ترى المحللة فاطمة أمان أن نشاط إيران الدبلوماسي في آسيا الوسطى أصبح أكثر وضوحا مرة أخرى في الأشهر الأخيرة. وأكد مسؤولون إيرانيون بارزون على مد الجسور مع كازاخستان وتركمنستان واوزبكستان ، على أساس أن هذه العلاقات جزء من جهد أوسع نطاقا لتعزيز الدبلوماسية الإيرانية مع دول الشرق. وقالت آمان، التي كتبت مقالات تتعلق بالشؤون الإيرانية والأفغانية وشؤون الشرق الأوسط عموماً طوال أكثر من 25 عاماً، وقدمت المشورة لمسؤولين حكوميين ومنظمات غير حكومية أمريكية. وعملت سابقاً كباحثة غير مقيمة في معهد الشرق الأوسط، وزميلة أولى في المجلس الأطلسي، إن الزيارات الرسمية والمنتديات الاقتصادية والتصريحات العامة تشير إلى اهتمام متجدد. ومن الناحية الظاهرية ، تبدو هذه العلاقة نشطة. وأضافت آمان، في تقرير نشرته مجلة ناشونال انتريست الأمريكية ، أنه مع ذلك ، فإن هذا الشعور بالزخم يحجب استمرارية أعمق. فرغم الانخراط الذي يحدث على فترات متقطعة، لم يطرأ تغيير بشكل جوهرى على وضع إيران في آسيا الوسطى. وتضيف آمان أن طهران لا تزال حاضرة، لكنها ليست فاعلا محوريا في تشكيل المسار السياسي أو الاقتصادي للمنطقة. وظلت الفجوة بين النشاط والتأثير مستمرة لعقود من الزمن. وهذا النمط ليس نتاج فشلٍ حديث .إنه يعكس مسارا أطول مدى بدأ في تسعينيات القرن الماضي، حين كانت التوقعات بشأن دور إيران في آسيا الوسطى في فترة ما بعد الحقبة السوفيتية أعلى بكثير مما تحقق فعليا في نهاية المطاف. و تلاشى بسرعة التفاؤل المبكر في طهران وبين بعض النخب في آسيا الوسطى التي كانت تسعى إلى التنويع. وما أعقب ذلك كان استقرارا أثبت استمراريته بشكل ملحوظ، حتى مع تطور الظروف والقيادة الإقليمية. وفي السنوات التي أعقبت مباشرة انهيار الاتحاد السوفيتي ، بدت إيران في وضعٍية جيدة لإقامة علاقاتٍ دائمة مع دول آسيا الوسطى المستقلة حديثا، مدعومة بالجغرافيا . وتحركت إيران بسرعة للاعتراف بالحكومات الجديدة وإنشاء بعثات دبلوماسية في جميع أنحاء المنطقة. وعززت الروابط الثقافية واللغوية، وخاصة مع طاجيكستان الافتراضات بأن إيران سوف تصبح شريكا إقليميا طبيعيا. ووفرت العلاقات مع إيران قناةً إضافية تجاوزت روسيا، وساعدت في إظهار السيادة في وقتٍ اتسمت فيه المؤسسات بالهشاشة. وبمجرد تحقيق التطبيع الدبلوماسي وتلاشي حالات عدم اليقين المتعلقة بالاستقلال، تراجعت أهمية إيران النسبية. وتمثل أحد سوء حسابات طهران المبكرة في افتراض أن التاريخ المشترك والتقارب الثقافي سوف يُترجم إلى تحالف استراتيجي. وكان للتراث الفارسي والروابط اللغوية أهمية رمزية، لكن أنظمة آسيا الوسطى ركزت في المقام الأول على ترسيخ أركان الدولة، والقومية العلمانية، والسيطرة السياسية. ولم تحقق التقاربات الثقافية الثقة تلقائيا، بل زادت في بعض الحالات من حدة الحساسية. وكان هذا أكثر وضوحا في طاجيكستان ،حيث أفسح التفاؤل الأولي المتجذر في اللغة والتاريخ المشترك المجال للشك، وبصفة خاصة في الوقت الذي شددت فيه الحكومة الطاجيكية موقفها تجاه المعارضة الدينية. وحتى عندما كان التدخل الإيراني محدودا أو مبالغا فيه، أصبح تصور القرب الأيديولوجي لا يبعث على الارتياح على الصعيد السياسي . وبينما كانت الحالة الطاجيكية استثنائية، كان لها صدى تجاوز حدودها وعززت شعورا بالحذر الإقليمي الأوسع نطاقا تجاه إيران. وأعادت العقوبات تشكيل مكانة إيران في آسيا الوسطى، ولكن ليس بطريقة بسيطة. ففي تسعينيات القرن الماضي، كانت إيران لا تزال يُنظر إليها على أنها بوابة محتملة إلى أسواق أوسع وطرق تجارية جنوبية. ومع مرور الوقت، وزيادة شدة العقوبات الأمريكية والدولية، أصبح يُنظر إلى إيران بشكل أقل كفرصة وأكثر كعبء. وعلى النقيض من روسيا أو الصين، افتقرت إيران إلى الحماية المالية والعمق المؤسسي الضروريين للتعويض عن المخاطر المتعلقة بالعقوبات. واستطاعت حكومات آسيا الوسطى تكييف أوضاعها بشكل براجماتي . وحتى تلك الحكومات الملتزمة بانتهاج سياسات خارجية متوازنة قلصت نطاق التعاون مع طهران. لم تعد إيران مستبعدة، ولكن تم التعامل معها بحذر. كان التحول تدريجيا، ولكنه حاسم. وأدت العقوبات إلى تحويل إيران من عامل ميسر إلى شريك تطلب انخراطه الحذر. في الوقت نفسه، واجهت إيران صعوبة في منافسة فاعلين خارجيين آخرين .