شرايين الحياة إلى سيناء    حزب أبناء مصر يدشن الجمعية العمومية.. ويجدد الثقة للمهندس مدحت بركات    كيف أثر مشروع رأس الحكمة على أسعار الدواجن؟ (فيديو)    لميس الحديدي: رئيسة جامعة كولومبيا المصرية تواجه مصيرا صعبا    قطارات السكة الحديد تغطي سيناء من القنطرة إلى بئر العبد.. خريطة المحطات    «القاهرة الإخبارية»: مواجهات بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين أمام وزارة الدفاع فى تل أبيب    مصر تواصل الجسر الجوى لإسقاط المساعدات على شمال غزة    تعليق ناري من أحمد موسى على مشاهد اعتقالات الطلاب في أمريكا    رقم سلبي تاريخي يقع فيه محمد صلاح بعد مشادته مع كلوب    محافظ القاهرة: استمرار حملات إزالة التعديات والإشغالات بأحياء العاصمة    "مستحملش كلام أبوه".. تفاصيل سقوط شاب من أعلى منزل بالطالبية    جريمة طفل شبرا تكشف المسكوت عنه في الدارك ويب الجزء المظلم من الإنترنت    "الإسكندرية السينمائي" يمنح وسام عروس البحر المتوسط للسوري أيمن زيدان    رامي جمال يحتفل بتصدر أغنية «بيكلموني» التريند في 3 دول عربية    عزيز الشافعي عن «أنا غلطان»: قصتها مبنية على تجربتي الشخصية (فيديو)    جامعة كفر الشيخ تنظم احتفالية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة    "اشتغلت مديرة أعمالي لمدة 24 ساعة".. تامر حسني يتحدث عن تجربة ابنته تاليا    أمين صندوق «الأطباء» يعلن تفاصيل جهود تطوير أندية النقابة (تفاصيل)    افتتاح المدينة الطبية بجامعة عين شمس 2025    غدا.. إعادة إجراءات محاكمة متهم في قضية "رشوة آثار إمبابة"    80 شاحنة من المساعدات الإنسانية تعبر من رفح إلى فلسطين (فيديو)    ما هي مواعيد غلق المحال والكافيهات بعد تطبيق التوقيت الصيفي؟    صور.. إعلان نتائج مهرجان سيناء أولا لجامعات القناة    سمير فرج: مصر خاضت 4 معارك لتحرير سيناء.. آخرها من عامين    حبست زوجها وقدّمت تنازلات للفن وتصدرت التريند.. ما لا تعرفة عن ميار الببلاوي    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    سمير فرج: طالب الأكاديمية العسكرية يدرس محاكاة كاملة للحرب    «الحياة اليوم» يرصد حفل «حياة كريمة» لدعم الأسر الأولى بالرعاية في الغربية    أمل السيد.. حكاية مؤسِّسة أول مبادرة نسائية لتمكين المرأة البدوية في مطروح    رمضان عبد المعز: على المسلم الانشغال بأمر الآخرة وليس بالدنيا فقط    وكيل صحة الشرقية يتابع عمل اللجان بمستشفى صدر الزقازيق لاعتمادها بالتأمين الصحي    حكم الاحتفال بعيد شم النسيم.. الدكتور أحمد كريمة يوضح (فيديو)    طاقة نارية.. خبيرة أبراج تحذر أصحاب برج الأسد من هذا القرار    أنس جابر تواصل تألقها وتتأهل لثمن نهائي بطولة مدريد للتنس    بالصور.. مجموعة لأبرز السيارات النادرة بمئوية نادى السيارات والرحلات المصري    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    عاجل.. وزير الخارجية الأميركي يتوجه إلى السعودية والأردن وإسرائيل مطلع الأسبوع    بطولة إفريقيا للكرة الطائرة| الأنابيب الكيني يفوز على مايو كاني الكاميروني    ليفربول يُعوّض فينورد الهولندي 11 مليون يورو بعد اتفاقه مع المدرب الجديد    النيابة تطلب تحريات إصابة سيدة إثر احتراق مسكنها في الإسكندرية    مصر ترفع رصيدها إلى 6 ميداليات بالبطولة الإفريقية للجودو بنهاية اليوم الثالث    إنجازات الصحة| 402 مشروع قومي بالصعيد.. و8 مشروعات بشمال سيناء    بالتعاون مع فرقة مشروع ميم.. جسور يعرض مسرحية ارتجالية بعنوان "نُص نَص"    بلينكن في الصين.. ملفات شائكة تعكر صفو العلاقات بين واشنطن وبكين    بيريرا ينفي رفع قضية ضد محمود عاشور في المحكمة الرياضية    "بيت الزكاة والصدقات" يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة عملاقة ل "أغيثوا غزة"    النقض: إعدام شخصين والمؤبد ل4 آخرين بقضية «اللجان النوعية في المنوفية»    مصر تواصل أعمال الجسر الجوي لإسقاط المساعدات بشمال غزة    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    أبو الغيط: الإبادة في غزة ألقت عبئًا ثقيلًا على أوضاع العمال هناك    ضبط عاطل يُنقب عن الآثار في الزيتون    حصيلة تجارة أثار وعُملة.. إحباط محاولة غسل 35 مليون جنيه    الدلتا للسكر تناشد المزارعين بعدم حصاد البنجر دون إخطارها    وزيرة التضامن توجه تحية لمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير بسبب برنامج المكفوفين    خالد بيبو: لست ناظر مدرسة «غرفة ملابس الأهلي محكومة لوحدها»    عمرو صبحي يكتب: نصائح لتفادي خوف المطبات الجوية اثناء السفر    أستاذ «اقتصاديات الصحة»: مصر خالية من شلل الأطفال بفضل حملات التطعيمات المستمرة    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ظل الريح
يجب أن نكتب صفحات كثيرة لن تُقرأ لنبدع صفحةً جديرة باهتمام الآخرين
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 07 - 2012

ننشر هنا مقاطع من الرواية الأسبانية الأهم في السنوات الأخيرة وهي »ظل الريح« للكاتب كارلوس رويث ثافون.. بالإضافة عن حوار مع الكاتب. يُعتبر كارلوس رويث ثافون، الآن، أكثر الكُتّاب الإسبان المقروئين في العالم، وهو النجاح الذي حققه من خلال الانتشار شفهياً. فبعد حصوله علي جائزة في أدب المراهقين انتقل للدخول في أدب الكبار، حيث المنافسة الشديدة والطريق الممتليء بالأشواك. حقق ثافون في رواياته الثلاث "ظل الريح" "لعبة الملاك" "سجين السماء" نجاحاً جماهيرياً لافتاً، وأصبح بذلك ظاهرة في عالم الكتاب.
بعض النقاد يعرّفونك بالكاتب القوطي نظراً لغموض أماكن الأحداث التي تعيد إبداعها ولطريقة كينونة الشخصيات. كيف تُعرّف نفسك؟
- أري نفسي كاتباً، بعيداً عن أي لافتة خاصة، رغم أنه لا يضايقني أن يضع لي القراء لافتة ناتجة عن الانطباع الذي خلّفته رواياتي فيهم. أفهم جيداً من أين يأتي هذا القوطي، وهو نعت يمكنني التعايش معه بلا مشاكل.
كيف تواجه الشهرة منذ انفجار روايتك "ظل الريح"؟
- ليس لديّ وصفة سحرية لمواجهة الشهرة، إن كانت كلمة وصفة هي الكلمة المناسبة. أعتقد أن، في حالة الكُتّاب، ما نسميه بالشهرة أو النجاح أو كما نريد تسميته، يؤثر أكثر علي ردود أفعال بعض الأشخاص أمام الكاتب لا علي المؤلف نفسه.
أتعتقد أن نوع الرواية الذي تكتبه يكتسب مع الوقت اهتماماً أكبر؟
- لا أظن أن هناك اهتماماً بنوع معين من الرواية. أعتقد أن القراء يهتمون ويستمتعون بأعمال مختلفة طول الوقت وهذا يحدث دائماً. في الاختلاف يكمن الذوق.
في بداياتك كتبت روايات للمراهقين، وكانت "أمير الضباب" عملك الأول. لماذا بدأت بالكتابة لهذه الفئة؟
- كانت مجرد بداية لكسب الرزق ككاتب. كان ذلك منذ عشرين عاماً وجاء بمحض الصدفة عندما فزت بجائزة في هذا النوع.
وكيف كان تحولك لأدب الكبار؟
- بشكل تدريجي. خاصةً مع رواية "مارينا"حيث انتبهت أخيراً أنني يجب أن أهجر طريقاً ليس طريقي، رغم أنه أتاح لي فرصاً كثيرة وسمح لي أن أتعلم الكثير في الكتابة نفسها.
* بقراءة أعمالك، يُلاحظ أهمية خبرتك في الدعاية وكتابة السيناريو.
- كسيناريست، يلاحظ كثيراً؛ إنما الدعاية لا أعتقد. كانت الدعاية عملي الأول، وكنت في التاسعة عشرة أو العشرين، تعلمت هناك كثيراً وربحتُ بشكل جيد. كتاب كثيرون، مثل دُن دليلو، عملوا بالدعاية لأنها تلمس الأدب. هناك تتعلم رؤية اللغة والكلمات والصور. إنها تشبه العمل بالصحافة. لكن ما أثر حقاً في عملي رغم عدم الإشارة له من قبل العمل بالسينما.
ربما هذا ما يفسّر سيولة نثرك وحواراتك ووصف بعض الشخصيات وهي تتحدث.
- بالضبط. فالشخصيات يجب أن تعرف نفسها من خلال أفعالها وكلماتها، وليس عبر الإسهاب في مقاطع طويلة. هذا أساسي في البنية الدرامية. ونحن في إسبانيا لم نعتد علي الكتابة بهذا الشكل. من المؤسف أن السرد المهني يعرض الآن في مسلسلات التليفزيون.
من يمكنه أن يقول إن الأدب الجيد يعرض الآن في التليفزيون!
- نعم، فالتليفزيون يساوي الآن مسرحيات شكسبير. التميز يبدأ من الحوار: فالشخصية يجب أن تعرف كيف تصوغه من رؤيتها، وتشعر به، وكلماتها يجب أن تحرك حدثاً، والمشهد يعرض حركة، انظر كيف تتحرك الشخصية في الصالة دون أي وصف، وكل شيء يأتي مما يقوله هو.
وهل يلاحظ القاريء هل هذا؟
- بالطبع، فالقاريء يسبق التعليق الرسمي للنقاد. وكل قاريء الآن لدية ثقافة سينمائية وتليفزيونية، كما يفهم في الكوميكس والتصوير.
ما هي الطقوس التي تتبعها لإعداد رواية؟
- من الصعب شرح هذا. أحاول العمل كل الأيام عندما أبدأ في كتاب، أكتب وأعيد الكتابة وأعود لكل عبارة ألف مرة وألف مرة أخري. أحاول العمل باستمرار في النص، ديناميكية اللغة وجرسها وكل ما يخصها، أشيد النص كلمة كلمة، كأنه كاتدرائية صغيرة من الكلمات التي أتسلح بها أو أتخلي عنها حتي الشبع. عملية الإعداد بطيئة قد تستغرق شهوراً أو سنوات، خلالها تعيد النظر في عناصر الرواية، الحبكة، الشخصيات، تصميم البنية، الأقواس، كل هذا سيتغير بعد ذلك. الكتابة بالنسبة لي عملية معقدة وراسخة في حياتي الخاصة التي من الصعب ان أشرحها بالنفصيل. الكتابة، ببساطة، مهنتي، ما أفعله في حياتي، وهي مرتبطة بكل ما أقوم به في اليوم.
ما النصيحة التي تريد أن تسديها لشاب يريد أن يكون كاتباً؟
- أن يقرأ كثيراً، أن يتعلم من الكل كل شيء، وأن يكتب أكثر دون توقف، أن يمارس المهنة واللغة لأنها هي العنصر الأساسي. أعتقد أنه يجب كتابة صفحات كثيرة لن يقرأ أحد لنصل لكتابة صفحة واحدة جديرة باهتمام الآخرين. أعتقد كذلك بأهمية أن يفهم الكاتب الشاب أن المكافأة الحقيقية من الكتابة هي الإبداع. هذا الذي يحدث بداخلك حقيقةً بينما تكتب. لو قرر شخص التفرغ للكتابة بحثاً عن الشهرة أو الثروة أو إعجاب الآخرين يدخل إذن في اللعبة بشروط خاطئة، وفي الأغلب سيصاب بإحباط. يجب أن نعرف أن الواحد منا عندما يقترب من الأدب فهذا لا يعني أن الأدب سيقترب منه. الاحصائيات تلعب مع الفريق المنافس. بمعرفة هذا ومتسلحاً بتقرير المصير ومطلعاً علي الأمور بوضوح، أعتقد أن التحدي والمغامرة يمكن تحقيقهما.
ظل الريح
هذه الرواية يعتبرها النقاد أهم رواية إسبانية صدرت في السنوات الأخيرة، وصفتها صحيفة ديلي تليجراف بأنها:" تحفة أدبية شعبية, وعمل كلاسيكي معاصر". أما صنداي تايمز فكتبت أنها: "إحدي الروايات التي تموج بحبكة مبهرة ممزوجة بكتابة رفيعة". ورغم انها ترجمت إلي 40 لغة فقد ظلت العربية واحدة من اللغات التي لم تعرف شيئا عنها وعن كاتبها الإسباني كارلوس رويث ثافون المولود 25 سبتمبر عام 1964 في مدينه برشلونة تعلم في مدارس الجيزويت ثم تخصص في نظم المعلومات وعمل في مجال الدعاية في برشلونة ولكنه سرعان ما ترك هذا المجال كي يتفرغ للأدب. كانت أمه ربة منزل وليس لديها أية اهتمامات أدبية بعكس والده الذي كان يعمل كمندوب تأمينات ويعشق القراءة.
أولي رواياته ( أمير الضباب ) عام 1993 فازت بجائزة أدبية. ولأنه عاشق للسينما و لمدينة لوس أنجلوس فقد استغل قيمة الجائزة في السفر إلي أمريكا حيث مكث هناك بعض الوقت محاولا كتابة بعض السيناريوهات دون أن ينسي عشقه الأول: الرواية.
نشر قبل ذلك ثلاث روايات للمراهقين :"قصر منتصف الليل" "أضواء سبتمبر" "مارينا". لكن تظل رواية ( ظل الريح ) هي أفضل أعماله وهي التي وضعته إلي جانب أكبر الأدباء الإسبان و الأمريكيين اللاتينيين شهرة . قامت دار نشر ( بلانيتا) في عام 2001 بنشرها, وسرعان ما تحولت الرواية إلي ظاهرة أدبية عالمية ووصل عدد النسخ التي بيعت منها حتي الآن إلي 15 مليون نسخة , وكذلك تم تصنيفها من قبل لجنة مكونه من 81 كاتبا إسبانيا ولاتيني علي أنها واحدة من أفضل 100 كتاب بالإسبانية في ال 25 سنة الأخيرة.
