مجلس جامعة كولومبيا يصوت على قرار للتحقيق مع الإدارة بعد استدعاء الشرطة لطلبة متضامنين مع غزة    قوات الاحتلال تطلق النار على سيارة خلال اقتحام مدينة طولكرم    الجيش الأمريكي: الحوثيون ألقوا صواريخ باليستية على سفينتين بالبحر الأحمر وأصابوا إحداهما    أحمد فهمي يحتفي بصعود الأهلي لنهائي إفريقيا    الأرصاد تحذر المصريين من طقس اليوم: الأمطار الرعدية والسيول تضرب هذه المناطق    4 أيام متواصلة.. تعرف على عطلة شم النسيم وعيد العمال والإجازات الرسمية حتى نهاية 2024    اليوم.. جلسة محاكمة مرتضى منصور بتهمة سب وقذف عمرو أديب    للحماية من حرارة الصيف.. 5 نصائح مهمة من وزارة الصحة    تحذير دولي من خطورة الإصابة بالملاريا.. بلغت أعلى مستوياتها    نتيجة انتخابات نادي القضاة بالمنيا.. عبد الجابر رئيسًا    "اتهاجمت أكثر مما أخفى الكرات ضد الزمالك".. خالد بيبو يرد على الانتقادات    كولر: مازيمبي لم يشكل أي خطورة علينا.. وسنحتفل اليوم بالتأهل    د. محمد كمال الجيزاوى يكتب: الطلاب الوافدون وأبناؤنا فى الخارج    د. هشام عبدالحكم يكتب: جامعة وصحة ومحليات    «المركزية الأمريكية»: الحوثيون أطلقوا 3 صواريخ باليستية على سفينتين في البحر الأحمر    واشنطن تعلن عن مساعدات عسكرية لأوكرانيا بقيمة 6 مليارات دولار    لدورة جديدة.. فوز الدكتور أحمد فاضل نقيبًا لأطباء الأسنان بكفر الشيخ    حقيقة انفصال أحمد السقا ومها الصغير.. بوست على الفيسبوك أثار الجدل    رسميًا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 27 إبريل بعد الانخفاض الآخير بالبنوك    وزير الرياضة يُهنئ الأهلي لصعوده لنهائي دوري أبطال أفريقيا للمرة ال17 في تاريخه    قبل مواجهة دريمز.. إداراة الزمالك تطمئن على اللاعبين في غانا    دوري أبطال إفريقيا| الأهلي يعزز رقمه الإفريقي.. ويعادل رقمًا قياسيًّا لريال مدريد    محمد هلب: السيارات الكهربائية بمثابة مشروع قومى لمصر    شعبة البن تفجر مفاجأة مدوية عن أسعاره المثيرة للجدل    والد ضحية شبرا يروي تفاصيل مرعبة عن الج ريمة البشعة    رسالة هامة من الداخلية لأصحاب السيارات المتروكة في الشوارع    بعد حادث طفل شبرا الخيمة.. ما الفرق بين الدارك ويب والديب ويب؟    أستاذ علاقات دولية: الجهد المصري خلق مساحة مشتركة بين حماس وإسرائيل.. فيديو    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    دينا فؤاد: الفنان نور الشريف تابعني كمذيعة على "الحرة" وقال "وشها حلو"    بشرى في العرض الخاص لفيلم "أنف وثلاث عيون" بمهرجان مالمو للسينما العربية    يسرا اللوزي تكشف سبب بكائها في آخر حلقة بمسلسل صلة رحم.. فيديو    3 وظائف شاغرة.. القومي للمرأة يعلن عن فرص عمل جديدة    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    تنفع غدا أو عشا .. طريقة عمل كفتة البطاطس    الأمن العام يضبط المتهم بقتل مزارع في أسيوط    العراق.. تفاصيل مقتل تيك توكر شهيرة بالرصاص أمام منزلها    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    الرجوب يطالب مصر بالدعوة لإجراء حوار فلسطيني بين حماس وفتح    موعد مباراة الأهلي المقبلة بعد التأهل لنهائي دوري أبطال أفريقيا    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    رغم قرارات حكومة الانقلاب.. أسعار السلع تواصل ارتفاعها في الأسواق    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    في سهرة كاملة العدد.. الأوبرا تحتفل بعيد تحرير سيناء (صور)    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات السبت 27 إبريل 2024    مقتل 4 عمّال يمنيين بقصف على حقل للغاز في كردستان العراق    "أسوشيتدبرس": أبرز الجامعات الأمريكية المشاركة في الاحتجاجات ضد حرب غزة    استئصال ورم سرطاني لمصابين من غزة بمستشفى سيدي غازي بكفر الشيخ    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    تعرف علي موعد صرف راتب حساب المواطن لشهر مايو 1445    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نوبل 2013
آليس مونرو ..تشيكوف عصرنا
نشر في أخبار الأدب يوم 12 - 10 - 2013

عندما سئلت: لماذا تصر علي كتابة القصة القصيرة وحدها؟
أجابت آليس مونرو: "إذا كنت بدأت بكتابة القصص، فهذا لأن حياتي لم تترك لي الوقت الكافي لكي أكتب رواية، ولم أغير أبدا نبرتي". تلتفت إذن جائزة نوبل هذه المرة لفن يظن الكثيرون أنه في طريقه إلي الانقراض، " القصة القصيرة"، وأيضا إلي كاتبة ليصبح عدد الكاتبات اللائي يحصلن علي الجائزة ثلاثة عشر كاتبة من بين 109 كاتب حصلوا علي الجائزة. الكاتبة المولودة في 10 يوليو 1931 والتي تعد أول كندية تفوز بالجائزة، يطلق عليها النقاد لقب "تشيكوف عصرنا"، واعتبرها بيان الجائزة "أعظم من كتب القصة القصيرة في العصر الحالي".
ولدت مونرو لوالد مزارع، وأم تعمل في التدريس، بدأت دراسة الصحافة واللغة الإنجليزية سنة 1951 بجامعة ويسترن أونتاريو، لكنها قطعت الدراسة بعد زواجها، واستقرت للعيش في فيكتوريا- كولومبيا البريطانية، بدأت كتابة القصص القصيرة حين كانت في سن المراهقة، إلا أنها نشرت أول مجموعة قصصية لها بعنوان "رقص الظلال السعيدة" سنة 1968، والتي حظيت باهتمام كبير، وكانت قبلها تنشر أعمالها تباعاً في المجلات المختلفة منذ سنة 1950، وفي سنة 1971 بدأ نجاحها المدوي مع نشر مجموعتها القصصية "حياة الفتيات والسيدات"، و لها عدد كبير من الأعمال منها: "من تظن نفسك" 1978، و"أقمار المشتري" 1982 و"هروب" 2004، "المشهد من قلعة روك" 2006، و"سعادة غامرة" 2009، ومجموعة كتب حملت عناوين" الكراهية"، و"الصداقة"، "التودد"، و"المحبة"، و"الزواج" التي صدرت سنة 2001 وأصبحت مصدر إلهام للعديد من الأفلام، خاصة التي قامت بإخراجها سارة بولي، وآخرها مجموع قصصية بعنوان " الحياة العزيزة".
مونرو معروفة لدي النقاد بدقة سرد التفاصيل الحياتية، علاوة علي تحليل الواقع النفسي، تدور أحداث أعمالها القصصية غالباً داخل بلدات صغيرة، وتناقش غالباً مسألة القبول الإجتماعي بين الفئات المختلفة للمجتمع، التي تحددت نتيجة العلاقات المتواترة والصراعات المتعلقة بالمباديء، والمشاكل النابعة من صراع الأجيال، وصدام اختلاف طموحات الحياة، ويتميز أسلوبها السردي بتصوير تفاصيل الحياة اليومية والطقوس المعتادة في المجتمع مع تسليط الضوء علي لحظات بعينها مما يطرح أسئلة تثري الأحداث ويدفع القارئ لطلب المزيد.
حصلت أليس مونرو علي عديد من الجوائز منها جائزة الحاكم العام للرواية باللغة الإنجليزية سنوات 68، 78، 86، وجائزة بولو سيلرز المخصصة للكتابة من أجل الفتيات سنة 1971، كما حصلت علي جائزة المان بوكر الدولية سنة 2009، وكانت قصتها "الخادمة الشحاذة" أدرجت بالقائمة القصيرة بها سنة 1980 . وفي أول رد فعل علي فوزها بالجائزة قالت إنها لا تصدق هذا.
في حوار مع مونرو عن مجموعتها الأخيرة "الحياة العزيزة"
كنا فقراء..ولكن الكتب كانت حولنا دائما
حوار ديبورا تريسمان
ترجمة: أمير زكي
اجرت مجلة نيويورك حوار مطولا مع أليس مونرو بمناسبة صدور آخر مجموعاتها القصصية " الحياة العزيزة" ، وهي مجموعة تتضمن قصصا عن نساء تلقي عن أكتافها قيود تربيتهن والقيام بشيء غير تقليدي ، وربما يُعاقبن علي ذلك من قبل رجال يخونونهم ويهجرونهم في ذروة ضعفهن. هذا يحدث في قصص: "هَجْر مارفلي"، "آموندسين"، "كوري"، "القطار"، وقصص أخري. حتي العمة في قصة "الملاذ" تدفع ثمن ما يبدو التمرد المحدود ضد ديكتاتورية زوجها. وهو الأمر الي اعتبره الصحفي الذي اجري الحوار وكأنه مسار حتمي بالنسبة لمونرو: "آموندسين" تجربة الفتاة الأولي تكون مع رجل أناني تماما ، هذا هو النمط الذي يستهويها. جائزة تستحق السعي إليها، علي الرغم من أن العلاقة تنتهي بشيء أكثر واقعية، هي تحفظه في عالم الخيال. كما أري الأمر.في "هَجْر مارفلي" عدد معقول من الناس يبحثون عن الحب والجنس. يبدو لي أن المُعاقة وزوجها حصلا علي ذلك، بينما حولهما، لا يلتحق العديد من الناس بالركب لأسباب عديدة. أنا أعجبت بالفعل بالفتاة التي خرجت، وآمل بالأحري أن تجتمع بطريقة ما مع الرجل الذي ماتت زوجته. في "الملاذ"، هناك "زوجة مثالية" واضحة، تقريبا شخصية كاريكاتورية، كأنها تسير علي خطي مجلات المرأة التي كانت موجودة عندما كنت شابة. في النهاية، تشعر بالضجر من ذلك، والله يعلم ما الذي سيؤدي إليه هذا الضجر. قصة "القطار" مختلفة تماما، إنها عن رجل يشعر بالثقة والرضا طالما لا يقف الجنس في طريقه. أظن أن امرأة لعوب قد جرحته عندما كان شابا، ولا أظن أنه استطاع أن يفعل مع ذلك شيئا سوي الهروب.
