رئيس الوزراء يوجه بالاهتمام بشكاوى تداعيات ارتفاع الحرارة في بعض الفترات    موعد غلق باب تنسيق المرحلة الثانية 2025.. آخر فرصة لطلاب الثانوية    جامعة بنها تبدأ مقابلات اختيار القيادات الأكاديمية والإدارية    وزير الكهرباء يتفقد مركز التحكم الإقليمي بالقاهرة    أسعار الأسماك والمأكولات البحرية في سوق العبور اليوم السبت    ارتفاع أسعار البيض اليوم السبت بالأسواق (موقع رسمي)    تفاصيل.. إيران تعدم عالمًا نوويًا بتهمة التجسس لصالح الموساد الإسرائيلي    باكستان ترحب باتفاق السلام بين أذربيجان وأرمينيا    سفير إسرائيل بالأمم المتحدة: بريطانيا لن تصمت إذا احتُجز 50 مواطنًا لها بغزة    استشهاد 36 فلسطينيًا في غزة منذ فجر اليوم بينهم 21 من طالبي المساعدات    بالفيديو.. احتجاجات في بيروت بعد قرار حكومي بحصر السلاح    طبيب الأهلي السابق يشيد بعمرو السولية    لحظة بلحظة قرعة كأس الكونفدرالية 25/26 .. يشارك بها الزمالك والمصري    مدرب نيوكاسل يونايتد يوضح مستقبل إيزاك    رسميًا... مانشستر يونايتد يتعاقد مع سيسكو ويكمل مثلثه الهجومي    رفع آثار تسرب زيت بطريق الزنكلون بعد انقلاب سيارة نقل بالشرقية - صور    كارثة على كوبري بلبيس.. وفاة أم وابنتها وإصابة الزوج في حادث مروع (صور)    الحرارة 42.. الأرصاد تحذر: ذروة الموجة الحارة الثلاثاء والأربعاء    خطوة بخطوة.. طريقة الاستعلام عن المخالفات المرورية    حريق هائل يلتهم محلين لقطع غيار "التكاتك" بالعصافرة شرق الإسكندرية    حسين الجسمي يرد على رسالة نجيب ساويرس بعد حفله بالساحل الشمالي    "الثقافة" تطلق المرحلة الثانية من مبادرة "المليون كتاب"    ما هو الصبر الجميل الذي أمر الله به؟.. يسري جبر يجيب    زوجة أكرم توفيق توجه رسالة رومانسية للاعب    أحمد كريمة: أموال تيك توك والسوشيال ميديا حرام وكسب خبيث    نائبة وزير الصحة تتابع تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للسكان والتنمية    الصحة: إحلال وتجديد 185 ماكينة غسيل كلوي وافتتاح 6 وحدات جديدة    الضرائب: 3 أيام فقط وتنتهي مهلة الاستفادة من التسهيلات الضريبية المقررة وفقًأ للقانون رقم 5 لسنة 2025    نائب وزير الصحة تعقد اجتماعًا لمتابعة الاستراتيجية الوطنية للسكان والتنمية وتخطيط المرحلة الثانية    افتتاح مونديال ناشئين اليد| وزير الرياضة يشكر الرئيس السيسي لرعايته للبطولة    خلال استقباله وزير خارجية تركيا.. الرئيس السيسى يؤكد أهمية مواصلة العمل على تعزيز العلاقات الثنائية بين القاهرة وأنقرة.. التأكيد على رفض إعادة الاحتلال العسكرى لغزة وضرورة وقف إطلاق النار ورفض تهجير الفلسطينيين    في ذكرى ميلاد النجمة هند رستم| بنت البلد رغم أنها من عائلة أرستقراطية    حميد الشاعري يشعل أضخم حفلات العلمين الجديدة ب«دويتوهات» متنوعة | صور    الري: تنفيذ 561 منشأ للحماية من أخطار السيول بشمال وجنوب سيناء    تعرف على موعد فتح باب قبول تحويلات الطلاب إلى كليات جامعة القاهرة    90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. السبت 9 أغسطس 2025    هدفه بناء الشخصية ونهضة المجتمع.. إطلاق مركز القيادات الطلابية بجنوب الوادي    حملات مرورية مكثفة.. إيجابية عينة المخدرات ل 156 سائقًا على الطرق السريعة    بلاغ ضد البلوجر مروة حلمي: تدعي تلفيق الاتهامات لصديقها