نشر في 2008 لعبة الملاك وفي عام 2011 (سجين السماء) وهذه الروايات الثلاث( ظل الريح لعبة الملاك سجين السماء) تقع ضمن رباعية كان ثافون قد انتوي كتابتها تكريما لمدينته برشلونة التي يعشقها, و يبدو ذلك واضحا جدا في الاحتفاء بالشوارع والميادين الشهيرة بها مثل ميدان ( لا رامبلا). مقبرة الكتب المنسية
مازلت أذكر الفجر الذي أخذني فيه أبي لأول مرة لزيارة مقبرة الكتب المنسية. كانت الأيام الأولي في صيف 1945 وكنا نسير في شوارع برشلونة المحاصرة تحت سماوات مغبّرة وشمس من البخار تنسكب علي لا رامبلا دي سانتا مونيكا في شكل إكليل من النحاس السائل.
دانييل, لا يمكن أن تحكي ما ستراه اليوم لأحد- حذرني أبي- ولا حتي لصديقك توماس, ولا لأي مخلوق.
- ولا حتي لأمي؟ - سألتُ.
تنهد أبي, الذي كانت تعلو وجهه ابتسامته الحزينة تصاحبه كالظل طوال حياته.
- بالطبع - أجاب مكتئبا-. نحن لا نخفي عليها شيئاً. يمكن أن تحكي لها كل شيء.
ماتت أمي بالكوليرا بعد الحرب الأهلية بقليل. دفنّاها في مونتويك يوم عيد ميلادي الرابع. ما من شيء أتذكره إلا مطر السماء طوال النهار والليل, وعندما سألت أبي هل تبكي السماء, اختفي صوته ولم يستطع الرد. بعد مرور ست سنوات كان موت أمي بالنسبة لي لا يزال سراباً, صمتاً يصرخ، ولم أكن قد تعلمت أن أسكته بالكلمات بعد. كنا نعيش أنا وأبي في شقة صغيرة في شارع سانتا آنا, بالقرب من ميدان الكنيسة, وكانت الشقة تقع بالضبط فوق المكتبة المتخصصة في الطبعات المجمعة والكتب القديمة والموروثة من جدي, كانت عبارة عن بازار جميل, يثق أبي أنه في يوم من الأيام سيؤول إليّ. تربيت بين الكتب, متخذاً أصدقاء غير مرئيين من بين صفحات مكسيةً بغبار لا تزال يداي تحتفظان برائحته. تعلمتُ وأنا طفل أن أنام وأنا أحكي لأمي في ظلام غرفتي أحداث اليوم وأحوالي في المدرسة, وما تعلمته في ذلك اليوم...لم أكن أتمكن من سماع صوتها أو أشعر بملمسها، ولكن كان نورها ودفئها يملآن كل ركن في ذلك المنزل, و كنت أنا ببراءة من لايزالون يستطيعون عد أعمارهم علي أصابع أيديهم, أعتقد أني لو كلمتها وأنا مغمض العينين, يمكنها أن تسمعني أينما كنت. أحيانا كان أبي يسمعني من غرفة الطعام و يبكي في الخفاء.
أتذكر ذلك الفجر من شهر يونيه الذي استيقظت فيه وأنا أصرخ. كانت نبضات قلبي تتسارع في صدري كما لو كانت روحي تريد أن تخرج وتنزل السلالم مهرولة. جاء أبي مفزوعا إلي حجرتي واحتضنني بين ذراعيه محاولا تهدئتي.
لا يمكنني تذكر وجهها, لا يمكنني تذكر وجه أمي همستُ لاهثاً.
احتضنني أبي بقوة.
لا تقلق يا دانييل, سوف أتذكر لكلينا.
كنا نتبادل النظر في الظلام بحثاً عن كلمات غائبة. كانت تلك هي المرة الأولي التي أدركت فيها أن والدي أصابته الشيخوخة وأن عينيه, الذابلتين والغائمتين، كانتا دائما تنظران للخلف. انحني وفتح الستائر كي يفسح المجال لدخول ضوء الفجر البازغ.
هيا يا دانييل, ارتد ملابسك.أريد أن أريك شيئا ما قال-.
الآن؟ في الخامسة صباحا؟
ثمة أشياء لا يمكن أن تُري إلا في الظلام أومأ أبي ملوحاً بابتسامة غامضة، وربما كان قد استعارها من إليكسندر دوماس.
كانت الشوارع لا تزال ترزح بين الضباب والندي عندما خرجنا إلي البوابة. كانت أعمدة الإنارة في المتنزهات ترسم طريقاً من البخار, تومض في الوقت الذي كانت فيه المدينة تمتد وتتخلص من قناعها ذي الألوان المائية. عند الوصول إلي شارع أركو دل التياترو, خاطرنا بالسير في شارع رابال تحت الرواق الذي يظهر قبة من الضباب الأزرق. كنت أتبع والدي خلال ذلك الطريق الضيق والذي يبدو كجرح أكثر منه شارعاً, حتي اختفي ضوء لا رامبلا وراءنا.
كان ضوء الفجر يتسرب عبر الشرفات والأفاريز في قطع ضوئية منحرفة لا تصل للأرض. أخيرا توقف أبي أمام بوابة خشبية مشغولة, اسودت بفعل الزمن والرطوبة. كان يرتفع أمامنا ما بدا لي جثة مجهوله لقصر ما أو منحي من الصدي والظلال.
دانييل, لا يمكن أن تقص ما ستراه اليوم علي أحد ولا حتي صديقك توماس, ولا كائنا من كان.
فتح لنا الباب رجل قصير بملامح طائر جارح وشعر فضي, استقرت نظرته التي تشبه نظرة النسر عليّ بشكل حاد.
صباح الخير يا إسحاق. هذا هو إبني دانييل قال أبي . قريبا سيتم عامة الحادي عشر, ويوماً ما سيتولي أمر المحل . عمره الأن يسمح له بمعرفة هذا المكان.
دعانا إسحاق للمرور بإشارة صغيرة تعني الموافقة. كان ظلام أزرق يلف المكان كله, وبالكاد تظهر قطع من درج رخامي ودهليز من القطع الزجاجية مليء بأشكال ملائكية ومخلوقات جميلة. اتبعنا الحارس عبر ذلك الممر الف مقبرة الكتب المنسية
مازلت أذكر الفجر الذي أخذني فيه أبي لأول مرة لزيارة مقبرة الكتب المنسية. كانت الأيام الأولي في صيف 1945 وكنا نسير في شوارع برشلونة المحاصرة تحت سماوات مغبّرة وشمس من البخار تنسكب علي لا رامبلا دي سانتا مونيكا في شكل إكليل من النحاس السائل.
دانييل, لا يمكن أن تحكي ما ستراه اليوم لأحد- حذرني أبي- ولا حتي لصديقك توماس, ولا لأي مخلوق.
- ولا حتي لأمي؟ - سألتُ.
تنهد أبي, الذي كانت تعلو وجهه ابتسامته الحزينة تصاحبه كالظل طوال حياته.
- بالطبع - أجاب مكتئبا-. نحن لا نخفي عليها شيئاً. يمكن أن تحكي لها كل شيء.
ماتت أمي بالكوليرا بعد الحرب الأهلية بقليل. دفنّاها في مونتويك يوم عيد ميلادي الرابع. ما من شيء أتذكره إلا مطر السماء طوال النهار والليل, وعندما سألت أبي هل تبكي السماء, اختفي صوته ولم يستطع الرد. بعد مرور ست سنوات كان موت أمي بالنسبة لي لا يزال سراباً, صمتاً يصرخ، ولم أكن قد تعلمت أن أسكته بالكلمات بعد. كنا نعيش أنا وأبي في شقة صغيرة في شارع سانتا آنا, بالقرب من ميدان الكنيسة, وكانت الشقة تقع بالضبط فوق المكتبة المتخصصة في الطبعات المجمعة والكتب القديمة والموروثة من جدي, كانت عبارة عن بازار جميل, يثق أبي أنه في يوم من الأيام سيؤول إليّ. تربيت بين الكتب, متخذاً أصدقاء غير مرئيين من بين صفحات مكسيةً بغبار لا تزال يداي تحتفظان برائحته. تعلمتُ وأنا طفل أن أنام وأنا أحكي لأمي في ظلام غرفتي أحداث اليوم وأحوالي في المدرسة, وما تعلمته في ذلك اليوم...لم أكن أتمكن من سماع صوتها أو أشعر بملمسها، ولكن كان نورها ودفئها يملآن كل ركن في ذلك المنزل, و كنت أنا ببراءة من لايزالون يستطيعون عد أعمارهم علي أصابع أيديهم, أعتقد أني لو كلمتها وأنا مغمض العينين, يمكنها أن تسمعني أينما كنت. أحيانا كان أبي يسمعني من غرفة الطعام و يبكي في الخفاء.
أتذكر ذلك الفجر من شهر يونيه الذي استيقظت فيه وأنا أصرخ. كانت نبضات قلبي تتسارع في صدري كما لو كانت روحي تريد أن تخرج وتنزل السلالم مهرولة. جاء أبي مفزوعا إلي حجرتي واحتضنني بين ذراعيه محاولا تهدئتي.
لا يمكنني تذكر وجهها, لا يمكنني تذكر وجه أمي همستُ لاهثاً.
احتضنني أبي بقوة.
لا تقلق يا دانييل, سوف أتذكر لكلينا.
كنا نتبادل النظر في الظلام بحثاً عن كلمات غائبة. كانت تلك هي المرة الأولي التي أدركت فيها أن والدي أصابته الشيخوخة وأن عينيه, الذابلتين والغائمتين، كانتا دائما تنظران للخلف. انحني وفتح الستائر كي يفسح المجال لدخول ضوء الفجر البازغ.
هيا يا دانييل, ارتد ملابسك.أريد أن أريك شيئا ما قال-.
الآن؟ في الخامسة صباحا؟
ثمة أشياء لا يمكن أن تُري إلا في الظلام أومأ أبي ملوحاً بابتسامة غامضة، وربما كان قد استعارها من إليكسندر دوماس.
كانت الشوارع لا تزال ترزح بين الضباب والندي عندما خرجنا إلي البوابة. كانت أعمدة الإنارة في المتنزهات ترسم طريقاً من البخار, تومض في الوقت الذي كانت فيه المدينة تمتد وتتخلص من قناعها ذي الألوان المائية. عند الوصول إلي شارع أركو دل التياترو, خاطرنا بالسير في شارع رابال تحت الرواق الذي يظهر قبة من الضباب الأزرق. كنت أتبع والدي خلال ذلك الطريق الضيق والذي يبدو كجرح أكثر منه شارعاً, حتي اختفي ضوء لا رامبلا وراءنا.
كان ضوء الفجر يتسرب عبر الشرفات والأفاريز في قطع ضوئية منحرفة لا تصل للأرض. أخيرا توقف أبي أمام بوابة خشبية مشغولة, اسودت بفعل الزمن والرطوبة. كان يرتفع أمامنا ما بدا لي جثة مجهوله لقصر ما أو منحي من الصدي والظلال.
دانييل, لا يمكن أن تقص ما ستراه اليوم علي أحد ولا حتي صديقك توماس, ولا كائنا من كان.
فتح لنا الباب رجل قصير بملامح طائر جارح وشعر فضي, استقرت نظرته التي تشبه نظرة النسر عليّ بشكل حاد.
صباح الخير يا إسحاق. هذا هو إبني دانييل قال أبي . قريبا سيتم عامة الحادي عشر, ويوماً ما سيتولي أمر المحل . عمره الأن يسمح له بمعرفة هذا المكان.
دعانا إسحاق للمرور بإشارة صغيرة تعني الموافقة. كان ظلام أزرق يلف المكان كله, وبالكاد تظهر قطع من درج رخامي ودهليز من القطع الزجاجية مليء بأشكال ملائكية ومخلوقات جميلة. اتبعنا الحارس عبر ذلك الممر الفخم ووصلنا إلي صالة دائرية كبيرة حيث ظلام دامس تحت قبة تتخللها أشعة ضوء معلقة من أعلي. متاهة من الممرات و الأرفف المكتظة بالكتب من القاع إلي القمة. راسمة خلية مملوءة بالأنفاق والأدراج والمنصات والجسور التي تجعلك تتخيل وجود مكتبة عملاقة مصممة بشكل هندسي معجز.
نظرت إلي أبي فاتحا فمي, ابتسم لي وغمز بعينيه.
مرحبا بك يا دانييل في مقبرة الكتب المنسية.
بعد أن تخطينا المنصات والممرات، كانت تصطف العديد من المخلوقات. أحيانا بعضهم من بعيد, تعرفت علي بعض الوجوه لزملاء عديدين لأبي من نقابة بائعي الكتب القديمة. بالنسبة لطفل في العاشرة , كان هؤلاء الأفراد يبدون لي كجماعة سرية من الكيميائيين تتآمر سرا. انحني أبي علي وحدثني بصوت خفيض يصلح للوعود والأسرار.
هذا المكان بمثابة لغز يا دانييل, إنه قدس أقداس. كل كتاب ومجلد تراه له روح. روح من قرأه وعاش وحلم معه. في كل مرة تحمل الكتاب يد جديدة أو تقع عليه نظرة شخص ما , تنمو روحه وتزداد صلابة.
عندما أتي بي أبي إلي هذا المكان لأول مرة كان المكان قديما بالفعل, ربما بمثل قدم المدينة نفسها. لا يعرف أحد علي وجه اليقين متي وجد أو من الذي أنشاه. سأخبرك بما أخبرني به والدي.
عندما تختفي مكتبة ما أو يغلق متجر لبيع الكتب أبوابه، وعندما يغيب كتاب ما في طي النسيان, نتأكد نحن من نعرف هذا المكان والحراس أنه سيأتي إلي هنا . في هذا المكان تحيا أبدية تلك الكتب التي لا يتذكرها أحد, الكتب التي طواها النسيان, منتظرة أن تصل في يوم ما إلي يد قاريء جديد, إلي روح جديدة. نشتريها ونبيعها في المكتبة, ولكن في الحقيقة لا يوجد مالك للكتب. كل كتاب تراه هنا كان صديقا حميما لشخص ما. والآن ليس له سوانا يا دانييل. هل تظن أن باستطاعتك كتمان هذا السر؟
تاهت نظرتي في ضخامة المكان وضوئه المبهر. أومأت بنعم فابتسم أبي.
هل تعرف ما هو أفضل؟
أومأتُ بالنفي في صمت.
