( السَّفَرُ إلى الله ) 44) الحكمة الرابعة والأربعون : (لا تَصْحَبْ من لا يُنْهِضُكَ حالهُ، ولا يَدُلُّك على الله مَقَالُه) . الذي ينهضك حاله هو الذي إذا رأيته ذكرت الله فقد كنت في حال الغفلة، فلما رأيته نهض حالك إلى اليقظة، أو كنت في حالة الرغبة فلما رأيته نهض حالك إلى الزهد، أو كنت في حالة الاشتغال بالمعصية فلما رأيته نهض حالك إلى التوبة، أو كنت في حالة الجهل بمولاك فنهضت إلى معرفة من تولاك وهكذا. والذي يدلك على الله مقاله هو الذي يتكلم بالله، ويدل على الله، ويغيب عما سواه، إذا تكلم أخذ بمجامع القلوب، وإذا سكت أنهضك حاله إلى علام الغيوب ، فحاله يصدق مقاله، ومقاله موافق لعلمه، فصحبة مثل هذا إكسير يقلب الأعيان. وهو مفهوم من قول الشيخ لا تصحب من لا ينهضك حاله الخ: أي بل أصحب من ينهضك حاله، ويدلك على الله مقاله. والصحبة في طريق التصوف أمر كبير في السير إلى الله تعالى حسبما جرت به عادة الله تعالى وحكمته، حتى قال بعضهم: من لا شيخ له فالشيطان شيخه. 45) الحكمة الخامسة والأربعون : (رُبَمَا كُنْتَ مسَيِّئاً، فأراك الإحسان منك صحبتك إلى من هو أسوأ حالاً منك). رب هنا للتكثير، ربما تكون مسيئاً في حالك مقصراً في عملك، فإذا صحبت من هو أسوأ حالاً منك أراك أي أبصرتك صحبتك إلى من هو أسوأ حالاً منك، الإحسان منك لما ترى ما يصدر منها من الإحسان ومن المصحوب من التقصير والنقصان، فتعتقد المزية عليه، لأن النفس مجبولة على رؤية الفضل لها ومشاهدة التقصير من غيرها علماً أو عملاً أو حالاً، بخلاف ما إذا صحبت من هو أحسن حالاً منها فإنها لا ترى من نفسها إلا التقصير، وفي ذلك خير كثير. وحاصله لا تصحب من تتكلف له فوق جهدك، ولا من يتكلف لك كذلك، وخير الأمور أوساطها وهذا والله أعلم في صحبة الأخوة، وأما صحبة الشيخوخة فكل ما أمر به الشيخ أو أشار إليه أو فهمت أنه يحب ذلك فلا بد أن تبادر إليه بقدر الإمكان ولو كان محالاً عادة لأخذت في التهيؤ للفعل. 46) الحكمة الرابعة والأربعون : (ما قَلَّ عملٌ بَرَزَ من قَلْبٍ زاهد، ولا كَثُرَ عمل برز من قلب راغب). الزهد في الشيء: هو خروج محبته من القلب وبرودته منه. وعند القوم: بغض كل ما يشغل عن الله ويحبس عن حضرة الله ويكون أولاً في المال، وعلامته: أن يستوي عنده الذهب والتراب، والفضة والحجر، والغني والفقر، والمنع والعطاء، ويكون ثانياً في الجاه والمراتب. وعلامته: أن يستوي عنده العز والذل، والظهور والخمول، والمدح والذم، والرفعة والسقوط. ويكون ثالثاً في المقامات والكرامات والخصوصيات وعلامته: أن يستوي عنده الرجاء والخوف، والقوة والضعف، والبسط والقبض، يسير بهذا كما يسير بهذا، أو يعرف في هذا كما يعرف في هذا، ثم يكون الزهد في الكون بأسره بشهود المكون وأمره. فإذا تحقق المريد بهذه المقامات في الزهد أو جلها كان عمله كله عظيماً كبيراً في المعني عند الله وإن كان قليلاً في الحس عند الناس، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة" 47) الحكمة السابعة والأربعون : (حُسْنُ الأعمال نتائج حسن الأحوال، وحسن الأحوال من التحقق في مقامات الإنزال). الأعمال حركة الجسم بالمجاهدة، والأحوال حركة القلب بالمكابدة، والمقامات سكون القلب بالطمأنينة، مثال ذلك مقام الزهد مثلاً فإنه يكون أولاً عمله مجاهدة بترك الدنيا وأسبابها، ثم يكون مكابدة بالصبر