح إلى الإسكندرية. تعرف هناك على معلم هجّام علمه أصول السرقة، سافر سليمان إلى بيروت، وعاش هناك سبع سنوات. عاد ومعه مبلغ كبير مكّنه من أن يشترى شقة فى الأسكندرية، ثم تزوج من سيدة تدعى نوال عبدالعظيم، ومع ذلك فقد ظل لصا. كان يمارس نشاطه «على تقيل» على حد تعبير نجم، فهو لا يسرق إلا الشقق التى يسبقه إليها ناضورجى كالشغالة أو البواب أو المكوجى أو السباك، وكان يسرق الأشياء الغالية كالمجوهرات والتحف. من أشهر سرقاته سرقة بالطو أم كلثوم من سيارتها أمام مسرح حديقة الأزبكية، وقدرت الصحف وقتها ثمن هذا البالطو بثلاثين ألف جنيه. شقيق زوجته واسمه محمد كان يعمل مرشدا للبوليس، مما أثار غضب سليمان فطرده من منزله ذات يوم. الشقيق غضب فأبلغ عن زوج أخته، فقبض البوليس عليه، ليرحّل إلى عنبر (ب) حيث التقى بنجم، وأضيفت إلى اللص قضاياه السابقة، ليصل عددها بما فيها قضية بالطو أم كلثوم إلى ثلاثين قضية. خلال نظر القضايا أمام النيابة، بدأت الشكوك تساور محمود أمين سليمان حول وجود علاقة بين زوجته ومحاميه، الذى كان غير متحمس للإفراج عنه. يوما بعد يوم تحوّل الشك إلى يقين، فقرر سليمان الهرب من السجن من أجل الانتقام. ذات ليلة نقل محمود أمين سليمان إلى المستشفى بعد أن زعم أنه بلع «بشلة»، فى حين أنه لم يبلع سوى ورقة سجائر مفضضة لتظهر فى الأشعة كجسم غريب. نقلوه إلى مستشفى قصر العينى، ومن هناك هرب من عسكرى الحراسة، ليبدأ بعد ذلك مسلسل الانتقام، ويتوالى سقوط قتلى أبرياء، فأصبح اللص سفاحا. الغريب كما يقول نجم أن المساجين كانوا يتابعون مغامرات السفاح بعد هربه بإعجاب وبحماس، وحتى السجّانة كانوا لا يخفون تعاطفهم معه فى غيبة الضباط، وعندما قُتل السفاح فى معركة حلوان، بات السجن كله حزينا. (3) الباحث عن العدالة منذ بداية حوادث محمود أمين سليمان لم يعد يشغل بال نجيب محفوظ، الروائى والموظف فى مصلحة الفنون، إلا متابعة أخباره فى الصحف. يلتقيه يحيى حقى، صديقه ورئيسه فى المصلحة نفسها، فيسأله: «ماذا تقرأ هذه الأيام؟ وماذا يشغلك؟»، يضحك محفوظ ويرد: «لا شغل ولا تفكير إلا فى محمود أمين سليمان». لا أعتقد أن هذه الحوادث هى التى أوحت لمحفوظ بفكرة الباحث عن العدالة فى رواية «اللص والكلاب»، فالمتابع لأعمال نجيب محفوظ يكتشف بسهولة أن محفوظ كان مشغولا دوما بفكرة الإنسان الباحث عن العدالة على الأرض، بعد أن طرد من البيت الكبير. كان قد أنجز بالفعل فى هذا الإطار روايته المهمة «أولاد حارتنا»، التى تنتهى بالإنسان وهو لا يزال يبحث عن العدل والحرية، ومؤمنا بأنه: «لا بد للظلم من آخر، وللّيل من نهار، ولنريهم فى حياتنا مصرع الطغيان، ومشرق النور والعجائب». قال لى محفوظ فى حوار منشور، إنه يكرر الفكرة فى أعماله أكثر من مرة حتى يتخلص من الإلحاح. الواقع أنه لم يتخلص أبدا من إلحاح فكرة أشواق الإنسان إلى الحرية والعدالة طوال حياته. فى ذروة هذا الانشغال اكتشف محفوظ حكاية السفاح، ليس باعتباره لصا وقاتلا، ولكن باعتباره مادة تصلح لأن تصنع نموذجا أديبا يسمح، بعد كثير من التعديل والمفارقة للأصل، بأن يكون رمزا للإنسان الباحث عن العدالة. عندما تعمل موهبة محفوظ يتغير الكثير فى المادة الواقعية: تختفى سرقات سليمان بدافع الفقر والثراء السهل، لتتحول إلى سرقات من الأغنياء بدافع استرداد حق الفقراء، كما قال له رءوف علوان. تختفى واقعة الهروب من السجن، لتحل محلها افتتاحية رائعة عن شاب أفرجوا عنه، سدّد دينه للمجتمع، وجاء الدور على المجتمع، لكى يسدد ديونه المستحقة للفرد. لم يعترض سعيد مهران على عقاب القانون له باعتباره لصا، ولكنه يتساءل: لماذا تعترضون عندما أعاقب الخونة؟ ثم يأتى السؤال الأعمق: لماذا يعاقب القانون على السرقة ولا يعاقب على الخيانة؟ الكلاب التى صاحبت الشرطة فى رحلة القبض على السفاح ستظهر أيضا فى الرواية، ولكنها ستكتسب معنى رمزيا مغايرا، حيث ستتحول إلى معادل للخونة (نبوية وعليش سدرة ورءوف علوان)، والمفارقة هنا هى عكس قواعد اللعبة، حيث سيقوم اللص بمطاردة هذه الكلاب لقتلها دون جدوى، وفى النهاية ستربح الكلاب المعركة. هذا مجتمع يسجن اللصوص، فلماذا يترك الكلاب تنهش وتعض؟ هذا هو السؤال المربك الذى صنع أحد أشهر نماذج «البطل الضد» فى الرواية العربية. الشخوص والأحداث الحقيقية تحورت فى اتجاه فكرة الرواية لدرجة أنك تستطيع مثلا أن تتفق مع بعض النقاد فى مقارنتهم لحظة خروج سعيد مهران من السجن بلحظة هبوط الإنسان إلى الأرض حاملا بقايا خطيئته، وكذلك حلم استعادة الفردوس على الأرض بالحرية والعدل والمساواة، كما أن شخوصا مثل «نور» تحتمل أن تكون رمزا للحب المفقود الذى يهتدى به الإنسان فى قلب الليل، بل إن شخصية السفاح أصبحت تحتمل أن تجسد صورة البطل الوجودى كما لاحظ الناقد أنور المعداوى فى مقال طويل له عن «اللص والكلاب»، حيث قارن بين سعيد مهران ونماذج شهيرة فى الأدب الوجودى عند سارتر وكامى. الحقيقة أن سعيد مهران يمكن مقارنته أيضا مع راسكولينوكوف بطل «الجريمة والعقاب» لديستوفيسكى: كلاهما يقتلان ويسرقان بسبب فكرة ومبدأ، وكلاهما يكتشفان فى النهاية أن العنف لا يحقق العدل، وأن الخلاص الفردى مستحيل بهذه الطريقة، وكلاهما يثيران التعاطف على الرغم من جرائمهما، لأنهما يعبران عن تخبط الإنسان فى الظلام، بحثا عن تحقيق أحلامه وأشواقه، بأن تتحوّل أرض الخوف إلى جنة أرضية. كلا من محفوظ وديستوفيسكى يناقشان أفكارا كبرى، ولكن باستخدام أبسط مفردلات الواقع وشخوصه، وكلاهما يختاران الشكل البوليسى استلهاما من جرائم معروفة، ومع ذلك لا يمكن تصنيف «اللص والكلاب»، ولا«الجريمة والعقاب» كأعمال بوليسية، إلا من حيث الشكل فقط. تنتهى رواية «اللص والكلاب» باستسلام سعيد مهران: «وأخيرا لم يجد بُدًا من الاستسلام فاستسلم بلا مبالاة.. بلا مبالاة»، أو بقتله كما فهم (أو أراد) القراء والنقاد، وبذلك تم تطبيق القانون، ولكن الماكر نجيب محفوظ يترك قارئه غير مستريح على الإطلاق، لأن سؤال الرواية ما زال معلقا وهو: لقد تحقق القانون بسجن واعتقال أو قتل سعيد مهران، فهل تحققت العدالة؟ ربما كان عدلا فى رأى البعض أن يموت سعيد مهران جزاء وفاقا، ولكن هل من العدل أن يعيش رءوف وعليش ونبوية؟ كان السفاح اللص محمود أمين سليمان يحلم بأن تُنشر حكايته، وقد فعلها محفوظ. نشر «اللص والكلاب» كرواية فريدة، ولكن الفرد البسيط تحول على صفحاتها إلى نموذج أدبى أكثر خلودا من الأصل الفانى، بفضل سحر الفن، وبراعة الفنان.