بقلم / منال عبد الحميد كانت تجلس على حافة البحيرة بثوبها الأخضر الحائل المهلهل وبجوارها كمية من الثياب البالية الممزقة تغطسها في ماء البحيرة .. ثم تفردها على صخرة مسطحة وتدعكها بقطعة حجر مستطيله محاولة عبثاً إزالة ما بها من أوساخ وشحوم وبقع تبدو وكأنها خُلقت قبل أن تُخلق هذه الملابس ! وللأسف فقد كانت كل مجهودات المرأة تذهب هباءً .. والسبب الأول في ذلك أن هذه الأوساخ كان لديها إصرار وتصميم على البقاء فوق هذه الثياب وكانت على استعداد للقتال من أجل تحقيق هذا الهدف النبيل حتى آخر طلقة .. أما السبب الثاني فراجع إلى أن المرأة لم تكن تجاهد مع البقع وحدها .. بل مع أطفال القرية الأشقياء الذين التفوا حولها وأوسعوها سخرية واستهزاء ! لم تكن هذه المرأة الشمطاء من أهالي القرية حتماً .. كانت امرأة غريبة عجوز جداً وكأنها ولدت قبل تفجر الدانوب من منبعه .. بشعة الخلقة مغضنة الوجه وفمها أهتم بلا أثر لأسنان .. ولها لثة حمراء قانية لامعة تبرز من بين شفتين رفيعتين رماديتين .. لم يعرفها أحد من أهالي " جلايستيج " عندما برزت فجأة فوق ضفة بحيرة " أوهما " صباح يوم وبحوزتها كمية ضخمة من الخرق البالية تعكف على غسلها بحماس .. لم يعرف أحد عنها أي معلومات سوي أنها تسكن كوخاً صغيراً بالقرب من ضفاف البحيرة .. الغريب أن أهالي القرية كانوا يستيقظون كل صباح على صوت ضرباتها الثابتة فوق الملابس بجوار البحيرة .. كل يوم بلا انقطاع .. الأغرب أن كوخها برز فجأة إلى الوجود ولم يكن له أثر من قبل ولم يشاهدها أحد وهي تبنيه .. بل لم يعرف أحد متى تم بناءه ! ************ " جراهام " وحده من بين كل أطفال القرية الذي لم يكن مثل الباقين ! كان ولداً لطيفاً مهذباً يتكلم بصوت منخفض ولا يشتم ولا يسب ولا يحطم ممتلكات الآخرين ولا يصرخ في الطرقات كالهمجي ولا يتقاتل مع رفاقه ويوسعهم ضرباً .. وكذلك لم يكن يضايق المرأة الغريبة ولا يتعمد إيذائها كسائر صبية القرية العفاريت .. أما المعجزة الحقيقية فقد كانت في إنه يجيد القراءة والكتابة ! تصور طفل في التاسعة يجيد القراءة والكتابة في قرية لا يوجد فيها شخص واحد يستطيع أن يكتب أسمه .. بل إن قسيس القرية نفسه لم يكن يجيد قراءة المناشير والقرارات التي تأتي للقرية من " فايهلم " .. فكان يلجأ ل" جراهام " سراً لكي يقرأها ويفسرها له ! ولذلك فإن المرأة الغريبة ؛ التي لم يكن أحد في القرية قد بادر بالكلام معها حتى الآن بل لم يكن هناك من يعرف أسمها بعد ؛ عندما احتاجت للمساعدة لم تجدها سوي عند " جراهام " ! ************ ذات صباح رمادي كئيب أستيقظ أهل قرية " جلايستيج " باكراً جداً على صوت نواح مرعب يتردد عبر طرقات القرية كعويل البوم .. هب معظم الناس من مراقدهم وخرجوا لاستطلاع الأمر .. وعندما صار أغلب الناس خارج بيوتهم وجدوا قس البلدة واقف بجوار باب الكنيسة الصغيرة يتفحص الأفق بقلق .. ويبدو أنه كان يحاول معرفة مصدر هذا النواح المخيف .. وكان من الواضح أن مصدر الصوت قادم من حول البحيرة .. لذلك فقد حسم القسيس أمره وبدأ يمشي نحو البحيرة وسار باقي أهالي القرية وراءه كالمسحورين حتى وصلوا إلى الضفة اليمني من البحيرة .. وهناك وجدوا شيء ما غريب المظهر قد أعتلي التل المطل على البحيرة ووقف في ظل القمر ؛ الذي