ولد أحمد بن علي بن صافي النجفي عام \1897 اي قبل بداية القرن العشرين في قرية من قرى مدينة النجف في أسرة علمية دينية و كان والده علي الصافي قد ورث علوم الدين عن أجداده . أما جدّه لأُمه فهو الشيخ محمد حسين الكاظمي أكبر علماء عصره وله عدد من المؤلفات الدينية. تعلم الصافي بعض اجزاء القرآن الكريم على يد (شيخة) في النجف ثم تعلم الكتابة وأكمل قراءة القرآن الكريم في (الكتّاب) اي في (الملاّ) والملا رجل اتخذ مهنة تعليم القراءة والكتابة بالطريقة الابجدية وتعليم القران الكريم حتى اتمامه على احسن وجه وكانت هذه الطريقة موجودة عند العراقيين لحد الستينات من القرن العشرين .و كان برغم صغر عمره ينوب عن المعلم في تدريس الخط للتلاميذ . توفي والده بالكوليرا التي عمت العراق عام\ 1907 وكان أحمد في العاشرة من عمره فقام شقيقه الأكبر محمد رضا بإعالة العائلة. بعد تخرجه من (الملاّ) درس الصرف والنحو والمنطق والمعاني والبيان وأصول الفقه على كبار الاساتذة والمجتهدين منهم السيد أبو الحسن الأصفهاني حيث درسها على يده لثمانية اعوام فأتقن هذه العلوم بجدارة وحاز عليها . وكان يقول الصافي عن بلدته النجف( فصادرات بلدتي مشايخ وواردات بلدتي جنائز) . كان أحمد الصافي ضعيف البنية فأرهقته الدراسات حتى أصيب بالانهيار العصبي الشديد فأشار الأطباء عليه التوقف عن متابعة الدراسة فاتجه إلى المطالعة في الأدب القديم وخاصة الشعر وقراءة الصحف الشريف والمجلات فاكتسب معلومات ثقافية عامة واسعة وأخذ ينشر مقالاته في مجلتي المقتطف والهلال وكانت مجلة الهلال مجلة صغيرة الحجم مصورة جامعة تنشر مقالات فيها الكثير مما يحدث في اوربا،و كانت تثقيفية يجد القراء فيها كل ما هو جديد من الانجازات العلمية والافكار المتطورة في اوربا و كانت هذه المجلة تصل العراق حتى البصرة ولم يكن بوسعه شراءها فكان يقرأها في المكتبة العامة في البصرة كما يقول الشاعر متحدثا عن نفسه. اما مجلة المقتطف فكان يصدرها فريق من المثقفين وهي اول واوحد مجلة علمية كانت تصدر في العالم العربي وهي المجلة الوحيدة التي عرّفت العالم العربي بنظرية تطور( داروين) وكانت تصدر من القاهرة وعند بلوغه سن العشرين وابان الحرب العالمية الأولى انتقل من النجف إلى البصرة بحثا عن العمل ولكنه لم يحظ بتلك الفرصة لضعف بنيته واعتلال صحته, فتركها وسافر إلى عبدان ومنها إلى الكويت. ثم عاد الى النجف بعد أشهر قليلة حيث لم يجد عملا فانكب على دراسة اللغة العربية وقواعدها وفنونها. وهكذا العلماء والادباء يؤثرون الدراسة على حالتهم الصحية . في عام \1920م شارك و اسهم مع اخيه اسهاما فعالا في الثورة العراقية الشعبية ( ثورة العشرين ) التي اشتعلت شرارتها من ارض جنوبالعراق فحكم على اخيه بالاعدام الذي خفف الى السجن فيما بعد بينما هو انهزم متخفيا وراح هو ينظم الشعر ويهاجم الاستعمار والغاصبين حتى ألهب الحماس في قلوب الشعب العراقي وشدد على نهضتهم وثورتهم وقد تمكن من إيصال رسالة الثورة – ثورة العشرين – في مناهضة قوى الاحتلال الانكليزي ومطالبته بالاستقلال من خلال الكثير من القصائد الوطنية التي كتبها ودوّن فيها تفاصيل الثورة ومواقف الثوار والاحداث التي حصلت من المقاومة الباسلة والقتال الذي تكبدت فيه بريطانيا وقواتها افدح الخسائر ويصف نفسه في