أثناء متابعتي لكتلة المياه علي الأرض أدركت أنني السبب في كل ذلك، درجة الحرارة سبعين!! وأنا في عربة مترو خط قديم يترنح في صمت، كل المياه الموجودة في جسدي خرجت في صورة عرق وزجاجة المياه المتوسطة الحجم المضببة تروي عطش أي ملهوف، لا أعرف من أين أتت بها تلك الفتاة ذات الوجه البرونزي.. أحدهم عطف عليها بها أم ملأتها من مبرد؟ عربة المترو الخاصة بالسيدات مزدحمة وأجسادهن متلاصقة وبما أن كلهن سيدات فلا توجد مشكلة في التلاصق عليك فقط تحمل رائحة العرق المختلط بروائح عطور ومساحيق تجميل، في الأماكن المزدحمة سيئة التهوية أري في الأعلي سحبا صفراء وبخار عرق يحوط الجميع. لمحت بوضوح بصمات متراكمة ومتداخلة بوضوح أكثر "مفعوصة في بعضها"، بالأمس جلست مع الأصدقاء وأحضر لي النادل كوب شاي اكتشفت عليه بصمة اصبع غليظة، شعرت بقرف وغضب شديدين وفي خيالي أطحت بالطاولة وما عليها في وجه الجالسين وذهبت. اتجهت عيناي لفتاة صغيرة تتحرك كفرقع لوز تبيع أساور مصنوعة من الخرز الملون واشتريت أساور.. فلا أعلم لم الآن تحديدا انهمكت في صنع عقود وأساور وغرقت في عالم مليء بالخرز والخيوط، لا أمل مطلقا ولا أعبأ بآلام ظهري ولا حرقة عينيّ، أفكار تجيء وتذهب.. كل شخص له لون خرزة.. جدتي ظلت معي طوال الخرزة الحمراء شديدة الصغر في العقد الأحمر في ذهبي. انتصرت الفتاة ذات الوجه البرونزي في نزاعها اليوم ولم يتبق في بضاعتها سوي علبة واحدة فقط من المناديل الورقية، من حين لآخر كانت ترمي عدة نظرات علي كيس البضاعة شبه الفارغ الذي تعلقه في اصبع يدها اليمني وعدة نظرات آمنة علي لفة جرائد مهترئة تتستر علي سندوتش فول يحتمي في أصابع يدها اليسري، وتحت ابطها الأيمن استقرت الزجاجة المضببة. تحركت بفعل الزحام تجاه الباب وعليه قرأت إعلان أكاديمية التدريب العسكري الشهير ونصيحة مطبوعة عن عفة وطهارة الحجاب وتذكير بالفلوماستر الأحمر للقصاص لدماء الشهداء وتساءلت بصدق أيهم؟.. توقفت لثوان أمام اعلان فرصة زواج، أتذكر وأنا في الصف الثاني الثانوي محادثة مع جدتي أني مش هاتجوز إلا اللي أنا عايزاه حتي لو بقي عندي تلاتين سنة.. ابتسمت الجدة واقتربت تنظر لي نظرة لم أفهمها: حتي لو ما تجوزتيش خالص يا جميل، جزعت حينها من الرد وضحكت في ارتباك. ضيقت حدقتي عينيّ وأنا أتابع المترو المقابل وأصفر صفيرا متقطعا: أنا علي وشك الدخول في الثلاثين بالفعل.. دخول السيدة كان لافتا للجميع وبرغم أناقتها الشديدة لم يعجبني الأخضر في أبيض الذي ترتديه، بمجرد دخولها ارتكزت لركن وأخرجت من حقيبتها الفخمة فطيرة مغلفة، نظرت لها الفتاة البرونزية وتذكرت الجوع وشرعت في التعامل بفخر مع ورقة جورنالها. تعاملت السيدة التي بجانبي مع ثدييها علي أنهما يدان اضافيتان لتخلق لنفسها مساحة تكفل لها النزول، أتاح فتح الباب في محطة "الزهراء" أخذ نفس سريع ثم العودة للغوص مرة أخري بينما قفزت الفتاة الفرقع لوز للعربة التالية وقبل أن يبتلع صوت عجلات المترو أصوات الجميع شرعت فتاة في قول دعاء الركوب، رددت معها في سري وكعادتي بمجرد نطقها كلمة الله أكبر وتركيزها علي التشكيل الصحيح مع كسر الكاف وفتح الباء وتسكين الراء قلدتها وأنا أجاهد بشدة لكتم ضحكتي. ارتكزت الفتاة البرونزية بدورها للباب نصف الزجاجي الفاصل بين العربات وقفت علي قدم واستندت بالأخري علي الباب وهي تحاول في حنكة اللحاق