كان يقف خلفه ويحجب تفاصيله عن الأعين ؛ وأخذ في العواء بصوت مخيف يجمد الدم في العروق .. تجمد الناس فزعاً حتى أن القس بنفسه أرتعد خوفاً وأخذ يردد من بين شفتين مرتعشتين : " السلام لك يا مريم .. السلام لك يا مريم ! " وأخذ الناس يتطلعون بخوف لهذا المخلوق الغير محدد الملامح الذي راح يعوى وينوح بصوته النحاسي المرعب دون أن يشكل حضور الناس بالنسبة له أي إزعاج أو تهديد ! وقف الجميع هكذا ينصتون لهذا الصوت الغريب غير قادرين على فعل شيء .. ولكن فجأة فُتح باب كوخ واقع على الناحية اليسري من البحيرة وخرجت منه المرأة الغريبة بظهرها المنحني تستند على عكاز .. ووقفت لحظة تنصت لصوت النواح .. ثم فجأة تحدب ظهرها وصاحت في الناس بصوت جهوري مستهين : " أهكذا تقفون كالأصنام وتتركون هذا الشيء يقلق نوم الأطفال ويحيل ليل القرية إلى مهرجان؟!" ثم فجأة أقدمت العجوز على حركة لم يكن أحد ليتوقعها منها أبداً .. فهذه المرأة الفانية التي لا تستطيع أن تنصب ظهرها انتزعت عكازها بغتة وقذفته نحو المخلوق الممتطي ظهر التل .. وأمام عيون الناس غير المصدقة طار العكاز كالسهم البارع وأصاب المخلوق الملتف بظل القمر وأطاح به من فوق التل وانطلقت المرأة تصرخ : " هيا أغربي من هنا .. أذهبي عليكي اللعنة ! " ثم نظرت لأهالي القرية وقالت لهم باستهانة وتوبيخ : " قبحتم من جبناء ! " وفجأة استدارت عائدة إلى كوخها بخطوات ثابتة .. ولكن ليس قبل أن تبصق على الأرض دليلاً على اشمئزازها من جبن رجال القرية وأهلها ! وكانت هذا اليوم هو بداية التعارف بين " جراهام " وبين العجوز الغريبة ! ************ عندما أشرقت الشمس وغمرت شوارع القرية الهادئة كان أهالي القرية بالفعل خارج بيوتهم منذ ساعات طويلة .. لأنهم لم يخلدوا للنوم بعد حادثة هذا المخلوق الغريب ونواحه الذي أصابهم بالذعر والتشاؤم .. ولم يكن الذعر والتشاؤم وحدهما اللذان سيطرا على أهالي " جلايستيج " ذلك اليوم بل أضيف إليهما كميات هائلة من الدهشة والارتياب إزاء المرأة العجوز الغريبة .. والغريب أن أهالي القرية انتشرت بينهم شائعة ؛ سرت بسرعة البرق ؛ تؤكد أن المرأة العجوز ما هي إلا ساحرة إبليسيه شريرة ، أما موقفها الشجاع نحو المخلوق الغريب الذي أقض مضاجعهم في الليلة الماضية فقد حورته العقلية الجاهلة وحولته إلى دليل دامغ على اتصال المرأة بالشيطان وعلاقتها الوثيقة به .. وإلا فكيف استطاعت وحدها ؛ وبمجرد ضربة من عكازها ؛ إبعاد هذا المخلوق المخيف ! والحقيقة أن موقف المرأة في الليلة الماضية كان وبالاً عليها ! فبمجرد خروجها من باب الكوخ ألتف حولها أطفال القرية الأشقياء الحفاة وأخذوا يمطرونها بالشتائم وقطع الحصى والطوب .. أما أطفال جوقة الكنيسة فقد راحوا يرددون ترانيم بصوت عال ويبرزون الصلبان في وجه المرأة لكي تحرقها ! وحاولت المرأة جاهدة الخروج من حلقة الحصار التي أحكمها حولها الأطفال دون فائدة .. فقد كانت تصطدم بهم من كل ناحية .. وتمزقت أطراف ردائها وسقطت الخرق التي تحملها من بين يديها ولاكتها أقدام الأطفال في الطين والتراب .. وأخذت المرأة المسكينة تصرخ وتصرخ دون أن يتحرك أحد من أهل القرية الذين كانوا يتابعون المشهد من قرب ببرود ولا مبالاة .. وظلت المرأة تصرخ حتى سقطت على وجهها في الطين .. وفي هذه