س: في قصصك هناك عادة جرح عند كل فتاة تحاول جذب الاهتمام لنفسها ، الفردية، بالنسبة للنساء، يتم رؤيتها كدافع مثير للعار. هل احتاج الأمر منك جهد كبير لاختراق ذلك في حياتك، لتأخذي مكانة الكاتبة؟ هل كان من الطبيعي بالنسبة للفتيات القادمين من أونتاريو الريفية أن يلتحقن بالجامعة مثلما فعلت؟
مونرو: لقد تربيت علي الاعتقاد أن أسوأ شيء يمكن أن تفعلينه هو أن "تلفتي الانتباه لنفسك" أو "أن تعتقدي أنك ذكية". كانت أمي استثناء لهذه القاعدة وعوقبت بالعلامات المبكرة لمرض باركنسون. (القاعدة كانت تنطبق علي الريفيين مثلنا، لا سكان المدن). حاولت أن أمضي في حياة لائقة وخاصة وحصلت علي القبول في معظم الأوقات. لا توجد فتيات أعرفهن كن يذهبن إلي الجامعة، والقليل من الأولاد كانوا يفعلون ذلك. حصلت علي منحة لعامين، ولكن في هذا الوقت كنت قد حصلت علي فتي أراد أن يتزوجني ويأخذني إلي الساحل الغربي؛ بالتالي كان باستطاعتي أن أكتب طوال الوقت. (هذا ما كنت أرغب فيه منذ كنت في بيتنا. كنا فقراء ولكن كانت الكتب دوما حولنا).
س: لقد كتبت الكثير عن نساء شابات يشعرن أنهن محبوسين بداخل الزواج والأمومة، ويبحثن عن شيء آخر في الحياة. أنت أيضا تزوجت في وقت مبكر، وكان لديك ابنتان وأنت في منتصف العشرينيات. ما مدي صعوبة موازنة التزاماتك كزوجة وأم وطموحاتك ككاتبة؟
مونرو: ليست الأعمال المنزلية أو الأطفال هي التي كانت تشدني للأسفل. كنت أقوم بالأعمال المنزلية طوال حياتي. إنها نوع من القاعدة الاعتباطية تتعلق بأن كون النساء تحاولن فعل شيء غريب كالكتابة سيجعلهن غالبا مهملات. لقد وجدت صديقات بالفعل، نساء أخريات يمزحن ويقرأن خلسة وكنا نقضي أوقاتا طيبة. المشكلة هي في الكتابة نفسها، التي عادة ما لا تكون جيدة. أعمل في ظروف تعاقد لم أكن أتوقعها، كان للحظ دور في ذلك، كان ذلك في وقت طُرح فيه سؤال "أين أدبنا الكندي؟" لاحظ بعض الناس نقص العروض التي توجه لي، وساعدوني من ساعتها.
س: "الحياة العزيزة" تتضمن أربع قصص تصفينها علي أنها "ليست قصصا تماما... هي بمثابة سير ذاتية من جهة المشاعر، لا يوجد تفكير، غالبا، أو في الحقيقة فالأمر كذلك كلية" (إحدي القصص "الحياة العزيزة" تدور في نيويورك كمذكرات وليس قصة). هذه القصص تبدو أشبه بالأحلام؛ مجزأة، تسترجع اللحظات غير المذكورة جيدا وغير المفهومة جيدا من طفولتك. هل هي منقولة من مذكرات كنت تكتبينها في هذا الوقت؟
مونرو: أنا لم أحتفظ أبدا بمذكرات. أنا فقط أذكر الكثير لكوني منغمسة ذاتيا أكثر من معظم الأشخاص.
س: تلعب أمك دورا في القصص الأربع. قلت في حوار عام 1994 في باريس ريفيو أنك أمك كانت المادة الرئيسية في حياتك. هل هذا حقيقي؟
مونرو: أمي كما أفترض هي الرمز الرئيسي في حياتي لأن حياتها كانت حزينة جدا وظالمة لها، وقد كانت شجاعة، ولكن أيضا لأنها كانت مصرة علي جعلي فتاة كنيسة تقليدية، هذا الذي قاومت لرفضه منذ كنت في السابعة تقريبا.
س: فوجئت أن أراك تصفين هذا القسم من الكتاب بأنه "الأول والأخير" الذي سيدور حول حياتك. يبدو أن العديد من قصصك استعانت بعناصر من طفولتك وحياة أبويك، مجموعتك المنشورة عام 2006: "منظر كاسل روك" كانت مبنية علي تاريخ عائلتك، أليس كذلك؟
مونرو: لقد استعنت بأجزاء من كل تاريخ حياتي، ولكن الأشياء الأخيرة في الكتاب الجديد كانت كلها حقائق بسيطة. كان من المفترض أن أقول إن "منظر كاسل روك" هي قصة عائلتي بقدر ما استطعت الحكي.
س: لقد اكتشفتِ وأنت تبحثين من أجل الكتاب، أنه كان هناك كاتب في كل جيل من أجيال عائلتك. هل كان لديك إحساس بهذا عندما كنت في طريقك لتصبحي كاتبة، أم كنتِ ترين طموحاتك علي أنها شيء فريد من نوعه؟
مونرو: فوجئت بوجود العديد من الكتاب في العائلة. الأسكتلنديون مهما كانوا فقراء فهم يتعلمون القراءة. الأغنياء والفقراء والرجال والنساء. ولكن بشكل غريب لم يكن لديّ علم بذلك وأنا صغيرة. كان هناك سعي منهم لأتعلم فنون الخياطة (من قبل عماتي وجداتي وليس أمي). وفي مرة صدمتهم وقلت إنني سألقي بكل هذه الأشياء عندما أكبر، ولقد فعلت ذلك.
س: عندما كنت تكتبين في هذه الأيام المبكرة، هل كان هناك كتاب آخرون اعتبرتيهم بشكل واع نموذج لك، كتاب كنت متعلقة بهم؟
مونرو: الكاتبة التي أعجبت بها كانت إيدور ويلتي. وما زلت أحبها، لم أحاول أبدا أن أقلدها. هي جيدة جدا، وتكتب نفسها جدا. كتابها الأروع هو "التفاح الذهبي" علي ما أظن.
س: كيف استقررت علي شكل القصة القصيرة ، أم الشكل هو الذي استقر بادخلك؟
مونرو: لسنوات وسنوات كنت أفكر أن القصص مجرد تدريب، حتي أصل للوقت الذي سأكتب فيه رواية. ثم اكتشفت أن القصة هي كل ما أستطيع فعله، وواجهت الأمر. أظن أن محاولتي لأن أضع الكثير من الأشياء في القصص هي بمثابة عزاء لي.
س: عادة عندما أحرر قصة لك، أحاول حذف فقرة تبدو زائدة عن الحاجة جدا في الصفحة الثالثة، ثم عندما أصل للصفحة 24 أكتشف فجأة أنها كانت أساسية للقصة. نقرأ القصص وكأنك تكتبينها بنفس طويل، ولكني أخمن أنك تقضين وقتا طويلا في التفكير في وضع هذه الفقرة هنا أو هناك.
مونرو: أنا أتجول كثيرا جدا مع القصص، أضع الأشياء هنا وهنا. أصبح واعية عندما أفكر فجأة أن كل هذا يمضي بشكل خاطيء.
س: هل تجدين الكتابة صعبة، وأن هذه القاعدة، وهل تصبح أسهل مع الوقت؟
مونرو: أجد الكتاب صعبة وغير صعبة. البداية تكون لطيفة في المسودة الأولي، ثم التألم عند المراجعة، وإعادة الكتابة وهكذا.
س: قلت مرتين في العقد الماضي أنك ستعتزلين الكتابة. ثم أجد قصصا جديدة لك علي مكتبي. ما الذي يحدث لك عندما تحاولين التوقف؟
مونرو: أتوقف بالفعل، من أجل الرغبة الغريبة في أن أكون "أكثر طبيعية" وأن آخذ الأمور ببساطة. ثم تأيني فكرة مثيرة. هذه المرة أظن أن الكلام عن الاعتزال حقيقي، أنا في الحادية والثمانين، أنسي الأسماء والكلمات كما هو متوقع.
س: علي الرغم من أن القصص في "الحياة العزيزة" فيها انفتاح ونزوع متسامح، فتراكم الندم والاغتراب في حيوات شخصياتك يضفي نهاية مريرة بشكل ما. قليلة هي قصص حيوات النساء الخالية من الفقد أو الحزن. أنا واثقة من أن هذا سؤال مزعج، ولكن هل تعتبرين نفسك كاتبة نسوية؟
مونرو: لم أعتقد أبدا أنني كاتبة نسوية، ولكن بالطبع لن أعرف، أنا لا أظن أن كل الأمور تجتمع معا بهذه الطريقة. أعتقد أنه من الصعب جدا أن تكون رجلا؛ أفكر كيف يمضي الأمر إن كان عليّ أن أحمل هم عائلة خاصة في السنوات الفاشلة الأولي.
س: هل هناك قصة في "الحياة العزيزة" تميلين عاطفيا إليها بشكل خاص؟ واحدة تؤثر فيك بشكل أكبر من القصص الأخري؟
مونرو: بشكل جزئي أميل الي "آموندسين" ، إنها تؤثر فيّ كثيرا. ومشهدي المفضل موجود في قصة "الكبرياء"، عندما بدأ طفل الظربان بالسير علي العشب. في الحقيقة، أنا أحب القصتين جدا، علي الرغم من كوني أعلم أنه ليس من المفترض أن أقول ذلك.