شاكر    «100 يوم صحة» قدمت 37 مليون خدمة طبية مجانية خلال 24 يوما    وفاة طبيبة أثناء تأدية عملها بالقصر العيني.. وجمال شعبان ينعيها بكلمات مؤثرة    غرفة العمليات الرئيسة بتعليم الدقهلية تتابع سير امتحانات الدور الثاني الإعدادية والدبلومات    بمشاركة المصري.... اليوم قرعة الأدوار التمهيدية من البطولة الكونفيدرالية    "السلاموني": زيادة سعر توريد أردب القمح ساهم في ارتفاع معدلات التوريد ل3.940 مليون طن    24 أغسطس.. فتح باب قبول تحويلات الطلاب إلى كليات جامعة القاهرة    موعد مباراة مصر واليابان فى بطولة العالم لناشئي كرة اليد    أزمة سياسية وأمنية فى إسرائيل حول قرار احتلال غزة.. تعرف على التفاصيل    خلال تفقده لأعمال تطوير الزهراء للخيول العربية.. وزير الزراعة: هدفنا إعادة المحطة لمكانتها الرائدة عالميًا    5 أبراج نشيطة تحب استغلال وقت الصباح.. هل أنت منهم؟    الرئاسة الفلسطينية: الولايات المتحدة لديها القدرة على وقف الحرب فورا    سعر الذهب اليوم السبت 9 أغسطس 2025 في الصاغة وعيار 21 بالمصنعية بعد صعوده 30 جنيهًا    تنسيق المرحلة الثالثة 2025.. توقعات كليات ومعاهد تقبل من 50% أدبي    عودة خدمات إنستاباي إلى العمل بعد تعطلها مؤقتا    إعلام أمريكي: مقتل شرطي في إطلاق نار بالقرب من مركز السيطرة على الأمراض في أتلانتا    علي معلول: جاءتني عروض من أوروبا قبل الأهلي ولم أنقطع عن متابعة الصفاقسي    تامر عاشور يغني "قولوله سماح وتيجي نتراهن" في حفل مهرجان العلمين    هل تأثم الزوجة إذا امتنعت عن زوجها بسبب سوء معاملتها؟ أمين الفتوى يجيب    متي يظهر المسيخ الدجال؟.. عالم أزهري يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الروائي
محمد زفزاف يكتب "الثعلب الذي يظهر و يختفي"
نشر في أخبار الأدب يوم 19 - 06 - 2010

" كم كتب من الكتب..لكنه في النهاية مات.ماذا تنفعالكتب؟ماذا تنفع الثروة؟لاشيء.ولاشيء علي الإطلاق؟".."الغيلم" / "الملاك الأبيض"
"..ما أصعب أن يكتب المرء بضمير المتكلم،لأن في
ذلك رعبا للذات و رعبا للقارئ الذي يظل يبحث عن شيء
في العديد من الكتب دون أن يعثر عليه طيلة حياته.."" الثعلب الذي يظهر و يختفي"..
الفصل الأول
الدارالبيضاء
1/
حين أفاق محمد زفزاف صبيحة العشرين من أكتوبر عام 1984 ،التفت إلي الساعة الصغيرة علي يمينه..الديك يشير تمام التاسعة.(جرت العادة ألا يستيقظ و باستمرار إلا في العاشرة و النصف أو الحادية عشرة)..
رمي الغطاء إلي الخلف (قضي الليلة الفائتة وحيدا).تناهي من المدرسة المجاورة لنافذة بيته،صوت الأطفال ينشدون.آنذاك تذكر بأنه أستاذ،وأن التعليم لا يعطل سوي الأحد في هذا البلد السعيد.أزاح ستار النافذة.بدا الجو غائما.بدايات الخريف تعلن عن ذاتها بهدوء:أوراق الأشجار مرمية في ساحة المدرسة.وجوه الأطفال الصغيرة المدورة مشدودة إلي اللوح الأسود.والشارع المفضي إلي المعاريف فارغ إلا من نساء يحملن قففا بالية.كن متجهات حيث السوق اليومي.ثمة تهوي هراوات رجال القوات المساعدة علي ظهور بائعي العربات.. (فيما بعد سيفكر في كتابة مجموعة قصصية مدارها "العربة"..هكذا فكر..).كان يحدق من الشرفة وهو يمسد لحيته الدستويفسكية..شعره الغزير لم يصبح بعد كتابا مفتوحا. كان يطوي رجله اليمني ملصقا إياها إلي اليسري،ليقف علي رجل واحدة..لم يكن أحرق لفافة بعد.فكر في الخروج..
