العام الهجري الجديد.. فضائل شهر محرم وأسباب تسميته بهذا الاسم؟    وزير خارجية إيران يدين تصريحات ترامب تجاه خامنئي ويصفها بالمهينة    موعد مباراة بالميراس ضد بوتافوجو والقنوات الناقلة مباشر في كأس العالم للأندية    «عنده ميزة واحدة».. أول رد من الزمالك بشأن مفاوضات محمد شريف    فاجعة جديدة في المنوفية.. مصرع 3 من أسرة واحدة في حادث على كوبري قويسنا    استشهاد 11 فلسطينيا في قصف للاحتلال استهدف خيم النازحين بحى الرمال غربى غزة    رسميًا.. موعد صيام يوم عاشوراء 2025 وأفضل الأدعية المستحبة لمحو ذنوب عام كامل    دون فلتر.. طريقة تنقية مياه الشرب داخل المنزل    قانون العمل الجديد يصدر تنظيمات صارمة لأجهزة السلامة والصحة المهنية    رئيس الجمعية الطبية المصرية: دعم استخدام الذكاء الاصطناعي في التشخيص والعلاج    ستوري نجوم كرة القدم.. مناسبة لإمام عاشور.. تهنئة شيكابالا لعضو إدارة الزمالك.. رسائل لعبدالشافي    «ملوش علاقة بأداء الأهلي في كأس العالم للأندية».. إكرامي يكشف مفاجأة عن ريبيرو    عمرها 16 عاماً ووالديها منفصلين.. إحباط زواج قاصر في قنا    انتداب المعمل الجنائى لفحص حريق بمول شهير في العبور    أسماء أبو اليزيد: الضرب في «فات الميعاد» مش حقيقي    استمرار تدريبات خطة النشاط الصيفي بمراكز الشباب في سيناء    واشنطن تؤكد لمجلس الأمن: استهدفنا قدرات إيران النووية دفاعًا عن النفس    أحمد كريمة ينفعل بسبب روبوت يقوم بالحمل ورعاية الطفل خلال ال9 أشهر| فيديو    الخارجية الأردنية تعزى مصر فى ضحايا حادث التصادم فى المنوفية    جامعة الازهر تشارك في المؤتمر الطبي الأفريقي Africa Health ExCon 2025    عراقجي: إسرائيل اضطرت للجوء إلى الولايات المتحدة لتجنب قصفنا الصاروخي    جيش الاحتلال يصيب 4 فلسطينيين بالضفة    ترامب: من الممكن التوصل إلى وقف لإطلاق النار بغزة خلال أسبوع    شيخ الأزهر ينعى فتيات قرية كفر السنابسة بالمنوفية ضحايا حادث الطريق الإقليمي    حسام الغمري: «الاختيار» حطم صورة الإخوان أمام العالم (فيديو)    طفرة فى منظومة التعليم العالى خلال 11 عامًا    أسعار الفراخ البيضاء والبلدى وكرتونة البيض في الأسواق اليوم السبت 28 يونيو 2025    أسعار الذهب اليوم وعيار 21 الآن عقب آخر تراجع ببداية تعاملات السبت 28 يونيو 2025    عبداللطيف: الزمالك يحتاج إلى التدعيم في هذه المراكز    عمرو أديب: الهلال السعودي شرَّف العرب بمونديال الأندية حقا وصدقا    نجم الزمالك السابق: الأهلي يرفع سقف طموحات الأندية المصرية    رافينيا يوجه رسالة إلى ويليامز بعد اقترابه من الانضمام إلى برشلونة    فصل الكهرباء عن قرية العلامية بكفر الشيخ وتوابعها اليوم لصيانة المُغذى    تريلات وقلابات الموت.. لماذا ندفع ثمن جشع سماسرة النقل الثقيل؟!    التعليم تكشف تفاصيل جديدة بشأن امتحان الفيزياء بالثانوية العامة    مقتل شاب على يد ابن عمه بسبب الميراث    شيماء طالبة بالهندسة.. خرجت لتدبير مصروف دراستها فعادت جثة على الطريق الإقليمي    حزب الجبهة يقدّم 100 ألف جنيه لأسرة كل متوفى و50 ألفا لكل مصاب بحادث المنوفية    استمرار الأجواء الحارة والرطبة.. الأرصاد تحذر من طقس اليوم والشبورة صباحًا    مصرع صياد وابنه غرقا في نهر النيل بالمنيا    «الزراعة»: ملتزمون بالتعاون مع إفريقيا وأوروبا لبناء سلاسل أكثر كفاءة    هدير.. طالبة التمريض