النيويوركر 20 نوفمبر 2012
نهر منستيونغ
ترجمة: أحمد الشيمي
I
أزهار سوسن ودموية،
ونعناع بري،
نجمع ملء الذراعين،
ونرجع جذلين.
تقدمات، ذلك هو اسم الكتاب. كُتِب بحروف ذهبية علي غلاف أزرق غامق. أسفل الحروف نُقش الاسم الثلاثي لمؤلفته: ألميدا جويانت روث. كانت الجريدة المحلية " الفيديت" تنعتها ب شاعرتنا. يبدو أن ثمة مزيجًا من الاحترام والازدراء لمهنتها وجنسها كليهما، أو لما يوحي به الاسم والمهنة من أزمة متوقعة. علي غلاف الكتاب صورة فوتوغرافية، واسم المصور في زاوية، وفي زاوية أخري التاريخ: (1865). نُشر الكتاب فيما بعد عام (1873).
كانت الشاعرة ذات وجه أسيل، وأنف يميل إلي الطول، وعينين بارزتين حزينتين سوداوين، يخيل للناظر إليهما أنهما علي وشك السقوط علي خديها مثل دموع عملاقة. اجتمع بعض من شعرها الأسمر حول وجهها في ضفائر مرسلة، أو ستائر مسدلة، مع وجود خيط من شعر أشيب ظاهر للعيان رغم أنها بدت في تلك الصورة لم تتجاوز الخامسة والعشرين. ليست حسناء ولكنها من ذلك النوع من النساء الذي يعمر طويلا ولا يزداد مع الأيام سمنة. ترتدي فستانًا مزينًا بثنيات ضفيرية من شريط عريض مطرز بحاشية من قماش أبيض، أهداب أو عقد، يؤنس القبٌة عند الرقبة. علي رأسها قبعة مصنوعة، علي ما يبدو، من القطيفة ذات اللون الغامق ليضاهي لون الفستان. القبعة عاطلة من الزينة، لا تبعث علي الإعجاب، أشبه بالبيريه ناعم الملمس مما يجعل الناظر يحس بمقاصد فنية، أو علي الأقل غرابة حيية تشي بطبع حرون لهذه السيدة الشابة ذات الرقبة الطويلة ورأسها المائل للأمام مما يدل علي أنها كانت طويلة القامة ضامرة الجسم تعوزها البراعة. تبدو بدءا من خصرها أشبه بشاب من طبقة النبلاء عاش في قرن سابق، أو لعلها كانت الموضة.
جاء في التصدير لكتابها: " في عام 1854 جاء أبي بنا أمي وأختي كاثرين وأخي وليام وأنا إلي براري كندا الغربية (كما كانت تسمي حينذاك). كان أبي يصنع عدة الحرب للفرس والإنسان. كانت هذه مهنته التي امتهنها، ولكنه كان رجلا مثقفا يحفظ عن ظهر قلب صفحات من الكتاب المقدس، وصفحات من مسرحيات شكسبير، وكتب إدموند بيرك. استطاع أن يحقق نجاحا اقتصاديا بعد وقت قصير من هجرته إلي تلك البلاد الجديدة. أنشأ متجرا كبيراً لبيع السروج والمصنوعات الجلدية. وبعد عام شيد هذا المنزل المريح الذي فيه أقيم الآن ... وحدي. كنت في الرابعة عشرة، أكبر إخوتي، عندما جئنا إلي هذه البلاد من كنغستون، تلك المدينة الجميلة التي لم أعد أري شوارعها الأنيقة، بيد أنها لا تبرح الذاكرة. كانت أختي في الحادية عشرة وأخي في التاسعة. وفي الصيف الثالث من إقامتنا الجديدة مرض أخي وأختي فجأة بحمي كانت منتشرة، وقضيا نحبهما لا يفصلهما إلا أيام قلائل. أما أمي الغالية فلم تستعِد نشاطها وحيويتها بعد تلك الضربة القاصمة لأسرتنا. تدهورت صحتها ووافتها المنية هي الأخري بعد ثلاث سنوات. أصبحت من ثم بمثابة ربة بيت بالنسبة لأبي، وكنت سعيدة أن أساعده في بيته اثنتي عشرة سنة حتي وافاه الأجل فجأة ذات صباح في متجره.
منذ نعومة أظافري وأنا متيمة بقرض الشعر. رحت أشغل نفسي، أو قل أسّكِن آلامي التي فاقت، علي ما أظن، آلام البشر جميعا، بمحاولات متعثرة في نظمه. لم أوت براعة يدوية أستغلها في أشغال الإبرة، وتلك المنتجات الرائعة من أعمال الزخرفة التي يراها المرء هذه الأيام، ذلك الفيض الوافر من سلال الفاكهة والخضراوات التي تزدان برسومات لصبية هولنديين صغار، أو عذاري متقلنسات يقبضن علي كؤوس ملأي بالماء، دليل آخر علي أنها فوق طاقتي. ولذا فإني أقدم، عوضا عن ذلك، ثمار ساعات فراغي، هذه الأبيات، أو قل هذه الزهرات المتواضعات، أو هذه الأغنيات البسيطة، أو الدوبيتات، أو قل هذه التأملات. "
وفي ضمن العناوين التي أعطتها لهذه القصائد: "أطفال في لهوهم" و "سوق الغجر" و "زيارة لأسرتي" و "ملائكة من ثلج" و "قس عند مصب نهر منستيونغ" و "جولة في الغابة القديمة" و "لحن الحديقة". وقصائد أخري عن الطيور والزهور البرية، والعواصف الثلجية، وبعض الأشعار الهزلية عما يجول في خاطر المرء وهو يستمع للمواعظ الكنسية.
"أطفال في لهوهم": الكاتبة طفلة تلهو مع أخيها وأختها. من هذه الألعاب لعبة يتجاذب فيها الأطفال ويتوارون في الأركان، ويحاول بعضهم الإمساك بالآخر. كانت تلعب في ظلمة الشفق المتعاظمة حتي جاء يوم وأدركت أنها أكبر سنا من لداتها. لم تزل تسمع الأصوات الطيفية لأخيها وأختها وهما يناديان عليها: تعالي، هلمي، دع ميدا تأت. (ربما كانت ألميدا تسمي ميدا بين أفراد الأسرة، ولعلها اختصرت اسمها ليوافق مقتضي القصيدة).
"سوق الغجر": كان الغجر يقيمون معسكرهم علي أبواب المدينة. سوق يبيعون فيه القماش وأشياء أخري بسيطة. وكانت الكاتبة وهي طفلة تخشي أن يسرقها هؤلاء الغجر من أسرتها. ولكن الأمور جرت علي النقيض، فقد سرقت أسرتها منها، سرقها غجر لا تعرف مكانهم ولا كيف السبيل إلي مساومتهم.
"زيارة لأسرتي": وهي زيارة للمقابر، والقصيدة حديث إلي النفس.
"ملائكة من ثلج": كانت الكاتبة تٌعلِم أخاها وأختها كيف يرسمون ملائكة بالرقود علي الثلج وتحريك الأذرع لتطبع أشكالا علي الثلج أشبه بالأجنحة. كان أخوها ينهض دائما دون أن يكترث تاركا ملاكاً بجناح واحد. هل سيٌمنح جناحه الناقص في السماء؟ أم سيطير ببدائله؟
" قسيس عند مصب نهر منستيونغ": هذه القصيدة تنوه باعتقاد شعبي بعيد عن الصحة بأن المستكشف أبحر صوب الشاطئ الشرقي لبحيرة هورون، واستقر عند مصب النهر الكبير.
"جولة في الغابة القديمة" : عبارة عن قائمة بكل أنواع الأشجار التي تم قطعها من الغابة الأصلية، أسمائها وصفاتها الشكلية واستخداماتها، مع وصف عام للدببة والذئاب والصقور والغزلان وطير الماء.
"لحن الحديقة": يبدو أنها دليل أو تكملة لقصيدة الغابة ، وتحتوي علي بيان بالنباتات التي جلبت من الأقطار الأوربية مع شذرات من التاريخ والخرافات التي اتصلت بها ، وما استنبت منها من نباتات كندية في النهاية.
القصائد مكتوبة في رباعيات أو دوبيتات. وثمة محاولتان في السونيتة. القافية بسيطة في الغالب أ ب أ ب أو أ ب ج . تستخدم القافية المذكرة أي التي تنتهي بمقطع منبور، وقليلا ما تستخدم القافية المؤنثة أي التي تنتهي بمقطع غير منبور. تري هل تستخدم هذه المصطلحات اليوم؟ لا وجود للشعر غير المقفي.
II
أزهار بيضاء باردة كالثلج
تزدهر حيث يرقد "الملائكة".
هل يكتفين بالرقود تحت الثلج
أم يهمن في ملكوت الله؟
في عام 1879 كانت ألميدا روث لم تزل تعيش في المنزل الذي يقع علي الناصية عند ملتقي شارعي دوفرين وبيرل ، المنزل الذي شيده الأب لأسرته. لم يزل قائما هناك حتي اليوم ، يعيش فيه الآن مدير متجر لبيع الخمور. والبيت مكسو من الخارج بألواح من الألومنتال ، واستبْدل بالشرفة مدخل مسقوف. أما مخزن الخشب والسور والأبواب والمرحاض والزريبة فلم يعد لهم وجود. تظهر هذه الأشياء في مكانها في صورة ترجع إلي ثمانينيات القرن التاسع عشر. يظهر البلي علي البيت والسور حيث يبدو البيت كانه في حاجة إلي طلاء. أو لعل ذلك لشكل الصورة الباهت ذي اللون الضارب إلي السمرة. بدت النوافذ ذات الستائر المصنوعة من شرائط ، أشبه بالعيون البيضاء. لا تري العين أثرا لأشجار الظل. والواقع أن أشجار الدردار الطويلة التي كانت تغمر المدينة بالظلال حتي خمسينيات القرن التاسع عشر، كأشجار الجميز التي تلقي الآن بظلالها القصيرة ، أضحت أشجارا صغيرة ضامرة ضرب حولها سور لم يدفع عنها الأبقار المعتدية. وخارج ذلك الحاجز من الأشجار توجد أفنية خلفية وحبال غسيل وأكوام خشب ومساحات صغيرة من النخيل وحظائر ومراحيض ، كلها مكشوفة عرضة للعوامل الجوية. قليلة هي البيوت التي تهتم بتنمية الزرع حولها. لا تجد إلا مساحات صغيرة من نبات موز الجنة وكثبان النمل والقاذورات المكومة ، وبعضا من نبات البطونيا الذي ينمو في تجاويف جذوع الأشجار المقطوعة. الشارع الرئيس فقط هو المفروش بالحصباء ، أما سائر الشوارع فليست إلا طرقات قذرة موحلة يعلوها التراب حسب الفصول . الأسوار ضربت حول الأفنية لتذود عنها الحيوانات المعتدية. أما الأبقار فقد شد وثاقها بمعاقل في أماكن خالية من العشب ، أو تركت لترعي في الأفنية الخلفية ، بينما تركت الخنازير وكذلك الكلاب حرة مطلقة السراح تنام بكبرياء علي الجسور الخشبية. لقد استقرت المدينة ولن تزول ، بيد أنها لم تزل تأخذ طابع المخيم . ومثل المخيم أصبحت مشغولة طوال الوقت ، تفيض بالناس الذين تراهم يمشون علي أقدامهم أينما وجدتهم ، مليئة بالحيوانات التي تترك مخلفاتها في كل مكان؛ روث الخيل والأبقار وغائط الكلاب مما يدفع السيدات لرفع أرديتهن تجنبا للأذي . أصبحت المدينة تعج بالضوضاء التي تصدر من عمال البناء وسائقي العربات الذين يصيحون بجيادهم ، والقطارات التي تأتي مرات عدة في اليوم .
