أيام مرت من الأسبوع الأول من شهر رمضان، أقبل فيها من أقبل علي الله مجددا للتوبة، طالبا للغفران، طامعا في رحمة الرحمن سبحانه وتعالي .. والحقيقة أن شهر رمضان يعيد لنا الآمال في أنفسنا وفيمن حولنا، فكلما بعدنا عن المنهج الرباني والهدي النبوي، وأسأنا الظن بأنفسنا وبإخواننا قائلين لقد ضاع الإيمان، وأعرضنا عن الله ، يأتي هذا الشهر لنكتشف أن فتيل الإيمان في قلوبنا وقلوب الكثير ممن حولنا مازال به شعاع من النور لم ينطفئ .. نعم، إن هذا الشهر يوقظ النائمين ويجذب المعرضين، ويفتح الباب للطامعين في أن يرجعوا إلي حظيرة هذا الدين وأن يبحثوا عن رضا رب العالمين. يأتي كل منا وقد وجد في نفسه مالم يجده من قبل من همة علي العبادة، ورغبة في الطاعة وعمل الخير بأنواعه، وهذا يعني أن منادي رمضان قد نادي يا باغي الخير أقبل فوجد تلبية منا لهذا النداء. ولكن هذه الهمة نراها تستمر أياما في رمضان ثم تبدأ في التراجع، والنفس المقبلة بشغف في البدايات نراها وقد أصابها التقاعس والملل في النهايات، فإذا انتهي رمضان تفرق الجمع وعاد كل منا إلي سابق عهده، فما سبب ذلك؟ وكيف يمكن تدارك هذا الأمر؟ إن فتيلة الإيمان وإن كانت مازالت مشتعلة في القلوب إلا أن نورها لا يكفي حتي يسير الإنسان علي هداه، ولكنها كالشرارة التي تكفي فقط لتكون بداية ولكنها تحتاج بعد ذلك إلي وقود ليقوم به المحرك.. ولذا فإن الإنسان الذي لا يستطيع أن يحافظ علي ما يكتسب من طاقة إيمانية في بدايات الشهر لا يستطيع أن يكمل هذا الشهر بالحال الذي يبدأ به .. وتتمثل هذه الطاقة الإيمانية في كل إثر لطاعة من صلاة وصيام وقراءة قرآن وسعي في الخير من إطعام طعام أو كفالة أيتام، يكون لها أثر في قلب الإنسان، غير أن هذه الطاقة لابد من المحافظة عليها ليبقي أثرها في القلب ويزداد يوما بعد يوم.. غير اننا نري أنفسنا تميل إلي التسلي وخاصة في ظل هذا الطوفان الإعلامي لترويج البرامج والمسلسلات، فما يكون أثر سويعات من العبادة أمام ساعات من التسلي في لغو لا ينفع .. وهنا نفرغ هذه الشحنة الإيمانية باللهو واللغو فلا يبقي من أثرها علينا شيء.. إن المريد المحب لله تعالي ينشغل قلبه بمولاه انشغالا تاما يجعله معرضا عما سواه، ولذا فهو لا يقبل بسواه بديلا .. أما الذي جاء في هذا الموسم من مواسم العبادة، فقد جاء يطرق الباب ويبحث عن الطريق غير أن شواغل قلبه مازالت مستولية عليه، تتنازعه الأهواء وتتجاذبه الشهوات .. ولذا فإن أراد الواحد منا أن يكون هذا الشهر هو شهر التغيير حقا، فعليه أن يطرق الباب بصدق، وأن يصحب من يدله علي هذا الطريق .. يقول عطاء الله السكندري رحمه الله ورضي عنه : اصحب من ينهضك إلي الله حاله ويدلك علي الله مقاله. إن صاحب النفس الضعيفة يحتاج إلي مرشد صاحب حال قوي إذا صحبه رفع من همته وأخذ بيده، وإذا تكلم أرشده إلي الطريق وفتح له أبواب التحقيق، أما تري الحق سبحانه وتعالي يقول : مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مّرْشِداً سورة: الكهف - الآية: 17) فمفهوم المخالفة أي أن من أراد الله به الهداية بعث له وليا مرشدا أخذ بيده وأعانه علي السير إلي الله. وما ذكرناه من توفيق لصحبة الولي المرشد، ومن إعراض عن اللهو واللغو حفظا لأثر العبادة، كل هذا لا يتأتي إلا لمن كان طالبا مريدا باحثا عن التغيير، وهذه هي البداية .. البداية أن ندخل إلي بساط الطاعة نطلب التغيير في أنفسنا وأحوالنا لأن الهداية العظمي هي من الحق سبحانه وكل ما يأتي بعد ذلك هو من جملة الأسباب .. فإذا وقفت علي باب الله طالبا وأنبت إليه راغبا وفقك وأخذ بيدك إليه سبحانه، وهيأ لك الأسباب ... وأقصد بالوقوف بصدق أن تأتي إليه رافضا لحالك طالبا الخروج منه إلي حال يرضيه سبحانه .. وهنا سؤال مهم، كم منا يري نفسه بعين النقد ويخاطبها بلسان الحال قائلا: إلي متي أيتها النفس؟ إذ كيف يطلب التغيير من يرضي عن حاله .. الإنسان منا يطلب نظافة البدن والثوب إذا رأي عليه وسخًا، وكذلك المريد الصادق يطلب طهارة القلب إذا علم أن به وسخًا.. ووسخ القلب يتمثل في الآفات من حقد وحسد وعجب وكبر إلي غير ذلك من الصفات التي يبرئ كل واحد منها نفسه. إننا في موسم عظيم يتجلي الله فيه بالمغفرة علي خلقه فطوبي لمن بلغ رمضان، وبعدا لمن بلغه فلم يغفر له .. وإن لم يغفر لنا في رمضان، فمتي؟ كم من رمضان مر علينا ونحن علي هذا الحال؟ وكم من موسم من مواسم الطاعات والمغفرة يأتي ويرحل ونفوسنا في غفلتها ؟ فلنسمع معا هنا الخطاب الاستفهامي من رب العالمين: (أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (سورة: الحديد - الآية: 16) وليكن جوابنا (بل آن يا رب) وليكن جوابا عمليا نقف به علي بابه ونشهده سبحانه صدق التوجه إليه معتمدين في ذلك عليه قائلين بلسان الحال والمقال (اللهم أعنا علي ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، إذ لابد من العون منه سبحانه وتعالي، فإذا بدأنا مرحلة من التغيير وجدنا الله لنا معينا، (إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم).