حينما يرتفع صياح الأطفال في الحارة ، وتزداد وتيرة حركتهم ونشاطهم فأعلم انه قد حضر . ومثل المعتاد يأتي حاملا صرة كبيرة محشوة بخرق بالية من الملابس القديمة ، واشياء اخرى كثيرة يجمعها من الطريق ، ويمشي متباطئ الخطوة من فرط ترهل جسده الشديد . ويبرز كرشه الضخم منتفخا مثل بالونه كبيرة الحجم ، ويتصبب عرقا غزيرا ، ينز من جبهته ، ووجنتيه المستديرتين وصدره . حينما حضر اليوم ، وبعد مراسم الاستقبال المعتادة من الاطفال والمصحوبة بالزفة الرسمية الروتينية احتفاء بقدومه والتهليل الصارخ وهم يسيرون من خلفه " عجل امينة أهو ، عجل امينة أهو " . ثم القفز بخفة ، وسرعة ، والركض في اتجاهات متفرقة حينما يزوم ، ويحمر وجهه ويتملكه الغضب والغيظ الشديدين ، عندها يطرح صرته ارضا ، ويلتقط من الأرض قطع صغيرة من الاحجار يقذفها في اتجاه هؤلاء العفاريت وهو يلعن آبائهم وامهاتهم بصوت قوي ، يشي للنسوة داخل البيوت ان خليل ، والذي منحه الاطفال منذ قديم الأزل ، ومنذ اجيال كثيرة خلت لقب "عجل امينة " اصبح في رحاب الحارة الآن . وان أمينة تلك هي والدته المتوفية منذ سنوات ، امرأة بلغت الخامسة والسبعين من عمرها قبل ان ترحل الى خالقها ، كانت تقطر بؤسا وشقاء ، وطيبة . ضئيلة الحجم ، سحنتها كانت سمراء غامقة ، يبرز عظام وجهها وتعرجاته بوضوح . لا تغادر الابتسامة شفتيها . كان يألفها الناس في الشارع مكومة بأسمالها السوداء الفقيرة المهترئة امام باب البيت ، لا تغادر مكانها سوى للنوم في الداخل ، او دخول المرحاض . ونسوة الحارة كن لا ينسينها بصحون مما يطبخون ويأكلون في منازلهم . وعودة خليل هذه المرة ربما اختلفت عن عودته في جميع المرات السابقة ، بدا باهت الوجه ، بشرته مطفأة شديدة الشحوب والسواد ، كما بدا ايضا شديد البدانة وعصبي المزاج جدا ، لدرجة انه لم يمنح الفرصة للأطفال بعد الزفة الرسمية ، والمطاردات والتحرشات التي تمت فيما بينهم منذ دقائق ان يصالحونه ، ويجلسون معه للمسامرة مثل المعتاد . بل طردهم . كذلك بدا ايضا في حالة واضحة من الانهاك الجسدي والتعب . وتجلى ذلك حينما فض احشاء صرة الخرق القديمة ، وبدأ يرص قطع القماش والخيش المهترئ على الارض حيث يجلس حيث سمع صوت تحشرج انفاسه بوضوح ، كما بدا بطيء الحركة ، مرتبكا وفاقدا القدرة على التركيز تقريبا ، ايضا ظهر بوضوح وجود زكة في حركة قدمه اليمنى . المهم انه بعد ان انتهى من اعمال فرش الارضية وترتيب اشياءه البالية ، وبعد ان استند بجذعه لحائط المنزل المقابل لمنزله ، راح في سبات عميق ، وسمعت الحارة صوت شخيره المميز بوضوح ، وعلى الرغم من اعتياده على الفة الصحبة مع ايامه ، ومتابعتها بمنتهى الرضى والقناعة ، وعدم الانشغال سوى بما يسد الرمق ، وملئ ذلك الفراغ الرهيب داخل بطنه ، والذي يتسع باستمرار لدرجة انه اصبح نهما للإشباع كل الوقت ، وطفق لا يشغله شيء في هذا العالم سوى الحصول في آخر اليوم على صحن يملأه مش بالجبنة القديمة وقطع الطماطم ، والى جانبه حزمتين من الفجل والجرجير ، وبصلتين كبيرتي الحجم ، كل ذلك مصحوبا بأربعة ارغفة ، أو خمسة من خبز الاكشاك التابعة للمخابز الحكومية . هذا كل شيء ، وتلك اقصى امانيه في الدنيا التي يلجها طولا وعرضا لا يفكر ولا يتوقع منها ذلك . على الرغم من ذلك لم يسلم من خربشات ايامه الثقيلة