- العادة أن من يزور هذا المكان لأول مرة, يختار كتاباً ما, كتاباً يفضله ويتبناه, ويؤكد علي ألا يختفي أبداً, و أن يظل موجوداً الي الأبد. إنه وعد في غاية الأهمية. مدي الحياة - شرح أبي -، و اليوم جاء دورك.
لمدة نصف ساعة تجولت بين تعقيدات تلك المتاهة التي كانت تشع رائحة ورق قديم وترابا وسحرا. تركت العنان ليدي كي تلمس الصفوف المتراصة كي تقرر اختياري . لمحت من بين العناوين المطموسة بفعل الزمن, كلمات بلغات أعرفها وأخري كثيرة لم أستطع فك طلاسمها. تجولت بين الممرات و الدهاليز الحلزونية و المليئة بمئات بل بآلاف المجلدات التي يبدو أنها كانت تعرف عني أكثر ما أعرف عنها. بعد قليل خطرت لي فكرة أنه خلف غلاف كل كتاب منها يوجد عالم لا متناهي للاكتشاف , و بعيدا عن هذه الجدران فإن الحياة تمضي في مساءات مشاهدة مباريات كره القدم وسماع المسلسلات الإذاعية قانعا بما وصل إليه و أكثر قليلا.ربما كان هذا التفكير, ربما كان القدر أو قريبه المصير , و لكني في نفس تلك اللحظة أدركت اني قد اخترت الكتاب الذي سوف أتبناه , ربما يجدر بي القول الكتاب الذي سوف يتبناني. كان يطل بحذر من طرف الرف و مغلفا بجلد يميل إلي الحمرة و يظهر عنوانه بحروف ذهبية , تلمع مع الضوء الذي ينغمر من أعلي القبة. اقتربت منه وداعبت الكلمات بأطراف أصابعي , قارئا في صمت.
مقبرة الكتب المنسية
خوليان كاراكس
لم أسمع في حياتي قط ذكرا لهذا العنوان أو مؤلفه, ولكني لم أكترث. كنت قد اتخذت القرار علي المستويين. أخذت الكتاب بمنتهي الحذر وتصفحته, تاركاً صفحاته ترفرف. بعد أن تحرر الكتاب من سجنه علي الرف, أطلق سحابه من التراب الذهبي. عدتُ إلي المتاهة وأنا راض عن اختياري، حاملاً الكتاب تحت إبطي وتعلو شفتيّ ابتسامة مطبوعة. ربما كان الجو المسحور لذاك المكان قد تملكني ولكنني كنت متاكداً أن هذا الكتاب ظل ينتظرني لسنوات عديدة, ربما قبل أن أولد.
في ذلك المساء وبعد عودتي الي المنزل الكائن في شارع سانتا آنا, ركضتُ إلي غرفتي وقررت قراءة أول سطور في صديقي الجديد, وقبل أن أفيق كنت قد وقعت أسيرا له بشكل لا يمكن الفكاك منه. كانت الرواية تحكي عن قصة رجل يبحث عن أبيه الحقيقي الذي لم يعرفه أبدا, ولم تكشف عن وجوده سوي آخر كلمات نطقت بها أمه من علي سرير الموت. تحولت قصة البحث هذه إلي أوديسة خيالية يصارع فيها البطل من أجل استعادة طفولة وشباب مفقودين, و بها نكتشف للأسف ظلاً لحب ملعون, ستظل ذكراه تطارده لنهايه أيامه. بالتقدم في القراءة بدأ بناء القصة يذكرني بالعرائس الروسية التي تحتوي علي العديد من العرائس الأصغر بداخلها, و شيئا فشيئا بدأ الحكي في الانقسام إلي آلاف الحكايات, كما لو أن الحكاية قد دخلت في العديد من الانعكاسات المختلفة والزمنية في نفس الوقت.
كانت الدقائق والساعات تنساب كالسراب. وبعد ساعات من التركيز في الحكاية, انتبهت بالكاد لأجراس منتصف الليل التي ترن من بعيد من الكاتدرائية. شاردا في الضوء النحاسي الذي كان يصدره المصباح, شردت في عالم من الأشكال و المشاعر لم أعرفها مطلقا من قبل, أشخاص بدت لي وكأنها حقيقية جداً مثل الهواء الذي كنت أتنفسه وجذبتي إلي نفق من المغامرة والغموض لم أكن أريد الخروج منه. ورقة بعد ورقة , تركت نفسي للقصة وعالمها حتي بدأ نسيم الفجر يداعب نافذتي وكانت عيناي المتعبتان تنسابان علي آخر صفحة. تمددت في الظلام المكتسي بالزرقة والكتاب علي صدري وسمعت همس المدينة النائمة ينساب علي الأسطح ذات اللون الأرجواني. كان النعاس والتعب يطرقان بابي, ولكني قاومت. لم أكن أرغب في فقد سحر الرواية ولا أن أودع شخوصها.
في إحدي المناسبات، سمعت زبوناً معتاداً علي مكتبة أبي يقول, قليلة هي الأشياء التي تؤثر في قارئ ما مثل الكتاب الأول الذي يدخل فعلاً قلبه, تلك هي الصور الأولي, صدي الكلمات التي نظن أننا تركناها خلفنا, تلازمنا طيلة حياتنا وتنحت مكاناً لها في ذاكرتنا, وعاجلاً أو آجلاً لا يهم معها كم من الكتب, كم من العوالم نكتشف, كم نتعلم و كم ننسي, فدائما ما نعود اليها.
بالنسبه لي, ستكون دائماً تلك الصفحات المسحورة هي ما وجدته بين دهاليز مقبرة الكتب المنسية.
أيام الرماد
19451949
يبقي السر طي الكتمان طالما حفظه أصحابه. بعد أن استيقظت كان أكثر ما أتمناه إشراك أعز أصدقائي في سر و جود مقبره الكتب المنسية. كان توماس أجيلار زميل دراسة يكرس كل وقت فراغه وموهبته لاختراع أدوات عبقرية ولكن لا استخدام لها, مثل النبلة الهوائية أو الدوارة الديناميكية.
ما من صديق أفضل من توماس لمشاركتي هذا السر. كنت أحلم متيقظا متخيلا نفسي أنا وتوماس مجهزين بكشافات و بوصلة لسبر أغوار تلك المقبرة الأرضية الببليوغرافية.
لاحقا, و متذكرا وعدي قررت أن الظروف تقضي بما يسمي في الروايات البوليسية بطريقة تشغيل أخري. في منتصف النهار اقتربت من أبي لسؤاله عن ذلك الكتاب وخوليان كاراكس وكنت أتخيل أنهما مشهوران في العالم كله. كانت خطتي تقضي بأن أنتهي من كل أعماله وقراءتها كلها في أقل من أسبوع. كانت مفاجأتي أن أبي وهو المكتبي العتيد والمطلّع علي كل مطبوعات دور النشر, لم يسمع قط عن ظل الريح ولا عن خوليان كاراكس.
بفضول تفحص أبي الورقة المكتوب عليها معلومات الطبعة.
- وفقا لما هو مكتوب فإن هذه طبعة من 2500 نسخة مطبوعة في برشلونة, منشورة بدار نشر كابيستاني في ديسمبر 1935.
- هل تعرف دار النشر هذه؟
- أغلقت منذ سنوات. و لكن هذه ليست النسخة الأصلية, لكنها أخري تعود إلي نوفمبر من نفس العام, مطبوعة في باريس... ودار النشر هي جوليان ونوفال. لكني لا أعرف عنها شيئا.
- إذاً هل هو كتاب مترجم - تساءلت و أنا مشتت الذهن-.
لا يوجد ما يوضح ماهيته. و لكن مما هو مدون هنا يبدو نصاً أصلياً.
- أليس غريباً أنه كتاب بالإسبانية وطُبِع أولاً في فرنسا؟
-لن تكون المرة الأولي في هذا الزمن أضاف والدي ربما استطاع بارسلو مساعدتنا...
كان جوستابو بارسلو صديقاً قديماً لأبي, وله مكتبة قديمة بشارع فرناندو وكان بمثابة أفضل بائعي الكتب القديمة. كان يمسك دائماً بايباً منطفئاً يشع روائح فارسية ودائماً ما كان يصف نفسه بآخر الرومانسيين. كان يعتقد أن له صلة قرابة بعيدة باللورد بايرن, علي الرغم من أنه كان يعيش في كالدس دي مونت, وربما لرغبة في إظهار هذه الصلة، كان بارسلو يرتدي ملابسه بطريقة لا تختلف عن متأنق من القرن التاسع عشر, واضعاً شالاً أنيقا حول عنقه, وأحذية بجلد لميع أبيض ونظارة غير متدرجة والتي حسب ما يتردد لا يخلعها ولا حتي في المرحاض. في الواقع إن القرابة الأهم في حياته كانت قرابة سلفه, وهو رجل صناعة كان قد كون ثروة بوسائل تشوبها الشوائب نوعا ما في نهايات القرن التاسع عشر. وفقا لما شرحه لي والدي فإن جوستابو بارسلو كان قد أثري من الصناعة وكانت المكتبة بالنسبة له تمثل هواية أكثر منها عملاً يتكسب منه. كان يعشق الكتب بشكل لا متناه علي الرغم من أنه كان ينكر ذلك بقوة, و كان إذا دخل أحدهم المكتبة وأعجبه كتاب ما ولا يقدر علي دفع ثمنه, كان يخفض ثمنه إلي أقصي درجة ممكنة, بما في ذلك إهداؤه له لو قدر أن المشتري قاريء نهم وليس هاوياً. وعلي هامش هذه الصفات كان بارسلو يمتلك ذاكرة حديدية و حذلقة لا تقلل من وضعه أو شهرته. ولكن إذا كان هناك من يفهم في الكتب الأجنبية, فلا شك سيكون هو. في ذلك المساء وبعد غلق المحل, اقترح أبي أن نقترب من مقهي كواترو جاتس بشارع مونتسيو حيث يعقد بارسلو وأصدقاؤه دائماً جلسات بيبليوغرافية عن شعراء ملاعين ولغات ميتة وأعمال متميزة مهجورة, وذلك بفضل الشغف بالقراءة.
كان مقهي كواترو جاتس يقع علي مرمي حجر من المنزل, وكان أحد أماكني المفضلة في كل برشلونة.هناك تعارف والدي في عام 32 هكذا كانت مشاركتي الجزئية في قطع تذكره مجييء الي الحياة في بهاء هذا المقهي العتيق. كان يُزين الواجهة المربوطة بتداخل من الظلال تنانين حجرية وأعمدة إنارة غازية تتحدي الزمن وتثير الذكريات. بالداخل كانت تختلط الناس بصدي أزمنة بعيدة. محاسبون, حالمون يتعلمون حرفه ما, كلهم يتشاركون في منضدة مع سراب بابلو بيكاسو واسحق البينيس وفيدريكو جارسيا لوركا وسلفادور دالي. هناك يمكن لأي تافه أن يشعر للحظات أنه شخصية تاريخية مقابل ثمن فنجان قهوه باللبن.
- يالها من مفاجأة, سيمبري هكذا صاح بارسلو عند رؤية أبي يدخل أيها الابن الضال ما سبب تشريفك لنا؟
- سبب تشريفنا لكم ابني دانييل الذي عثر لتوه علي اكتشاف هام.
- تعالوا لتجلسوا معنا، يجب أن نحتفل بهذا الاكتشاف التاريخي هكذا صاح بارسلو.
- اكتشاف! همست بذلك لأبي .
- بارسلو يستخدم تعبيرات مقعرة أجاب والدي بصوت منخفض لا تتفوه بشيء كي لا يغتر.
أفسح لنا المتحدثون مكاناً بينهم, وأصر بارسلو أن يكون مضيفنا، وهو الذي يحب أن يكون نجما لامعا وسط الجمهور.
- كم عمر الصبي؟ سأل بارسلو وهو ينظر إليّ نظرة جانبية.
- 11 سنه تقريبا- أوضحت.
ابتسم لي بارسلو ابتسامة ماكرة.
- أو ربما عشرة, لا تزيد من عمرك يا فتي فسوف تتكفل الحياة بذلك.
همس العديد من الجالسين بما يعني الموافقة علي ذلك. أشار بارسلو إلي النادل بإيماءة تهديدية كما لو أنها لحظة تاريخية لأخذ الطلب.
كونياك لصديقي سيمبري, و لكن من النوع الجيد, وللصغير كوباً من اللبن بالبيض و السكر, فلا يزال بحاجه للنمو, وبعض شرائح لحم الخنزير، علي ألا تكون كالسابقة, فهمت؟ فالمطاط مكانه مصنع بيريللي - هكذا زأر المكتبي-.
أومأ النادل بالموافقة وذهب جارا ساقيه وروحه. أقول علق المكتبي- كيف سيوجد عمل إذا كان الناس لا يتقاعدون في هذا البلد ولا حتي بعد الموت؟ انظر سيادتك لهذا الرجل, إنها معضلة.
تذوق بارسلو البايب المنطفيء, نظرته الثاقبة كانت تتفحص الكتاب الذي كنت أحمله في يدي باهتمام شديد، والذي، علي الرغم من أن جلدته كان عليها الكثير من الكلام , كان باستطاعة بارسلو أن يشم رائحة صيد ثمين, كذئب يشتم رائحة الدم.
- لنري قال متظاهرا باللامبالاة-. ماذا أحضرتم لي؟
نظرتُ إلي أبي الذي وافق بدون مقدمات, ناولت الكتاب لبارسلو الذي أخذه بيد خبير. تفحصت يداه الشبيهتان بيديّ عازف بيانو بسرعة , وكذلك مدي تماسكه وحالته . راسما ابتسامه فلورنسية . حدد بارسلو الصفحة المدون عليها معلومات الطبعة وتفحصها بدقة بوليسية لمدة دقيقة. كان الآخرون يراقبونه في صمت كما لو كانوا في انتظار معجزة أو إذن للتنفس من جديد.
- يا للروعة, مثير للدهشة - همس بصوت قوي .
فردت يدي مرة أخري لاستعادة الكتاب, قوّس بارسلو حاجبيه, لكنه أعاده لي بابتسامة جليدية.
أين وجدته يا صغيري؟
إنه سر رددت متخيلا أبي يضحك في سره.
قطّب بارسلو حاجبيه واتجه بناظره ناحية أبي.
- يا صديقي سيمبري, لأنك أنت أنت وتعرف مدي تقديري لك، ومن أجل الصداقة الطويلة والعميقة التي تجمعنا كإخوة, اترك لي هذا الكتاب مقابل 40 دورو, و لا تطلب المزيد.
- سيتوجب عليك مناقشة هذا الأمر مع ابني أضاف والدي لأن الكتاب ملك له.
رمقني بارسلو بابتسامه ذئب.
ما رأيك أيها الصغير ؟40 دورو سعر جيد مقابل أول بيعة...سيمبري سيكون لولدك هذا باع في هذا النشاط.