قرأت وصفا لتلك الحياة في جريدة " الفيديت" المحلية. كان الناس أصغر سنا من اليوم ، وربما مما سيكونون في المستقبل. الذين تعدوا الخمسين لا يهاجرون إلي البلاد الجديدة. كانت القبور تضم عددا قليلا من الناس سيما من الشباب الذين لقوا حتفهم في حوادث، أو من الأطفال الذين قضوا نحبهم بسبب الأمراض المعدية. يشكل الشباب أغلب سكان المدينة، وأما الأطفال والصبية فإنهم يجولون الأرجاء في جماعات أشبه بالعصابات. الذهاب إلي المدرسة كان إجباريا أربعة أشهر في العام. توجد الكثير من الأعمال المؤقتة التي يستطيع الجميع القيام بها حتي الأطفال الذين تعدوا الثامنة أو التاسعة؛ جمع الكتان وربط الخيول وتوصيل البقالة إلي المنازل وتنظيف المعديٌات القائمة أمام المحال التجارية. وكثيرا ما يشغلون الوقت بحثا عن المغامرة. ذات يوم تبعوا سيدة ثملة تدعي كوين آجي. وضعوها علي عربة يد وطافوا بها حول المدينة ثم ألقوا بها في حفرة لإعادتها إلي وعيها. كانوا أيضا يقضون جزءا غير قليل من وقتهم حول محطة السكة الحديد، يقفزون فوق العربات الواقفة، ويندفعون بينها، ويراهنون علي المخاطرة مما كان ينتهي بهم أحيانا إلي العجز أو الموت. كانوا يراقبون الغرباء القادمين إلي المدينة. يتبعونهم ويعرضون عليهم حمل حقائبهم وإرشادهم إلي الفندق لقاء خمس سنتات للحقيبة الواحدة. أما الذين لا يبدو عليهم يسر العيش فكانوا عرضة للمهانة والمضايقة، يحتشد حولهم الصبية مثل أسراب الذباب، ويمطرونهم بالأسئلة أينما ذهبوا. هل جاءوا للبدء في مشاريع جديدة؟ أم لإغراء الناس بالاستثمار في مشاريع بعينها ؟ أم لبيع الأدوية أو تلك الصناعات الجديدة؟ أم للوعظ في أركان المدينة ؟ كان ذلك يحدث طوال أيام الأسبوع . وتنصح الفيديت الناس أن يأخذوا حذرهم هذه الأيام من الانتهازيين والسراق والمومسات والمحتالين والباعة الجائلين والمحامين المشبوهين واللصوص الذين تقابلهم في الطرقات ولاسيما عند السكة الحديد. كانت صفحاتها تتضمن إعلانات عن سرقات تمت ، وأموال أعطيت بقصد الاستثمار ولم ترجع لأصحابها، وبنطلونات سرقت من فوق حبال الغسيل ، وأكوام خشب نقصت ، وبيض دجاج اختفي من حظائر دواجن. تكثر هذه الأفعال في الطقس الحار.
الطقس الحار مجلبة للحوادث أيضا. يزداد عدد الخيول الجامحة التي تقلب العربات وتهيج دون رادع. أيد تدهمها آلات الغسيل ، ورجل يقطعه نصفين أحد ألواح الخشب سقط عليه في مخزن الخشب. النوم العميق صعب المنال ، الرضع يذبلون بسبب أمراض الصيف. وأصحاب الأجسام اللحيمة لا يقدرون علي التقاط أنفاسهم. الموتي يدفنون علي عجل. وذات يوم هام أحد الناس في الشوارع وهو يضرب علي جرس بقرة ويصيح : التوبة ! التوبة ! لم يكن من الغرباء هذه المرة، كان شابا يعمل عند قصاب. أخذوه إلي منزله ولفوه في قماش بارد مبتل وأعطوه بعض المهدئات ، ومنعوه من الخروج ، وصلوا من أجله ، وعندما لم يبرأ وضعوه في البيمارستان.
يقع منزل ألميدا روث علي ناصية شارع دوفرين ، وهو شارع معروف محترم. في هذا الشارع تقع بيوت التجار وبيت صاحب الطاحونة وبيت صاحب مصنع الملح. وأما شارع بيرل الذي تشرف عليه نوافذ بيتها وأبوابه الخلفية فحكاية أخري. هناك تجاورها بيوت العمال، صف طويل من البيوت الصغيرة ولكن المحترمة. إلي الآن والأمور مقبولة. ولكن الأمور تسوء عند نهاية ذلك الصف من البيوت المتلاصقة، وتزداد سوءا في الصف الثاني. لا يسكن هناك غير الفقراء وسيئي السمعة. كانوا يعيشون هناك علي حافة مستنقع يسمي مستنقع شارع بيرل، تم ردمه في ذلك الوقت. هناك تنمو الأشجار الكثيفة والنباتات الضارة. هناك أقيمت الأكواخ المؤقتة. هناك أيضا تجد أكوام القمامة والأنقاض وأعدادا غفيرة من أطفال أشبه بالأقزام. هناك يدلق الناس الماء القذر أمام البيوت. أجبرت البلدية الناس علي بناء المراحيض، ولكنهم ما لبثوا أن ذهبوا لقضاء حاجتهم في الأدغال القريبة. فئات من الصبية يذهبون إلي هناك بحثا عن مغامرة ويعودون بأكثر مما كانوا يرجون. ويقال إنه حتي مدير شرطة المدينة لم يكن يجرؤ علي النزول إلي شارع بيرل في ليلة الأحد. لم يحدث أن مشت ألميدا أمام تلك البيوت. في أحد هذه البيوت تعيش الفتاة الشابة آني التي تساعد ألميدا في تنظيف المنزل. هذه الفتاة الصغيرة نفسها لم يحدث أن ذهبت إلي المستنقع. فالسيدة المهذبة لا يجب أن تذهب إلي هناك.
ولكن هذا المستنقع ، وهو يقع إلي الشرق من منزل ألميدا روث ، يعد منظرا جميلا وقت الفجر. تنام ألميدا في الجهة الخلفية من البيت. لم تبرح حجرة نومها القديمة التي كانت تشارك فيها أختها كاثرين. لا تفكر في الانتقال إلي حجرة النوم الأمامية الأوسع ، حيث كانت أمها تنام طيلة اليوم ، وأصبحت فيما بعد مختلي أبيها حتي وفاته. من خلال أحد نوافذها كانت تري الشمس مشرقة تغمر ضباب المستنقع الخفيف بالضياء الكثيف، وتتأمل الشجيرات القريبة تطفو أمام الضباب والأشجار الخلفية وهي ترتد شفافة بيضاء. أشجار البلوط في المستنقع وأشجار الجميز والطمراق والجوز المر.
III
هنا حيث يلقي النهر البحر الداخل،
تنشر تنورتها الزرقاء من الخشب المهيب،
أفكر في الطير والحيوان والذين ووروا التراب،
أطلالهم علي الرمال الشاحبة لم تزل قائمة.
أحد الغرباء الذين وصلوا إلي محطة السكة الحديد منذ بضع سنوات كان جارفيز بولتر الذي يشغل المنزل المجاور لمنزل ألميدا روث ذ يفصله عنه قطعة أرض فضاء تطل علي شارع دوفرين، اشتراها جارفيز فيما بعد. كان البيت أقل زخرفة من منزل روث، لا تحيط به أشجار الفاكهة أو الزهور. وذلك ، كما كان الظن؛ لأن بولتر كان عزبا ماتت عنه زوجته ويعيش بمفرده. في وسعه أن يحفظ بيته نظيفا ولكنه لا يهتم بزخرفته خاصة إذا كان هو نفسه حسن الهيئة متأنقا في ملبسه. ولكن الزواج من شأنه أن يحمله علي العناية بزخرفة البيت وبالجانب العاطفي من حياته كذلك، ويحميه أيضا من شطط الغريزة ومن البخل والكسل والفساد والنوم الزائد وإدمان الشراب والتدخين وحتي من التجديف في الدين.
