بينما تتجه أنظار المحللين السياسيين في هذه اللحظة إلي المناورات السياسية المتعلقة بالمحادثات النووية مع إيران، وهي مناورات تشارك فيها الولاياتالمتحدة هذه المرة، لا نجد سوي عدد قليل من المحللين انتبهوا إلي الصورة السياسية الأشمل التي ترتسم في الأفق وتحتدم فيها المنافسة الاستراتيجية بين الولاياتالمتحدةوروسيا والصين. وفي النهاية، فإن ما ستتمخض عنه هذه الجولة الجديدة من المنافسة لن يقتصر فقط علي الاتجاه الذي ستأخذه الأنشطة النووية الإيرانية، بل سيتعداه إلي دورها السياسي والاقتصادي والعسكري في الشرق الأوسط والمحيط الإقليمي الواسع. وسيعتمد التنافس الاستراتيجي علي تلك الدول التي ستتولي مهمة تطوير الاحتياطيات الوافرة للنفط والغاز الطبيعي في إيران. ومع الأسف، فإن رفض عقد "صفقة كبري" مع إيران تحصل بموجبها واشنطن علي تطمينات معقولة بشأن الأسلحة النووية، ومسألة دعم الإرهاب، في مقابل تقديم الولاياتالمتحدة لضمانات أمنية للنظام، فضلاً عن إنهاء العقوبات المفروضة علي إيران، وتطبيع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، يشكل مراهنة خاسرة علي الدبلوماسية النووية للولايات المتحدة في حل الأزمة، وتمهيداً للطريق أمام روسيا والصين لكسب السباق الاستراتيجي علي إيران. ولتوضيح الأمور يجدر التذكير بأن إيران تتوفر علي ثاني أكبر احتياطي من النفط الخام في العالم بعد المملكة العربية السعودية، وثاني أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي بعد روسيا. ويمنحها المستوي المنخفض لمعدل إنتاجها الحالي إمكانية مهمة لرفعه إلي معدلات قصوي والزيادة في حجم صادراتها من الغاز الطبيعي والنفط خلال العقدين المقبلين. وبما أن الاقتصاد العالمي سيصبح أكثر اعتماداً في المرحلة القادمة علي الشرق الأوسط والاتحاد السوفييتي سابقاً لتأمين حاجياته من الطاقة، فإن إيران بوضعها المحتمل كقوة كبيرة في مجال الطاقة ستحتل مكانة استراتيجية مهمة في المستقبل المنظور. والحال أنه لكي تتمكن إيران من زيادة صادراتها تحتاج إلي استثمارات ضخمة في مجال الطاقة، علاوة علي ضرورة توفير التكنولوجيا المتطورة القادمة من الخارج. وحسب التقديرات لا تقل رؤوس الأموال اللازمة لتطوير قطاع الإنتاج عن 160 مليار دولار خلال ربع القرن المقبل، إلا أن واشنطن تقوم بالعكس تماماً إذ تعمل علي منع وصول تلك الاستثمارات من خلال التصدي لشركات الطاقة الأمريكية والحؤول دون استثمارها في إيران، كما تهدد الشركات الأوروبية واليابانية بفرض عقوبات عليها في حال تعاملها مع طهران. وبالطبع أسفرت هذه الإجراءات الأمريكية، فضلاً عن السياسة الإيرانية التي تنفر المستثمرين في تعثر مجال الطاقة وركود الإنتاج. فمنذ أن فتحت طهران قطاع النفط والغاز أمام الشركات الأجنبية في بداية التسعينيات لم تجتذب سوي 15 إلي 20 مليار دولار من الاستثمارات الأوروبية واليابانية. ومع ارتفاع حدة النقاش حول الملف النووي الإيراني تعقدت الأمور أكثر وتبخرت الاستثمارات المحتملة. وفي ظل هذا الوضع أطلعني دبلوماسي