التي يتنفسها بشق الانفس ، ولا ينفع معها تصالح ولا يحزنون . وخليل شخصية انعزالية بطبعها ، غير متحمسة ، أو فاقدة لمهارة التواصل مع الآخر ذلك حسبما ردد بعض شباب الحارة ممن اقتربوا منه في عدة مناسبات قبل ان تشغلهم دنياهم لاحقا . او ربما وهذا هو الارجح ان احدا من الحارة او الشارع لم يهتم بالتقرب منه ، والتحدث معه . فقط الاطفال هم من كانوا يسعون اليه ، ويتحلقون حوله ، ويستمتعون بحكاياته . واما الكبار فكانوا يترقبون وصوله للحارة كل عدة أشهر ، يمضى فيها اياما ، او اسابيع قبل ان يعود من حيث اتى . وكانوا فقط يستمتعون بالسخرية منه ، واستثارة غيظه حتى ينفجر في السب والردح اماهم وهم يضحكون . لم يكن خليل في نظرهم أكثر من مجرد حيوان اليف ، يتمتع بالطيبة ، والنظرة الحانية الودودة . والاستفادة منه في تأدية بعض المهام البسيطة مقابل وجبة سمك مثلا من عند عبد المجيد السماك صاحب محل السمك في نهاية الشارع ، فيقشعر بدنه ، وتنتفخ اوداجه ، ويرقص قلبه من هول الفرحة ، ويظل بعدها فترة طويلة متجنبا دخول المرحاض مهما استبد به الألم وتمزقت مصارينه ، لكي يحتفظ بآثار وجبة السمك داخل احشائه اطول فترة ممكنة . استيقظ من رقدته على حين فجأة ، وكانت الشمس قد انسحبت توا والحارة شبه خاليه ، وجواره صحنين أو ثلاثة عليهم قطعة قماش كغطاء ، وعدة ارغفة من الخبز من نفحات سيدة البيت التي يستند بظهره على جداره ، كشف الغطاء برغبة جائع ملهوف ليكتشف انه امام صحن كبير من الفتة بنكهتها الفتاكة الرائعة ، وثلاثة قطع من اللحم الضأن ، وصحن عميق من الشوربة التي لم تعد دافئة ، رفعه بسرعة وتلقائية ، ودلقه بنهم داخل حلقه الواسع قبل ان ينقض بسرعة على بقية الطعام ، وقبل ان يستفيق ويطلب من احدهم كوبا من الماء ، تقدم منه احد صبيان البيت بكوب من الشاي الساخن ، التقطه منه بسرعة مشفوعا بعبارات الشكر والثناء لسيدة البيت ، ولجميع أهله ، وكان الصبي لا هيا عنه بجمع الصحون الفارغة قبل ان يبتلعه تجويف المنزل . وكأن حالة من الانتعاش والفوقان استبدت به بعد هذه الأكلة الدسمة على الرغم من ثقل جفنيه ، ورغبته في مواصلة النوم ، لكن لفت نظره امرأة بدينة غريبة كانت تحجل في مشيتها ، ترتدي اسمالا ممزقة تدخل بيتهم في الجهة المقابلة ، اهتم بالأمر ، غالب نعاسه الذي يحاصره ما يزال . تتبع خطواتها . استقرت بفرشتها في صحن البيت من الداخل ، تقريبا نفس المكان الذي كان ينتوي النوم فيه . حيث لم يعد له مكانا في البيت بعد استيلاء اخاه الأكبر عليه بعد وفاة امهم ، وقرر هدمه وبنائه من جديد ، وشغل حجراته بالسكان الغرباء بالأجرة ، بينما احتفظ لنفسه وعائلته بأحد طوابقه . لم ينشغل خليل بهذه المسألة فهو ببساطة لا يحتاج سوى ركن صغير في اي مكان للمبيت وكفي ، لذلك كان يكتفى بهذا الركن تحت السلم في صحن البيت الضيق لمبيته حينما يهل على الحارة . والآن يبدو ان هذا الركن قد احتلته تلك المرأة الغريبة . دخل المنزل وراءها ، اخبرها انها تنام مكانه ، نظرت المرأة نحوه بابتسامة حانية ، بدت عجوز تخطت الستين بكثير بيضاء البشرة ، بدينة ، تعاني من تورمات واضحة في وجها ، وقدميها وساقيها ، اخبرته انها تعيش على التسول ومساعدات الناس ، وانها سوف تترك المكان غدا . اخبرها بانه غير مهتم ، وسمع صوت زوجة اخيه من