التي ودّعت حلمها على الطريق الإقليمي    عماد الدين حسين: إيران وحدها من تملك الحقيقة الكاملة بشأن ضرب المنشآت النووية    عمرو أديب عن حادث المنوفية: «فقدوا أرواحهم بسبب 130 جنيه يا جدعان» (فيديو)    ستجد نفسك في قلب الأحداث.. توقعات برج الجدي اليوم 28 يونيو    الصحف المصرية: قانون الإيجار القديم يصل إلى محطته الأخيرة أمام «النواب»    لحظة إيثار النفس    «زي النهارده».. وفاة الشاعر محمد عفيفي مطر 28 يونيو 2010    مصر تفوز بعضوية مجلس الإدارة ولجنة إدارة المواصفات بالمنظمة الأفريقية للتقييس ARSO    مدارس البترول 2025 بعد الإعدادية.. المصروفات والشروط والأوراق المطلوبة    برئاسة خالد فهمي.. «الجبهة الوطنية» يعلن تشكيل أمانة البيئة والتنمية المستدامة    لماذا صامه النبي؟.. تعرف على قصة يوم عاشوراء    بعنوان "الحكمة تنادي".. تنظيم لقاء للمرأة في التعليم اللاهوتي 8 يوليو المقبل    أمانة الحماية الاجتماعية ب«الجبهة الوطنية»: خطة شاملة بأفكار لتعزيز العدالة الاجتماعية والتمكين الاقتصادي    فنانة شهيرة تصاب ب انقطاع في شبكية العين.. أعراض وأسباب مرض قد ينتهي ب العمى    اعرف فوائد الكركم وطرق إضافتة إلي الطعام    15 نقطة تبرع وماراثون توعوي.. مطروح تحتفل باليوم العالمي للتبرع بالدم بشعار تبرعك يساوي حياة    ماذا نقول عند قول المؤذن في أذان الفجر: «الصلاة خير من النوم»؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يحيى بن معاذ.. الواعظ الذكّار نسيج وحده
نشر في الوطن يوم 20 - 07 - 2013

الواعظ الذكّار، والقانع الصبّار، والمادح الشكّار، نسيج وحده فى وقته، وصاحب الأقوال العميقة فى الرجاء، وسيد الكلام الراسخ فى المعرفة. هو الغريب على الدنيا والناس، الداعى إلى تطابق السر والعلن. كان حكيم زمانه، دوَّن الناس كلامه الأخّاذ، وجمعوا ألفاظه التى تنطوى على سحر البيان، لزم الحداد اجتناباً للعباد، واستلذ السُّهاد طلباً للوداد، واحتمل الشداد توصلاً إلى الفناد، وكان ينادى: «يا جهول يا غفول، لو سمعت صرير القلم حين يجرى فى اللوح المحفوظ بذكرك لَمُت طرباً».
هو أبوزكريا يحيى بن معاذ الرازى، الذى لُقب ب«الواعظ»، لأنه كان أول من وعظ الناس من فوق المنبر. ويقال إنه اعتلى المنبر ذات يوم، وحضر لسماعه أربعة آلاف رجل، فنظر فى وجوههم مليّاً، ثم نزل، وقال: إن الرجل الذى اعتلينا المنبر من أجله ليس حاضراً.
وقد اتصل بزين العارفين أبى يزيد البسطامى، فرأى من حالاته ما جعله يتحيّر، لكنه أدرك أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، فلازم خدمته، وروى عنه حكايات عجيبة. ويقال إن الواعظ ألف كتباً كثيرة، لكن يبدو أنها فُقدت، وإن بقيت الكثير من أقواله فى الرجاء والأمل والزهد والمعرفة والمحبة، وهى ما سنفرد لها الجزء الأكبر فى هذا المقام، نظراً لعمقها وبلاغتها.
وشهد لابن معاذ كثيرون، فقال عنه ابن النديم فى «الفهرست»: كان من الزهاد المتهجدين، وكان عابداً زاهداً، ووصفه السُّلَمى فى «طبقات الصوفية» بأنه أحد الأوتاد، وأوحد وقته فى فنه. وقال عنه القزوينى فى «آثار البلاد وأخبار العباد»: كان شيخ الوقت وصاحب اللسان فى الوعظ والقبول عند الناس، ووصفه فى «هدية العارفين» بأنه الزاهد الواعظ من رجال التصوّف. وقال عنه الذهبى فى «تاريخ الإسلام»، وفى كتابه «العبر فى أخبار من غبر» إنه كان عابداً صالحاً حكيم زمانه وواعظ عصره.
