اقتربت من باب الحجرة ونظرت من بعيد, وبحركة متوترة سريعة وكأنها تفر من شيء ما, مرقت من الباب, وبتنهيدة مرتفعة استقبلتني بنظرة تحد وتعال غريبة وصامتة وهي تتسع عيناها وتتألق بالباب وتطيل النظر فيمن حولها بهدوء مثير يطلب من وجه مسح الجمال وجنتيه تاركا أثره يلفه من الجانبين خصلتي شعر فاحم انسدل في وداعة نافرة, مؤكدا وجوده, وإن بدا علي تنسيقه النزعة الريفية الا ان جمود الملامح وحدة النظرة توحي لك شعورا بالتوتر ينتظر أثره سريعا حولها ونحن داخل إحدي دور الرعاية, كانت الفتاة تلتفت في حيرة واستقرت أخيرا في عيني مشرفتها لتنتقل إلي متسائلة عن السبب في استدعائي لها وأنا ألاحظ توتر أصابع يدها التي تحاول السيطرة عليها بمحاولة قضم ظفر تلو الآخر, أشرت لها بيدي وأنا اشعر بانها تعشق الصمت بلا حدود وسألتها عن سبب وجودها في الدار, نظرت إلي بغير اكتراث وخرج صوتها كالغنج الناعم وهي تقول القتل. ولما لاحظت اندهاشي, ابتلعها الصمت ثانية.. وما هي إلا ثوان حتي فتحت فمها وبهدوء مثير ينقصه موسيقي مؤثرة قالت نعم.. قتلت.. أخي. ثم صمتت تماما وكأنها لم تقل شيئا ونظرت إلي الأرض وبعد فترة, شعرت بأنها تنظر من فرجة باب والكلمات تخرج من شفتيها كانتزاع مسمار صدأ من الأخشاب وهي تقول عمري15 سنة وكنت أدرس في الشهادة الاعدادية بمدرسة شهيرة باحدي القري بالصعيد, أبي رجل مزارع ولنا قطعة أرض تكفينا وتجعل حياتنا ميسورة وأمي ربة منزل بسيطة, ولي أخت كبري وثلاثة أخوة وأنا الصغري... ثم عادت للسكوت واستكملت والحزن يكسو كلماتها وأنفاسها أعشق الوحدة وعدم الحديث واحب الهدوء والسكينة لذا لم أقترن مع أي زميلة في أي نشاط بالمدرسة ولم أكن أحب أن أخرج في المتنزهات مع أقاربي من الفتيات بقريتنا, وكنت أرضي بحياتي رغم قسوة عملي الشاق في أشغال البيت من تقديم الخدمة للجميع ولم أكن أعترض أو أتذمر لأنهم أهلي. واستكملت: كانت علاقتي بجميع اخوتي طيبة حتي القتيل, الذي كنت انزعج من رؤيته يدخن السجائر, ولا اعرف ما الذي يتعاطاه ويجعله في غير حالته.. ثم عاد السكوت إليها ونظرت إلي الأرض والجمود يكسو ملامحها في حدة مكفهرة, عدت أسألها عن سبب قيامها بالقتل, ردت بصوت خفيض في احدي الليالي كنت أنام بحجرة البنات, كما نسميها وأثناء استغراقي في النوم, شعرت بثقل غريب فوقي ففزعت ونفضت الغطاء عني ففوجئت بأخي الذي يكبرني بثلاثة سنوات, يتحرش بي شعرت بألم يعتصر قلبي وازدادت دقاته, وغطت رأسي حبات العرق وأحسست برعب شديد, ودفعته بعيدا عني وأنا أصرخ فيه وأنهره وحاول العودة باتجاه السرير ثانية إلا أن ارتفاع صوتي وخشية افتضاح أمره منعه من ذلك فخرج من الباب مسرعا.. وظللت أرتعش في سريري رغم تدثري باللحاف والعرق لا أعلم من أين يأتي وعيني معلقة علي الباب المغلق, خشية رجوع أخي لفعلته الشائنة وطار النوم من عيني حتي الصباح, وادعيت المرض أمام كل من يسألني عن عدم مغادرتي للحجرة, وتم استدعاء الطبيب الذي طالبني بالهدوء والنوم لأن ضغطي مرتفع وأنا مازلت صغيرة وابتلعت ريقها ثم استطردت تقول: مر علي أيام بعد هذه الواقعة كلها كوابيس