من حيث سرعة نشر وجودها ونطاقه . ووسعت الصين وجودها بسرعة، مدفوعة برأس المال والبنية التحتية والاستمرارية المؤسسية. واستثمرت تركيا بشكل مطرد في قطاع التعليم وشبكات الأعمال والدبلوماسية الثقافية. ودخلت دول الخليج لاحقا متسلحة بالقدرة المالية والحياد السياسي. ومقارنة بهؤلاء الفاعلين ، اعتمدت إيران بشكل كبير على الاتفاقيات والزيارات الرسمية والرمزية السياسية، بينما لم يرق التنفيذ إلى مستوى الطموح المأمول. وأدت التأخيرات والتراجعات المتكررة إلى إضعاف الثقة. ولم يتم دأثما تنفيذ الوعود التي تم إعطاؤها . وتأخرت مبادرات النقل والطاقة والتجارة أو توقفت تماما. ومع مرور الوقت، أعاد شركاء آسيا الوسطى تقييم توقعاتهم. ولم يعد يُنظر إلى إيران كمحرك للتكامل الإقليمي، ولكن كجهة فاعلة ثانوية كان انخراطها مفيدا في حدود ضيقة. وتمثل قيد آخر في غياب استراتيجية متماسكة لآسيا الوسطى في طهران. فقد ظلت السياسة تجاه المنطقة مجزأة وثنائية في معظمها. ونادرا ما احتلت آسيا الوسطى مكانة بارزة ضمن أولويات السياسة الخارجية الإيرانية، التي سيطرت عليها المفاوضات النووية، والعلاقات مع الولاياتالمتحدة، والصراعات الإقليمية في العالم العربي، والتوترات مع إسرائيل. وأدى الدين دورا أيضا ، لكنه كان قيدا على الثقة أكثر منه محركا للسياسة. ورغم أن إيران استكشفت لفترة وجيزة قنوات دينية وأيديولوجية في أوائل فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي، لم تترجم هذه الجهود إلى نفوذ دائم . ولم تنتهج إيران سياسة المد الديني العنيف في آسيا الوسطى، ولم تسعَ إلى تصدير نموذجها الثوري. ومع ذلك، ظلت أنظمة آسيا الوسطى حذرة للغاية من النفوذ الديني الخارجي. وكان لهوية إيران كجمهورية إسلامية ثقل سياسي بغض النظر عن سلوكها. وأدت القيود الداخلية داخل إيران إلى تضييق نطاق سياستها الخارجية بشكل أكبر. وكانت الالتزامات التي تم إعطاؤها في عهد حكومة ، يتم في بعض الاحيان تمييعها أو التخلى عنها في ولاية الحكومة التي تليها. وبالنسبة لشركاء آسيا الوسطى، أدى عدم التكهن بسلوك الحكومات إلى تقويض الثقة في التعاون طويل الأجل. وبحلول منتصف العقد الثاني من الألفية، وصلت علاقات إيران مع آسيا الوسطى إلى مرحلة ركود ، ولكن لم تشهد العلاقات أي قطيعة دراماتيكي ، وظلت العلاقات الدبلوماسية قائمة. واستمرت التجارة عند مستويات متواضعة والزيارات رفيعة المستوى. ومع ذلك، لم تعد إيران مدرجة في التخطيط الاستراتيجي أو التنسيق الإقليمي. وانخرطت دول آسيا الوسطى مع طهران كشريك ثانوي، وهو مفيد في إطر معينة ولكنه هامشي بالنسبة للأجندات الإقليمية الأوسع نطاقا. لم تخسر إيران نفوذها في آسيا الوسطى لصالح منافس واحد، وفقدت مكانتها على نحو متزايد تدريجيا في الوقت الذي قامت فيه المنطقة بتنويع شراكاتها وتجاوزت حالات عدم اليقين للمرحلة الانتقالية في فترة ما بعد الحقبة السوفيتية. وأنغلقت النافذة التي انفتحت في التسعينيات ليس بسبب المواجهة، ولكن جراء إعادة تقييم الوضع. ولا تشير الأنشطة الدبلوماسية الأخيرة بالضرورة إلى حدوثا انقلاب في هذا التوجه. ويعكس هذا استمرارية الوضع الراهن أكثر من تحوله. فبدون مصداقية مستدامة، واتساق السياسات، والقدرة على تحقيق انجازاتة تتجاوز الرمزية، من المرجح أن يبقى دور إيران في آسيا الوسطى مقيدا . واليوم آسيا الوسطى أكثر ثقة ، وأكثر انتقائية ، وتعج بالمنافسات الاستراتيجية على نحو أكثر مما كانت عليه قبل ثلاثة عقود. ولا تزال إيران جارة لها. واختتمت المحللة أمان تقريرها بالقول إن إيران لا تزال ذات صلة. ولكنها لم تعد دولة فأعلة لا غنى عنها للتخطيط الاقتصادي أو الاستراتيجي الإقليمي في آسيا الوسطى. وتفسر تلك الحقيقة ، أكثر من أي فشل سياسي، السبب وراء الركود الذي شاب في نهاية المطاف العلاقة التي بدت ذات يوم واعدة .