ويمكن أن نضرب مثالاً على مواعظه بتلك التى يتوجه بها إلى المريدين كى يسلكوا الطريق المستقيم، فيقول لهم: «أيها المريدون طريق الآخرة والصدق، والطالبون أسباب العبادة والزهد، اعلموا أنه من لم يُحسن عقله لم يحسن تعبد ربه، ومن لم يعرف آفة العمل لم يُحسن أن يحترز منه، ومن لم تصح عنايته فى طلب الشىء لم ينتفع به إذا وجده، واعلموا أنكم خُلقتم لأمر عظيم وخطر جسيم، وأن العلم لم يرد ليعلم إنما أريد ليعلم ويعمل به؛ لأن الثواب على العمل بالعلم يقع لا على العلم، ألا ترى أن العلم إذا لم يعمل به عاد وبالاً وحجة، وانظروا ألا تكونوا معشر المريدين ممن قد تركوا لذة الدنيا ونعيمها، ثم لا يصدق طلبكم الآخرة، فلا دنيا ولا آخرة، وفكّروا فيما تطلبون، فإن من لم يعرف خطر ما يطلب لم يسهل عليه الجهل فى جنب طلبه، واعلموا أنه من لم يهن عليه الخلق لم يعظم عليه الرب، ومن لم يكن طلبه فى طريق الرغبة والرهبة والشوق والمحبة كان متحيراً فى طلبه، مخلطاً فى عمله، لا يجد لذة العبادة، ولا يقطع طريق الزهادة، فاتقوا الله الذى إليه معادكم، وانظروا ألا تكونوا ممن يعرفهم جيرانهم وإخوانهم بالخير والإرادة والزهادة والعبادة وحالكم عند الله على خلاف ذلك، فإن الله إنما يجزيكم على ما يعرف منكم، لا على ما يعرفه الناس، ولا تكونوا ممن يولع بصلاح الظاهر الذى إنما هو للخلق، ولا ثواب له، بل عليه العقاب، ويدع الباطن الذى هو لله وله الثواب ولا عقاب عليه».
وهناك موعظة أخرى مؤثرة ألقاها على آذان سامعيه يقول فيها: «عذّبوا أنفسكم فى طاعة الله بترك شهواتها قبل أن تلقى الشهوة منها أجسامكم فى ديار عاقبتها، واعلموا أن القرآن قد ندبكم إلى وليمة الجنة، ودعاكم إليها، فأسرع الناس إليها أتركُهم لدنياه، وأوجدُكم لذة لطعم تلك الوليمة: أشدهم تجويعاً لنفسه، ومخالفة لها، فإنه ليس أمراً من أمور الطاعة إلا وأنتم تحتاجون أن تخرجوه من بين ضدين مختلفين بجهد شديد، وسأظهر لكم هذا الأمر؛ فإنى وجدت أمر الإنسان أمراً عجيباً، قد خالف ما كُلِف سائر الخلق من أهل الأرض والسماء فأحسن النظر فيه، وليكن العمل منك فيه على حسب الحاجة منك إليه، واستعن بالله فنعم المعين، واعلم أنك لم تسكن لتنعم فيها جاهلاً، وعن الآخرة غافلاً، ولكنك أسكنتها لتتعبد فيها عاقلاً وتمتطى الأيام إلى ربك عاملاً، فإنك بين دنيا وآخرة، ولكل واحدة منهما نعيم وفى وجود أحدهما يطول الآخر، فانظر أن تُحسّن طلب النعيم، فقد حكى عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: غلط الملوك طلبوا النعيم فلم يحسنوا».
وكان الواعظ يعبر أحياناً عما يدور فى نفسه من أذواق، وما فى رأسه من حكمة، بأبيات من الشعر، مثل قوله:
«يا ليته لم يكن فى اللوح مسطورا
ذنب على عبده قد كان مقدورا
كيف النجاة بعبد أنت خالقه
ماذا تريد به يا رب مفطورا
يا ويحه يوم يستدعى صحائفه
إليك من خمدة الأموات منشورا».