إيراني هذا الشهر علي أن طهران لن تنتظر لفترة أطول قدوم الاستثمارات الغربية، وأنها بصدد البحث عن بدائل أخري، لاسيما مع الصين التي برزت في السنوات الأخيرة كشريك قوي محتمل لإيران. بيد أن الصين القادرة علي توفير رؤوس الأموال اللازمة لإنعاش قطاع الطاقة الإيراني تبقي شركاتها عاجزة عن تأمين الخبرة التكنولوجية المطلوبة التي تحتاجها إيران. وسيتطلب الأمر علي الأقل عقداً من الزمن لكي تنجح الصين في ملء الفراغ التقني للصناعة الإيرانية. وهنا تحديداً تدخل روسيا في المنافسة، حيث تستطيع في ظرف وجيز مساعدة إيران علي تطوير قطاع الصناعة النفطية والرفع من قدراتها الإنتاجية، رغم قصور تلك الشركات مقارنة مع نظيراتها الغربية الأكثر تطوراً. والواقع أن البلدين شرعا بالفعل في إجراء محادثات للتنسيق بين الصادرات الإيرانية من الغاز وشركة غازبروم الروسية. ورغم إدراك المسئولين الإيرانيين أفضلية الشركات الغربية علي غازبروم، فإنهم مستعدون للتعاون معها في ظل غياب البديل ولكسر الجمود الذي تعاني منه صناعة الطاقة الإيرانية. روسيا من ناحيتها تري أن عقد صفقة مع إيران يصب في مصلحتها المباشرة، لاسيما وأن شركتها غازبروم أصبحت عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها التعاقدية خلال السنوات المقبلة وتأمين كمية الطاقة المتفق عليها مع الدول الغربية. وهي لذلك تسعي إلي سد العجز عبر شراء كميات إضافية من الغاز الطبيعي من جمهوريات آسيا الوسطي التي تعتمد بالأساس علي الأنابيب الروسية لتصدير غازها الطبيعي. غير أن المشكلة بالنسبة لموسكو تتمثل في سعي واشنطن إلي إقامة أنابيب بديلة لا تمر عبر الأراضي الروسية في محاولة لإضعاف هيمنتها علي المنطقة. لذا فإن انخراط الشركات الروسية في تطوير صناعة الغاز الطبيعي في إيران سيساعدها ليس فقط علي تعزيز استراتيجيتها الخارجية للطاقة، بل سيمكنها أيضاً من محاصرة الجهود الأمريكية التي تهدف إلي تقويض النفوذ الروسي في آسيا الوسطي. وإذا ما نجحت روسياوإيران في تنسيق جهودهما في مجالي الإنتاج وقرارات التسويق، فإنهما ستحتلان مركزاً متقدماً في السوق الدولي للغاز الطبيعي يفوق بمرتين ما تحتله السعودية حالياً في السوق العالمي للنفط. وعلي خلفية ما سبق تنكشف ضحالة المقاربة التي تنتهجها إدارة الرئيس بوش في التعاطي مع الملف النووي الإيراني. فرغم المداد الكثير الذي أساله قرار التفاوض المباشر مع طهران في الصحافة الأمريكية، إلا أن ذلك لا يشكل في الواقع سوي تحرك تكتيكي بسيط الهدف منه منع تصدع التعاون الأمريكي الأوروبي حول الموضوع الإيراني. وباستمرارها في رفض الحديث عن عقد "صفقة كبري" مع إيران، فشلت إدارة بوش في إقناع طهران بحصر أنشطتها النووية في مستوي معين، فضلاً عن عجزها عن تأمين دور ريادي للولايات المتحدة في الصراع الاستراتيجي للفوز بإيران. لذا فإن عقد "صفقة كبري" مع إيران هو بالضبط ما تحتاجه أمريكا ليس فقط لكبح الطموحات النووية الإيرانية، بل أيضاً لضمان مكانتها المحورية في الشرق الأوسط خلال العقود المقبلة.