في الشأن الاقتصادي، يظن أن وجيها جليلا من مدينتنا يواظب علي أخذ المياه من حنفية المدينة العامة، ويكمل مؤو نته من الوقود بجمع الفحم السائب من فوق خط السكة الحديد. تري هل ينوي دفع حق البلدية وهيئة السكة الحديد بكميات مجانية من الملح ؟
كتبت ذلك "الفيديت،" جريا علي عادتها في الدعابة الحذرة والتعريض المستتر، أو حتي الاتهام الصريح، وعلي نحو لا تستطيعه جرائد اليوم دون الإفلات من عقوبة. إنهم يتعرضون لجارفيز بولتر بطبيعة الحال، بيد أنهم يتناولونه في مواضع أخري باحترام شديد بوصفه محاميا مدنيا، وصاحب عمل، وعضوا في مجلس الكنيسة. رجل كتوم غريب الأطوار إلي حد ما. لعل ذلك بسبب حالة العزوبة التي يعيشها، فقد ماتت عنه زوجته ويعيش وحيدا الآن؛ حتي جلبه الماء من حنفية البلدة العامة و ملء جواله بالفحم السائب علي قضبان السكة الحديد كان بسبب وحدته. ولكنه مواطن مهذب ثري متقدم البطن قليلا يرتدي بذلة غامقة وحذاءا نظيفا، تزين وجهه لحية غزيرة، ويشيع برأسه شعر أسود يشوبه خط أشيب نحيل وثؤلول شاحب ظاهر في الشعر الكث وسط أحد حاجبيه. متجهم الوجه واثق النفس. يتحدث الناس عن زوجة شابة حسناء ماتت في أثناء ولادة طفلها، أو بسبب حادثة مأساوية كاندلاع حريق في المنزل، أو حادثة قطار. ولا يوجد دليل علي ذلك كله، إلا أنه كان سببا في إثارة محببة. كل ما قاله إن زوجته متوفاة.
جاء إلي هذا المكان بحثا عن البترول. لقد تم حفر أول بئر بترول في العالم في مقاطعة لامبتون، جنوب هذه المدينة في خمسينيات القرن التاسع عشر. وأثناء الحفر اكتشف جارفيز بولتر الملح وراح يعمل بجد ليستفيد أقصي درجات الاستفادة. في إيابه من الكنيسة مع ألميدا روث كان يحكي لها عن آبار الملح التي يمتلكها. يقول إنها علي مسافة اثني عشر قدما تحت الأرض. "نقوم بضخ الماء الساخن إلي الملح كي يذوب، ثم نرفع المحلول الملحي إلي السطح ونصبه في أوعية ضخمة علي أجهزة تبخير مثبتة علي نيران هادئة حتي يتبخر الماء ويترسب الملح الصافي النقي. إنها سلعة لا يستغني عنها أحد."
"ملح الأرض" تقول ألميدا .
"نعم" يقول جارفيز وهو يقطب جبينه. قد يظن أنها تحط من قدره. ولكنها لا تقصد ذلك البتة. يحكي لها أيضا عن المنافسين في مدن أخري من الذين حذوا حذوه ، ويسعون لاحتكار السوق. ولحسن الحظ فإن آبارهم لم تحفر بالعمق المطلوب، وحتي أجهزة التبخير لديهم لا تعمل بالطريقة الفاعلة. الأرض تحتضن الكثير من الملح في باطنها، ولكن ليس من السهل استخراجه كما يظن بعض الناس.
تقول ألميدا: ألا يعني أنه كان ثمة بحرٌ هائل في باطن الأرض؟
ويقول جارفيز: "جائز جدا، جائز جدا." وراح يحكي لها عن مشاريعه الأخري: مصنع طوب وفرن لحرق الحجر. ويشرح لها كيف أن هذه المشاريع تدر أرباحا طائلة، وأين يوجد الطين الجيد. جارفيز يمتلك مزرعتين بهما مساحات من الأشجار الخشبية التي توفر الوقود لهذه المشاريع .
من بين الذين يتمشون قادمين من الكنيسة صباح أيام الآحاد المشمسة، رصدنا ثنائيا: وجيه (ملحي) و سيدة (أديبة) ، ربما تجاوزا سن الشباب الأول ودلفا الآن إلي مرحلة الكهولة. فهل لنا أن نحدس؟
مثل هذه القفشات تظهر في جريدة "الفيديت" المحلية في كل الأوقات.
هل يحدسون؟ وهل ينطوي مسلك جارفيز علي تودد للسيدة؟
ألميدا روث تمتلك مبلغا قليلا من المال ورثته عن أبيها، ولديها بيتها. ليست بالطاعنة في السن، وفي وسعها أن تنجب طفلا أو طفلين. وهي ربة بيت جيدة، ولها غرام بعمل الحلوي الجليدية ، والتورتة المزخرفة. وهو غرام نشهده غالبا عند الآنسات ذوات الخبرة. جمالها لا تشوبه شائبة، وهيئتها حسنة لا تتوافر للكثيرات ممن في سنها من المتزوجات. فلم يرهق كاهلها تربية أولاد أو عناية بزوج. ولكن لماذا تجاهلت يفاعتها الأولي وضربت صفحا عن الزواج في بلد يستغرب فيه الناس امرأة دون شريك وأولاد. كانت فتاة تميل للتشاؤم. ربما كانت هذه هي المشكلة: موت أخيها وأختها ثم أمها التي فقدت عقلها قبل عام من وفاتها ، وكانت تنام علي سريرها وتهذي بما لا تعرف. كل ذلك كان ثقيل الوطأة علي نفسها، وتركها شخصا صعب العشرة. وهل كان غرامها بالقراءة وقرض الشهر إلا دليلا علي حاجتها وهي شابة، وليس عندما اكتهلت، إلي شيء تملأ به فراغها وتؤنس به وحدتها؟ لقد مضت خمس سنوات علي نشر كتابها. وربما شجعها أبوها المتفاخر المولع بالكتب.
يعتقد الناس أن ألميدا روث تفكر في جارفيز بولتر بعلا لها، وأنها ستوافق إذا طلب يدها. هي تفكر فيه بالفعل. ولكنها لا تريد أن تشتط في الآمال وتخدع نفسها. كانت تنتظر إشارة منه. فلو كان يذهب إلي الكنيسة في ليالي الآحاد لكانت فرصة لمرافقته هذه المسافة إلي البيت في جنح الظلام . يحمل هو الفانوس ( لم تكن الشوارع مضاءة في ذلك الوقت) ليضئ الطريق عند أقدام الآنسة ويلقي نظرة علي قدميها الهزيلتين الرقيقتين. وقد يمسك يدها ليعينها علي عبور المعدية الخشبية. ولكنه لم يكن يذهب إلي الكنيسة ليلا. و لم يكن يعرج عليها أو يصحبها إلي الكنيسة صباح الآحاد. فمن شان ذلك أن يكون إعلانا. قد يسير معها وهي في طريقها إلي البيت وعندما تصل إلي باب بيتها يرفع قبعته وينكفئ راجعا. لا تدعوه للدخول، فسيدة تعيش وحدها لا يمكنها أن تفعل ذلك. فما يخلو رجل بامرأة، من أي سن، داخل جدران أربعة حتي يحدث المحظور: الاهتياج الفوري والهجوم العاطفي والشهوة الحيوانية والزنا وانتصار الحواس. تري ما هي الشواهد التي يراها الرجال والنساء كل في الآخر حتي يخشوا هذه المخاطر؟
عندما تمشي بجواره كانت تشم رائحة صابون الحلاقة والزيت الذي استخدمه الحلاق، ودخان غليونه ورائحة الصوف والكتان والجلد في ملابسه الرجالية. الملابس المضبوطة المرتبة. كانت ملابسه ثقيلة أشبه بملابس أبيها التي كانت تنظفها بالفرشاة والنشادر. تاقت لمهنة الأمومة تقدير الأب وسلطته الغامضة الحنون. إن ثياب جارفيز بولتر ورائحته وحركته تجعل الجانب المجاور له من جسدها يستشعر وخز الأمل، ويسبب لها رعشة تسري في جسدها وتستثير الشعيرات الخفيفة علي ذراعيها. هل هو الحب؟ إنها تحلم به داخلا حجرة نومها (أو حجرة نومهما) في ملابسه الداخلية الطويلة وقبعته. إنها تعلم أن هذه الملابس مثيرة للسخرية. ولكنها في الخيال لا تبدو كذلك ، ويكون لديه جرأة رجل في الحلم. يدخل حجرتها ويرقد علي الفراش بجوارها ويهم بأخذها بين ذراعيه. يخلع قبعته بثقة ، و تأخذها في تلك اللحظة نوبة من الإذعان له والتوق الغامر، و يصبح زوجها.
شئ واحد لاحظته علي النسوة المتزوجات: كيف أن الكثيرات منهن يعمدن لرسم صورة ما لأزواجهن. يبدأن بأن ينسبن إليهم الأشياء المفضلة لديهم ثم الآراء والأساليب السلطوية. تقول الواحدة منهن مثلا: نعم ، زوجي أنيق جدا ويدقق في كل شئ. لا يلمس اللفت ولا يحب اللحم المقلي (أو يحب اللحم المقلي). يحبني أن أرتدي الأحمر (أو اللبني) طوال الوقت. لا يطيق صوت الأرغن ، ولا يحب أن يري امرأة عارية الرأس. يقتلني لو رآني آخذ نفسا من سيجارة. بهذه الطريقة يتحول الرجال ضعاف الشخصية إلي أزواج، أصحاب بيوت . ألميدا روث لا تتخيل نفسها تفعل ذلك. تريد رجلا لا يحتاج إلي من يصنعه من جديد، واثق من نفسه وصاحب رأي ومكتنف بالأسرار. إنها لا تبحث عن مجرد رفيق. الرجال في رأيها ذ فيما عدا أباها ذ مفتقرون للحياة، غافلون. وتري أن هذه صفات لابد منها في الرجال حتي يفعلوا ما يجب أن يفعلوا. فهل كانت ذ لو عرفت أن الأرض تختزن الملح في باطنها ذ تسعي لاستخراجه وبيعه؟ أبدا. كانت ستفكر في البحر القديم. وهو نوع من التأمل لا يجد جارفيز بولتر وقتا له بأي حال .