ضحك المتسامرون جراء مزحته. نظر إليّ بارسلو مسروراً , مخرجاً محفظته الجلدية وعد الأربعين دورو التي كانت في هذا الزمان بمثابة ثروة ومدها إلي. اقتصر رد فعلي علي الرفض في هدوء. قطب بارسلو حاجبيه.
رفضت مجددا . رمق بارسلو والدي بنظرة غاضبة عبر نظارته.
- لا تنظر إلي أنا هنا فقط كمرافق.
تنهد بارسلو وتأملني بشكل متأن.
- لنري يا صغيري, ما الذي تريده؟
- ما أريده معرفة من يكون خوليان كاراكس وأين يمكن أن أجد كتباً أخري يمكن أن يكون قد كتبها.
ضحك بارسلو بصوت منخفض وأعاد محفظته معيداً تأمل خصمه.
- يا لها من مفاجأة, يبدو كأستاذ أكاديمي. لكن ماذا تطعم هذا الفتي يا سيمبري؟ قال مازحاً-.
انحني المكتبي ناحيتي بنبرة هامسة, وللحظة من الزمن لاحظت شبهة احترام في نظرته إلي, لم تكن موجودة منذ قليل.
- سنعقد صفقةً - قال لي - غداً الأحد في الظهيرة تأتي إلي مكتبة ألاتنيو وتسأل عني ومعك كتابك كي أفحصه جيدا وأحكي لك كل ما أعرفه عن خوليان كاراكس. كيد برو كيو
-ماذا يعني ذلك؟
- تبادل منفعة, و لكن باللاتينية يا صغيري, فلا توجد لغات ميتة لكن توجد عقول متكلسة. وتعني أنه لا يوجد شيء مجاني. ولكنك قد أعجبتني وسأسدي لك معروفاً.
كان هذا الرجل يقطر خطابة قادرة علي إباده جميع الحشرات الطائرة. لكني فكرت في أنه إذا كنت بحاجة لمعرفه شيء عن خوليان كاراكس, يجب علي أن أحافظ علي علاقة جيدة به.أرسلت له ابتسامة هادئة مظهرا له ابتهاجي بمعرفته باللاتينية وأفعالها السهلة.
تذكر الغد في مكتبه ألاتنيو قال المكتبي ولكن احضر الكتاب وإلا فالاتفاق لاغ.
تاهت المناقشه ببطء وسط همسات المتحدثين الآخرين, وتحولت إلي نقاش حول وثائق مكتشفة في بدروم مكتبه الاسكوريال والتي تقول بامكانية أن يكون دون ميجيل دي سربانتس لم يكن اسمه بل كان مجرد اسماً أدبياً مستعاراً لسيدة مشعرة من توليدو. لم يشارك بارسلو الغائب في الجدل البيزنطي، ظل ينظر إلي عبر نظارته بابتسامة غامضة أو ربما فقط كان ينظر للكتاب الذي كنت أحمله بين يدي.
في ذلك الأحد, انزلقت السحب من السماء وكانت الشوارع ترقد غارقة تحت بحيرة من ضباب متقد كان كفيلا بجعل موازين الحراره تقطر ماءً علي الحوائط.
في منتصف اليوم وصلت درجة الحرارة إلي 30 درجة , أسرعت إلي شارع كانودا للحاق بموعد بارسلو في مكتبة الاتنيو وكتابي تحت ذراعي وجبهتي تتصبب عرقاً. كانت مكتبة الاتنيو، ولا تزال، واحدة من أماكن كثيرة في برشلونة لم يستقبل بها القرن التاسع عشر إشارات علي التقاعد بعد. كان السلم الحجري يرتفع من بهو فخم إلي شبكة كثيرة من دهاليز وصالات قراءة تبدو معها اختراعات مثل التليفون والسرعة أو حتي ساعة اليد مفارقات تاريخية مستقبلية.
لم يحرك البواب الذي بدا كأنه صنم يرتدي زيا ساكنا عند وصولي . نزلت إلي الطابق الأول ممتنا لوجود مروحة تطن وسط قراء يتنامون وينصهرون مثل مكعبات ثلج فوق كتبهم ومذكراتهم.
كان ظل دون جوستابو بارسلو يبرز بجانب نوافذ ممر يؤدي إلي حديقة داخلية للمبني. وعلي الرغم من أن الجو شبه استوائي كان المكتبي يرتدي ملابس تقليدية أنيقة ونظارة تلمع في الظلام مثل قطعة نقود في قاع بئر. بجانبه، استطعت تمييز شخص ما يتدثر بلباس من وبر الباكا الأبيض والذي بدا لي كملاك منحوت في الضباب. انتبه بارسلو إلي وقع أقدامي وأومأ إلي بالاقتراب.
دانييل , أليس كذلك؟ هل أحضرت الكتاب؟
أجبت بالإيجاب وأخذت الكرسي الذي أتاحه لي بجانبه هو ومرافقته الغامضة. لعدة دقائق اقتصر رد فعل المكتبي علي الابتسام لي بارتياح وهو الأمر الغريب علي . بعد قليل تخليت عن حلمي بأن يقدم لي تلك المتدثره بالرداء الأبيض, و تعامل بارسلو كما لو كانت غير موجودة ولا يراها كلانا. كنت أراقبها بنظرات جانبية خائفاً من أن تتلاقي نظرتي مع نظرتها التي كانت لا تزال شاردة في مكان ما. كانت بشرتها شاحبة وذراعاها شاحبان وشفافان تقريبا, و كانت ملامحها حاده راسمة خطاً واضحاً تحت فروة رأسها السوداء والتي كانت تلمع كحجر مندي.
قدرت أنها في العشرين علي أكثر تقدير, و لكن شيئا ما في هيئتها وطريقتها تبدو معه روحها وكأنها وقعت في رجليها, مثل أوراق الصفصاف جعلني أفكر بأنه ليس لها سن, كانت تبدو متسمرة في حالة من الشباب الدائم مثل الموديلات الموجودة في واجهات العرض الأنيقة. كنت أحاول قراءة نبضها من تحت حنجرتها التي تبدو كحنجرة بجعة عندما انتبهت الي أن بارسلو يلاحظني باهتمام.
هل ستخبرني إذا أين وجدت الكتاب؟ تساءل.
كنت أود و لكني وعدت أبي أني سأحفظ السر أضفت.
أري ذلك. إنه سيمبري و ألغازه قال بارسلو سأعرف أنا من أين.
يالها من ثروة عظيمة تلك التي حصلت عليها يا فتي, هذا ما أسميه العثور علي إبرة في حقل من السوسن. لنري, هلا أريتني إياه؟
مددت له يدي بالكتاب الذي أخذه بارسلو برقة متناهية.
افترض أنك قد قرأته .
نعم يا سيدي.
- إنني أحسدك , فدائما ما تصورت أن أفضل وقت لقراءة أعمال خوليان كاراكس عندما يكون العقل شاباً والذهن صافياً.
- هل تعرف أن تلك هي آخر رواية كتبها كاراكس؟
أومأت بالنفي في هدوء.
هل تعرف كم نسخه مثل هذه موجودة في السوق يا دانييل؟
أفترض وجود الالاف.
ولا نسخة أكد بارسلو فقط تلك التي معك والنسخ الأخري قد تم حرقها.
تم حرقها ؟
اقتصر رد فعل بارسلو علي ارسال ابتسامة مبهمة, مقلبا صفحات الكتاب و مداعبا الورق كما لو كان قطعة حرير متفردة في العالم .التفتت سيدة الرداء الأبيض ببطء . رسمت شفتاها ابتسامة خائفة ومرتعشة , كانت عيناها تتلمسان الفضاء بحدقتيها البيضاء مثل الرخام . ابتلعت ريقي. كانت كفيفة.
إنك لا تعرف ابنة أخي كلارا, أليس كذلك؟ - تساءل بارسلو .
أومأت بالنفي غير قادر علي ان أرفع عيني من علي تلك المخلوقه بلون وجهها الذي يشبه عروسة مصنوعة من البورسلين, و عيون بيضاء , أكثر عيون حزينة رأيتها في حياتي.
في الواقع إن الخبير في خوليان كاراكس هي كلارا, و لهذا أحضرتها قال بارسلو.
و أكثر من هذا و بعد تفكير عميق أري أن تسمحا لي بالذهاب الي صالة أخري لتفحص هذا الكتاب و أترك لكما المجال لمناقشة ماتودان, ما رأيكما ؟
نظرت إليه مندهشا, هذا المكتبي يبدو كقرصان ماكر عصي علي توقعاتي, ربت علي ظهري وغادر حاملا كتابي تحت ذراعيه.
- هل تعرف أنك قد أدهشته؟ هكذا همس صوت خلفي.
التفت خلفي لأكتشف الابتسامة الرقيقة لابنة أخ المكتبي , التي كانت تقدر الفراغ بالحدس, كان لها صوت بلور شفاف وهامس جدا للدرجة التي كنت أظن معها أن كلماتها سوف تتكسر لو قاطعتها أثناء الكلام.
- أخبرني عمي أنه عرض عليك مبلغا جيدا من المال مقابل كتاب كاراكس و لكنك رفضت أضافت كلارا و لهذا فزت باحترامه.
كان ذلك سيكون رد فعل أي شخص مكاني همست.
لاحظت أن رأس كلارا كانت تتمايل عند الضحك وأصابعها تتلاعب بخاتم يبدو كاكليل من الياقوت الأزرق.
كم عمرك؟ تساءلت.
11 عاما تقريبا, أجبت و حضرتك؟
ضحكت كلارا علي براءتي الوقحة.
تقريبا الضعف و لكن ذلك لا يعني أن تناديني بحضرتك.
إن حضرتك تبدين أصغر سنا أوضحت متخيلا أن ذلك ممكن أن يكون مهربا جيدا من عدم حصافتي.
سوف أثق بك إذا لأني لا أعرف كيف يبدو شكلي أجابت دون أن تفارق شفتيها ابتسامتها غير المكتملة و لكن إذا كنت أبدو لك أصغر سنا , فهذا سبب أدعي لأن تناديني بأنت وليس حضرتك.
كما تشائين حضرتك , يا آنسة كلارا.
تفحصت بعناية يديها المفتوحتين كجناحين فوق حجرها , وخصرها الرفيع الظاهر من تحت ثنيات غطاء الباكا, ورسم أكتافها, و شحوب حنجرتها المفرط, وغلق شفتيها, اللتين كنت أود لو داعبتهما بأطراف أصابعي. لم تتح لي من قبل تفحص سيدة عن قرب و بهذه الدقة دون خوف من أن تتلاقي نظراتنا .
إلي ماذا تنظر ؟ سألت كلارا دون خبث.
يقول عم حضرتك أنك خبيرة في خوليان كاراكس ارتجلت بحلق جاف.
عمي قادر علي أن يقول أي شيء مقابل أن يختلي بكتاب يعجبه لوقت ما أضافت كلارا و لكنك يجب أن تتساءل كيف لشخص كفيف أن يكون خبيرأ بالكتب دون أن يستطيع قراءتها.
في الواقع لم يخطر ذلك علي بالي .
إذا كنت علي وشك إتمام 11 عاما فلا تكذب بشكل مفضوح. تيقظ وإلا سينتهي بك الحال مثل عمي.
وخوفا من أن أسيء التصرف مره أخري, اقتصر رد فعلي علي الجلوس في هدوء متأملا إياها في دهشة.
هيا اقترب قالت.
عفوا؟
اقترب ولا تخف فلن آكلك.
استويت علي الأريكة واقتربت حيث كانت كلارا.
رفعت ابنة أخ المكتبي يدها اليمني تتلمسني .دون ان أدري كيف يجب أن أتصرف فعلت مثلها ومددت لها يدي. أخذتها بيدها اليسري ومدت لي كلارا في هدوء يدها اليمني . فهمت بصورة غريزية ما الذي تريده ووجهت يديها ناحية وجهي. كان ملمسها قويا و لطيفا لبرهة من الزمن . مرت بيديها علي خديّ ووجنتيّ, ظللت متسمرا دون حتي أن أقدر علي التنفس أثناء ما كانت كلارا تقرأ ملامحي بيديها . وأثناء قيامها بذلك كانت تبتسم لنفسها وتنبهت أن شفتيها كانتا تفتحان وتغلقا كما لو كانتا تهمسان في صمت.شعرت بلمسهة يديها علي جبهتي وعلي شعري وعلي جفوني. توقفت علي شفتيّ راسمةً إياهما بإصبعيها السبابة والبنصر.
كانت أصابعها تشع رائحة القرفة. ابتلعت ريقي , منتهبا أن نبضي كان يتسارع بقوة, و بفضل العناية الإلهية لم يكن هناك شهود في الخفاء ليشهدوا علي خجلي الذي كان يكفي لاشعال سيجار كوبي من علي بعد.
في ذلك المساء المليء بالضباب والرذاذ , سرقت كلارا بارسلو قلبي والقدرة علي التنفس والنوم. و تحت الضوء المسحور لمكتبة ألاتينيو رسمت يداها علي جسمي لعنة ستلاحقني لسنوات عديدة.
أثناء تأملي لها وأنا شبه فاقد الوعي, شرحت لي ابنة أخ المكتبي قصتها وكيف عثرت و بالصدفة أيضا علي كتابات خوليان كاراكس .وقعت الحادثة في قرية تابعة لمدينة بروبينسة . كان والدها محامياً ذائع الصيت وعلي صلة بحكومة الرئيس كومبانيز , كان لديه رؤية ثاقبة و لهذا أرسل ابنته وزوجته للإقامة عند أخته علي الجانب الآخر من الحدود حينما اندلعت الحرب الأهلية .بالتأكيد كان هناك من يرون ذلك مبالغة لانه لن يحدث شيء في برشلونة , و أنه في إسبانيا التي تعتبر مهد وحاضر المسيحية فإن الهمجية هي عمل الفوضويين, وهؤلاء صغار وفقراء وبالتالي لن يستطيعوا عمل الكثير. كان و الد كلارا يقول دائما إن الشعوب لا تنظر الي المرأة وخصوصا أثناء حرب أهلية. كان المحامي قارئاً جيداً للتاريخ وكان يعرف أن المستقبل يمكن قراءته في الشارع والمصانع والثكنات العسكرية بوضوح أكثر من صحافه الغد. ظل يكتب لهم كل أسبوع. في البداية كان يفعل ذلك من خلال مكتب في شارع ديبوتاسيون , بعد ذلك وبلا عودة ونهائيا في الخفاء من زنزانة في قلعة المونتويك , حيث مثل كثيرين آخرين , لم يره أحد وهو يدخلها , ولم يخرج منها أبدا.