ذلك فيقول: سعيت لتحصيل السعادة جاهدا فزاد شقائي من ضياع جهودي فطورا حسب العلم يحبو سعادة إذا السعد يمشي نحو كل بليد وطورا ظننت الصيت يسعد أهله فلم أستفد بالصيت غير قيود ولما شددت عليه القوات الانكليزية استطاع الصافي من التخفي والتنقل من بلدة الى اخرى في صفوف الثوار حتى انتهى به الهرب إلى إيران فعكف هناك على دراسة اللغة الفارسية وعمل مدرسا للادب العربي في المدارس الثانوية في طهران. و بعد عامين ترك التدريس واشتغل بالترجمة والتحرير في الصحف الإيرانية. واستقر بولاية (شيراز) وهناك تعلم اللغة الفارسية وعمل مدرساً للآداب العربية في ثلاث مدارس وتابع نشر مقالاته في الصحف والمجلات فلفت الأنظار إليه وانتخب عضواً في النادي الأدبي وبعدها عيّن عضواً في لجنة التأليف والترجمة، ثم كلفته وزارة المعارف في ايران ترجمة كتاب في (علم النفس) لمؤلفيه علي الجارم وأحمد أمين من العربية إلى الفارسية كي يتم تدريسه في دار المعلمين بطهران فترجمه بدقة الى الفارسية ثم ترجم رباعيات الخيام من الفارسية إلى العربية حيث تعتبر ترجمته من أفضل الترجمات لهذه الرباعيات لأنه نقلها عن الأصل الفارسي وطبعت للمرة الأولى في طهران. اما موقفه من امارة الشعر – فكان يشعر ويصرح ان ليس للشعر اميرا فاذا كان له امير فهويعني (الصافي نفسه) وليست احمد شوقي اذ ان احمد شوقي كان شاعر الخديوي وتربى بعزه وانما هو وأيليا ابو ماضي. وفي ذلك يقول : (سألتني الشعراء أين أميرهم فأجبت إيليا بقول مطلق) (قالوا وأنت! فقلت ذاك أميركم فأنا الأمير لأمة لم تخلق). قضى ثماني سنوات في طهران ثم عاد إلى العراق بطلب من الحكومة العراقية وأصدقائه ليخدم بلده العراق فعيّن قاضياً في مدينة الناصرية شغلها لثلاث سنوات. عاد للعراق بعد\ 8 سنوات قضاها في إيران معتلا لكن صحته تتدهورت بشكل سريع وتكالبت عليه الامراض المختلفة فنصحه الاطباء بالسفر الى الشام ( سوريا و لبنان)لاعتدال الجو فيهما مما يعينه على الراحة والاستشفاء. في عام \1930 تم سفره إلى سورية للاستشفاء وكان يتنقل بين دمشق وبيروت متابعاً رسالته الأدبية. عندما اندلعت الحرب بين الحلفاء والمحور عام \1941 أدخل الصافي النجفي السجن في سوريا بأمر السلطات الإنكليزية و مكث في التوقيف أربعين يوماً تحت إدارة الأمن العام الفرنسي ثم أفرج عنه ونظم في السجن ديوانه (حصاد السجن) منه هذه بعض الأبيات التي مظمها في السجن: (لئن أسجن فما الأقفاص إلا لليث الغاب أو للعندليب) (ألا يا بلبلاً سجنوك ظلماً فنحت لفرقة الغصن الرطيب). اشتدّ عليه المرض في السجن وکان الإنجليز يعلّلونه کل يوم بأنهم أبرقوا إلي الحکومة العراقية يسألونها رأيها فيه، وقد مرّ عليه قرابة الشهر وهو يستغيث من الداء ولا يسمحون بنقله إلي المستشفى للعلاج او لتخفيف الامه ، ولمّا اشتدّت عليه وطأة الداء أنشد قائلاً : سُجِنتُ وقد أصبحت سلوتي من السقمِ، عَدّي لأضلُعي أعالجُ بالصبرِ برحَ السّقامِ ولکنّ علاجيَ لم ينجعِ أتاني الطبيبُ وولّي سُديً وراحَ الشفيعُ فلم يشفعِ وکم قيلَ مدِّدْ مدي الاصطبارِ ومهما عراکَ فلا تجزع وکم ذا أمدُّ مدي الاصطبارِ فإن زدتُ في مدِّه يُقطع ولکنّهم صادفوا عقدةً بأمريَ تُعيي حِجي الألمعي حکومةُ لبنانَ قد راجعت فرنسا لفکِّي فلم تسطعِ وراحت فرنسا إلي الإنکليزِ تراجعُهم