على الفاقة حتى يصير حالاً، ثم يسكن القلب ويذوق حلاوته فيصير مقاماً. وكذلك التوكل يكون مجاهدة بترك الأسباب ثم يكون مكابدة بالصبر على مرارة تصرفات الأقدار، ثم يصير حالاً، ثم يسكن القلب فيه ويذوقه فيصير مقاماً. وكذلك المعرفة تكون مجاهدة بالعمل في الظاهر كخرق العوائد من نفسه، ثم تكون مكابدة بالمعرفة والإقرار عند التعرفات، ثم تصير حالاً، فإذا سكنت الروح في الشهود وتمكنت صارت مقاماً. فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب، يعني أن الأحوال مواهب من الله جزاء لثواب الأعمال، فإذا دام العمل واتصل الحال صار مقاماً. فالأحوال تتحول تذهب وتجيء، فإذا سكن القلب في ذلك المعنى صار مقاماً، وهو مكتسب من دوام العمل. واعلم أن المقام والحال لكل واحد علم وعمل، فالمقام يتعلق به العلم أولاً، ثم يسعى في عمله حتى يكون حالاً، ثم يصير مقاماً، وكذلك الحال يتعلق به العلم أولاً، ثم العمل، ثم يصير مقاماً حالاً، والله تعالى أعلم. فعلامة التحقق بمقامات الإنزال هو حسن الحال، وعلامة حسن الحال هو حسن العمل، فإتقان الأعمال وحسنها هو ثمرة ونتيجة حسن الأحوال، وحسن الأحوال وإتقانها هو نتيجة التحقق بمقامات الإنزال أي التحقق بالإنزال في المقامات. 48) الحكمة الثامنة والأربعون : (لا تَتْركْ الذِّكْر لِعَدَمِ حَضْورِ قلبك مع الله فيه، لأن غَفْلَتَكَ عن وجود ذكره أشَدُّ من غفلتك فى وجود ذكره، فَعَسَى أنْ يَرْفَعَكَ اللّه من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يَقْظَةٍ، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكرٍ مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع غَيْبَةٍ عَنْ مَّا سِوَى المَذْكور، وما ذلك على الله بعزيز). الذكر ركن قوي في طريق القوم، وهو أفضل الأعمال، قال الله تعالى: "فاذكروني أذكركم" وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً". والذكر الكثير: أن لا ينساه أبداً. فبقدر ما يفنى في الاسم يفنى في الذات، وبقدر ما يتفتر في الفناء في الاسم يكون متفتراً في الفناء في الذات، فليلتزم المريد الذكر على كل حال ولا يترك الذكر باللسان لعدم حضور قلبه فيه بل يذكره بلسانه ولو كان غافلاً بقلبه، فإن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، لأن غفلتك عن ذكره إعراض عنه بالكلية، وفي وجود ذكره إقبال بوجه ما، وفي شغل اللسان بذكر الله تزيين جارحة بطاعة الله، وفي فقده تعرض لاشتغالها بالمعصية، فليلزم الإنسان ذكر اللسان حتى يفتح الله في ذكر الجنان فعسى أن ينقلك الحق تعالى من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة: أي انتباه لمعاني الذكر عند الاشتغال به، ومن ذكر مع يقظة إلى ذكر مع وجود حضور المذكور وارتسامه في الخيال حتى يطمئن القلب بذكر الله ويكون حاضراً بقلبه مع دوام ذكره، وهذا هو ذكر الخواص والأول ذكر العوام، فإن دمت على ذكر الحضور رفعك إلى ذكر مع الغيبة عما سوي المذكور، لما يغمر قلبك من النور وربما يعظم قرب نور المذكور فيغرق في النور، حتي يغيب عما سوي المذكور، حتي يصير الذاكر مذكوراً ، والطالب مطلوباً، والواصل موصولاً. "وما ذلك على الله بعزيز": أي بممتنع فقد يرفع في أعلى الدرجات من كان في أسفل الدركات، وها هنا يسكت اللسان وينتقل الذكر للجنان، فيصير ذكر اللسان غفلة في حق أهل هذا المقام.