بكتل الفول المعجونة مع العيش البلدي المهتريء قبل وقوعها علي الأرض أو في الجورنال، أما السيدة ذات الرداء الأخضر فقد كانت تتناول شيئا يشبه فطيرة السكر.. أنا أيضا أحب فطيرة السكر.. فطيرة غارقة بالسمن يختبيء بداخلها السكر البودرة المسكين الذي لم يحتمل حرارة العجين الطري وذاب.. بعض منه تماسك قليلا علي سطح الفطيرة.. جميل الأبيض الشاهق مع درجات البيج. نهر الجميع سيدة دخلت مسرعة ومعها طفل كاد الباب أن ينقض علي قدمه النحيفة، من سنوات حين كان ركوب المترو فعلا يحتاج جرأة تجرأت أمي وأخذتني معها ومن فرط الانبهار قفزت أختاي الصغيرتان ولم نستطع أنا وأمي اللحاق بهما وأغلق الباب مع توصيات أمي والركاب داخل وخارج العربة ألا تخاف الفتاتان وتنزل ضروري المحطة القادمة، ركبت أنا وأمي في القطار الذي يليه ورأفت بنا الصدفة وفتح باب العربة في نفس مكان وقوف الصغيرتين اللتين اندفعتا باتجاه أمي يحتضنانها وسط ابتسام الجميع بشكل أخجلني وأوقفني بعيدا عنهن. قررت السيدة منح الفتاة أكلة كريمة، قضمت قضمة أخيرة، من فطيرتها ثم اتجهت للفتاة بجفاء: كلي دي أحسن. أخذت الفتاة بقايا الفطيرة ممتنة واحتفظت بباقي السندوتش للحظة جوع قادمة، تابعت أنا الفطيرة وهي تتمزق بسهولة بين أسنان الفتاة بينما ظلت زجاجة المياه مستقرة في مكانها، ابتلعت القضمة الأولي وقد غمرت ابتسامة العرفان وجهها. بينما تابعت في الأعلي بملل حركة المقابض البلاستيكية السليمة المحظوظة.. حتي البقايا منها كانت كصف منتظم من أناس مندمجين تماما في رقصة زار، شعرت بدوار خفيف أثر متابعة المقابض، هززت رأسي وأخذت نفسا ضيقا "حيث بدأت أغضب من عطشي" ورحت أتابع الفتاة. اتجهت لجانبي الفطيرة غير المحشوين وتناولتهما بالكامل، ثم اقتربت من المنتصف المنتفخ بالحشو وقضمت قضمة متوسطة ابتلعتها علي مضض وحاولت تنحية الحشو الباقي من الفطيرة بلسانها لكنها لم تفلح نظرت للفطيرة بيأس وأخرجت بقايا الحشو من فمها وألقته في كيس الفطيرة وطوتها في غلافها تاركة اياها علي استحياء في زاوية وهي تتحاشي النظر للسيدة، وعادت بحماس للفوز وهي تحتضن العامود وتتأرجح، اقتحم صراع السيدة صاحبة الفطيرة لحظة هناءة الفتاة وهي ترشقها بنظرات غيظ شديد: يعني أنا شلت اللقمة من بقي عشان اديهالك وانتي بترميها في الأرض؟؟. صمت الجميع وتسمرت الفتاة في مكانها وهي تبتلع بصعوبة قضمة فول لم تمضغ بعد وتحملق في السيدة برعب، اخترقت السيدة الصمت وهي تواصل الصراخ وتمسك يد الفتاة بعنف: تعالي هنا. ذعرت الفتاة وبكت بصوت عال بينما دخل القطار المحطة والجميع صامتون في ذهول وأعتقد أن جميع الناس مثلي كانوا يحاولون فهم السبب الرئيسي لغضب السيدة "أكيد مش عشان الفطيرة"، فتح القطار بابه وجرجرت السيدة الفتاة التي تألق لونها البرونزي بفعل الدموع الغزيرة وأثناء ذلك وقع منها بين القضبان سندوتش الفول وكيس البضاعة وهممت بالاعتراض غاضبة فأغلق المترو في وجهي ورأيت السيدة علي الرصيف تنهض الفتاة من علي الأرض بعنف وتهزها أمام الضابط، تحدث الضابط مع السيدة وقد ترك الفتاة تختبيء خلف قدمه من بطشها لحظتها فتحت زجاجة المياه وانكبت علي الأرض التي شربتها في ثوان، سكنت الزجاجة عن الحركة بعد ثلاث دورات فقدت فيها معظم المياه بينما ارنمي الغطاء مغشيا عليه، وتيقنت وهم يختبئون من أمامي أن رغبتي القاتلة في الزجاجة هي سبب كل ذلك.