جَلَّ مِن مرجعِ وقد راجعَ الإنکليزُ العراقَ ولليومِ بالأمرِ لم يُصدَعِ فقلتُ: إعجبوا أيّها السامعونَ ويا أيّها الخلقُ قولوا معي: أمِن قوّتي صرتُ أم من ضعفِهم خطيراً علي دولٍ أربعِ؟! أمضى الصافي 36 عاماً متنقلاً بين سورية ولبنان وكانت المقاهي ضالته في دمشق حيث كان يرتاد مقاه معينة مثل (الهافانا) و (الكمال) و (الروضة) لانها كانت ملتقى الشعراء والأدباء والصحفيين. ويتغزل بحبيبته سوريا فيقول: يا سوريا ما أنت غير خريدة قد كثر العشاق فيك جمال هذا الجمال عليك جر مصائبا إن الجمال على ذويه وبال قد كان يعطيك المحب فؤاده لو عز منك على المحب وصال وفي دمشق قال \ ( أتيت جلّق مجتازاً على عجل فأعجبتني حتى اخترتها وطنا) ( يكاد ينسى غريب الدار موطنه في ربعها ويعاف الأهل والسكنا). ويصف اسوار بعلبك وقلعتها واثارها فيقول: ا لست من العواميد ظلت كشموع الدهر تجلو الظلاما ! قد تعالين فاتحدن رؤوسا، ثم أحكمن في الثرى الأقداما حكايات وسط الفضا أخوات قد تماسكن، واتحدن غراما وحد الحسن بينهن بتاج حيث في الحسن قد بلغن التماما فتعاهدن في كفاح الليالي لا يبارحن خطهن انهزاما أو كقواد جحفل قد أطلوا يعدون الآراء والأحكاما كان الصافي قليل الدخل ضعيف الحال فاتخذ غرفة قديمة في (مدرسة الخياطين) وكان من أصدقائه بدمشق الدكتور عبد السلام العجيلي وسعيد الجزائري وعمر ابوريشة وفخري البارودي واحمد الجندي وبدوي الجبل . ومن أصدقائه في لبنان الشاعر القروي وميخائيل نعيمة ومارون عبود. وغيرهم من القامات الادبية العربية . وفي إقامته في لبنان كان يرتاد ومقهى البحرين ومقهى فاروق ومقهى الحاج داود وفي المساء كان يأوى إلى غرفة متواضعة قرب مستشفى (أوتيل ديو).و كان في كل هذه المقاهي معه النا رجيلة يدخن بها وهي ممارسة شائعة في العراقولبنانوسوريا وفي مصر . (عاش احمد الصافي النجفي حياة الفقر- كما يصفه احد الذين كتبوا عنه – كانت ايامه بائسة بين غرفة بائسة بسوق الحميدية بدمشق مساءً وبالمقاهي نهاراً. في هذه الغرفة كان يتدفأ برؤية المصباح وفي المقهى كان يلتحف بالجرائد حول صدره إن مسه البرد وهي قراطيسه أيضاً، كان يدون قصائده على ورقها وكان يحرر ما كتبه على حواشي الجريدة أو أغلفة علب السكائر ثم يحررها بعد عودته إلى غرفته في دفاتر أشعاره.) ويصف حالته هذه ومرضه الذي لم يفارقه طوال حياته فيقول : يضعضع الداء أيامي فأمسكها، ويقتل الدهر آمالي فأحييها تبنى على الليالي من نوائبها سجنا، فتنفد روحي من مبانيها يا علة رافقت جسمي بمولده حتى استحالت كجزء الروح أحويها أخاف فقد حياتي حين أفقدها، وأختشى من فنائي حين أفنيها كانت دموعي نصيري عند كارثتي، ترش نيران أحزاني فتطفيها أمضى مدة\ 46 عاما متنقلا بين سورياولبنان. لقد اختار العروبة واظهر اعتداده وايمانه المطلق بها وليس لعقيدة او حزب معين فالصافي بقي على لباس الكوفية والعقال والدشداشة لباسا عربيا مميز ا لقد عاش الصافي الشاعرالكبير حياة الفقر المدقع وذلته فقال يصف حالته وما جرته عليه شاعريته : لقد جر لي شعري الشقاء كأنني بنظم قريضى، أنظم البؤس لا الدرا قبلت بحظ، وارتضيت بقسمي من الشعر لو أستطيع أن أنشر الشعرا اصيب في الحرب الاهلية اللبنانية حيث اصابته رصاصة طائشة أطلقها قناص في منتصف يناير \ 1976م بينما كان الشاعر يبحث