وهناك أشعار أخرى، يتحدّث فيها عن انشغال قلبه بالذنوب التى اقترفها وسعيه إلى الشفاء من العلل الروحية التى ألمت به، يقول فيها:
«أنا مشغول بذنبى يا رجل
كف عنى إن قلبى فى شغل
كيف أرجو توبة تدركنى
وأرى قلبى بويلى يشتغل
ذهبت نفسى بلا شك على
أننى أدفع دهرى بالعلل».
ومن أول المقامات الصوفية التى انشغل بها يحيى بن معاذ مقام «الرجاء» الذى برع فى التعبير عنه إلى حد بعيد، وترك لنا بشأنه أقوالاً عميقة، منها هذا الدعاء: «إلهى، أحلى العطايا فى قلبى رجاؤك، وأعذب الكلام على لسانى ثناؤك، وأحب الساعات إلى ساعة يكون فيها لقاؤك». ومنها هذه المناجاة: «يكاد رجائى لك مع الذنوب، يغلب رجائى لك مع الأعمال، لأنى أجدنى أعتمد فى الأعمال على الإخلاص، وكيف أحرزها، وأنا بالآفة معروف. وأجدنى فى الذنوب أعتمد على عفوك، وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف». و«إلهى لا تنس لى دلالتى عليك، وإشارتى بالربوبية إليك، رفعت يداً بالذنوب مغولة، وعيناً بالرجاء مكحولة، فاقبلنى لأنك ملك لطيف، وارحمنى لأنى عبد ضعيف». و«من عبد الله تعالى بمحض الخوف فى بخار الأفكار، ومن عبده بمحض الرجاء تاه فى مفازة الاغترار، ومن عبده بالخوف والرجاء استقام فى محجة الادكار». و«كيف أمتنع بالذنب من رجائك، ولا أراك تمتنع للذنب من عطائك».
ومن أقوال الواعظ فى الرجاء أيضاً: «أوثق الرجاء رجاء العبد ربه، وأصدق الظنون حُسن الظن بالله»، و«لا تقع للمؤمنين سيئة إلا وهو خائف أن يُؤخذ بها، والخوف حسنة، فيرجو أن يُعفى عنها والرجاء حسنة».
كما انشغل الواعظ بمسألة «الفقر» التى لا تعنى طلب الفاقة والمسكنة، إنما الشعور الدائم بالحاجة الماسة إلى الله، والرضا بالقليل من متاع الدنيا، سواء الطعام أو الشراب، أو الشهوات الجسدية. ويطالب الناس بأن يخافوا من الآخرة خوفهم من الفقر، ويجعلوا المخافة الأولى مقدمة على الثانية، بل قد تجبها تماماً مع توكُّل الإنسان على ربه، كما يتوكل الطير، الذى يغدو خماصاً ويعود بطاناً. وقد سُئل ذات يوم: متى يكون الرجل متوكلاً؟ فأجاب: إذا رضى بالله وكيلاً.
ومن أقواله فى شأن الفقر:
«استشعرت الفقر فاتهمتَه، ووثقتَ بعبد مثلك فقير فائتمنتَه، ثم صرخ وقال: واسوءتاه منك إذا شاهدتنى وهمتى تسبق إلى سواك، أم كيف لا أضنى فى طلب رضاك. قلب المحب يهم بالطيران، وتَكمُله لدغات الشوق والخفقان.. إلهى، إن كانت ذنوب عظمت فى جنب نهيك فإنها قد صغرت فى جنب عفوك.. إلهى، لا أقول لا أعود لما أعرف من خلقى وضعفى.. إلهى إنك إن أحببتنى غفرت سيئاتى، وإن مقتنى لم تقبل حسناتى ثم قال: أواه قبل استحقاق قول أواه».
«طوبى لعبد أصبحت العبادة حرفته، والفقر مُنيته، والعزلة شهوته، والآخرة هِمته، وطلب العيش بُلغَتُه، وجعل الموت فكرته، وشغل بالزهد نيته، وأمات بالذل عزته، وجعل إلى الرب حاجته، يذكر فى الخلوات خطيئته، وأرسل على الوجنة عبرته، وشكا إلى الله غربته، وسأله بالتوبة رحمته. طوبى لمن كان ذلك صفته، وعلى الذنوب ندامته. جأر الليل والنهار، وبكاء إلى الله بالأسحار، يناجى الرحمن، ويطلب الجنان، ويخاف النيران».
«إنما صار الفقراء أسعد على الذكر من الأغنياء، لأنهم فى حبس الله، ولو أطلقوا من حصار الفقر لوجدت من ثبت منهم على الذكر قليلاً».