كانت أم كلارا تقرأ الخطابات بصوت مرتفع دون أن تنجح في إخفاء بكائها, وتقفز علي الفقرات التي تظن أنها غير ضرورية لابنتها. بعد ذلك وفي منتصف الليل كانت كلارا تقنع ابنه عمتها كلاوديت بأن تعيد قراءة خطابات والدها من جديد بكاملها. هكذا صار الأمر كما لو أن كلارا تقرأ بعيون مستعارة. لم يرها أحد مطلقا تسقط دمعة ولا حتي بعد أن توقفت مراسلات المحامي, ولا حتي بعد أن فاقت أخبار الحرب الأهلية أسوأ التوقعات.
كان والدي يعرف منذ البداية ما الذي سوف يحدث شرحت كلارا ظل بجانب أصدقائه لأنه كان يظن أن ذلك واجبه . قتله الولاء للناس الذين عندما حانت ساعته خانوه. لا تثق أبدا بأحد يا دانييل, خصوصا بالناس الذين تعجب بهم, فهؤلاء سيسددون لك أشد الطعنات. كانت كلارا تنطق هذه الكلمات بحدة وكأن سنوات من السرية والظلال قد صقلتها. شردت في نظرتها البللورية وعيون بدون دموع ولا خداع, مستمعا لها تتحدث عن أشياء لم أكن أفهما بعد. كانت كلارا تصف أشخاصا وسيناريوهات وأشياء لم ترها بعينيها أبدا بتفصيل ودقة مدرّسة في مدرسة لتعليم رقصه الفلامنجو.
كانت لغتها هي الإحساس بالأشياء والأصداء ونغمات الأصوات ووقع الأقدام . شرحت لي كيف أنه خلال سنوات المنفي في فرنسا, تشاركت هي وابنة عمها كلاوديت في استئجار مدرس ومعلم خاص, و هو سكير في الخمسين من عمره يرتدي زي الأدباء و يتباهي بقدرته علي قراءة أوديسة فيرجيل بلغة لاتينية صحيحة. لقبوه باسم السيد روكفورت وذلك بسبب تلك الرائحة التي كانت تفوح منه علي الرغم من وضعه الكثير من العطور والكولونيا التي كان ينقع نفسه بها بشكل زائد عن الحد. كان السيد روكفورت وعلي الرغم من خصائصه الكثيرة (من بينها اقتناع قوي وواضح ان الطعام الذي كانت تحصل كلارا و أمها عليه من أقاربهم في إسبانيا كان مساعدة لهم) كان له ذوق رفيع , و منذ أن كان شابا اعتاد الذهاب الي باريس مره كل شهر كي يثري نهمه الثقافي بآخر المستجدات الأدبية وزيارة المتاحف, وأشيع أنه اعتاد ان يقضي ليله في أحضان سيدة كان قد سماها مدام بوفاري علي الرغم من أنها كانت تدعي هورتنسيي و لها وجه ذكوري. أثناء رحلاته الثقافية كان السيد روكفورت معتاد الذهاب الي مكان لبيع الكتب المستعملة يقع أمام كنيسه نوتردام , و بالصدفة في أحد مساءات 9291 وقع هناك علي رواية لكاتب مغمور يدعي جوليان كاراكس, وبما أنه منفتح علي كل ما هو جديد, اقتني السيد روكفورت الكتاب لا لسبب أكثر من أن العنوان بدا له موحياً حيث كان من عادته أن يقرأ شيئا خفيفا أثناء عودته في القطار.
كان عنوان الرواية هو ( المنزل الأحمر) وعلي ظهره كانت هناك صورة غير واضحة للمؤلف, ربما كانت صورة فوتوغرافية أو بقعة فحم, وفقا لنص السيرة الذاتية كان جوليان كاراكس شاباً في السادسة والعشرين, و كان يعيش آنذاك في باريس ويعمل كعازف بيانو محترف في ملهي ليلي بالتناوب .
وعلي الغلاف الخارجي الجميل والعتيق، والذي يتناسب مع روح العصر, كان موضحا بنثر بروسي( نسبه لبروسيا) أن هذه الرواية أول عمل ذي قيمة كبيرة لموهبة متقدة و وواعدة, وتمثل مستقبلا واعدا للآداب الأوربية بدون جدال. بكل هذا, كان الملخص يفهم منه أن الرواية بها أحداث أليمة بشكل مبهم وبإيقاع متسلسل ورتيب, الأمر الذي كان ميزه في نظر السيد ريكفورت, لأن أكثر شيئ كان يعجبه بعد الكلاسيكيات كانت الروايات المثيرة وذات الحبكة. كانت رواية ( المنزل الأحمر) تحكي عن الحياة المعذبة لشخص غامض يقتحم محلات لعب الأطفال والمتاحف لسرقة العرائس والدمي والتي يقتلع أعينها لاحقا, ويحملها إلي منزله, وهو عبارة عن مكان يبدو ككهف علي ضفاف نهر السين. وفي إحدي الليالي وعند اقتحام منزل شديد الثراء في شارع فوكس, كي يسرق مجموعة خاصة من العرائس لشخص واسع الثراء جراء عمليات احتيال أثناء الثورة الصناعية, تقع ابنته وهي سيدة مجتمع باريسية رقيقة وقارئة نهمة في غرام اللص. وبتتابع أحداث العشق المعذب والمليء بالعقبات الوعرة والفصول غير المكتملة, تتمكن البطلة من سبر أغوار البطل اللغز و الذي لم يفصح عن اسمه مطلقا, والمهووس بنزع أعين الدمي, تكتشف سراً مريعاً عن والدها ومجموعة تماثيله المصنوعة من البورسلين ويقود هذا بشكل حتمي لنهاية مأساوية من الطراز القوطي بامتياز.
كان السيد روكفورت متمرساً جيداً في الصراعات الأدبية وكان يتفاخر بامتلاكه مجموعة كبيرة من الخطابات الموقعة من كل ناشري باريس والذين كانوا يرفضون الكتابات الشعرية والنثرية التي كان يرسلها لهم بدون توقف. تمكن من معرفة دار النشر التي نشرت الرواية والمعروفة بكتب الطبخ والخياطة وفنون المنزل, حكي له صاحب مكتبة الكتب المستعملة أن الرواية ظهرت للتو ونالت بعض التعليقات في جريدتين محليتين بجانب نعي المتوفين, وأوصي النقادُ الروائيَ كاراكس بألا يترك عمله كعازف بيانو لأنه كان واضحا أنه لن يحقق شيئا ذا بال في عالم الأدب.قرر السيد روكفورت الذي كان يرق قلبه وجيبه أمام القضايا الخاسرة أن يستثمر نصف فرنك ويشتري الرواية للمدعو كاراكس مع نسخة مفضلة للأديب الكبير الذي كان يعتبر نفسه محظوظا بمعرفته وهو جوستاف فلوبير.
أقلع القطار إلي ليون مكتملا عن آخره وبالتالي لم يكن أمام السيد روكفورت من بديل عن أن يتشارك في كابينه من الدرجة الثانية مع راهبتين, و بعد أن ترك القطار محطه أوستيرليتز لم يكفا عن إرسال نظرات استهجان وهمس مستتر. وأمام هذا التدقيق اختار الرجل أن يخرج تلك الروايه من حقيبته و يتمترس خلف صفحاتها. وكانت دهشته عظيمة عندما اكتشف بعد مئات الكيلومترات أنه قد نسي أمر الراهبتين واهتزاز القطار والمناظر الطبيعية التي كانت تتعاقب كحلم كئيب للأخوان لومير خلف شبابيك القطار. قرأ طوال الليل علي الرغم من شخير الراهبتين والمحطات التي كانت تمر سريعا تحت جنح الضباب. وعندما قلب آخر صفحات الرواية وكان ذلك عند بزوغ الفجر, اكتشف السيد روكفورت أن عيونه كانت تدمع وقلبه مليء بالحسد والدهشة.
في نفس ذلك اليوم و كان يوم اثنين, اتصل السيد روكفورت بدار النشر في باريس طالبا معلومات عن ذلك المدعو خوليان كراكس. وبعد إلحاح كبير, أخبرته عاملة تليفون يغلب علي صوتها ثأثير الربو والمرض بأنه لا يوجد عنوان معروف لكاراكس, وعلي كل حال لا توجد له تعاملات مع دار النشر الآن وأن رواية (المنزل الأحمر) قد باعت بالتحديد 76 نسخة ذهب معظمها لمجموعة من الساقطات وبعض رواد المكان الذي اعتاد الكاتب قضاء أمسياته عازفا بعض المقاطع مقابل القليل من المال. أما بقية النسخ فقد تمت إعادتها وتحولت إلي عجينة ورقية لطباعة الكتب المقدسة والغرامات وورق اليانصيب. تعاطف السيد روكفورت مع هذا الحظ العاثر لهذا الكاتب الغامض. و خلال العشر سنوات اللاحقه وفي كل زيارة له لباريس كان يبحث في المكتبات التي تبيع الكتب القديمة عن أعمال أخري لكاراكس ولكنه لم يجد شيئا مطلقا. تقريبا لم يسمع أحد عن هذا المؤلف, والذين كانوا قد سمعوا شيئا عنه , كانوا فقط يعرفون القليل . كان هناك من يؤكد أنه كان قد نشر بعض الكتب من خلال دور نشر غير معروفة في طبعات تثير السخرية . ولكن كان من المستحيل العثور علي هذه الكتب إذا كانت موجودة من الأساس. أكد له بائع كتب في إحدي المرات أنه قد وقع بين يديه إحدي نسخ رواية لخوليان كراكس تسمي ( لص الكاتدرائيات) , ولكن كان هذا من زمن طويل و لهذا لم يكن باستطاعته التأكيد. وفي نهاية 1935 وصلت إليه أخبار تقضي بأن رواية جديدة لخوليان كاراكس تسمي (ظل الريح ) قد نشرت من خلال دار نشر صغيرة في باريس. كتب اسم دار النشر لاقتناء عده نسخ. لم يحصل علي إجابة مطلقا. في العام التالي و في ربيع 1936 سأله صديق من متجر الكتب الواقع علي الضفة الجنوبية لنهر السين إذا كان لا يزال مهتما بشأن كاراكس. أكد السيد روكفورت أنه لن ييأس أبدا. أضحي الأمر تحدياً له: إذا أصر العالم علي طي صفحة كاراكس في النسيان, فلن يتراجع هو عن مبتغاه. شرح له صديقه أنه منذ عدة أسابيع سرت شائعة حول كاراكس. بدا وكأن القدر اخيرا قد تغير. كان بصدد أن يعقد قرانه علي سيدة أحوالها جيدة , و كان قد نشر رواية جديدة بعد عدة سنوات من السكون والتي لأول مرة كان قد نال استحسانا في جريده اللوموند. و لكن وبالتحديد عندما بدا أن الريح ستغير اتجاهها كما قال بائع الكتب, شوهد كاراكس في عزاء في مدفن بيير لاشيز. لم تكن الظروف التي أحاطت بتلك الواقعة واضحة. و كل ما تم معرفته هو أن العزاء كان في فجر اليوم الذي كان كاراكس يجب أن يعقد قرانه فيه, وبالتالي لم يظهر العريس أبدا في الكنيسة.
تعددت الآراء كي تناسب جميع الأذواق: تصوره البعض ميتا في هذا العزاء وقد دفنت جثته في مقبرة غير معروفة , بعض الآراء الأخري، المتفائلة، كانت تفضل الاعتقاد بأن كاراكس كان متورطاً في أمر ما مبهم, وتوجب عليه ترك خطيبته في المذبح والهرب من باريس والعودة إلي برشلونة. لم يتم العثور مطلقا علي المقبرة المجهولة وبعد ذلك ظهرت رواية أخري: تقضي بأن خوليان كاراكس - الموصوم بسوء الحظ - قد لقي حتفه في مسقط رأسه بشكل مأساوي. جمعت الفتيات اللاتي كن يعملن في الملهي الذي كان يعزف فيه البيانو بعض المال كي يقمن بدفنه بشكل كريم. عند هذا المنعطف كان قد تم دفن الجثة في مقبرة عامة جنبا إلي جنب مع المتسولين ومجهولي الهوية ممن تظهر جثثهم طافية في الميناء أو من يموتون من البرد علي سلالم المترو.
لم ينس السيد روكفورت كاراكس حتي وإن كان ذلك لمجرد تبني وجهة النظر المضادة. بعد مرور 11 عاما علي اكتشافه (المنزل الأحمر) قرر أن يعير الرواية إلي تلميذتيه, آملا أن يرسخ هذا الكتاب الغريب لديهما عاده حب القراءة. كانت كل من كلارا و كلاوديت في الخامسة عشرة حيث تتدفق الهرمونات في شرايينهما وتناديهما الحياة من نوافذ صالة المذاكرة. وعلي الرغم من كل مجهودات معلمهما وحتي تلك اللحظة, لم تظهرا اهتماما بالكلاسيكيات وأساطير إسوب أو الشعر الخالد لدانتي أليجيري. لخوف السيد روكفورت من إنهاء عقده عندما تكتشف أم كلارا أن مجهوداته التعليمية لم تثمر سوي عن جاهلتين بعقول مليئة بالأوهام, قرر ساعتها أن يهديهما رواية كاراكس بحجهة أنها قصة حب من تلك النوعية التي تثير البكاء بحرقة. الأمر الذي كان حقيقة غير مكتملة.
كإخوة, اترك لي هذا الكتاب مقابل 40 دورو, و لا تطلب المزيد.
- سيتوجب عليك مناقشة هذا الأمر مع ابني أضاف والدي لأن الكتاب ملك له.
رمقني بارسلو بابتسامه ذئب.
ما رأيك أيها الصغير ؟40 دورو سعر جيد مقابل أول بيعة...سيمبري سيكون لولدك هذا باع في هذا النشاط.
ضحك المتسامرون جراء مزحته. نظر إليّ بارسلو مسروراً , مخرجاً محفظته الجلدية وعد الأربعين دورو التي كانت في هذا الزمان بمثابة ثروة ومدها إلي. اقتصر رد فعلي علي الرفض في هدوء. قطب بارسلو حاجبيه.
رفضت مجددا . رمق بارسلو والدي بنظرة غاضبة عبر نظارته.
- لا تنظر إلي أنا هنا فقط كمرافق.
تنهد بارسلو وتأملني بشكل متأن.
- لنري يا صغيري, ما الذي تريده؟
- ما أريده معرفة من يكون خوليان كاراكس وأين يمكن أن أجد كتباً أخري يمكن أن يكون قد كتبها.
ضحك بارسلو بصوت منخفض وأعاد محفظته معيداً تأمل خصمه.
- يا لها من مفاجأة, يبدو كأستاذ أكاديمي. لكن ماذا تطعم هذا الفتي يا سيمبري؟ قال مازحاً-.
انحني المكتبي ناحيتي بنبرة هامسة, وللحظة من الزمن لاحظت شبهة احترام في نظرته إلي, لم تكن موجودة منذ قليل.