عن رغيف خبز يأكله بعد أن أمضى ثلاثة أيام لم يذق فيها الطعام فحمله بعض المارة إلى المستشفى ولسان حاله يقول : بين الرصاصِ نفدتُّ ضمنَ معاركٍ فبرغمِ أنفِ الموتِ ها أنا سالمُ ولها ثقوبٌ في جداري خمسةٌ قد أخطأتْ جسمي وهنّ علائمُ ولم يطل بها مكوثه لصعوبة الوضع القائم انذاك , فنقل إلى بغداد وقد كف بصره قبل عودته فلما وصلها انشد قائلا: ياعودة للدار ما أقساها أسمع بغداد ولا أراها وفي بغداد اجريت له عملية جراحية لإخراج الرصاصة من صدره ولكن العملية لم تنجح وزادت جسده نحولا وضعفا فاسلم الروح بعد عدة ايام من اجرائها فتوفى في السابع والعشرين من شهر تموز من عام\ 1977 وقد ناهز الثمانين من العمر. عُرف الصافي بشاعر المعاني ويتميز بسهولته ونظرته البسيطة خال من التعقيد فشعره اشبه بمرآة مجلية تعكس حياته ومجتمعه وإن أول تلك المميزات وأهمها هي البساطة في طرح الأفكار وتناول الأشياء، والمعالجة الفنية للموضوعات، وهو يعبر عن ذلك أصدق تعبير . وفي قصائده نلاحظ تجاربه بسيطة الا انها غنية نابعة من واقعه المعيشي وتنطوي على نظرته الفاحصة للحياة اتجاه الانسان والواقع وما يحيط به وبحياة الاخرين فشعره يمتاز باسلوبه السهل الممتنع والممتع سلس الاسلوب سائغ المحتوى واضح المعاني جلية بعيدة عن الغموض والابهام نابعة من ثقافته العامة وقد تداخلت فيها الطرافة والسخرية في بعض منها لاسيما في انتقاده وهجائه على قلته . ورحم الله الاديب عباس محمود العقاد الذي قال فيه : ( كان الصافي اشعر شعراء العربية ) صدرت بعد رحيله مجموعته الشعرية ( قصائدي الأخيرة )التي تضم آخر ما كتب من قصائد. من مؤلفاته الشعرية: الامواج صدرت عام \1932 اشعة ملونة صدرت عام \1938 الاغوارصدرت عام \ 1944 الحان اللهيبصدرت عام \ 1944 شرارصدرت عام \ 1952 اللفحاتصدرت عام \ 1955 كما له مقالات جمعت في كتاب عنوانه حصاد السجن وله ايضا رباعيات عمر الخيام\ صدرت عام\ 1934 ترجمها من الفارسية الى العربية اختم بحثي بهذه الابيات من قصيدته (دولة الشعر ) : بمجتمع النفاقِ أضعتُ عمري وفي سوق الكسادِ عرضتُ شعري ولولا أنني أرضيتُ فنّي بشعري ما ظفرتُ بأيّ أجر ولو صحَّ الطلاقُ لأيّ قومٍ إذن طلَّقتُ قومي منذ دهر أمُتُّ لهم بجسمي لا بروحي وأحيا بين عصرٍ غيرِ عصري وكنتُ اخترتُ شعباً غيرَ شعبي وَلُوعاً بالحقائق حُرَّ فكر ولكن كيف أسلو عن لسانٍ وتاريخٍ تضمَّن خيرَ ذُخر؟ وكيف أعاف أجملَ ذكرياتي وعهدَ صِباً بقلبي مستقرّ؟ يُكلِّفني النفاقَ محيطُ سوءٍ وتأبى همّتي وكريمُ نَجْري أبعدَ الأربعين أعاف خُلْقي وحتى اليوم ما لَوّثتُ سِفْري أرى زمني تجاهَلَني وإني على رغم الزمانِ عرفتُ قدري هويتُ صلاحَهُ وهوى فسادي كلانا في نضالٍ مستمرّ إذا ما الكونُ كلّفني فساداً فأجملُ موضعٍ في الكون، قبري وإن ساد النفاقُ على بلادٍ فأغربُ ما تراه وجودُ حُرّ رأيتُ العلمَ يُفسد جُلَّ قومي كأن العلم مجبولٌ بشرّ بذورُ العلمِ تأتينا بشوكٍ وتأتي للأنام بخير زهر وكانت دولةٌ للشعر دالتْ ودالت مثلها دولاتُ نثر وجاءت دولةٌ للمال تسعى وتاجرَ أهلُها لكنْ بخُسر بنبذ الشعرِ قد باهت ولكنْ تُتاجر باسم (تذكارِ المعرّي) فقلْ ل «ابن العميدِ» سعدتَ عهداً فقد كنتَ الوزيرَ بدون وِزْر امير البيان العربي د. فالح الحجية الكيلاني العراق- ديالى بلدروز