لقاء ثلاثتهم قدموا تباعا وفقا للموعد المضروب بينهم، التجمع حول الثالثة بعد الظهر داخل كافتريا الامريكين العتيقة وسط القاهرة. رأفت صاحب البشرة الداكنة والجسد النحيل، وصاحب الدعوة، اضطجع على الكرسي المواجه لشارع فؤاد يرقب الناس من خلف الواجهة الزجاجية من خلال نظارة طبية معلقة في وجهه وكان زجاجها سميك، والكثير من الأفكار تتصارع داخل جمجمته المخروطية التي يحميها شعر مجعد أهمل قصه منذ فترة طويلة. أقتربت أيام مغادرته الى عمله بالخليج، لم يعد لديه متسع من الوقت يضيعه. نبيل ذي الوجه الحليبي الرائق، دائما يتستر خلف ابتسامة عريضة مفشوخة، اربعيني، بدانته تتناسق مع استدارة وجهه ولمعانه، انفاسه عادة تتصارع مع ضربات قلبه كأنهما في سباق ماراثوني مرهق، كان العرق ينثال بغزارة من جبهته ورقبته لدرجة ان قميصه القطني الأصفر تلطخ ببقع العرق في كل مكان. ظهر من خلال زجاج النافذة حسام مصحوبا بحركاته الثقيلة، وقامته الفارعة وظهره المفرود مثل لوح الخشب، يعبر الشارع وعيناه الحادتان الماكرتين تتعقبان النساء في مختلف الاتجاهات، كمش ظهر المقعد بقبضته العريضة، ارتمى فوقه مثل حجر، تمدد في استرخاء ودون ان ينبس. هكذا تجمعوا أخيرا بعد جدال طويل، ومماطلات مرهقة نتيجة تعارض المصالح استهلكت أياما طويلة، حسمها حدث وهو اقتراب قطار الرحيل من حافة المغادرة برأفت بعد غد، الأشواق حامت حول الطاولة، بينما كانت النادلة صاحبة البشرة الندية تدور حولها، كانت ترتدي اليونيفورم المميز للمكان. رأفت بدا أكثرهم شغفا ونضحا للمشاعر والذكريات، تراقصت أمام عينيه بوضوح خيالات الماضي وروائحته التي سكنت خلاياه منذ امد بعيد. كمثل طيور باجنحة حلقت في فضاء الصالة الهادئة ذكريات الجامعة والتلمذة والتمرد والحب، بينما تتباعد وتقترب حركة النادلة الشابة السمراء بين طاولات الزبائن المتناثرين في المحيط، وحسام يتعقب خطوات كعبها الخشبي باهتمام. لم يكن هناك شيء آخر سوى الذكريات وروائحها وجلالها المقدس، وقلق الواقع، ورفضه لدرجة العدائية، لم يكن نبيل ليستقر على ابتسامة أو مزحة دون ان يرتشف من كوب العصير قبل ان يطلب من النادلة المبتسمة طبق سلاطة اضافي بالفواكه والايس كريم، ولم تكن جدران المبنى العتيق لتصيخ السمع للرفاق وتفتح خزائن اسرارها لهم وللشارع المزدحم الذي دهسته الأيام، واولئك البشر اللذين يمضون فيه مترنحين، وقد عصبت عيونهم بغلالات رقيقة مصنوعة من القلق والهموم والخوف. اقتربت مشاعر الحنين وتفاصيل القصص القديمة وتباعدت مع بوح الجدران، وحركة النادلة الشابة المفعمة بالحيوية والشباب. حسام لم يعد يحتمل كل هذا اللغو الذي لا يشوقه ولا يعيشه، نطر نفسه على حين غرة، رأسه اقتربت من السقف، لم يعد لديه خليه واحدة تحتمل، طالع ساعته الكاسيو القديمة، انقض فجأة على رأفت، استنهضه من مقامه، احتضنه بقوة، رأفت ما زال طائرا في فضاء الماضي، استقام نبيل الذي ما زال فاغرا فاهه للحلم ولسلاطة الايس كريم، شد على يده بقوة، فر من أمامهم بسرعة، شاهدوه من خلف الزجاج يمضي بخطوات واسعة متعجلة، عاقدا حاجبيه، وضاما ذراعيه حتى منتهاهما على جانبيه وقد ارتدى نفس الغلالة التي يرتديها الناس في الشارع الصاخب المزدحم. لحظات ثقيلة انقضت قبل ان ينتفض الرفيقان ويتعانقان بحرارة، كأنهما لن يلتقيان أبدا بعد اليوم، دلفا معا الى خارج المقهى، استقبلهم الشارع المتخم بالقلق والاكتئاب، وتزينه نفحات الماضي وعرق الأقدمين، والاحداث الجسيمة، طفقت رائحة الشارع تطارد الرفيقين وتزكم انوفهم بشدة حتى افترقا بعد ان تركا خلفهم بيت القضاء والعدل مطلا بشموخ ورهبة كأنه يخفر الشارع العظيم. د. احمد الباسوسي