- سنعقد صفقةً - قال لي - غداً الأحد في الظهيرة تأتي إلي مكتبة ألاتنيو وتسأل عني ومعك كتابك كي أفحصه جيدا وأحكي لك كل ما أعرفه عن خوليان كاراكس. كيد برو كيو
-ماذا يعني ذلك؟
- تبادل منفعة, و لكن باللاتينية يا صغيري, فلا توجد لغات ميتة لكن توجد عقول متكلسة. وتعني أنه لا يوجد شيء مجاني. ولكنك قد أعجبتني وسأسدي لك معروفاً.
كان هذا الرجل يقطر خطابة قادرة علي إباده جميع الحشرات الطائرة. لكني فكرت في أنه إذا كنت بحاجة لمعرفه شيء عن خوليان كاراكس, يجب علي أن أحافظ علي علاقة جيدة به.أرسلت له ابتسامة هادئة مظهرا له ابتهاجي بمعرفته باللاتينية وأفعالها السهلة.
تذكر الغد في مكتبه ألاتنيو قال المكتبي ولكن احضر الكتاب وإلا فالاتفاق لاغ.
تاهت المناقشه ببطء وسط همسات المتحدثين الآخرين, وتحولت إلي نقاش حول وثائق مكتشفة في بدروم مكتبه الاسكوريال والتي تقول بامكانية أن يكون دون ميجيل دي سربانتس لم يكن اسمه بل كان مجرد اسماً أدبياً مستعاراً لسيدة مشعرة من توليدو. لم يشارك بارسلو الغائب في الجدل البيزنطي، ظل ينظر إلي عبر نظارته بابتسامة غامضة أو ربما فقط كان ينظر للكتاب الذي كنت أحمله بين يدي.
في ذلك الأحد, انزلقت السحب من السماء وكانت الشوارع ترقد غارقة تحت بحيرة من ضباب متقد كان كفيلا بجعل موازين الحراره تقطر ماءً علي الحوائط.
في منتصف اليوم وصلت درجة الحرارة إلي 30 درجة , أسرعت إلي شارع كانودا للحاق بموعد بارسلو في مكتبة الاتنيو وكتابي تحت ذراعي وجبهتي تتصبب عرقاً. كانت مكتبة الاتنيو، ولا تزال، واحدة من أماكن كثيرة في برشلونة لم يستقبل بها القرن التاسع عشر إشارات علي التقاعد بعد. كان السلم الحجري يرتفع من بهو فخم إلي شبكة كثيرة من دهاليز وصالات قراءة تبدو معها اختراعات مثل التليفون والسرعة أو حتي ساعة اليد مفارقات تاريخية مستقبلية.
لم يحرك البواب الذي بدا كأنه صنم يرتدي زيا ساكنا عند وصولي . نزلت إلي الطابق الأول ممتنا لوجود مروحة تطن وسط قراء يتنامون وينصهرون مثل مكعبات ثلج فوق كتبهم ومذكراتهم.
كان ظل دون جوستابو بارسلو يبرز بجانب نوافذ ممر يؤدي إلي حديقة داخلية للمبني. وعلي الرغم من أن الجو شبه استوائي كان المكتبي يرتدي ملابس تقليدية أنيقة ونظارة تلمع في الظلام مثل قطعة نقود في قاع بئر. بجانبه، استطعت تمييز شخص ما يتدثر بلباس من وبر الباكا الأبيض والذي بدا لي كملاك منحوت في الضباب. انتبه بارسلو إلي وقع أقدامي وأومأ إلي بالاقتراب.
دانييل , أليس كذلك؟ هل أحضرت الكتاب؟
أجبت بالإيجاب وأخذت الكرسي الذي أتاحه لي بجانبه هو ومرافقته الغامضة. لعدة دقائق اقتصر رد فعل المكتبي علي الابتسام لي بارتياح وهو الأمر الغريب علي . بعد قليل تخليت عن حلمي بأن يقدم لي تلك المتدثره بالرداء الأبيض, و تعامل بارسلو كما لو كانت غير موجودة ولا يراها كلانا. كنت أراقبها بنظرات جانبية خائفاً من أن تتلاقي نظرتي مع نظرتها التي كانت لا تزال شاردة في مكان ما. كانت بشرتها شاحبة وذراعاها شاحبان وشفافان تقريبا, و كانت ملامحها حاده راسمة خطاً واضحاً تحت فروة رأسها السوداء والتي كانت تلمع كحجر مندي.
قدرت أنها في العشرين علي أكثر تقدير, و لكن شيئا ما في هيئتها وطريقتها تبدو معه روحها وكأنها وقعت في رجليها, مثل أوراق الصفصاف جعلني أفكر بأنه ليس لها سن, كانت تبدو متسمرة في حالة من الشباب الدائم مثل الموديلات الموجودة في واجهات العرض الأنيقة. كنت أحاول قراءة نبضها من تحت حنجرتها التي تبدو كحنجرة بجعة عندما انتبهت الي أن بارسلو يلاحظني باهتمام.
هل ستخبرني إذا أين وجدت الكتاب؟ تساءل.
كنت أود و لكني وعدت أبي أني سأحفظ السر أضفت.
أري ذلك. إنه سيمبري و ألغازه قال بارسلو سأعرف أنا من أين.
يالها من ثروة عظيمة تلك التي حصلت عليها يا فتي, هذا ما أسميه العثور علي إبرة في حقل من السوسن. لنري, هلا أريتني إياه؟
مددت له يدي بالكتاب الذي أخذه بارسلو برقة متناهية.
افترض أنك قد قرأته .
نعم يا سيدي.
- إنني أحسدك , فدائما ما تصورت أن أفضل وقت لقراءة أعمال خوليان كاراكس عندما يكون العقل شاباً والذهن صافياً.
- هل تعرف أن تلك هي آخر رواية كتبها كاراكس؟
أومأت بالنفي في هدوء.
هل تعرف كم نسخه مثل هذه موجودة في السوق يا دانييل؟
أفترض وجود الالاف.
ولا نسخة أكد بارسلو فقط تلك التي معك والنسخ الأخري قد تم حرقها.
تم حرقها ؟
اقتصر رد فعل بارسلو علي ارسال ابتسامة مبهمة, مقلبا صفحات الكتاب و مداعبا الورق كما لو كان قطعة حرير متفردة في العالم .التفتت سيدة الرداء الأبيض ببطء . رسمت شفتاها ابتسامة خائفة ومرتعشة , كانت عيناها تتلمسان الفضاء بحدقتيها البيضاء مثل الرخام . ابتلعت ريقي. كانت كفيفة.
إنك لا تعرف ابنة أخي كلارا, أليس كذلك؟ - تساءل بارسلو .
أومأت بالنفي غير قادر علي ان أرفع عيني من علي تلك المخلوقه بلون وجهها الذي يشبه عروسة مصنوعة من البورسلين, و عيون بيضاء , أكثر عيون حزينة رأيتها في حياتي.
في الواقع إن الخبير في خوليان كاراكس هي كلارا, و لهذا أحضرتها قال بارسلو.
و أكثر من هذا و بعد تفكير عميق أري أن تسمحا لي بالذهاب الي صالة أخري لتفحص هذا الكتاب و أترك لكما المجال لمناقشة ماتودان, ما رأيكما ؟
نظرت إليه مندهشا, هذا المكتبي يبدو كقرصان ماكر عصي علي توقعاتي, ربت علي ظهري وغادر حاملا كتابي تحت ذراعيه.
- هل تعرف أنك قد أدهشته؟ هكذا همس صوت خلفي.
التفت خلفي لأكتشف الابتسامة الرقيقة لابنة أخ المكتبي , التي كانت تقدر الفراغ بالحدس, كان لها صوت بلور شفاف وهامس جدا للدرجة التي كنت أظن معها أن كلماتها سوف تتكسر لو قاطعتها أثناء الكلام.
- أخبرني عمي أنه عرض عليك مبلغا جيدا من المال مقابل كتاب كاراكس و لكنك رفضت أضافت كلارا و لهذا فزت باحترامه.
كان ذلك سيكون رد فعل أي شخص مكاني همست.
لاحظت أن رأس كلارا كانت تتمايل عند الضحك وأصابعها تتلاعب بخاتم يبدو كاكليل من الياقوت الأزرق.
كم عمرك؟ تساءلت.
11 عاما تقريبا, أجبت و حضرتك؟
ضحكت كلارا علي براءتي الوقحة.
تقريبا الضعف و لكن ذلك لا يعني أن تناديني بحضرتك.
إن حضرتك تبدين أصغر سنا أوضحت متخيلا أن ذلك ممكن أن يكون مهربا جيدا من عدم حصافتي.
سوف أثق بك إذا لأني لا أعرف كيف يبدو شكلي أجابت دون أن تفارق شفتيها ابتسامتها غير المكتملة و لكن إذا كنت أبدو لك أصغر سنا , فهذا سبب أدعي لأن تناديني بأنت وليس حضرتك.
كما تشائين حضرتك , يا آنسة كلارا.
تفحصت بعناية يديها المفتوحتين كجناحين فوق حجرها , وخصرها الرفيع الظاهر من تحت ثنيات غطاء الباكا, ورسم أكتافها, و شحوب حنجرتها المفرط, وغلق شفتيها, اللتين كنت أود لو داعبتهما بأطراف أصابعي. لم تتح لي من قبل تفحص سيدة عن قرب و بهذه الدقة دون خوف من أن تتلاقي نظراتنا .
إلي ماذا تنظر ؟ سألت كلارا دون خبث. مقبرة الكتب المنسية
مازلت أذكر الفجر الذي أخذني فيه أبي لأول مرة لزيارة مقبرة الكتب المنسية. كانت الأيام الأولي في صيف 1945 وكنا نسير في شوارع برشلونة المحاصرة تحت سماوات مغبّرة وشمس من البخار تنسكب علي لا رامبلا دي سانتا مونيكا في شكل إكليل من النحاس السائل.
دانييل, لا يمكن أن تحكي ما ستراه اليوم لأحد- حذرني أبي- ولا حتي لصديقك توماس, ولا لأي مخلوق.
- ولا حتي لأمي؟ - سألتُ.
تنهد أبي, الذي كانت تعلو وجهه ابتسامته الحزينة تصاحبه كالظل طوال حياته.
- بالطبع - أجاب مكتئبا-. نحن لا نخفي عليها شيئاً. يمكن أن تحكي لها كل شيء.
ماتت أمي بالكوليرا بعد الحرب الأهلية بقليل. دفنّاها في مونتويك يوم عيد ميلادي الرابع. ما من شيء أتذكره إلا مطر السماء طوال النهار والليل, وعندما سألت أبي هل تبكي السماء, اختفي صوته ولم يستطع الرد. بعد مرور ست سنوات كان موت أمي بالنسبة لي لا يزال سراباً, صمتاً يصرخ، ولم أكن قد تعلمت أن أسكته بالكلمات بعد. كنا نعيش أنا وأبي في شقة صغيرة في شارع سانتا آنا, بالقرب من ميدان الكنيسة, وكانت الشقة تقع بالضبط فوق المكتبة المتخصصة في الطبعات المجمعة والكتب القديمة والموروثة من جدي, كانت عبارة عن بازار جميل, يثق أبي أنه في يوم من الأيام سيؤول إليّ. تربيت بين الكتب, متخذاً أصدقاء غير مرئيين من بين صفحات مكسيةً بغبار لا تزال يداي تحتفظان برائحته. تعلمتُ وأنا طفل أن أنام وأنا أحكي لأمي في ظلام غرفتي أحداث اليوم وأحوالي في المدرسة, وما تعلمته في ذلك اليوم...لم أكن أتمكن من سماع صوتها أو أشعر بملمسها، ولكن كان نورها ودفئها يملآن كل ركن في ذلك المنزل, و كنت أنا ببراءة من لايزالون يستطيعون عد أعمارهم علي أصابع أيديهم, أعتقد أني لو كلمتها وأنا مغمض العينين, يمكنها أن تسمعني أينما كنت. أحيانا كان أبي يسمعني من غرفة الطعام و يبكي في الخفاء.
أتذكر ذلك الفجر من شهر يونيه الذي استيقظت فيه وأنا أصرخ. كانت نبضات قلبي تتسارع في صدري كما لو كانت روحي تريد أن تخرج وتنزل السلالم مهرولة. جاء أبي مفزوعا إلي حجرتي واحتضنني بين ذراعيه محاولا تهدئتي.
لا يمكنني تذكر وجهها, لا يمكنني تذكر وجه أمي همستُ لاهثاً.
احتضنني أبي بقوة.
لا تقلق يا دانييل, سوف أتذكر لكلينا.
كنا نتبادل النظر في الظلام بحثاً عن كلمات غائبة. كانت تلك هي المرة الأولي التي أدركت فيها أن والدي أصابته الشيخوخة وأن عينيه, الذابلتين والغائمتين، كانتا دائما تنظران للخلف. انحني وفتح الستائر كي يفسح المجال لدخول ضوء الفجر البازغ.
هيا يا دانييل, ارتد ملابسك.أريد أن أريك شيئا ما قال-.
الآن؟ في الخامسة صباحا؟
ثمة أشياء لا يمكن أن تُري إلا في الظلام أومأ أبي ملوحاً بابتسامة غامضة، وربما كان قد استعارها من إليكسندر دوماس.
كانت الشوارع لا تزال ترزح بين الضباب والندي عندما خرجنا إلي البوابة. كانت أعمدة الإنارة في المتنزهات ترسم طريقاً من البخار, تومض في الوقت الذي كانت فيه المدينة تمتد وتتخلص من قناعها ذي الألوان المائية. عند الوصول إلي شارع أركو دل التياترو, خاطرنا بالسير في شارع رابال تحت الرواق الذي يظهر قبة من الضباب الأزرق. كنت أتبع والدي خلال ذلك الطريق الضيق والذي يبدو كجرح أكثر منه شارعاً, حتي اختفي ضوء لا رامبلا وراءنا.
كان ضوء الفجر يتسرب عبر الشرفات والأفاريز في قطع ضوئية منحرفة لا تصل للأرض. أخيرا توقف أبي أمام بوابة خشبية مشغولة, اسودت بفعل الزمن والرطوبة. كان يرتفع أمامنا ما بدا لي جثة مجهوله لقصر ما أو منحي من الصدي والظلال.
دانييل, لا يمكن أن تقص ما ستراه اليوم علي أحد ولا حتي صديقك توماس, ولا كائنا من كان.
فتح لنا الباب رجل قصير بملامح طائر جارح وشعر فضي, استقرت نظرته التي تشبه نظرة النسر عليّ بشكل حاد.
صباح الخير يا إسحاق. هذا هو إبني دانييل قال أبي . قريبا سيتم عامة الحادي عشر, ويوماً ما سيتولي أمر المحل . عمره الأن يسمح له بمعرفة هذا المكان.