اللحظة تقدم " جراهام " لمساعدتها .. هذا الطفل الشجاع أخترق حلقة الأطفال وواجههم بشجاعة فائقة .. وساعد المرأة على النهوض وجمع لها خرقها من الأرض وحملها تحت إبطيه .. كل ذلك ولداته من الصبية والفتيات ينظرون له بعدوانية واضحة بوجههم القذرة وعيونهم المليئة بالرمد والذباب ولكنهم غير قادرين على إلحاق الأذى به .. أليس هو " جراهام " المتعلم الوحيد في القرية والذي حذرهم آبائهم وأمهاتهم من إلحاق الضرر به .. لأنه يستطيع قراءة الكتاب المقدس ويستطيع أن يدعوا المسيح ليمسخهم جميعاً ! وهكذا وقفت المرأة أخيراً على قدميها وهي ترتعش غضباً وخجلاً مما ألحقه بها أولئك الملاعين .. وبمجرد أن نهضت واعتدلت حتى نظرت للأطفال بغل بالغ وقالت لهم بصوت غريب ذو صدي : " فليجازكم الرب حسب أعمالكم .. ولتحل عليكم اللعنة ! " ثم نظرت ل" جراهام " الذي يحمل لها خرقها البالية تحت ذراعيه ومسدت على رأسه : " فليباركك الرب .. وليعطك ماء حياة مجاناً ! " ويبدو أن الرب قد أستمع لنداء المرأة المظلومة .. ففي اليوم التالي مباشرة بدأت بوادر أكبر وأشنع وباء طاعون حل باسكتلندا منذ قرون ! ************ " أدجار روكفون " ذو السبعة أعوام يرقد في صحن دارهم أسود الوجه محموماً يتصبب عرقاً .. وقد جربت أمه كل الوصفات التي أشارت عليها بها نساء القرية وجداتها العجائز الجاهلات .. فلم تزدد حالة الغلام إلا سوءً .. فاضطرت الأم الحزينة المرهقة بأعباء سبعة أبناء آخرين غير " إدجار " إلى اللجوء إلى قسيس القرية الذي حاول معالجة الصبي ؛ الذي امتلأ وجهه وجسده ببقع سوداء لامعة متعمقة في الجلد ؛ بالماء المقدس والزيت المبارك .. ولكن دون جدوى .. وبينما كان الصبي بين يدي القسيس سقط فجأة وكأن شيء قد أنفجر داخله .. ثم ترنح وتفجر الدم من فتحتي أنفه .. ثم أسلم الروح بين صرخات أمه الملتاعة ! ولم يكن " أدجار " إلا الحلقة الأولي في سلسلة طويلة سحبت وراءها نصف أطفال القرية .. وقد أرسل القسيس استغاثة إلى " فايلهم " ولكن لم تأتيه إجابة لمدة أكثر من أسبوعين حصد خلالها الوباء أكثر من خمسمائة من أرواح سكان القرية .. وعندما جاءت الإجابة من حكومة الإقليم في " فايلهم " أصبح الوضع أكثر صعوبة وخطورة .. لأن حكومة الإقليم لم تفعل أكثر من إغلاق القرية والمناطق المحيطة بها ومنع الدخول إليها والخروج منها وحشد قوات حول المنطقة بأكملها لتنفيذ هذا القرار .. دون تقديم أي نوع من المساعدة ! ولكن الحقيقة التي لم يعرفها القسيس أن الحكومة لم تتخذ هذا القرار عبثاً ولم يكن خاصاُ بمنطقة " جلايستيج " وحدها .. لأن الوباء ببساطة كان يعصف باسكتلندا من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها .. بل وصل إلى " ويلز " وأجزاء من " إنجلترا " و" هولندا " وحتى " روسيا " و" النرويج " كانتا في قبضة هذا الطاعون الرهيب .. ولكن أهالي " جلايستيج " لم يعرفوا شيئاً من كل ذلك .. وكانت جهالتهم هذه سبباً في تجرعهم كأس العذاب مرتين ! ************ بعد مرور خمسة أسابيع على بداية الوباء وصل الحال في القرية إلى حد لا يطاق .. فالموتى أصبحوا يفوقون قدرة الحانوتي على القيام بالطقوس الواجبة .. وامتلأت المساكن بالتوابيت الخشبية المعدة لحمل سكانها عندما تحين ساعاتهم المنتظرة .. وهي ليست بعيدة على