أرباب القلوب من أهل الإخلاص والصفاء . ذكر الله تعالى يجري على مراتب ثلاث . المرتبة الأولى: ذكره تعالى بالقلب والتفكر في دلائل وجوده ، وبراهين وحدانيته وآيات جلاله وعظمته بما نصبه في الكون من شهود حكمته في خلقه وبديع صنعه ، ومحكم تدبيره ، وعظيم فضله ، وواسع جوده وغامر إحسانه . وهذه المرتبة من ذكر الله بالقلب والفكر هي المذكورة في قوله تعالى : إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات . . . باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار (1) . ولهذا قال النبي صلى الله تعالى عليه و سلم حين نزلت : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها (2) . وفي قوله تعالى : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (3) . وفي هذه المرتبة من مراتب الذكر يقول النبي صلى الله تعالى عليه و سلم لا عبادة كالتفكر (4) ويقول صلى الله تعالى عليه و سلم : تفكر ساعة خير من عبادة سنة (5) . وهذه المرتبة في الذكر مقام المنقطعين إلى الله من أصفياء عباده الذين اتخذوا من التفكر في آيات الله ، وما نصبه من الدلائل في خلقه مطايا لشهود عظمة الله في بديع الأسرار الكونية ، وجعلوا من القيام بواجب العبودية والتزام مراسم الشريعة ظاهراً وباطناً أساساً لتبوئهم منازل القرب وإلى هذا يشير قوله عز و جل بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء ، وقال : أشهد أن لك رباً وخالقاً ، اللهم اغفر لي ، فنظر الله إليه فغفر له (6) . . . المرتبة الثانية : هذه المرتبة من مراتب الذكر تتمثل في الذكر باللسان مع يقظة القلب ، وفهم ما يردده اللسان ، وهذه المرتبة تجمع بين عمل الجوارح وعمل القلب ، وهي مرتبة العلماء الذين تفقهوا في الدين ، وأقاموا منار الشريعة على دعائم اليقين ، فعملوا بما علموا ، وقاموا لله على قدم المجاهدة ، فعلمهم الله وهذا ما يشير إليه قول الله تعالى واتقوا الله ويعلمكم الله (7) أي اتقوه بمجاهدة أنفسكم في أداء ما طلب منكم مما علمتموه من الأمر والنهي ، فإذا قمتم بذلك فتح الله لكم أبواباً من العلم لم تكونوا تحصلون عليها بمجرد التعلم والنظر . وهؤلاء العلماء أصحاب هذه المرتبة هم الأدلاء على الله ، وهم حجة الله على خلقه يهدي بهم من يشاء ، لأنهم يأخذون معالم الهداية عن الله من شريعته ووحيه إلى أمينه الرسول الكريم خاتم النبيين صلى الله تعالى عليه و سلم وهم الذين خصوا بالخطاب في قول الله تعالى فأذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون (8) فقد طلب منهم أن يذكروه بالمجاهدة والإخلاص ليذكرهم بمزيد القرب والاختصاص ، وذكر الشكر بعد الذكر دليل على أن الذكر هنا معناه العمل بالجوارح ، واللسان مقدمها وعنوانها ، ولذلك عقبه بالتحذير من كفران نعمته . وفي معنى هذه الآية من جهة إرادة المعنى الجامع بين ذكر الجوارح وذكر القلب قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً (9) . ويدل لهذا المعنى في هذه المرتبة قول النبي صلى الله تعالى عليه و سلم من أطاع الله فقد ذكره (10) وفي الحديث الصحيح من رواية البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يقول الله عز و جل أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وإن اقترب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ، وإن اقترب إلي ذرعاً اقتربت إليه باعاً ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة (11) وهذه العبارات تمثيل لرضاء الله تعالى على عباده الذاكرين له ، وأن هذا الرضا يتنزل في مراتب متفاوتة على حسب تفاوت طرائق المجاهدة التي يقوم بها الذاكرون مقرونة بالإخلاص . وفي الحديث أن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم قال : إن موسى عليه السلام قال : يا رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك ؟ قال الله تعالى يا موسى أنا جليس من ذكرني (12) . وفي حديث أنس بن مالك من رواية الترمذي قال النبي صلى الله تعالى عليه و سلم إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا وما رياض الجنة ؟ قال النبي صلى الله تعالى عليه و سلم حلق الذكر (13) . وروى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى أن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم قال إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر ، فإذا وجدواً قوماً يذكرون الله تنادوا : هلموا إلى حاجتكم ، فيحفونهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا ، فيسألهم ربهم – وهو أعلم بهم – ما يقول عبادي ؟ قالوا : يسبحونك ، ويكبرونك ، ويحمدونك ، ويمجدونك ، فيقول الله . هل رأوني ؟ فيقولون لا والله ما رأوك ، فيقول : كيف لو رأوني ؟ فيقولون : لو رأوك كانوا أشد لك عبادة ، وأشد لك تمجيداً ، وأكثر لك تسبيحاً ، فيقول الله عز و جل : فماذا يسألوني ؟ قالوا : يسألونك الجنة ، فيقول : هل رأوها ؟ فيقولون : لا والله ما رأوها فيقول : فكيف لو رأوها فيقولون لو رأوها كانوا أشد حرصاً عليها ، وأشد لها طلباً ، وأعظم فيها رغبة ، فيقول : فمم يتعوذون ؟ فيقولون : من النار ، فيقول : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا والله : ما رأوها ، فيقول : فكيف لو رأوها ؟ فيقولون : لو رأوها كانوا أشد منها فراراً ، وأشد لها مخافة ، فيقول : فأشهدكم أني قد غفرت لهم . يقول ملك من الملائكة : فيهم فلان ليس منهم ، إنما جاء لحاجة ، فيقول الله : هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم (14) . وفي حديث مسلم عن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم أنه قال : لا يقعد قوم يذكرون الله عز و جل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده (15) . ومن رواية مسلم أيضاً أن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم قال : سبق المفردون قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات (16) وعن أبي سعيد الخدري من رواية مسلم في الصحيح أنه قال : خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال : ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله ، قال الله ما أجلسكم إلا ذاك ؟ قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذاك ، قال : أما إني لم استحلفكم تهمة لكم ، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم أقل عنه حديثاً مني ، وإن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم خرج على حلقة من أصحابه ، فقال : ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ، ومنّ به علينا ، قال : الله ما أجلسكم إلا ذاك ؟ قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذاك ، قال : أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكنه أتاني جبريل ، فأخبرني أن الله عز و جل يباهي بكم الملائكة ) . روي الترمذي أن رجلاً قال : يا رسول الله ؟ إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيء أتشبث به ، قال النبي صلى الله تعالى عليه و سلم لا يزال لسانك رطباً بذكر الله . وقد تقدم حديث أبي الدرداء من رواية الترمذي أن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم قال ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم ، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ؟ قال : ذكر الله تعالى (17) . وهذا الحديث فيه تفضيل للذكر على الجهاد والجهاد أفضل الطاعات ، وكذلك سائر الأحاديث المتقدمة تجعل للذكر درجة رفيعة جداً ، وقد يدور في خلد بعض الناس أن يستبعد ذلك ويقول : كيف تكون للذكر هذه الدرجة العظيمة وهو من أيسر العبادات وأقلها مشقة ؟ وقد عرض لهذه الشبهة الإمام الغزالي رحمه الله فقال : فإن قلت : فما بال ذكر الله سبحانه مع خفته على اللسان وقلة التعب فيه صار أفضل وأنفع من جملة العبادات مع كثرة المشقات فيها ؟ فاعلم أن تحقيق هذا لا يليق إلا بعلم المكاشفة ، والقدر الذي يسمح بذكره في علم المعاملة أن المؤثر النافع هو الذكر على الدوام مع حضور القلب ، فأما الذكر باللسان والقلب لاه فهو قليل الجدوى ، وفي الأخبار ما يدل عليه ، وحضور القلب في لحظة بالذكر ، والذهول عن الله عز و جل مع الاشتغال بالدنيا أيضاً قليل الجدوى ، بل حضور القلب مع الله تعالى على الدوام أو في أكثر الأوقات هو المقدم على العبادات ، بل به تشرق سائر العبادات ، وهو غاية ثمرة العبادات العملية وللذكر أول وآخر ، فأوله يوجب الأنس والحب ، وآخره يوجبه الأنس والحب ، ويصدر عنه ، والمطلوب ذلك الأنس والحب ، فإن المريد في بداية أمره قد يكون متكلفاً بصرف قلبه ولسانه عن الوسواس إلى ذكر الله عز و جل ، فإن وفق للمداومة أنس به وانغرس في قلبه حب المذكور . ولا ينبغي أن يتعجب من هذا فإن من المشاهد في العادات أن تذكر غائباً غير مشاهد بين يدي شخص وتكرر ذكر خصاله عنده فيحبه ، وقد يعشق بالوصف وكثرة الذكر ، ثم إذا عشق بكثرة الذكر المتكلف أولاً صار مضطراً إلى كثرة الذكر آخراً بحيث لا يصبر عنه ، فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره ، ومن أكثر من ذكر شيء وإن كان تكلفاً أحبه . فلذلك أول الذكر متكلف إلى أن يثمر الأنس بالمذكور والحب له ، ثم يمتنع الصبر عنه آخراً فيصير الموجب موجباً والثمر مثمراً ، وهذا معنى قول بعضهم : كابدت القرآن عشرين سنة ، ثم تنعمت به عشرين سنة ، ولا يصدر التنعم إلا من الأنس والحب ، ولا يصدر الأنس إلا من المداومة على المكابدة والتكلف مدة طويلة حتى يصير التكلف طبعاً . كلام الغزالي . هذه النصوص المتقدمة تدل بظواهرها على أن ذكر الله تعالى باللسان حضور القلب ، وفهم معنى الأسماء الحسنة التي يذكر بها الله سبحانه إلى من أرفع درجات الطاعات وأفضل مراتب العبادات ، ومن هذه النصوص أخذ السادة الصوفية العمل في أذكارهم وأورادهم التي رتبوها للمريدين والسالكين . وقد قيل لبعضهم : إننا لنذكر الله تعالى ولا نجد حلاوة لذكرنا ، فقال : احمدوا الله على أن زين جارحة من جوارحكم بذكر اسمه تعالى . كما أن هذه النصوص تدل لمشروعية حَلَق الذكر وفضل مجالس الذكر ، غير أنه يجب أن يعلم أن هذا الذكر الذي يترتب عليه صفاء القلب وإشراق الروح بأنوار التجليات الإلهية إنما هو ذكر الله تعالى بأسمائه الحسنى الواردة في القرآن والسنة ، مع الأدب الكامل واستحضار عظمة الله تعالى وإخلاص التوجه إليه . المرتبة الثالثة : هذه المرتبة هي مرتبة عامة المؤمنين ، وهي أن يذكر المؤمن الله تعالى بلسانه . وقلبه غافل لاهٍ مشغول بشواغل الدنيا ، ولكن هذه الغفلة القلبية غفلة طارئة ، وليست متأصلة في قلب المؤمن ، بل هي عارضة بعروض دواعيها الدنيوية ، فإذا نبه المؤمن بالمواعظ والزواجر ، والترغيب في ثواب الله ، والترهيب من عقابه تنبه وتذكر ، وقد يثمر هذا التنبه الندم والبكاء ويقظة القلب ، وأصحاب هذه المرتبة يلحقون بفضل الله بمرتبة الذاكرين لله ولكنهم لا يساوونهم في الفضل إلا أن يشاء الله . المرتبة الرابعة : هذه المرتبة لا تدخل في مراتب الذكر لله تعالى إلا من قبيل اللفظ والتسمية ، وإزالة شبهة ذكرها في القرآن الكريم مقرونة بوصف أصحابها ، وتلك هي ذكر الله تعالى باللسان ذكراً قليلاً تستجلبه داعية الخداع والرياء والكذب مع غفلة القلب غفلة متأصلة ، لا تمحوها الزواجر ، ولا تزيلها الرغائب ، وهي مرتبة المنافقين الذين إذا قاموا للصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً . وهذه المرتبة وإن كانت في أصل ورودها في القرآن الكريم واقعة على أهل النفاق العقدي ، فإنه يخشى أن تلحق برشاشها أهل النفاق العملي ، الذين تلهيهم الدنيا فلا يفيقون منها إلا فواقا في الحين بعد الحين ، ثم يعودون لما كانوا فيه ، فإذا دعوا إلى الله لم يستجيبوا إلا متثاقلين ، وليمتحن كل مؤمن إيمانه ليعلم من نفسه أين هو ؟ والله تعالى يقول : بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره (18) . وأفضل هذه المراتب هي مرتبة الجمع بين ذكر الله باللسان مع الحضور القلبي التام كما تدل عليه كثيرة النصوص التي أوردناها وغيرها »(19).