2/
حين خطا محمد زفزاف نحو الشارع،كانت الساعة العاشرة..سيقصد المقهي الواقع بين لابريس،والماجستيك(حانته المفضلة).هنالك سيتناول فطوره بهدوء:شاي أسود بالحليب و هلالية.سيحرق لفافته الأولي ثم يبدأ التفكير فيما ينوي الإقدام علي إنجازه.منذ أمد راودته فكرة كتابة رواية عن فترة قصيرة من حياته قضاها في مدينة الصويرة.هذه تبدو مغرية أكثر من أي وقت مضي.ثم إنه الآن يحس بكونه شبه عاطل بعد روايته الرابعة: الأفعي والبحر.كانت أسالت مدادا نقديا معظمه ضد فكرة كتابة الرواية.قرر أن يكون الفضاء هذه المرة الصويرة، وليس البيضاء التي استهلكت قصصه القصيرة وأغلب رواياته
(سأجعل الرواية القادمة من أقوي التجارب و سأمهد لها بما يضاد توجه النقاد قاطبة.هكذا فكر ويفكر.). ألقي محمد زفزاف قامته الطويلة داخل المقهي..كان خاليا إلا من شخصين..حياه النادل بهدوء..بعد فترة وضع أمامه المعتاد من فطوره.قال النادل:
لقد ألقي القبض ليلة البارحة علي عصابة متخصصة في الشذوذ الجنسي.
أجابه زفزاف بهدوء:
ستري القادم.إنهم الآن في أوروبا يفكرون في سن قانون للزواج بين الشاذين.انتظر سنة 2000 سيتزوج الرجل بالرجل.
عقب أبا محمد:
أعوذ بالله.هذه علامات الساعة.أتمني أن أموت قبل حلول عام2000. من خلال الزجاج تتفاعل حركة السير.الأقدام تمر من أمام المقهي بسرعة.رجال.نساء. تلاميذ و تلميذات في اتجاه المدارس و الثانويات.تذكر بأنه قرأ عن(سان بترسبورغ) في كتاب"حداثة التخلف"..ثم يوجد شارع"نيفسكي"،حيث تمر كل أنواع الأحذية:اللماعة، الباهتة والمتآكلة.الجميع يمرمن هذا الشارع.إنه الحياة.(ترتبط الرواية بالحياة.تنتج الرواية معني الحياة.كتب هذا في مذكراته بجريدة"العلم"منذ سنوات.).
في الحادية عشرة أدار محمد زفزاف ظهره تاركا المقهي في الخلف.علي اليمين دلف مكتب التبغ المجاور.اقتني جريدتين وطنيتين،وعلبة تبغ إضافية.لن يخرج من بيته اليوم. قطع المسافة القصيرة بين مكتب التبغ و مصلحة البريد.فتح صندوقه وأخرج رسالة وكتابا و مجلة.لف الثلاثة في إحدي الجريدتين و قفل عائدا..
3/
حين أدار محمد زفزاف مفتاح البيت،أحس رائحة النوم تبخرت.آنئذ عرف بأن فاطمة تعيد ترتيب ذاكرة البيت.من المطبخ الصغير انتهي صوت ارتطام الأواني،وإن كان يفضل أكل بعض وجباته في أحد المطاعم متي كان غنيا.(يحدث هذا إذا حصل علي مكافأة سخية). كان أول عمل منزلي تقوم به فاطمة الدكالية جمع الأوراق المكتوبة، والكتب المتناثرة وإعادة وضعها في المكتبة الصغيرة.(يكتب الأستاذ كما تروي فاطمة لصديقاتها في الهجاجمة في كل مكان.).علمها بأن اثمن شيء في بيت الكاتب أوراقه وكتبه.وأما في دورهم ومنازلهم،فصحون الطاووس كما تقول فاطمة.
التقي فاطمة الدكالية في بار الماجستيك.تكرع مثلما يكرع.ولما تحس بأنها غير قادرة علي المشي و التركيز،تستأذن الأستاذ للمبيت عنده.
(يروي محمد زفزاف عن محمد شكري بأنه درب خادمته علي كتابة الأرقام والحروف. وكلما كان خارج البيت تتحول من خادمة إلي سكرتيرة، تدير بإتقان مواعيد الكاتب العالمي.). فتح محمد زفزاف باب الشرفة،و استلقي علي الفراش في الزاوية اليمني من الغرفة الواقعة يسارا.(لا يوجد في بيت الروائي سوي غرفتين.واحدة للنوم وثانية للضيوف. الآن هو في غرفة الضيوف.).تصفح بريد الصباح.استقصي اسم باعث الرسالة،كان الروائي جبرا إبراهيم جبرا.منذ مدة أرسل له بالبريد المضمون رواية الأفعي و البحر. وهو يقرأ الرسالة لفت نظره الإشادة القوية بفكرة الرواية وصيغة كتابتها. من غرفة الضيوف نادي فاطمة الدكالية،وأودعها الرسالة.أخبرها بأنها لكاتب كبيريعيش في بغداد.وأن عليها الاحتفاظ بها ضمن ملف الرسائل الرفيعة.في يوم،سيتم نشرها كما هي.