دعانا إسحاق للمرور بإشارة صغيرة تعني الموافقة. كان ظلام أزرق يلف المكان كله, وبالكاد تظهر قطع من درج رخامي ودهليز من القطع الزجاجية مليء بأشكال ملائكية ومخلوقات جميلة. اتبعنا الحارس عبر ذلك الممر الفخم ووصلنا إلي صالة دائرية كبيرة حيث ظلام دامس تحت قبة تتخللها أشعة ضوء معلقة من أعلي. متاهة من الممرات و الأرفف المكتظة بالكتب من القاع إلي القمة. راسمة خلية مملوءة بالأنفاق والأدراج والمنصات والجسور التي تجعلك تتخيل وجود مكتبة عملاقة مصممة بشكل هندسي معجز.
نظرت إلي أبي فاتحا فمي, ابتسم لي وغمز بعينيه.
مرحبا بك يا دانييل في مقبرة الكتب المنسية.
بعد أن تخطينا المنصات والممرات، كانت تصطف العديد من المخلوقات. أحيانا بعضهم من بعيد, تعرفت علي بعض الوجوه لزملاء عديدين لأبي من نقابة بائعي الكتب القديمة. بالنسبة لطفل في العاشرة , كان هؤلاء الأفراد يبدون لي كجماعة سرية من الكيميائيين تتآمر سرا. انحني أبي علي وحدثني بصوت خفيض يصلح للوعود والأسرار.
هذا المكان بمثابة لغز يا دانييل, إنه قدس أقداس. كل كتاب ومجلد تراه له روح. روح من قرأه وعاش وحلم معه. في كل مرة تحمل الكتاب يد جديدة أو تقع عليه نظرة شخص ما , تنمو روحه وتزداد صلابة.
عندما أتي بي أبي إلي هذا المكان لأول مرة كان المكان قديما بالفعل, ربما بمثل قدم المدينة نفسها. لا يعرف أحد علي وجه اليقين متي وجد أو من الذي أنشاه. سأخبرك بما أخبرني به والدي.
عندما تختفي مكتبة ما أو يغلق متجر لبيع الكتب أبوابه، وعندما يغيب كتاب ما في طي النسيان, نتأكد نحن من نعرف هذا المكان والحراس أنه سيأتي إلي هنا . في هذا المكان تحيا أبدية تلك الكتب التي لا يتذكرها أحد, الكتب التي طواها النسيان, منتظرة أن تصل في يوم ما إلي يد قاريء جديد, إلي روح جديدة. نشتريها ونبيعها في المكتبة, ولكن في الحقيقة لا يوجد مالك للكتب. كل كتاب تراه هنا كان صديقا حميما لشخص ما. والآن ليس له سوانا يا دانييل. هل تظن أن باستطاعتك كتمان هذا السر؟
تاهت نظرتي في ضخامة المكان وضوئه المبهر. أومأت بنعم فابتسم أبي.
هل تعرف ما هو أفضل؟
أومأتُ بالنفي في صمت.
- العادة أن من يزور هذا المكان لأول مرة, يختار كتاباً ما, كتاباً يفضله ويتبناه, ويؤكد علي ألا يختفي أبداً, و أن يظل موجوداً الي الأبد. إنه وعد في غاية الأهمية. مدي الحياة - شرح أبي -، و اليوم جاء دورك.
لمدة نصف ساعة تجولت بين تعقيدات تلك المتاهة التي كانت تشع رائحة ورق قديم وترابا وسحرا. تركت العنان ليدي كي تلمس الصفوف المتراصة كي تقرر اختياري . لمحت من بين العناوين المطموسة بفعل الزمن, كلمات بلغات أعرفها وأخري كثيرة لم أستطع فك طلاسمها. تجولت بين الممرات و الدهاليز الحلزونية و المليئة بمئات بل بآلاف المجلدات التي يبدو أنها كانت تعرف عني أكثر ما أعرف عنها. بعد قليل خطرت لي فكرة أنه خلف غلاف كل كتاب منها يوجد عالم لا متناهي للاكتشاف , و بعيدا عن هذه الجدران فإن الحياة تمضي في مساءات مشاهدة مباريات كره القدم وسماع المسلسلات الإذاعية قانعا بما وصل إليه و أكثر قليلا.ربما كان هذا التفكير, ربما كان القدر أو قريبه المصير , و لكني في نفس تلك اللحظة أدركت اني قد اخترت الكتاب الذي سوف أتبناه , ربما يجدر بي القول الكتاب الذي سوف يتبناني. كان يطل بحذر من طرف الرف و مغلفا بجلد يميل إلي الحمرة و يظهر عنوانه بحروف ذهبية , تلمع مع الضوء الذي ينغمر من أعلي القبة. اقتربت منه وداعبت الكلمات بأطراف أصابعي , قارئا في صمت.
مقبرة الكتب المنسية
خوليان كاراكس
لم أسمع في حياتي قط ذكرا لهذا العنوان أو مؤلفه, ولكني لم أكترث. كنت قد اتخذت القرار علي المستويين. أخذت الكتاب بمنتهي الحذر وتصفحته, تاركاً صفحاته ترفرف. بعد أن تحرر الكتاب من سجنه علي الرف, أطلق سحابه من التراب الذهبي. عدتُ إلي المتاهة وأنا راض عن اختياري، حاملاً الكتاب تحت إبطي وتعلو شفتيّ ابتسامة مطبوعة. ربما كان الجو المسحور لذاك المكان قد تملكني ولكنني كنت متاكداً أن هذا الكتاب ظل ينتظرني لسنوات عديدة, ربما قبل أن أولد.
في ذلك المساء وبعد عودتي الي المنزل الكائن في شارع سانتا آنا, ركضتُ إلي غرفتي وقررت قراءة أول سطور في صديقي الجديد, وقبل أن أفيق كنت قد وقعت أسيرا له بشكل لا يمكن الفكاك منه. كانت الرواية تحكي عن قصة رجل يبحث عن أبيه الحقيقي الذي لم يعرفه أبدا, ولم تكشف عن وجوده سوي آخر كلمات نطقت بها أمه من علي سرير الموت. تحولت قصة البحث هذه إلي أوديسة خيالية يصارع فيها البطل من أجل استعادة طفولة وشباب مفقودين, و بها نكتشف للأسف ظلاً لحب ملعون, ستظل ذكراه تطارده لنهايه أيامه. بالتقدم في القراءة بدأ بناء القصة يذكرني بالعرائس الروسية التي تحتوي علي العديد من العرائس الأصغر بداخلها, و شيئا فشيئا بدأ الحكي في الانقسام إلي آلاف الحكايات, كما لو أن الحكاية قد دخلت في العديد من الانعكاسات المختلفة والزمنية في نفس الوقت.
كانت الدقائق والساعات تنساب كالسراب. وبعد ساعات من التركيز في الحكاية, انتبهت بالكاد لأجراس منتصف الليل التي ترن من بعيد من الكاتدرائية. شاردا في الضوء النحاسي الذي كان يصدره المصباح, شردت في عالم من الأشكال و المشاعر لم أعرفها مطلقا من قبل, أشخاص بدت لي وكأنها حقيقية جداً مثل الهواء الذي كنت أتنفسه وجذبتي إلي نفق من المغامرة والغموض لم أكن أريد الخروج منه. ورقة بعد ورقة , تركت نفسي للقصة وعالمها حتي بدأ نسيم الفجر يداعب نافذتي وكانت عيناي المتعبتان تنسابان علي آخر صفحة. تمددت في الظلام المكتسي بالزرقة والكتاب علي صدري وسمعت همس المدينة النائمة ينساب علي الأسطح ذات اللون الأرجواني. كان النعاس والتعب يطرقان بابي, ولكني قاومت. لم أكن أرغب في فقد سحر الرواية ولا أن أودع شخوصها.
في إحدي المناسبات، سمعت زبوناً معتاداً علي مكتبة أبي يقول, قليلة هي الأشياء التي تؤثر في قارئ ما مثل الكتاب الأول الذي يدخل فعلاً قلبه, تلك هي الصور الأولي, صدي الكلمات التي نظن أننا تركناها خلفنا, تلازمنا طيلة حياتنا وتنحت مكاناً لها في ذاكرتنا, وعاجلاً أو آجلاً لا يهم معها كم من الكتب, كم من العوالم نكتشف, كم نتعلم و كم ننسي, فدائما ما نعود اليها.
بالنسبه لي, ستكون دائماً تلك الصفحات المسحورة هي ما وجدته بين دهاليز مقبرة الكتب المنسية.
أيام الرماد
19451949
يبقي السر طي الكتمان طالما حفظه أصحابه. بعد أن استيقظت كان أكثر ما أتمناه إشراك أعز أصدقائي في سر و جود مقبره الكتب المنسية. كان توماس أجيلار زميل دراسة يكرس كل وقت فراغه وموهبته لاختراع أدوات عبقرية ولكن لا استخدام لها, مثل النبلة الهوائية أو الدوارة الديناميكية.
ما من صديق أفضل من توماس لمشاركتي هذا السر. كنت أحلم متيقظا متخيلا نفسي أنا وتوماس مجهزين بكشافات و بوصلة لسبر أغوار تلك المقبرة الأرضية الببليوغرافية.
لاحقا, و متذكرا وعدي قررت أن الظروف تقضي بما يسمي في الروايات البوليسية بطريقة تشغيل أخري. في منتصف النهار اقتربت من أبي لسؤاله عن ذلك الكتاب وخوليان كاراكس وكنت أتخيل أنهما مشهوران في العالم كله. كانت خطتي تقضي بأن أنتهي من كل أعماله وقراءتها كلها في أقل من أسبوع. كانت مفاجأتي أن أبي وهو المكتبي العتيد والمطلّع علي كل مطبوعات دور النشر, لم يسمع قط عن ظل الريح ولا عن خوليان كاراكس.
بفضول تفحص أبي الورقة المكتوب عليها معلومات الطبعة.
- وفقا لما هو مكتوب فإن هذه طبعة من 2500 نسخة مطبوعة في برشلونة, منشورة بدار نشر كابيستاني في ديسمبر 1935.
- هل تعرف دار النشر هذه؟
- أغلقت منذ سنوات. و لكن هذه ليست النسخة الأصلية, لكنها أخري تعود إلي نوفمبر من نفس العام, مطبوعة في باريس... ودار النشر هي جوليان ونوفال. لكني لا أعرف عنها شيئا.
- إذاً هل هو كتاب مترجم - تساءلت و أنا مشتت الذهن-.
لا يوجد ما يوضح ماهيته. و لكن مما هو مدون هنا يبدو نصاً أصلياً.
- أليس غريباً أنه كتاب بالإسبانية وطُبِع أولاً في فرنسا؟
-لن تكون المرة الأولي في هذا الزمن أضاف والدي ربما استطاع بارسلو مساعدتنا...
كان جوستابو بارسلو صديقاً قديماً لأبي, وله مكتبة قديمة بشارع فرناندو وكان بمثابة أفضل بائعي الكتب القديمة. كان يمسك دائماً بايباً منطفئاً يشع روائح فارسية ودائماً ما كان يصف نفسه بآخر الرومانسيين. كان يعتقد أن له صلة قرابة بعيدة باللورد بايرن, علي الرغم من أنه كان يعيش في كالدس دي مونت, وربما لرغبة في إظهار هذه الصلة، كان بارسلو يرتدي ملابسه بطريقة لا تختلف عن متأنق من القرن التاسع عشر, واضعاً شالاً أنيقا حول عنقه, وأحذية بجلد لميع أبيض ونظارة غير متدرجة والتي حسب ما يتردد لا يخلعها ولا حتي في المرحاض. في الواقع إن القرابة الأهم في حياته كانت قرابة سلفه, وهو رجل صناعة كان قد كون ثروة بوسائل تشوبها الشوائب نوعا ما في نهايات القرن التاسع عشر. وفقا لما شرحه لي والدي فإن جوستابو بارسلو كان قد أثري من الصناعة وكانت المكتبة بالنسبة له تمثل هواية أكثر منها عملاً يتكسب منه. كان يعشق الكتب بشكل لا متناه علي الرغم من أنه كان ينكر ذلك بقوة, و كان إذا دخل أحدهم المكتبة وأعجبه كتاب ما ولا يقدر علي دفع ثمنه, كان يخفض ثمنه إلي أقصي درجة ممكنة, بما في ذلك إهداؤه له لو قدر أن المشتري قاريء نهم وليس هاوياً. وعلي هامش هذه الصفات كان بارسلو يمتلك ذاكرة حديدية و حذلقة لا تقلل من وضعه أو شهرته. ولكن إذا كان هناك من يفهم في الكتب الأجنبية, فلا شك سيكون هو. في ذلك المساء وبعد غلق المحل, اقترح أبي أن نقترب من مقهي كواترو جاتس بشارع مونتسيو حيث يعقد بارسلو وأصدقاؤه دائماً جلسات بيبليوغرافية عن شعراء ملاعين ولغات ميتة وأعمال متميزة مهجورة, وذلك بفضل الشغف بالقراءة.
كان مقهي كواترو جاتس يقع علي مرمي حجر من المنزل, وكان أحد أماكني المفضلة في كل برشلونة.هناك تعارف والدي في عام 32 هكذا كانت مشاركتي الجزئية في قطع تذكره مجييء الي الحياة في بهاء هذا المقهي العتيق. كان يُزين الواجهة المربوطة بتداخل من الظلال تنانين حجرية وأعمدة إنارة غازية تتحدي الزمن وتثير الذكريات. بالداخل كانت تختلط الناس بصدي أزمنة بعيدة. محاسبون, حالمون يتعلمون حرفه ما, كلهم يتشاركون في منضدة مع سراب بابلو بيكاسو واسحق البينيس وفيدريكو جارسيا لوركا وسلفادور دالي. هناك يمكن لأي تافه أن يشعر للحظات أنه شخصية تاريخية مقابل ثمن فنجان قهوه باللبن.
- يالها من مفاجأة, سيمبري هكذا صاح بارسلو عند رؤية أبي يدخل أيها الابن الضال ما سبب تشريفك لنا؟
- سبب تشريفنا لكم ابني دانييل الذي عثر لتوه علي اكتشاف هام.
- تعالوا لتجلسوا معنا، يجب أن نحتفل بهذا الاكتشاف التاريخي هكذا صاح بارسلو.
- اكتشاف! همست بذلك لأبي .
- بارسلو يستخدم تعبيرات مقعرة أجاب والدي بصوت منخفض لا تتفوه بشيء كي لا يغتر.
أفسح لنا المتحدثون مكاناً بينهم, وأصر بارسلو أن يكون مضيفنا، وهو الذي يحب أن يكون نجما لامعا وسط الجمهور.
- كم عمر الصبي؟ سأل بارسلو وهو ينظر إليّ نظرة جانبية.
- 11 سنه تقريبا- أوضحت.