بدلا من المرور عليها في بيتها واصطحابها إلي الكنيسة فقد يأتي جارفيز بولتر بمغامرة أوقع. يستأجر حصانا ويأخذها خلفه في نزهة ريفية. عندئذ ستكون سعيدة وحزينة في الوقت نفسه. سعيدة لأنها بجواره، يأخذ بزمامها، وتلقي هذا الاهتمام منه أمام الناس جميعا. وحزينة لأن الريف انتقل إليها. وصفه لها بحديثه واهتمامه. الريف الذي صورته في قصائدها لا تريده أن يصدر من رؤيته ووصفه. بعض الأشياء تصرف عنها النظر: أكوام السماد ومساحات المستنقعات المليئة بجذوع الأشجار المحروقة، والأكوام الضخمة من الأغصان المقطوعة في انتظار اليوم المناسب لإحراقها. النهيرات المتعرجة التي تم تقويمها وتحولت إلي قنوات صغيرة للري بضفاف موحلة كئيبة. وأخري ضربت حولها السياج ذات القضبان المتشابكة. الأشجار أعيد غرسها في المساحات المخصصة لزراعة الخشب ، وأشجار الغابة كلها قصيرة جديدة. ولا يوجد علي جوانب الطرق أو الحارات أو حول المزارع شيء خلا القليل من الغرس الحديث كثير الأغصان غض الأوراق. توجد أعداد كبيرة من مخازن الخشب ذ مخازن الخشب الكبري التي ستغمر الريف خلال مائة السنة التالية كانت في بداية الإنشاء. ومخازن الخشب ذات المنظر المزعج. وكل أربعة أو خمسة أميال توجد قرية صغيرة بها كنيسة ومدرسة ومتجر ومحل حدادة. ريف صرف منبت الصلة عن الغابة ولكنه عامر بالناس. كل مائة فدان مزرعة وكل مزرعة بها أسرة وكل أسرة بها عشرة أو اثنا عشر طفلا. ذلك هو الريف الذي سيرسل بموجة بعد موجة من المستوطنين إلي المدينة، وبدأ يرسلهم فعلا إلي أونتيريو الشمالية والغرب. والحق أنك تستطيع أن تجمع الزهور البرية في الربيع من مساحات الأشجار الخشبية، ولكن عليك أن تسير بين قطعان من الأبقار ذوات قرون طويلة لكي تصل إليها.
IV
لقد رحل الغجر.
أرض مخيمهم أصبحت خاوية.
فهل لي أن أساوم بجرأة الآن
في سوق الغجر؟
تعاني ألميدا روث كثيرا من السهاد. وصف لها الطبيب دواء البروميد وعلاجا للأعصاب. ولكن قطرات البروميد توقظ أحلامها المزدحمة بالصور المزعجة. لذا ادخرت الزجاجة للطوارئ. قالت للطبيب إنها تحس بمقلتيها صلبتين كزجاج ساخن ، وتحس بألم في مفاصلها. قال لها: قللي من القراءة والدرس، علاجك هو الانغماس في أعمال المنزل وممارسة بعض التمرينات الرياضية. إنه يعتقد أن مشاكلها ستزول إذا تزوجت. يعتقد ذلك رغم أن جل وصفاته لعلاج الأعصاب تذهب للمتزوجات. ولذا فإن ألميدا تعتني ببيتها ، وتساعد في نظافة الكنيسة، وتمد يد العون لصديقاتها اللاتي يغطين جدران منازلهن بأوراق الحائط أو يستعددن للزواج ، وتعد إحدي كعكاتها المشهورة لأطفال المدرسة في نزهة الأحد. وفي يوم سبت حار من أيام أغسطس تقرر عمل حلوي العنب؛ عدة قوارير صغيرة من حلوي العنب تنفع هدايا قيمة في عيد الميلاد، أو حتي إعانات للمرضي. ولكنها بدأت في وقت متأخر من النها، والحلوي لا تنضج إذا حل الظلام. وضعت العصير الساخن في كيس قماش الجبن لتصفيته. وتناولت ألميدا كأسا من الشاي مع شريحة من الكعك بالزبد الذي كانت تحبه منذ الطفولة ، وهو كل طعامها للعشاء. ثم تأخذ حماما سريعا استعدادا ليوم الأحد. تلف ملاءة حول خصرها وتترك النافذة مفتوحة وترقد علي السرير دون أن تشعل المصباح. وتحس بتعب شديد. وتحس بنسيم خفيف يداعب الحجرة. وتحس بشجار خفيف.
ولم تلبث أن تستيقظ. وعندما تستيقظ تحس بالليل متقدا بالحر منذرا بالخطر. وترقد من جديد وجسدها ينز عرقا. تحس أن الصخب الذي تسمعه يعمل في جسدها عمل السكاكين والمناشير والفؤوس ، كل تلك الأدوات تقطع وتحز وتثقب في رأسها. ولكن الأمر لم يكن كذلك. عندما تكتمل يقظتها تبدأ في التعرف علي مصدر تلك الأصوات التي سمعتها أو التي كانت تسمعها، أصوات الشجار في ليالي الأحد الصيفية في شارع بيرل. عادة ما يصدر الصخب من قتال حقيقي بين السكاري. تسمع احتجاجا وصياحا. تسمع من يهتف: جريمة قتل! جريمة قتل! حدثت جريمة قتل ذات يوم. ولكنها لم تكن نتيجة شجار. عثر علي جثة عجوز في بيته أردي طعناً. ربما كان السبب بضع دولارات كان يخفيها تحت المرتبة.
وتنهض من فراشها وتذهب إلي المطبخ. كانت سماء الليل صافية غاب عنها القمر وسطعت النجوم. بيغاسوس يطل برأسه علي المستنقع. علمها أبوها كيف تحصي النجوم في تلك المجموعة. وبشكل تلقائي راحت تحصيها. تستطيع أذناها الآن أن تميز بعض الأصوات: إضافات جديدة للمشاجرة. بعض الناس، مثلها، استيقظ من نومه. تسمع من يصرخ: "اخرس! كفوا عن هذا الشجار وإلا نزلت وأشبعتكم ضربا علي مؤخراتكم يا أولاد ال .... ".
ولكن أحدا لم يتوقف. وكأن كرة من النار تتدحرج في شارع بيرل تقذف الشرر في طريقها ، النار هي الجلبة والصراخ والضحك والسباب ، والشرر هو الأصوات التي تنطلق نشازا وحيدة. صوتان يتميزان عن باقي الأصوات حتي الآن ويصدران صياحا أشبه بالنباح، وينخفض شيئا فشيئا ويتحول إلي ارتعاش متواصل. ثم تيار من السباب يحمل كل الألفاظ التي تربط ألميدا بينها وبين الخطر والحرمان والرائحة الكريهة والمناظر المقززة. شخص ما ينهالون عليه ضربا ويصيح: "اقتلوني! اقتلوني الآن!" إنهم يضربون امرأة وهي تصرخ: "اقتلني! اقتلني!" ويظهر جانب من فمها مترعا بالدم رغم ما في صوتها من نبرة استخفاف وانتصار. شيء من التصنع في صوتها. الناس حولهم ينادون: "كفي! كفي!" ومنهم من يصيح: "اقتلها! اقتلها!" يصيحون في جنون وكأنهم علي خشبة مسرح، أو يشاهدون مباراة مصارعة أو ملاكمة محترفين. أجل، تقول ألميدا في سرها، رأيت ذلك من قبل. لعلها تمثيلية، أو لون كئيب من محاكاة ساخرة مبالغ فيها. وكأن ما يفعله هؤلاء القوم ، حتي جرائم القتل ، لا يؤمنون به، ولا يطيقون وقفه في الوقت نفسه.
الآن تسمع صوت شئ يلقي علي الأرض ، مقعد أو لوح خشبي أو صوت كومة من الخشب أو جزء من سور ينهار وكم آخر من الأصوات مباغتة جديدة. صوت جريء، أناس يفرون من الطريق، أصبح الهرج قاب قوسين أو أدني. هذه هي المرأة. كانت تمسك بشيء مثل عصا خشبية أو لوح من الخشب. وتديرها وتدفعها نحو شخص آخر لامرئي يجري خلفها. وتهتف الأصوات: "آه، أسرع، الحق بها! الحق بها واضربها يا رجل!" أناس يقعون علي الأرض الآن. شخص يمسك بتلابيب الآخر، ثم يتباعدان ويسقطان علي سور ألميدا. يصبح الصوت الذي يأتي منها غامضا مشوشا كأنه يصدر من فم مكعوم، ثم صوت تقيؤ ونخير وضرب شديد. يتبع ذلك صوت طويل مرتجف مذبذب، صوت ألم مخنوق ونفس مذلولة أو روح مغادرة.
تركت ألميدا النافذة وجلست علي سريرها. تقدح زناد فكرها. أليست هذه الأصوات التي سمعتها جريمة قتل؟ ماذا يجري؟ ماذا يجب أن تفعل؟ يجب أن تشعل مصباحا. يجب أن تترك الدرج وتشعل مصباحا. لابد أن تخرج إلي الفناء. الفانوس. تلقي بجسدها علي الفراش. تضع وسادة علي وجهها. في لحظات. الدرج. المصباح. تري نفسها هناك. في الصالة الخلفية. تحكم رتاج الباب الخلفي. تصبح فريسة لنوم لا يقاوم.
وتستيقظ مروعة مع أول أضواء الصباح. تري غرابا كبيرا يجثم علي عتبة نافذتها يتحدث في نبرة مستنكرة وبطريقة غير مستغربة، عن أحداث الليلة المنصرمة. يقول لها مؤنبا: "استيقظي وحركي عربة اليد." وتفهم أنه يقصد شيئا آخر بعربة اليد. شيئا بغيضا مجلبة لكرب عظيم. وتستيقظ بالفعل وتعلم أنه لا وجود للطائر. وتنهض علي الفور، وتنظر من النافذة . وتلاحظ شيئا يستند إلي سور بيتها. شخصا ضخما. جثة.
عربة يد
وتضع مئزرها فوق قميص النوم وتنزل الدرج. الحجرات الأمامية لم تزل مظلمة. الستارة مسدلة في المطبخ. شئ ما يتحرك محدثا صوتا كصوت شئ يغوص في الماء علي مهل، يذكرها بحديث الغراب. إنه عصير العنب يصفٌي أثناء الليل. تسحب المزلاج ، وتخرج من الباب الخلفي. العناكب نسجت شباكها علي المداخل في جنح الظلام. الزهور تخفض رؤوسها مثقلة بالندي ، وبجوار السور تغرق في زهور الخطمي المتشابكة وتنظر تحت رجليها وتري.