قالت فاطمة الدكالية: هذه رسالة للكاتب الكبير.أجابها: قوليها و شلي فمك(يقصد القول و نظافة الفم).فيما هو يقلب صفحات الجريدتين الوطنيتين بحثا عن فكرة،خبر،أوحدث، يتم تحويله قصة قصيرة،غابت فاطمة داخل المطبخ. أقفل الروائي باب غرفته بحثاعن لحظة صمت.عاودته فكرة الكتابة عن تجربته التي قضاها في مدينة الصويرة.(تنشأ فكرة الرواية من استحضارالفضاء المستوعب لمادة الرواية.الفضاءات بما هي مدن،شوارع،وأحياء لا تتشابه في كليتها،وإنما تتميز بالنظر إلي خصوصياتها.من الفضاءات ما يستدعي الكتابة عنه تأسيسا من صلتنا به.فليس من الضروري الكتابة عن فضاء الطفولة كذاكرة و كماض،مادام لا يحرك نواة الإحساس بالكتابة.النواة التي يفعلها بالخلق والتخليق فضاء آخر:الدارالبيضاء،الصويرة أوطنجة. لطالما فكرت في الكتابة عن طنجة من زاوية مغايرة لرؤية مهندسها محمد شكري.).هكذا انثالت الأفكار تباعا،والروائي مستلق علي فراشه يلاعب خيوطا لا يعرف الأقدرمنها علي أن يشكل البداية.البداية،القارئ الفعلي للرواية.هذا ما لم يفهمه أكاديميوالرواية،وليس نقادها.).استل المجلة من المظروف الأصفرالذي حشيت فيه.قلب صفحاتها بحثاعن إغماضة.كانت الساعة الثالثة والنصف زوالا.
4/
حين نزل صدوق نورالدين الدارالبيضاء أعزل إلا من تفكيره،قيل له إن كنت تبحث عن محمد زفزاف فإنك لن تجده إلا في بار الماجستيك.استفسرعن الحافلة التي تقل إلي هنالك،قيل:الرقم7.من المفارقات أن اليوم كان السابع(في"غجر في الغابة"كتب نصه: "السابع") ضمن الأسبوع. شمس الصيف لاسعة ذاك المساء.الشوارع طردت المارة نحو الشواطئ.المقاهي شبه مهجورة.و الحافلات فارغة إلا من راكب أو اثنين.وأما المحلات التجارية فأخرج أصحابها الكراسي عل لفحة برد تصيب،بعد أن تم بل باحاتها بالماء.من هؤلاء من أخرج طاولة صغيرة وتفتق خياله عن مقهاه الخاص. وهو في الطريق حاول ترتيب شريط الأسئلة.قرأ للمرة الثالثة مجموعته:"بيوت واطئة". فكر في أن يسأله:لماذا هذا العنوان بالذات؟و ما إن كان النص الأخير ضمن المجموعة "الديدان التي تنحني"رواية مجهضة؟ وقف صدوق نورالدين أمام باب البار، لفت نظره الروائي بلحية وخطها ثلج أبيض.كان طويلا،نحيفا،وقد أدار كوفية فلسطينية علي عنقه.تردد في الدخول.الروائي منخرط في حديث إلي رجل أسمر قصير من خارج"ماكينة الأدب".للحظة انتبه إليه.انصرف الرجل بإذن من الروائي.قال صدوق نورالدين: جئت لأتعرف عليك..
رد زفزاف: مرحبا بك. و سأله:
من أين أتيت الآن؟ أجاب صدوق نورالدين:
من مدينة آزمور..أفرغ ما تبقي من الزجاجة"الميني".أشعل سيجارة.وغادرا معا.في الطريق إلي البيت مرا ببعض المحلات التجارية الفارغة،وبصيدلية.ثم انحرفا يمينا حيث الشارع" " المفضي للطرف الثاني من المعاريف.. كان صدوق نورالدين ساكتا.لم يجرؤ علي الحديث.أحس بأن استعادة ترتيب الأسئلة تبخر.(في 1996 سيتكرر نفس المشهد.سيجلس إلي الروائي والمفكرعبد الله العروي في حي الأحباس.يستمع إلي إجابات عن أسئلة نقدية ولا يجيب.كم تمني أن لو عاد تلميذا.). أمام باب عمارة متهالكة تجمع منحرفون.دس الروائي رأسه،ضغط زرالضوء فسمعت الرنات متقطعة وصعد.رائحة النثانة تفوح من الدرج.ضيقا كان لا يكاد يسع الروائي ذاته رغم نحافته.(في مقالة نقدية كتبها"توفيق الشاهد" ونشرت بمجلة"دراسات عربية"،أشار الشاهد إلي أن الروائي إلياس خوري زار زفزاف في بيته و استغرب لهذا الاستقرار الباهت.) فتح محمد زفزاف باب بيته في الطابق الثاني.قال:
جارتي من أزمور.إنها فلانة.ألا تعرفها؟
.أجاب صدوق نورالدين:
بلي..أعرف عائلتهم..