أي حال .. وصار سكان " جلايستيج " كالأشباح التي نهضت من قبورها ريثما تعود إليها .. وأصبح الكل لا يفكرون سوي في الموت .. حتى نسي أولئك البؤساء أن هناك شيء أسمه " حياة " .. وأحتشد الناس داخل الكنيسة وخارجها يصلون طالبين الرحمة مصلين بأشد لجاجة .. ولكن دون فائدة .. فقد بدا أن أهالي هذه المنطقة التعسة ؛ كما كانوا يتصورن ؛ قد سقطوا من حسابات رحمة السماء .. أو أن السماء أغلقت آذانها دونهم لتستريح من إلحاحهم ولجاجتهم ! كان هذا هو الوضع عندما أكتشف سكان القرية فجأة أن السبب في كل هذا العذاب ليس إلا هذه المرأة العجوز المخيفة ! ************ ذات صباح رمادي كئيب حجبت فيه الشمس وجهها عن " جلايستيج " خرج المزارع " بطرس مالغوازين " من بيته الصغير حاملاً في يده فأس حديدية صدئة .. كان منكوش الشعر وعيناه محمرتين وقد لمعت نظرة جنون بين جفنيه المرتخيين وبدت عليه مخايل الجنون الحقيقي .. واندفع بالفأس التي يحملها نحو بحيرة " أوهما " ونحو كوخ المرأة العجوز الغريبة .. كانوا يبدو على " بطرس " إنه ينتوي أمراً ما ، والأخطر أنه بدا عليه أنه يظن أن هذا الأمر الذي ينتويه هو الذي سيخلص " جلايستيج " من اللعنة والعذاب .. وبالفعل قد توجه نحو كوخ المرأة وطرق الباب طرقة واحدة عنيفة صائحاً بصوته الجهوري المزعج : " هيا .. هيا افتحي أيتها الساحرة ! " وبعد لحظة ؛ ودون أن ينتظر إجابة ما ؛ شرع " بطرس " يحطم باب الكوخ بفأسه بحماس بالغ ! والأغرب أنه في ظرف دقائق كان كل أهالي " جلايستيج " قد تجمعوا حول كوخ المرأة وسرت إليهم عدوي الحماسة والجهالة من " مالغوازين " وراحوا يحطمون كوخ المرأة المسكينة واقتحموه بحثاً عنها .. ولكنهم لم يعثروا لها على أثر ، ولم يثنهم هذا عن عزمهم فشرعوا يبعثروا حاجياتها ويحطموا قطع الأثاث الهزيلة التي عثروا عليها بحقد غريب .. وبعد أن شفوا رغبتهم في الانتقام اتفقوا على يبقوا في انتظارها حتى تأتي ليكملوا انتقامهم وقد عزموا ؛ دون اتفاق مسبق ؛ على قتلها وتمزيقها إرباً إرباً وإطعامها لكلابهم وقططهم ! ************ ولكن المرأة لم يظهر لها أثر في هذا اليوم .. ولا في اليوم التالي .. ولا حتى في الأيام التي تليه ! فقد اختفت وتبخرت تماماً .. ومثلما ظهرت في قريتهم فجأة رحلت عنها فجأة ! ولم تعد إلى القرية مجدداً ! ولكن في طول اسكتلندا وعرضها أخذت تظهر في كل بلدة امرأة عجوز شمطاء ذات ثياب خضراء مهلهلة تغسل خرق بالية كثيرة كل صباح .. وتزعج نوم سكانها مخلوقات غامضة تعتلي تلالهم ومرتفعاتهم وتعوي بصوت نحاسي غريب مثيرة الذعر والفزع والتشاؤم .. وفي كل مكان يكون هناك أطفال أشقياء ملاعين يضايقون النساء العجائز الغريبات مما يدفعهن إلى صب لعناتهن عليهم .. وهكذا يبدأ الوباء .. وهكذا ينتقل الوباء من قرية إلى أخري ومن مقاطعة إلى أخري ومن بلد إلى آخر .. وتظل الغاسلة تقوم بدورها في كل مكان تطأه قدمها .. وبعد أن رحلت عن " جلايستيج " بأشهر قليلة كانت القرية قد انمحت من على خريطة اسكتلندا وصار سكانها أشباح هائمة تسكن الخرائب المتخلفة عن بقايا البلدة التي دمرها الطاعون .. ومن بين كل سكان " جلايستيج " ومقاطعة " ويلهام " لم ينجو سوي صبي صغير أسمه " جراهام " .. وما ذلك إلا لأنه الوحيد الذي نال شفاعة الغاسلة ورضاها !