أعلى ، تابعت نقاشهم لتخبره بان يصعد لأعلى حينما يرغب في النوم . قفل عائدا الى فرشته بالخارج في الحارة ، شعر انه استعاد النشاط والحيوية ، وان النعاس طار من جفنيه . ادرك مدى حاجته لاستنشاق هواء نظيف مع تلك النسمة التي هبت فجأة في هذا الوقت من المساء . غالب الم القدمين والساقين ، خرج الى الشارع الكبير ، التقاه الناس بالتحية والسخرية وكان يرد عليهم بسذاجته وطيبته ، واحيانا بسباب بذيء يتناسب مع ما يواجه به من تحرشات . فات على متجر للحلويات ، حشر نفسه وسط الزبائن يحملق في الاصناف . تاقت نفسه لقطعة بسبوسة بالمكسرات . عبث بكف يده في جيبه ، لا أثر لنقود . ظل واقفا لا يستطيع ان يتحرك من مكانه ، كأن صينية البسبوسة الدائرية وقد انسكب عليها ضوء الفاترينة فأحالها مثل وجه حسناء في ليلة عرسها مستدير الشكل وشديد الجمال والفتنة والجاذبية . انصرف الجميع وظل واقفا مشدوه النظر ، لا يستطيع ان يرفع عينيه عن منظرها . لاحظ عامل المحل ذلك ، اشار لصاحب المحل في الداخل ، لف له العامل قطعة من البسبوسة بالمكسرات في ورقة وامره بالانصراف . وفي ثوان كانت القطعة داخل تجويفه مرة واحدة . شعر بعدها بمزيد من الحيوية والنشاط . قفل عائدا الى فرشته . خلت الحارة من الاطفال والكبار ومن كل شيء ، حاول الاستلقاء والنوم ، لكن هيهات . عيناه مفتوحتان الان مثل كشافات كهرباء عصية على الانغلاق . واذنيه تتسمعان ما يجري خلف الجدران ، والاصوات التي تمر من بين ثنايا الغرف المغلقة وخصاص الشبابيك في هذه اللحظة من الصمت المطبق الذي يحيط الحارة . انها اصوات متمازجة لرجال ونسوة تعكس حالة من الانسانية لا نظير لها . لم يخبرها خليل على الرغم من تخطي عمره الخمسين عاما بقليل ، وربما يدرك انه لن يخبرها ابدا . لكن الذي حدث ان تحرك داخله شيء دافق ، محموم ، غير مألوف . أمره بأن ينهض ويحصل على حقه الانساني المهدور منذ بدا يدرك ان في الدنيا اشياء رائعة ولذيذة غير التي يعاينها ويكابدها . اكتشف في نفسه خفة ورشاقة ، وقوة ، ورغبة غير محدودة في الحياة كأنها استيقظت داخله للمرة الأولى . كان وهو يسير في اتجاه المرأة الراقدة تحت السلم متيقن انه اضحى عريسا في بدلته الرسمية الشيك ، وان قلبه يخفق بشدة صارخا من الفرحة في جنبات صدره . وان الفرح يتملك كيانه للمرة الأولى في حياته العريضة . اقترب من المرأة . ارتفعت وتيرة الحرارة وجنون الرغبة والفرح لما عاين بياض فخذها بعد ان انحسر عنها الغطاء وخرقتها التي ترتديها عنها الى هذه الدرجة . لم يدري ما الذي حدث وقتها ، ولا اين ذهبت يديه وقدميه ولا أي شيء . كل ما ادركه واذاعه سكان الحارة ان المرأة صرخت بقوة ، هرع الناس لنجدتها ، ووجدوه راقدا فوقها يحاول بمنتهى القوة نزع ملابسها عنها ، وقد تمزقت في يده تماما . ابتسم الرجال وتحمسوا ، وقفلوا عائدين لبيوتهم مصطحبين نسائهم الى مخادعهم وقد اطلق خليل فيهم حرارة لم يكونوا يتوقعونها على اي حال . واما خليل فقد نال نصيبه من التأنيب والضرب من اخيه وزوجته ، وامروه بالمبيت الليلة فوق سطوح البيت . وحينما زارتهم الشمس في اليوم التالي لم يعد لخليل وجود ، ولم يهتم احد بالبحث عنه ، او حتى التقصي عن اخباره . وشاهد الأهالي المرأة تلملم اشياءها البالية وتمضى الى حال سبيلها في هدوء . د. احمد الباسوسي