عاد الروائي ليسأله:
ماذا تقرأ الآن؟
أقرأ رواية"رحيل البحر"..
الله يحسن عوانك.(المقصود الله يكون في عونك.) (في مقهي"الإكسيليسيور"اعتاد صدوق نورالدين الجلوس.مرة تقدم إليه قاص معرفا بنفسه وسأله ما إن كان يفهم ما يقرأ في هذه الرواية الضخمة،علي اعتبارأن الروائيين بالمغرب يكتبون"دفاترشيكات" أوروايات بلامعني.لم يجبه.إلا أنه وبعد مرور نصف شهرأوأكثر فوجئ به يتسول"رحيل البحر"،حيث فلم يعدها إلي اليوم.
في 2003 سيحاورصدوق نورالدين محمد عزالدين التازي بخصوص إعادة نشر"رحيل البحر".سيخبره بأنه أعاد النظر،فحذف الكثير.عندها أخبره صدوق نورالدين بأن عبد الله العروي أقدم علي ذات الفعل في روايتيه"الغربة" و"اليتيم".). سأل صدوق نورالدين الروائي:
ماذا ستكتب مستقبلا؟
رواية عن مدينة الصويرة..
ولماذا هذا الاختيار؟
لأنه إحدي تجارب الحياة.يتذكر بأنها كانت أول جلسة معه.. (ورد في شهادة للروائي الجزائري"الطاهروطار":وجدته في المغرب،وقد اقتحمنا وكره الصغير،الشعبي في الدارالبيضاء،سعدي يوسف وعزالدين المناصرة وأنا يقودنا الشاعر الموهوب عدنان ياسين،بدون موعد،بدون تذكردقيق للعنوان من طرف ياسين،فكنا كلما سألنا تطوع عشرات الشبان والأطفال للمهمة،إلي أن وجدنا أنفسنا في عمارة شعبية وفي غرفة واحدة،كل ما فيها هو اللحية وصاحبها:محمد زفزاف.).
5/
حين أشار الديك الخامسة و النصف،فتح الروائي عينيه علي العالم.كان يحلم بالنوم ساعة فقط.يحس بقليل من الجوع.منذ التاسعة لم يتناول سوي كأسين من الأحمر.لفت نظره سقوط الظلام،ومواراة نافذة الشرفة.أوقد مصباح الغرفة،وانتبه للوجبة الموضوعة علي المائدة المستديرة:كفتة،سلاطة خضراء،ماء و ليمون،مادام الموسم برتقاليا.(إنك تبدو نحيفا كما لو كنت من الحبشة.)."بائعة الورد"(كيف نحلم بموسكو؟) انتقل لغرفة النوم،فالمطبخ حيث مجاز الفصل ضئيلا.لم يكن ثمة حس لفاطمة.قد تعود عند السادسة والنصف أوالسابعة.دخل المرحاض وعاد إلي غرفة الضيوف.أكل قليلا وترك ما تبقي علي المائدة.لاعلاقة تربطه بفاطمة من تلك التي تفهم.وإنما هي هنا لتسهرعلي ترتيب وإدارة البيت. ومتي احتاجت مقابلا يكون رهن إشارتها.في الغالب تزورنساء أخريات البيت.بعضهن يقضين الليل هنا.ويحدث أن يجلسن ليوم واحد أويومين.(لم يتزوج محمد زفزاف إلا مرة واحدة بعدها لم يفعل.كان يملك نظرته الخاصة للنساء.لذلك اعتبرالجمع بين المرأة والكتابة من قبيل المستحيلات.). استلقي علي الفراش.عاوده حنين الصويرة.شرع يكتب الرواية في رأسه.أحيانا كان يكتب الرواية ماشيا..في حركة المشي يتحرك الخيال بفعالية قوية.ومثلما، يمثل النسيان.لطالما فكر في الصوت.في الإملاء.إملاء النص علي جهاز التسجيل.ومن تم تدوينه.ذلك أن في المشي تصاغ جمل آية في بلاغتها وسحر معناها،لولا أنه لايمكن تحقيق احتواء النص بتمامه في هذه الذاكرة،حيث يتنازع فعل الكتابة وممارسة الحياة، في ذروة قضاياها ومشاكلها.