جثة امرأة مكومة هناك، نائمة علي جنبها ووجهها منكفئ علي الأرض. لا تستطيع ألميدا أن تري وجهها. ولكن هناك ثديين عاريين متدليين، وحلمة سمراء مشدودة مثل حلمة بقرة، وساقا عارية وردفاً به أثر كدمة في حجم قرص دوار الشمس. أما الجلد الذي خلا من آثار الكدمات فلونه ضارب إلي الرمادي، أشبه بلون نقارة الطبل. ترتدي ثياب نوم، أو ثيابا لكل الأغراض و تفوح منها رائحة قيء وبول وشراب.
وتعدو ألميدا في قميص نومها ومئزرها الرقيق. تجتاز الفيراندا وأشجار التفاح، وتفتح الباب الأمامي وتسرع خلال شارع دوفرين إلي منزل جارفيز بولتر، أقرب المنازل إليها. تضرب الباب بكف يدها عدة مرات.
وعندما يظهر جارفيز في النهاية تقول له:
جثة سيدة.
كان في بنطاله الداكن المشدود بحمالتين، وقميصه المزرر نصفه ووجهه غير الحليق وشعره المنكوش.
سيد بولتر، سامحني . هناك جثة سيدة أمام بوابتي الخلفية.
ويحدجها بنظرة عنيفة وهو يقول :
ميتة؟
أنفاسه رطبة. وجهه متجعد. عيناه محتقنتان بالدم. وتجيب ألميدا:
نعم. أظن أنها ماتت مقتولة.
تلمح جزءا من الصالة الأمامية الكئيبة. قبعته معلقة علي مقعد. ثم تضيف وهي تجتهد لتجعل صوتها خفيضا مفهوما:
استيقظت في الليل علي أصوات لغط وجلبة في شارع بيرل. سمعت اثنين. رجلا وسيدة يتشاجران.
ويلتقط قبعته ويضعها علي رأسه. ويغلق الباب الأمامي، ويضع المفتاح في جيبه، ويسيران علي الممشي الخشبي وتلاحظ أنها حافية القدمين. وينتابها إحساس بأن هناك من سيلقي عليها ببعض المسؤولية. كان يمكن أن تخرج بفانوس. كان يمكن أن تصرخ، ولكن من كان في حاجة إلي مزيد من الصراخ؟ كان يمكن أن تضرب الرجل علي رأسه. كان يمكن أن تسرع في طلب النجدة، ساعتها وليس الآن. ويتجهان إلي شارع بيرل بدلا من دخول فناء روث. كانت الجثة بطبيعة الحال منكفئة علي وجهها شبه عارية كما رأتها في البداية.
جارفيز بولتر لا يسرع ولا يتردد. يتجه إلي الجثة مباشرة. ويمعن فيها النظر، ويمس الساق بمقدم حذائه مثلما تمس كلبا أو خنزيرا. يكزها مرة أخري وهو ينادي في جرأة ودون أن يرفع صوته: أنت.
وألميدا تحس بطعم الصفراء في أسفل حلقها.
"حية!" يقول جارفيز بولتر. وتؤكد المرأة استنتاجه. إنها تتحرك حركة خفيفة. ويصدر منها شخير واهن.
تقول ألميدا: سأحضر الطبيب. ولو أنها لمست المرأة، لو أنها وجدت الجرأة علي لمسها، لما قالت ذلك.
قال جارفيز بولتر: انتظري، لنري إذا ما كان يمكن أن تنهض .
وهتف بالمرأة: قومي الآن، هلمي! انهضي الآن!
ويحدث شيء مذهل. الجثة تقوم علي أربع. ترفع الرأس أولا. الشعر كله ملطخ بالدم والقيء، وتبدأ المرأة في ضرب رأسها بعنف علي أوتاد سور ألميدا، ويخرج صوتها أثناء ذلك، ويصدر منها صراخ ملء الفم مثل العواء. صراخ قوي يشي بشيء من بهجة مكروبة.
ويقول جارفيز بولتر: أبعد ما تكون عن الموت. لا تحتاج حتي لطبيب.
وتقول ألميدا حين رفعت المرأة رأسها الملطخ:
يوجد دم!
ويقول :
الدم من فمها وليس جديدا.
ويقترب منها ويمسك شعرها البشع الغريب، ويجذبها بقوة ليمنعها من ضرب نفسها في الجدار وهو يقول :
- كفي عن هذا الآن، كفي. اذهبي لبيتك. اذهبي لبيتك الآن! من أين أنت؟
ويتوقف الصوت القادم من فم المرأة. ويهز رأسها برفق محذراً إياها قبل أن يترك شعرها.
اذهبي إلي بيتك الآن!
وبعد أن يتركها تندفع المرأة للأمام بشدة. وتنهض علي قدميها، وتشير وتترنح وتتعثر في مشيها في الشارع ، وتصدر منها أصوات احتجاج متقطعة حذرة. ويتبعها جارفيز بولتر بنظراته برهة ليتأكد من أنها في طريقها إلي بيتها. ثم يجد ورقة أرقطيون يمسح بها يده ويقول :
ها هي جثتك تسير علي قدمين!
كان الباب الخلفي مغلقا. اتجه إلي الباب الأمامي الذي يظل مفتوحا. ما زالت ألميدا تحس بالتعب. بطنها منتفخ وحرارتها مرتفعة وتحس بدوخة.
تقو ل بصوت ضعيف :
الباب الأمامي مغلق. لقد خرجت من المطبخ.
لو تركها الآن لشأنها لذهبت إلي الحمام مباشرة. ولكنه يتبعها حتي الباب الخلفي والصالة. يتحدث إليها بلهجة قاسية لم تعرفها منه من قبل. يقول:
لم يكن هناك داع لكل هذا القلق. هذه المرأة كانت ثملة. سيدة بنت ناس لا ينبغي أن تعيش بمفردها وسط جيران كهؤلاء.
ويمسك بذراعها فوق المرفق بقليل. ولا تستطيع أن تفتح فمها لتكلمه، لتشكره. فلو فتحت فمها لتقيأت.
ما يحس به جارفيز بولتر نحو ألميدا في تلك اللحظة هو ما لم يحس به في السابق خلال التمشيات الحذرة وخلال جميع حساباته في عزلته. قيمتها التي لا خلاف عليها، و جدارتها بالاحترام لا شك فيها، وجمالها مقبول. لم يتخيلها زوجة من قبل كما يتخيلها الآن. أثاره شعرها المرسل الذي شاب قبل الأوان، ولكنه كثيف ناعم علي أية حال. وجهها مخضب بحمرة خجل غامضة. ثيابها الخفيفة التي لم يكن ينبغي أن يراها بها أحد غير زوجها. طيشها و تسرعها وطيبتها ... وحاجتها ؟ يقول لها:
سأزورك فيما بعد. سأذهب معك إلي الكنيسة.
عند ملتقي شارع بيرل بدوفرين صباح الأحد الفائت عثرت سيدة من سكان الحي علي جثة امرأة من قاطني شارع بيرل ظنت أنها ميتة. ولم تكن، كما تبين فيما بعد، إلا ثملة. ولم تستيقظ من نعيمها ذ أو قل سباتها ذ إلا بجهد السيد بولتر الحثيث وهو من قاطني الشارع ، ومحام مدني معروف كانت السيدة قد استدعته. ذلك النوع من الحوادث غير اللائق والمزعج والشائن لمدينتنا أصبح في الآونة الأخيرة كثير الوقوع .
V
أجلس في أعماق النوم،
وكأني في قعر البحر.
وأناس من سكان القاع
تحييني بكرم زائد.

وما ذهب جارفيز بولتر وسمعت باب بيتها الأمامي يوصد حتي هرعت ألميدا إلي الحمام. ولكنها لم ترتح تماما. وتدرك أن تراكم دم الحيض الذي لم يبدأ في التدفق هو السبب في انتفاخ بطنها والألم الذي تحس به. وتغلق الباب الخلفي بالقفل. ثم، وهي تتذكر كلمات جارفيز بولتر عن الذهاب إلي الكنيسة، تترك له ورقة كتبت عليها: لست علي ما يرام ، وأرغب في الراحة اليوم. وتثبت الورقة في الإطار الخارجي للنافذة الصغيرة للباب الأمامي. وتغلق الباب بالقفل أيضا. إنها ترتعش وكأنها تعاني من صدمة عصبية أو خطر داهم. ولكنها تشعل النار لتصنع لنفسها كوبا من الشاي . تغلي الماء وتضع أوراق الشاي في الإبريق الكبير. بخار الشاي ورائحته يزيدان مرضها. وتصب كوبا من الشاي الباهت لتشربه دون أن ترفع ستارة المطبخ. هناك علي الأرض كان كيس الجبن ما زال معلقا بين ظهري المقعدين. وعصير العنب قد صبغ القماش المنتفخ بلون الورد الداكن. ألقت به في الحوض. لا تستطيع أن تجلس وتنتظر شيئا كهذا. وتشرب كأسها. وتضع البراد وزجاجة الدواء في حجرة السفرة.
ولم تزل هناك حتي سمعت وقع حوافر الخيل الذاهبة إلي الكنيسة مثيرة سحابات من التراب تسخن تراب الطريق فيصبح مثل تراب البراكين. وهي في الفيراندا يتناهي إلي مسمعيها صوت الباب يفتح ووقع خطوات واثقة لرجل. كأنها تسمع الورقة وهو ينزعها من النافذة ، ويفردها ويقرؤها. وكأنها تسمع رنين الكلمات في عقله. ثم تأخذ الخطوات طريقا آخر. ينزل الدرج ويغلق الباب. تقفز إلي ذهنها صورة الضريح. تجعلها تضحك. أضرحة تسير في الشارع بأقدام تنتعل الأحذية، وأجساد طويلة تميل للأمام. علي سحنهم القاسية علامات استغراق. أجراس الكنيسة تقرع.
الساعة في الصالة تدق معلنة الثانية عشرة. مضت ساعة. المنزل يتقد بالحر. تشرب كوبا آخر من الشاي تضيف إليه قطرات من الدواء. تعرف أن الدواء يؤثر علي قوتها. إنه المسؤول عن كسلها الغريب، ولكنه ضروري.