سوداء, وظللت3 أيام أحلم بأني تائهة والجميع يبحث عني وسمعت كل من أعرفه يناديني باسمي يا.... يا.... وأنا صامتة لا استطيع الرد حتي رأيته يضحك ويقترب من جديد وهذه المرة لم يكن يتحرك بطيئا وانما هجم علي مرة واحدة وكنت أفزع من النوم وأستيقظ حتي الصباح, وكنت انتظر ان يعتذر لي أخي, وفي اليوم الرابع من الواقعة عاود الهجوم علي وأنا نائمة, فصددته والأسي يملؤني والدموع تحرق عيناي المذهولتين مما رأيته وبعد يوم آخر تكرر الفعل وكنت مستيقظة فصرخت فيه فخرج وبعد مرور أسبوع علي الثلاث محاولات في احدي الامسيات كانت دقات الساعة ما بين العاشرة والحادية عشرة مساء وكان لا أحد يسأل عني في بيتنا وأمي نائمة والجميع في سبات. كنت أرقد بحجرتي بين اليقظة والنوم وشعرت بتحرك يد الباب في حذر وخطي قدميه الحافيتين علي الأرض يرتفع صوتهما وهو يقترب من مكان نومي, ففتحت عيني بقوة وانتظرته حتي اقترب مني فدفعته بقوة جمعت فيها كل غضبي منه فسقط متعثرا علي وجهه فاستللت سكينا من أسفل الوسادة التي أضع عليها رأسي وطعنته بكل قوة في ظهره فصرخ والتصق بصدره إلي الأرض عائدا بعد أن كان يهم بالوقوف. وسكتت الفتاة تسترد أنفاسها المتلاحقة وهي تستعيد أحداث الواقعة وعادت تتحدث ببطء وهي تقول: وقفت أصرخ والسكين مغروسة في ظهره وجسده ساكنا بدون حراك, وظللت أصيح حتي استيقظ كل من بالبيت ولطمت أمي خديها وكان الجميع يعتقد أن هنا لصا هو القاتل وأن أخي تصدي له فقتله وقام أبي بالامساك بالسكين وانتزعه بيديه وجاء الخفير من الخارج علي اثر الجلبة والصياح واتصل بضباط المباحث بعد ان استمع إلي دقات قلبه وأمسك بمعصمه وأكد أنه فارق الحياة وبمجرد دخول ضباط المباحث ورجال الشرطة للمكان وقفت أمامهم واعترفت بأني القاتلة وسط ذهول أبواي واخوتي عاجلتها بالسؤال الذي يلح علي لماذا لم تخبر أمها أو أختها الكبري بما يفعله القتيل؟ ردت ببرود عجيب: أمي لا أصاحبها.. أي ليس بيني وبينها مودة وأختي الكبري متزوجة وببيتها ما يكفيها من مسئوليات.. اكملت سؤال وأبوك لماذا لم تخبريه؟ أكلمت أما أبي فأنا أخشاه وأراه بالكاد وعلاقتنا متوترة دائما. عدت اسأل: منذ متي وأنت بالدار ومن يزورك من الأهل فردت ببساطة مر علي بالدار سنة و5 شهور ولم يزرني أبي أو أمي ولا أحد من أسرتي وأتمني ألا أراهم ثانية وحالي بالدار أفضل كثيرا واستغل موهبتي في الرسم والتلوين في عمل لوحات أضع فيها انفعالاتي وشحناتي وأنا غير حزينة أن أهلي لم يوكلوا لي أي محام عن طريقهم. ألح علي سؤال: لوعاد بك الزمن هل كنت تقتلينه ثانية علي فعله, ردت لأول مرة بسرعة: أنا كنت أدافع عن نفسي ولم أكن أنوي قتله ولو عاد بي الزمن لافقته برش المياه علي وجهه لأني أعلم أنه لم يكن في وعيه, ولكني عندما حاصرتني الكوابيس السوداء, كنت أحدث نفسي جهارا أني لن أسمح لأحد أن يضع رأسي في الوحل لأن في قريتنا مسألة الموت أهون منها. سألتها السؤال الأخير: هل اشتقت إلي أخوك وتودين رؤيته ثانية؟ تحركت الدموع بعينها تحاول الخروج ولكن سرعان ما ابتلعتها الجفون في عجل وعادت الملامح الجامدة إلي وجه الفتاة والصمت من جديد.