وهويفكر،انتهي إلي سمعه طرق خفيف علي الباب.لم يكن حدد موعدا مع أحد.فمنذ امتلك الهاتف،غدا يطلب من زائريه الاتصال قبل الزيارة.تأذي كثيرا من"كتبة"و"نقدة"و"صبيان" يدعون "الأدب"،ولا أدب.(سمع طرقات علي الباب.الساعة السابعة والنصف صباحا.ما عاد أحد يطرق بابه في مثل هذا الوقت منذ سنوات،عندما اتخذ قرارا معينا بوقف علاقات معينة،مع أشخاص بعينهم.)."الملاك الأبيض"(الغيلم).
عاد الطرق الخفيف.بعد أقل من خمس دقائق سمع صوت أقدام تغادر الدرج بهدوء إلي الشارع.لم يجرؤ علي رمي نظرة من الشرفة لمعرفة الزائر.فكرومنذ الصباح ألا يخرج. فحتي الإعدادية التي يعمل فيها لم يعد لزيارتها كما السابق.إلا أنه الآن قيم علي المكتبة. وفيما بعد سيصبح مفتشا للعديد من المكتبات.هكذا يمكنه حيازة وقت وافرللتفكير والكتابة. (يقال بأن التلاميذ كانوا يتكدسون في المقاعد الأمامية،فقط لسماع صوته ومطالبته بقراءة قصة.يحكي هو ذاته والعهدة عليه بأن روائيا مغرورا زاره بإعدادية النجد حيث يعمل.و بمجرد الدخول،سأل التلاميذ ما إن كانوا يعرفون عند من يدرسون،فأجابوا جميعا:نعم.). قام من مكانه صب كأسا.بحث عن آلة التحكم في جهاز التلفاز.بعث فيه الضوء وخنق الصوت.وضع الآلة بالقرب منه وشرع في قراءة الأعمال الكاملة للروائي الياباني "ياسوناري كوباتا".لطالما حلم بأن تكون له أعمال كذلك،وفق الصيغة بالذات.الليل انتصف،فيما عم الصمت.بدا الجو مغريا بالكتابة.طوي الأعمال الكاملة وتهيأ لاستحضار شريط الصويرة.في البداية تساءل عن السنة بالضبط:قد تكون بداية السبعينات أو أواخرها أو بداية الثمانينات.كان سافر وحيدا في إحدي العطل المدرسية.لم يكن يملك مالا كثيرا. فقط أجرته الشهرية و مكافأة عن نشر روايته"محاولة عيش".(نشرت كاملة في مجلة "الأقلام"العراقية،لتصدر لاحقا في كتاب عن الدار العربية للكتاب،تونس/ليبيا.لولا أنها لم توزع.وكان صدوق نورالدين كاتب هذه السطور ربما نشر عنها نقدا مطولا ضمن نفس المجلة.).لم يكن يحس الحاجة إلي معلومات تذكره،إلا أنه و علي امتداد تجربته في الكتابة لم يوظف مذكرة.سيعمد إلي خياله كما يفعل صائغ هذه الكتابة.
6/
حين نزل محمد زفزاف الدارالبيضاء أواخر الستينات،لفت النظرإليه شاعرا ليخوض كتابة الرواية والقصة القصيرة.كانت مجموعته"حوار في ليل متأخر" وروايته"المرأة والوردة"مفتاح فهم أسرار العالم.