«مسكين ابن آدم لو خاف النار، كما يخاف الفقر دخل الجنة».
«حبك الفقراء من أخلاق المرسلين، وإيثارك مجالستهم من علامة الصالحين، وفرارك من صحبتهم من علامة المنافقين».
قيل إنه تكلم ذات مرة فى «بلخ» عن مسألة تفضيل الغنى على الفقر، فأعطى ثلاثين ألف درهم، فقال بعض المشايخ: لا بارك الله له فى هذا المال، فخرج إلى نيسابور، فوقع عليه لص وأخذ منه ذلك المال.
والكلام عن الفقر لا بد أن يأتى فى ركاب الحديث عن الزهد، الذى هو جوهر التصوف وعموده، وللواعظ أقوال مشهودة فى الزهد منها:
«كيف يكون زاهداً من لا ورع له؟ تورع عما ليس لك، ثم ازهد فيما لك».
«الزهد ثلاثة أشياء: القلة والخلوة والجوع».
«جوع التوابين تجربة، وجوع الزاهدين سياسة، وجوع الصديقين تكرمة».
«الجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللزهاد سياسة، وللعارفين مكرمة».
«الدنيا بحر التلف والنجاة منها الزهد فيها».
«طلبوا الزهد فى بطن الكتب، وإنما هو فى بطن التوكل لو كانوا يعلمون».
«الدنيا أميرُ من طلبها، وخادمُ من تركها، الدنيا طالبة ومطلوبة، فمن طلبها رفضته، ومن رفضها طلبته، الدنيا قنطرة الآخرة فاعبروها ولا تعمروها، ليس من العقل بنيان القصور على الجسور، الدنيا عروس وطالبها ماشِطتها، وبالزهد يُنتف شعرها، ويُسَود وجهها، وتُمزق ثيابها. ومن طلق الدنيا فالآخرة زوجته، فالدنيا مطلقة الأكياس لا تنقضى عدتها أبداً، فخل الدنيا ولا تذكرها، واذكر الآخرة ولا تنسها».
«لا تجعل الزهد حرفتك لتكتسب بها الدنيا، ولكن اجعلها عبادتك لتنال بها الآخرة، وإذا شكرك أبناء الدنيا ومدحوك فاصرف أمرهم على الخرافات. ترى الخلق متعلقين بالأسباب، والعارف متعلقاً بولى الأسباب، إنما حديثه عن عظمة الله وقدرته وكرمه ورحمته، يحترف بهذا دهره ويدخل به قبره».
«الدرجات التى يسعى إليها أبناء الآخرة سبعة: التوبة ثم الزهد ثم الرضا ثم الخوف ثم الشوق ثم المحبة ثم المعرفة، فبالتوبة تطهروا من الذنوب، وبالزهد خرجوا من الدنيا، وبالرضا ألبسوا حُلل العبودية، وبالخوف جاوزوا قناطر النار، وبالشوق إلى الجنة استوجبوها، وبالمحبة عقلوا النعيم، وبالمعرفة وصلوا إلى الله».
«اعلموا أنه لا يصح الزهد والعبادة ولا شىء من أمور الطاعة لرجل أبداً وفيه للطمع بقية، فإن أردتم الوصول إلى محض الزهد والعبادة فأخرجوا من قلوبكم هذه الخصلة الواحدة، وكونوا -رحمكم الله- من أبناء الآخرة، وتعاونوا واصبروا وأبشروا تظفروا إن شاء الله، واعلموا أن ترك الدنيا هو الربح نفسه الذى ليس بعده أمر أشد منه، فإن ذبحتم لتركها نفوسكم أحييتموها، وإن أحييتم أنفسكم بأخذها قتلتموها، فارفضوها من قلوبكم تصيروا إلى الروح لراحة فى الدنيا والآخرة، وتصيبوا شرف الدنيا والآخرة، وعيش الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون».
«من أحب زينة الدنيا والآخرة فلينظر فى العلم، من أحب أن يعرف الزهد فلينظر فى الحكمة، ومن أحب أن يعرف مكارم الأخلاق، فلينظر فى فنون الآداب، ومن أحب أن يستوثق من أسباب المعايش، فليستكثر من الإخوان، ومن أحب ألا يؤذى فلا يُؤذَين، من أحب رفعة الدنيا والآخرة، فعليه بالتقوى».
«الزهد يورث السخاء بالملك، والحب يورث السخاء بالروح».