أشياؤها التي تحيط بها، في حجرة المائدة فقط، جدران مغطاة بورق حائط أخضر غامق مزين بأكاليل الزهور، ستائر منقوشة بخطوط ملونة، ومائدة عليها مفرش من الكروشيه، وسلطانية تمتلئ بالفاكهة الشمعية، وسجادة رمادية ضاربة إلي اللون القرمزي عليها نقوش باقات من زهور زرقاء وقرنفلية غامقة، وخوان مبسوط عليه أغطية مزخرفة وأطباق وأباريق، وأكواب شاي عليها زخارف شتي. أشياء كثيرة تراها. كل هذه الزخارف تبدو زاخرة بالحياة، علي أهبة التحرك والتدفق والتغير، أو ربما الانفجار. كل شغل ألميدا الشاغل طوال اليوم هو أن تتأمل هذه الزخارف. لا لكي تمنع تغيرها بقدر ما كانت ترصده وتفهمه وتكون جزءا منه. لا تحرك شيئا مما في هذه الحجرة .
وبالطبع لا طاقة لألميدا علي الهرب من الكلمات. ربما تظن أنها تستطيع أحيانا، ولكن هذا لا يحدث. ذلك التوقد لا يلبث أن يدفع بالكلمات في ذهنها للخروج. قصائد. أجل، مرة أخري قصائد تتضاءل أمامها جميع القصائد التي كتبتها في السابق. تصبح مجرد محاولة وخطأ، أسمالا بالية. النجوم والطيور والأشجار والملائكة علي الثلج والأطفال الذين ماتوا في الغسق. كل هذا لا داعي لوصفه مرة أخري . عليك الآن بالصخب الفاحش في شارع بيرل، ومقدم الحذاء اللامع الذي يرتديه جارفيز بولتر، وردف المرأة الأملس بالكدمات عليه أشبه بزهور زرقاء غامقة. ألميدا الآن علي مبعدة من العواطف الإنسانية أو المخاوف أو اعتبارات الأسرة الحميمة. لا تفكر فيما يمكن عمله لتلك المرأة، أو في حفظ عشاء جارفيز بولتر ساخنا، أو نشر ملابسه علي حبل الغسيل. فاض عصير العنب وجري علي أرض المطبخ يلطخ الألواح الخشبية ببقع لن تزول.
عليها أن تفكر في عدة أمور في وقت واحد. الشرائط المعدنية التي تفصل بين النقوش، الهنود العرايا، والملح في أعماق الأرض، والمال الذي يجلبه الملح، والسعي لجمع المال الذي تتقنه رؤوس مثل رأس جارفيز بولتر، والعواصف القاسية في الشتاء، والأفعال الخرقاء في شارع بيرل. وعندما تفكر في تقلبات الطقس العنيفة فلا سلام حتي بين النجوم. يمكن احتمال كل هذه الأشياء إذا نظمناها في قصيدة. ونظمناها هي الكلمة المناسبة. لأن القصيدة سيكون عنوانها، أو هو عنوانها في الواقع : " منستيونغ " . اسم القصيدة هو اسم النهر. كلا، إنها النهر نفسه : " المنستيونغ ". ذلك هو اسم القصيدة، بكل حفره العميقة وأحواضه الهادئة تحت أشجار الصيف البهيجة وكتل الثلج المطروحة عقب الشتاء، تحدث صريرا أثناء الحركة، وفيضاناته الربيعية الكئيبة. ألميدا تمعن النظر في قاع نهر عقلها. وعلي مفرش المائدة زهور الكروشيه الطافية، تبدو ناتئة بلهاء، تبعث علي الضحك. الورود التي نسجتها أمها يوما لا تبدو مثل الورود الحقيقية. ولكن الجمال كامن في الجهد المبذول، واستقلالها الزائف، والرضا بنفوسها البسيطة. علامة مفعمة بالأمل. منستيونغ .
وتلزم ألميدا الحجرة حتي الغسق عندما تذهب إلي الحمام وتكتشف أنها تنزف. الدم بدأ يتدفق . تناولت فوطة وشدتها حول بطنها كنطاق . لم يحدث من قبل، أيام صحتها، أن قضت الليل في ثياب النوم. لا تحس بقلق خاص بسبب ذلك. في طريقها إلي المطبخ عبر عصير العنب المسكوب. تعرف أنه سيكون عليها أن تزيل البقع. ولكن ليس بعد. ترتقي الدرج إلي الطابق الثاني مخلفة آثار أقدام وردية. تشم رائحة دمها الهارب وعرق جسدها الذي مكث طوال النهار في الحجرة المغلقة المتقدة.
لا داعي للقلق .
لأنها لم تظن أن الزهور المنسوجة يمكن أن تطفو بعيدا، وأن شواهد الأضرحة يمكن أن تسير في الشوارع. لم تحسب أن ذلك كان الحقيقة، وأن أي شئ آخر كان المجاز، وبذلك كانت تعرف سلامة عقلها.
VI
أحلم بكم كلما أقبل الليل،
وأزوركم حين يأتي النهار.
أبي، أمي،
أخي، أختي،
لم لا تجيبون ندائي ؟
22 أبريل 1903. في مسكنها يوم الثلاثاء الفائت بين الثالثة والرابعة بعد الظهر رحلت عن دنيانا سيدة ذات موهبة وخلق حسن. أثري قلمها في الأيام الخوالي أدبنا الإقليمي بسفر من الشعر البليغ العذب. وإنها لبلية كبيرة أن يصبح عقل هذه السيدة المهذبة موضع ريبة في السنوات الأخيرة، وسلوكها، نتيجة لذلك مندفعا خارجا عن المألوف حتي نال من مسلكها وعنايتها بتهذيب شخصها فأصبحت في نظر الغافلين الذين لا يعرفون قيمتها وأناقتها السابقة، غريبة الأطوار أو موضع سخرية علي نحو محزن. ولكن هذه الهنات قد نسيت الآن ولا يذكر لها غير شعرها الممتاز وخدماتها الماضية في مدرسة الأحد، واهتماماتها الخيرية وعقيدتها الدينية الراسخة. كان مرضها الأخير قصير المدي من رحمة الله. أصيبت بالبرد بعد أن غمرها الماء أثناء جولة في شارع بيرل. ( قيل إن بعض الصبية الأشرار طاردوها في المياه، وهذه نتيجة وقاحة وقسوة بعض شبابنا الصغار، واضطهادهم المتعمد لتلك السيدة لدرجة أن السامع لا يمكن أن يكذب الحكاية برمتها ) وتطور البرد إلي التهاب في الرئة توفيت علي أثره تحت سمع وبصر إحدي جاراتها المسز بيرت ( آني ) فرايلز التي شهدت نهايتها الهادئة المحزنة.
يناير 1904. أحد مؤسسي مجتمعنا، أحد صناع مدينتنا وباعثي نهضتها، رحل فجأة عن دنيانا صباح الاثنين الفائت بينما كان منكبا علي قراءة بريده في مكتبه بالشركة. السيد جارفيز بولتر الذي كان يتمتع بموهبة تجارية قوية ونشاط ملحوظ مما مكنه من إنشاء عدة مشاريع تجارية محلية جلبت فوائد الصناعة والإنتاجية والتوظيف لمدينتنا.
بحثت عن ألميدا روث في المقابر. وجدت الضريح الخاص بالأسرة. لم يكن هناك غير اسم واحد مكتوب عليه روث. ثم تنبهت لوجود شاهدين علي الأرض، علي مسافة بضعة أقدام أو ستة أقدام من الشاهد القائم كتب علي أحدهما كلمة "بابا" وعلي الآخر كلمة "ماما". وعلي مبعدة من هذين الشاهدين وجدت شاهدين آخرين علي الأرض أيضا . عليهما أسماء وليام وكاثرين، وكان عليٌ أن أزيح ما تراكم عليهما من حشائش نامية وقذارة لأري الاسم الكامل لكاثرين. لا وجود لتواريخ ميلاد أو وفاة. لا وجود لعبارات ثناء أو رثاء. لون فريد من إحياء الذكري لا يأبه بهذا العالم. لا وجود لورود ولا وجود حتي لعلامات علي شجيرات ورود ربما اقتلعت، اقتلعها الحارس لأنه لا يحب هذه الأشياء، أو مصدر ضيق قاطع العشب، لم يجد من يعترضه فاقتلعها.
اعتقدت أن ألميدا دفنت في مكان آخر. عندما تم شراء هذه البقعة، عند موت الطفلين، كان يعتقد أنها سوف تعيش وتتزوج وترقد في النهاية بجوار زوجها. لم يعملوا حسابها في مكان بينهم. ثم لاحظت أن الشواهد التي كانت ملقاة علي الأرض إنما سقطت من الشاهد القائم. شاهدان للأبوين وشاهدان للصبيين، ولكن الشاهدين الآخرين وضعا بطريقة تسمح لثالث بينهما لتكملة المروحة. خطوت من شاهد كاثرين عدد الخطوات نفسه حتي أصل من كاثرين إلي وليام . وعند تلك البقعة رحت أجذب العشب وأزيل القذارة بيدي العاريتين. وما مضت برهة حتي أحسست بالشاهد وأدركت أني كنت علي حق. اجتهدت في الوصول إلي الشاهد كله نظيفا وقرأت الاسم: "ميدا". كان مع الآخرين يتطلع للسماء. تأكدت من وصولي إلي نهاية الحجر. كان ذلك كل ما كتبته من الاسم ؛ ميدا. إذن كان اسمها ميدا في الأسرة، وليس في القصيدة فقط. أو لعلها اختارت اسمها من القصيدة ليكتب علي ضريحها.
كنت أظن أن أحدا لا يعلم ذلك غيري من بين الأحياء جميعا، وأن أحدا لن يستطيع الوصول لهذا التسلسل في الأحداث. ولكن الأمر ليس كذلك. فالناس مجبولون علي حب المعرفة. أو قل فئة منهم. سيجدون الدوافع دائما لاكتشاف الأشياء. حتي الأشياء التافهة. سوف يضعون الشيء جنب الشيء. ويعرفون أنهم ربما أخطئوا في البداية. ألا تراهم يتجولون يحملون كراسات ويزيلون الأتربة من فوق الأضرحة، و يقرءون الأفلام، لا هم لهم غير وضوح الرؤية، والعثور علي الأسباب، وإنقاذ شيء، ولو شيء واحد فحسب، من أنقاض الذكري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.