في البداية سأل عن مكان مناسب للسكن.قيل له:حي المعاريف،أقرب نقطة نحوالمدينة. من تم بحث عن شقة للإيجار،فعثرعليها في تحت رقم:
. عندها طلق الفنادق ولم يعد يقيم فيها سوي في المناسبات الأدبية والفكرية. كان يتردد كثيراعلي مرس السلطان،حيث المقاهي والبارات،ونخبة الدارالبيضاء المثقفة. بار"مادام كيران"،المحفل المفتوح علي تنوع الأهواء والمشارب.تم تحضرالروح الإبداعية لجيل واسع من المثقفين والكتاب الذين رسخوا بخيالهم الأدب المغربي الحديث.يومها كانت الحياة حياة،والأفق مشرع علي الخلق والابتكار،وبالتالي علي مرجعيات متعددة يتشرب من منابعها.. ظل إلي نهاية السبعينات.لم يعد يتجاوز حلقته الخاصة والفردية.لم يعد يسعي إليهم.بل هم الذين يحفرون الأرض بحثا عنه(أتراه البحث عن ثعلب؟):في لابريس،الماجستيك والزياني..كان يفضل وعلي الدوام الجلوس في استراحاته إلي من ليسوا أدباء أو مثقفين،يحسهم يبحثون عن أقرب الطرق للإجهاز عليه وقطع الطريق.يحسهم يجيدون صناعة القلق وتوتر الأعصاب.لذلك أغلق الباب في وجه ممن لا يمثلون أنفسهم حق التمثيل.كان فضاء الدارالبيضاء تلك الفترة بريئا.أناس بسطاء يتحركون في صمت و يتحاورون بأخلاق رفيعة.كانوا يحترمون الزمن أساسا،مثلما يعيرون الآخر القيمة السامية.الشوارع الأزقة،الممرات،المنازل..هذه وتلك تشع نظافة وجمالا.كان يتأخر أحيانا لغاية مشاهدة المدينة تغتسل لتلفظ رداء يوم مات..وأما المحلات التجارية فتفيض جمالا وروعة،حيث تحظي في الداخل بحفاوة وتقدير كبيرين سواء أكنت زبونا أوالعكس،ولا تلتقط أذناك سوي موسيقي صامتة من الداخل،حيث الباعة أجانب،وقلة منهم مغاربة لا يخرجون عن إيقاع السابق.كانت الحركة بطيئة،علي الرغم من شساعة الفضاء،كما كان عدد الساكنة قليلا.من هؤلاء تجد الأجانب،اليهود والفرنسيين.كانوا يحيونك حيثما صادفتهم..بل إنهم يفتحون حتي أبواب دورهم وفيلاتهم علي قلتها في وجهك، دون خوف أووجل.ومتي دعوتهم لبوا حاملين ورودا وهدايا نادرة.كان يحس فضاء الدارالبيضاء يتهالك عبر أكثر من تحول، وعلي أكثر من مستوي. وبالتالي فإن عليه إنتاج هذا الوعي القلق بما كان وما أنتهي إليه.وكانت الرواية محفل الضم الشامل لمجموع هذه المتغيرات.مثلما نزل أواخرالستينات هاهويمضي طاويا،صفحات الثمانينات.7/
الدارالبيضاء:1984.شهرمارس في اعتداله الأثير.انبثاقة خضرة محاء.لا أثر لورقة سوداء علي الرصيف. شبه مرايا تبثت علي أغصان الشجر،أوهي لمبات مضيئة تجرح العين.السماء في امتداد زرقتها لوحة صاغتها يد إلاه.دبت الحركة فعلا.تمام العاشرة والنصف صباحا.الطرق مكتظة بالغدو والرواح.الروائي عند محطة الحافلات،بانتظاروصول سيارة أجرة صغيرة.الحافلة رقم(7) فارغة إلا من راكبين.وبالرغم لم يلجأ إليها.منذ سكن حي المعاريف لم يفكر في امتلاك سيارة شخصية. كانت سيارات الأجرة الصغيرة وسيلته الوحيدة للتنقل إلي وسط المدينة،مثلما الأمر اليوم. أوإلي المؤسسة التي يشتغل فيها.مرت أزيد من عشرين دقيقة وهو ينتظر.يحدث أن تمتد نصف ساعة.كم كبرت الدارالبيضاء(كتب في رأسه). بعض المارة يحدق باهتمام.آخرون يبتسمون بإرسال تحية الصباح.يحس بأن هؤلاء جميعا يعرفونه.. إنه يكتب من أجلهم.
أخيرا توقفت واحدة:
إلي أين يا أستاذ؟
وسط المدينة..مسح الأمكنة.المقاهي تنبت كالفطر.زبائن يقضون اليوم أمام قهوة سوداء.يغازلون الطريق أو أنهم يمدون أرجلهم للتفرج علي شاشة لاتنتهي.البنايات جميعها من ثلاثة طوابق فما فوق.يبدو الرابع وكأن لاعلاقة تصله بالبناية كاملة.الغسيل معلق علي الشرفات،الأسطح تستغل لمآرب أخري.لا أثر لخضرة تروي العين.فقط أشجار سوداء متباعد بعضها عن بعض.ميتة تحيط بها أكياس القمامة السوداء.أحيانا تجد ذات المشهد أمام مؤسسة بنكية تعتقدها في فرنسا أوأمريكا.كل شيء يتوسع بلا حدود. في ساحة الماريشال تصاعدت الأدخنة إلي السماء.انتشر الركاب والحافلات والباعة والفقراء واللصوص وباعة السجائر بالتقسيط.كل شيء في هذه الساحة يمتد،يتناسل،يتنوع حتي ليخيل بأن الحركة متوقفة،والمسرحية تعاد كل يوم بألف صيغة وصيغة. في ساحة الماريشال لفظته سيارة الأجرة.ولج المؤسسة البنكية المواجهة لشارع مولاي عبدالله.أخرج دفترالشيكات وشرع في التعبئة.من بعيد لمحه أحد الموظفين فتقدم نحوه: إذا كنت لا تجيد التعبئة فدعني أفعل.
أجابه الروائي وقد حدق فيه بإمعان:
وهوكذلك..الحادية عشرة وخمس وأربعين دقيقة. عاد الروائي للطرف الثاني من شارع الماريشال.توقف ينتظرمن يعيده للبيت.(إذا لم أركب الآن،فإن علي أن ألبث إلي غاية الواحدة بعد منتصف النهار.). استحضر الفصل الثالث من"الثعلب".كان يصل الخيوط.تذكرالجملة الأخيرة:إنه النداء الأبدي.أحسها اختزلت الفصل بأكمله.تعليق: في هذه الجملة تحضر علاقة الروائي بالفلسفي.الروائي كسرد.حكاية.والفلسفي كتأمل في موجودات الحياة.تأمل الديمومة والاستمرار.حيث يعاد إنتاج الحياة انطلاقا من حوارالجسد.كل نداء ليس في العمق ومنذ الأمد سوي صورة الجسد في الجسد ومن خلاله.تم تمتد الأجساد وتستمر الحياة.). 8/0991 1/
حين توطدت علاقتي به،اعترفت له بأني سأكتب نصا يكون محمد زفزاف شخصيته الرئيسة.ضحك بهدوء ولم يعلق.أضفت بأني لن أخون المسافة بين الواقع والخيال،مثلما حدث في"بورخس في الآخرة"و"جيمس جويس".قال باقتضاب:فليكن مادمت لم أفكر في سيرتي الذاتية بصيغة مباشرة،بل إني أفكرفي إملائها.
2/(ولد محمد زفزاف(أومحمد خصال كما يؤثر القاص إدريس الخوري التذكير بحقيقة الإسم) سنة:1945(أو1942).حيث اختلف في تحديد المكان.بعضهم يقول مدينة القنيطرة. وآخرون سوق أربعاء الغرب.تابع دراسته إلي حصوله علي شهادة الباكالوريا سنة:1965 حيث التحق بالكلية شعبة الفلسفة المفضلة لديه.لولا أنه انتهي أستاذا للغة العربية بالمرحلة الإعدادية سنة:1968.بدأ حياته شاعرا ولم ينته.من تم كانت القصة والرواية ضوء الكتابة في ليل الشهرة والمجد.تفتقت تجربته الإبداعية عن مجموعته"حوار في ليل متأخر" ثم روايته"أرصفة وجدران" إلي البقية.).3/ كان ممددا علي السريرحيث يتدفق الضوء من الشرفة.في مواجهته الشاشة الصامتة. الغيلم يسوح الغرفة.لا أثرلنأمة.أحيانا يعلو صوت عابر من الشارع الجاف.اللحظة سمعت يد..إلي الخلف ترك الفراش.فتح الباب كأن لم يفتحه.أطل الوجه المطرز بالياقوت. قامة طويلة،لحية شعتاء،حقيبة وتحية. بيني والروائي استوي الشاعر.دس يده في الحقيبة الجلدية.طلع بأوراق خطت بقلم أسود وبعناية..قال الروائي: هذه هي المجموعة الرابعة.
سأله الشاعر:
ألم تأت؟
نهره الروائي بحزم:
لقد منعت القحبة المصاصة من دخول بيتي.ابحث عنها في مكان آخر..سال صمت مقدس.امتدت يد الشاعر تتصفح ديوان"محمد القيسي".صب الروائي أحمر. بلعه الشاعر رمشة عين.بدا وكأن الجو تكسر.جمعت جرائدي واستأذنت.إلا أن الروائي أجبرني علي الجلوس:سنخرج جميعا.عند قدمي أخرج الغيلم رأسه.وتوقف.(يوم نزل محمد زفزاف الدارالبيضاء،كان أواخر الستينات.اختارالإقامة في هذه الشقة. هذا الحي الذي انفتح علي تعدد العلاقات،الأجناس،اللغات،والطقوس.تردد في بداياته علي أكثرمن مقهي ومطعم،قبل أن ينتهي منعزلا في دائرته الصغيرة بهذا الحي.). سأسافر إلي الصويرة.هكذا ردد ذات مساء.ثم تنبثق روايتي القادمة.لن تكون الدارالبيضاء سوي البداية والنهاية../..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.