«لا يبلغ أحد حقيقة الزهد حتى يكون فيه ثلاث خصال: عمل بلا علاقة، وقول بلا طمع، وعز بلا رياسة».
«الاقتصاد فى العيش ضيعة لم تتكلف منها: تمتع القلوب فى الدنيا غفلتها عن الآخرة، الزهد حلو مُر، أما حلاوته فاسمه والمذاكرة به، وأما مرارتُه فمعالجته».
«قال رجل ليحيى: متى أدخل حانوت التوكل، وألبس رداء الزهد، وأقعد مع الزاهدين؟ فقال: إذا صرت من رياضتك لنفسك فى السر إلى حدٍّ لو قطع الله عنك الرزق ثلاثة أيام لم تضعف فى نفسك، فأما ما لم تبلغ هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن عليك أن تفتضح».
كما كانت للواعظ حكم رائقة عن المعرفة الحدسية، وكان يرى أن «أهل المعرفة وحش الله فى الأرض لا يأنسون إلى أحد، والزاهدون غرباء فى الدنيا، والعارفون غرباء فى الآخرة»، وفى نظره «يخرج العارف من الدنيا ولا يقضى وطره من شيئين، بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربه عز وجل». و«العارف قد يشتغل بربه عن مفاخرة الأشكال ومجالس العطايا، وعن منازعة الأضداد فى مجالس البلايا». وسُئل ذات مرة عن العارف، فقال: «رجل كائن بائن» أو «كان بان»، وهذا يعنى أن العارف هو كائن مع الناس ببدنه، لكنه بعيد عنهم بقلبه، لأنه مشغول بخالقه». وكان يصف العارف بأنه «جسم ناعم، وقلب هائم، وشوق دائم، وذكر لازم». وكان يطالب العارفين بأن يتأدبوا مع منبع المعرفة ومصدرها الأول، ويقول: «إذا ترك العارف أدبه مع معروفه، فقد هلك مع الهالكين». وكان يقول: «لو لم يكن للعارفين إلا هاتان النعمتان لكفاهم مِنة: متى رجعوا إليه وجدوه، ومتى ما شاءوا ذكروه».
وله أقوال راقية صافية عميقة مؤثرة، تكاد تترجم ما قاله النفرى من أنه «إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»، ويمكن هنا أن نقدّم أمثلة من الكلام الأخاذ ليحيى بن معاذ:
«علامة الشوق: فطام الجوارح عن الشهوات».
«الوحدة جليس الصديقين».
«الوقوف على حد العلم من غير تأويل».
«التواضع حسن فى كل أحد، لكنه فى الأغنياء أحسن. والتكبر سمج فى كل أحد، لكنه فى الفقراء أسمج».
«الفوت أشد من الموت، لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق.. لست أبكى على نفسى إن ماتت إنما أبكى على حاجتى إن فاتت».
«مفاوز الدنيا تُقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تُقطع بالقلوب».
«قد غرق فى بلائه وهو يريد أن ينجو من ربه بصفائه».
«فى سعة الأخلاق كنوز الأرزاق».
«من استفتح باب المعاش بغير مفتاح الأقدار وُكل إلى المخلوقين».
«الإخلاص يميز العمل من العيوب كتمييز اللبن من الفرث والدم».
«ما فى القلب للأسخياء إلا حب ولو كانوا فجاراً وللبخلاء إلا بغض، ولو كانوا أبراراً».
«معاشر الصديقين! جوعوا أنفسكم لوليمة الفردوس فإن شهوة الطعام على قدر تجويع النفس».
«الدنيا حانوت الشيطان، فلا تسرق من حانوته شيئاً فيجىء فى طلبه فيأخذك».
«الدنيا بلغ شؤمها أن تمنيك لما يلهيك عن طاعة الله، فكيف الوقوع فيها».
«إن وضع عليهم عدله لم تبقَ لهم حسنة، وإن أنالهم فضله لم تبق لهم سيئة».
«الجنة حبيبة المؤمن، فكيف يبيعها منه بالبغيضة؟».
«لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طرقاتها بالذنوب».
«لا يفلح من شُمَت منه رائحة الرياسة».
«لا تسكن إلى نفسك وإن دعتك إلى الرغائب».
«من كانت الحياة قيده كان طلاقه منها موته».
وتوفى يحيى بن معاذ فى نيسابور سنة 258 ه الموافق لسنة 872 م، بعد أن نزل فى مدينتى الرى وبلخ، وأَقام بهما سنوات عديدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.