ابتسم لي بارسلو ابتسامة ماكرة.
- أو ربما عشرة, لا تزيد من عمرك يا فتي فسوف تتكفل الحياة بذلك.
همس العديد من الجالسين بما يعني الموافقة علي ذلك. أشار بارسلو إلي النادل بإيماءة تهديدية كما لو أنها لحظة تاريخية لأخذ الطلب.
كونياك لصديقي سيمبري, و لكن من النوع الجيد, وللصغير كوباً من اللبن بالبيض و السكر, فلا يزال بحاجه للنمو, وبعض شرائح لحم الخنزير، علي ألا تكون كالسابقة, فهمت؟ فالمطاط مكانه مصنع بيريللي - هكذا زأر المكتبي-.
أومأ النادل بالموافقة وذهب جارا ساقيه وروحه. أقول علق المكتبي- كيف سيوجد عمل إذا كان الناس لا يتقاعدون في هذا البلد ولا حتي بعد الموت؟ انظر سيادتك لهذا الرجل, إنها معضلة.
تذوق بارسلو البايب المنطفيء, نظرته الثاقبة كانت تتفحص الكتاب الذي كنت أحمله في يدي باهتمام شديد، والذي، علي الرغم من أن جلدته كان عليها الكثير من الكلام , كان باستطاعة بارسلو أن يشم رائحة صيد ثمين, كذئب يشتم رائحة الدم.
- لنري قال متظاهرا باللامبالاة-. ماذا أحضرتم لي؟
نظرتُ إلي أبي الذي وافق بدون مقدمات, ناولت الكتاب لبارسلو الذي أخذه بيد خبير. تفحصت يداه الشبيهتان بيديّ عازف بيانو بسرعة , وكذلك مدي تماسكه وحالته . راسما ابتسامه فلورنسية . حدد بارسلو الصفحة المدون عليها معلومات الطبعة وتفحصها بدقة بوليسية لمدة دقيقة. كان الآخرون يراقبونه في صمت كما لو كانوا في انتظار معجزة أو إذن للتنفس من جديد.
- يا للروعة, مثير للدهشة - همس بصوت قوي .
فردت يدي مرة أخري لاستعادة الكتاب, قوّس بارسلو حاجبيه, لكنه أعاده لي بابتسامة جليدية.
أين وجدته يا صغيري؟
إنه سر رددت متخيلا أبي يضحك في سره.
قطّب بارسلو حاجبيه واتجه بناظره ناحية أبي.
- يا صديقي سيمبري, لأنك أنت أنت وتعرف مدي تقديري لك، ومن أجل الصداقة الطويلة والعميقة التي تجمعنا كإخوة, اترك لي هذا الكتاب مقابل 40 دورو, و لا تطلب المزيد.
- سيتوجب عليك مناقشة هذا الأمر مع ابني أضاف والدي لأن الكتاب ملك له.
رمقني بارسلو بابتسامه ذئب.
ما رأيك أيها الصغير ؟40 دورو سعر جيد مقابل أول بيعة...سيمبري سيكون لولدك هذا باع في هذا النشاط.
ضحك المتسامرون جراء مزحته. نظر إليّ بارسلو مسروراً , مخرجاً محفظته الجلدية وعد الأربعين دورو التي كانت في هذا الزمان بمثابة ثروة ومدها إلي. اقتصر رد فعلي علي الرفض في هدوء. قطب بارسلو حاجبيه.
رفضت مجددا . رمق بارسلو والدي بنظرة غاضبة عبر نظارته.
- لا تنظر إلي أنا هنا فقط كمرافق.
تنهد بارسلو وتأملني بشكل متأن.
- لنري يا صغيري, ما الذي تريده؟
- ما أريده معرفة من يكون خوليان كاراكس وأين يمكن أن أجد كتباً أخري يمكن أن يكون قد كتبها.
ضحك بارسلو بصوت منخفض وأعاد محفظته معيداً تأمل خصمه.
- يا لها من مفاجأة, يبدو كأستاذ أكاديمي. لكن ماذا تطعم هذا الفتي يا سيمبري؟ قال مازحاً-.
انحني المكتبي ناحيتي بنبرة هامسة, وللحظة من الزمن لاحظت شبهة احترام في نظرته إلي, لم تكن موجودة منذ قليل.
- سنعقد صفقةً - قال لي - غداً الأحد في الظهيرة تأتي إلي مكتبة ألاتنيو وتسأل عني ومعك كتابك كي أفحصه جيدا وأحكي لك كل ما أعرفه عن خوليان كاراكس. كيد برو كيو
-ماذا يعني ذلك؟
- تبادل منفعة, و لكن باللاتينية يا صغيري, فلا توجد لغات ميتة لكن توجد عقول متكلسة. وتعني أنه لا يوجد شيء مجاني. ولكنك قد أعجبتني وسأسدي لك معروفاً.
كان هذا الرجل يقطر خطابة قادرة علي إباده جميع الحشرات الطائرة. لكني فكرت في أنه إذا كنت بحاجة لمعرفه شيء عن خوليان كاراكس, يجب علي أن أحافظ علي علاقة جيدة به.أرسلت له ابتسامة هادئة مظهرا له ابتهاجي بمعرفته باللاتينية وأفعالها السهلة.
تذكر الغد في مكتبه ألاتنيو قال المكتبي ولكن احضر الكتاب وإلا فالاتفاق لاغ.
تاهت المناقشه ببطء وسط همسات المتحدثين الآخرين, وتحولت إلي نقاش حول وثائق مكتشفة في بدروم مكتبه الاسكوريال والتي تقول بامكانية أن يكون دون ميجيل دي سربانتس لم يكن اسمه بل كان مجرد اسماً أدبياً مستعاراً لسيدة مشعرة من توليدو. لم يشارك بارسلو الغائب في الجدل البيزنطي، ظل ينظر إلي عبر نظارته بابتسامة غامضة أو ربما فقط كان ينظر للكتاب الذي كنت أحمله بين يدي.
في ذلك الأحد, انزلقت السحب من السماء وكانت الشوارع ترقد غارقة تحت بحيرة من ضباب متقد كان كفيلا بجعل موازين الحراره تقطر ماءً علي الحوائط.
في منتصف اليوم وصلت درجة الحرارة إلي 30 درجة , أسرعت إلي شارع كانودا للحاق بموعد بارسلو في مكتبة الاتنيو وكتابي تحت ذراعي وجبهتي تتصبب عرقاً. كانت مكتبة الاتنيو، ولا تزال، واحدة من أماكن كثيرة في برشلونة لم يستقبل بها القرن التاسع عشر إشارات علي التقاعد بعد. كان السلم الحجري يرتفع من بهو فخم إلي شبكة كثيرة من دهاليز وصالات قراءة تبدو معها اختراعات مثل التليفون والسرعة أو حتي ساعة اليد مفارقات تاريخية مستقبلية.
لم يحرك البواب الذي بدا كأنه صنم يرتدي زيا ساكنا عند وصولي . نزلت إلي الطابق الأول ممتنا لوجود مروحة تطن وسط قراء يتنامون وينصهرون مثل مكعبات ثلج فوق كتبهم ومذكراتهم.
كان ظل دون جوستابو بارسلو يبرز بجانب نوافذ ممر يؤدي إلي حديقة داخلية للمبني. وعلي الرغم من أن الجو شبه استوائي كان المكتبي يرتدي ملابس تقليدية أنيقة ونظارة تلمع في الظلام مثل قطعة نقود في قاع بئر. بجانبه، استطعت تمييز شخص ما يتدثر بلباس من وبر الباكا الأبيض والذي بدا لي كملاك منحوت في الضباب. انتبه بارسلو إلي وقع أقدامي وأومأ إلي بالاقتراب.
دانييل , أليس كذلك؟ هل أحضرت الكتاب؟
أجبت بالإيجاب وأخذت الكرسي الذي أتاحه لي بجانبه هو ومرافقته الغامضة. لعدة دقائق اقتصر رد فعل المكتبي علي الابتسام لي بارتياح وهو الأمر الغريب علي . بعد قليل تخليت عن حلمي بأن يقدم لي تلك المتدثره بالرداء الأبيض, و تعامل بارسلو كما لو كانت غير موجودة ولا يراها كلانا. كنت أراقبها بنظرات جانبية خائفاً من أن تتلاقي نظرتي مع نظرتها التي كانت لا تزال شاردة في مكان ما. كانت بشرتها شاحبة وذراعاها شاحبان وشفافان تقريبا, و كانت ملامحها حاده راسمة خطاً واضحاً تحت فروة رأسها السوداء والتي كانت تلمع كحجر مندي.
قدرت أنها في العشرين علي أكثر تقدير, و لكن شيئا ما في هيئتها وطريقتها تبدو معه روحها وكأنها وقعت في رجليها, مثل أوراق الصفصاف جعلني أفكر بأنه ليس لها سن, كانت تبدو متسمرة في حالة من الشباب الدائم مثل الموديلات الموجودة في واجهات العرض الأنيقة. كنت أحاول قراءة نبضها من تحت حنجرتها التي تبدو كحنجرة بجعة عندما انتبهت الي أن بارسلو يلاحظني باهتمام.
هل ستخبرني إذا أين وجدت الكتاب؟ تساءل.
كنت أود و لكني وعدت أبي أني سأحفظ السر أضفت.
أري ذلك. إنه سيمبري و ألغازه قال بارسلو سأعرف أنا من أين.
يالها من ثروة عظيمة تلك التي حصلت عليها يا فتي, هذا ما أسميه العثور علي إبرة في حقل من السوسن. لنري, هلا أريتني إياه؟
مددت له يدي بالكتاب الذي أخذه بارسلو برقة متناهية.
افترض أنك قد قرأته .
نعم يا سيدي.
- إنني أحسدك , فدائما ما تصورت أن أفضل وقت لقراءة أعمال خوليان كاراكس عندما يكون العقل شاباً والذهن صافياً.
- هل تعرف أن تلك هي آخر رواية كتبها كاراكس؟
أومأت بالنفي في هدوء.
هل تعرف كم نسخه مثل هذه موجودة في السوق يا دانييل؟
أفترض وجود الالاف.
ولا نسخة أكد بارسلو فقط تلك التي معك والنسخ الأخري قد تم حرقها.
تم حرقها ؟
اقتصر رد فعل بارسلو علي ارسال ابتسامة مبهمة, مقلبا صفحات الكتاب و مداعبا الورق كما لو كان قطعة حرير متفردة في العالم .التفتت سيدة الرداء الأبيض ببطء . رسمت شفتاها ابتسامة خائفة ومرتعشة , كانت عيناها تتلمسان الفضاء بحدقتيها البيضاء مثل الرخام . ابتلعت ريقي. كانت كفيفة.
إنك لا تعرف ابنة أخي كلارا, أليس كذلك؟ - تساءل بارسلو .
أومأت بالنفي غير قادر علي ان أرفع عيني من علي تلك المخلوقه بلون وجهها الذي يشبه عروسة مصنوعة من البورسلين, و عيون بيضاء , أكثر عيون حزينة رأيتها في حياتي.
في الواقع إن الخبير في خوليان كاراكس هي كلارا, و لهذا أحضرتها قال بارسلو.
و أكثر من هذا و بعد تفكير عميق أري أن تسمحا لي بالذهاب الي صالة أخري لتفحص هذا الكتاب و أترك لكما المجال لمناقشة ماتودان, ما رأيكما ؟
نظرت إليه مندهشا, هذا المكتبي يبدو كقرصان ماكر عصي علي توقعاتي, ربت علي ظهري وغادر حاملا كتابي تحت ذراعيه.
- هل تعرف أنك قد أدهشته؟ هكذا همس صوت خلفي.
التفت خلفي لأكتشف الابتسامة الرقيقة لابنة أخ المكتبي , التي كانت تقدر الفراغ بالحدس, كان لها صوت بلور شفاف وهامس جدا للدرجة التي كنت أظن معها أن كلماتها سوف تتكسر لو قاطعتها أثناء الكلام.
- أخبرني عمي أنه عرض عليك مبلغا جيدا من المال مقابل كتاب كاراكس و لكنك رفضت أضافت كلارا و لهذا فزت باحترامه.
كان ذلك سيكون رد فعل أي شخص مكاني همست.
لاحظت أن رأس كلارا كانت تتمايل عند الضحك وأصابعها تتلاعب بخاتم يبدو كاكليل من الياقوت الأزرق.
كم عمرك؟ تساءلت.
11 عاما تقريبا, أجبت و حضرتك؟
ضحكت كلارا علي براءتي الوقحة.
تقريبا الضعف و لكن ذلك لا يعني أن تناديني بحضرتك.
إن حضرتك تبدين أصغر سنا أوضحت متخيلا أن ذلك ممكن أن يكون مهربا جيدا من عدم حصافتي.
سوف أثق بك إذا لأني لا أعرف كيف يبدو شكلي أجابت دون أن تفارق شفتيها ابتسامتها غير المكتملة و لكن إذا كنت أبدو لك أصغر سنا , فهذا سبب أدعي لأن تناديني بأنت وليس حضرتك.
كما تشائين حضرتك , يا آنسة كلارا.
تفحصت بعناية يديها المفتوحتين كجناحين فوق حجرها , وخصرها الرفيع الظاهر من تحت ثنيات غطاء الباكا, ورسم أكتافها, و شحوب حنجرتها المفرط, وغلق شفتيها, اللتين كنت أود لو داعبتهما بأطراف أصابعي. لم تتح لي من قبل تفحص سيدة عن قرب و بهذه الدقة دون خوف من أن تتلاقي نظراتنا .
إلي ماذا تنظر ؟ سألت كلارا دون خبث.
يقول عم حضرتك أنك خبيرة في خوليان كاراكس ارتجلت بحلق جاف.
عمي قادر علي أن يقول أي شيء مقابل أن يختلي بكتاب يعجبه لوقت ما أضافت كلارا و لكنك يجب أن تتساءل كيف لشخص كفيف أن يكون خبيرأ بالكتب دون أن يستطيع قراءتها.
في الواقع لم يخطر ذلك علي بالي .
إذا كنت علي وشك إتمام 11 عاما فلا تكذب بشكل مفضوح. تيقظ وإلا سينتهي بك الحال مثل عمي.
وخوفا من أن أسيء التصرف مره أخري, اقتصر رد فعلي علي الجلوس في هدوء متأملا إياها في دهشة.
هيا اقترب قالت.
عفوا؟
اقترب ولا تخف فلن آكلك.
استويت علي الأريكة واقتربت حيث كانت كلارا.
رفعت ابنة أخ المكتبي يدها اليمني تتلمسني .دون ان أدري كيف يجب أن أتصرف فعلت مثلها ومددت لها يدي. أخذتها بيدها اليسري ومدت لي كلارا في هدوء يدها اليمني . فهمت بصورة غريزية ما الذي تريده ووجهت يديها ناحية وجهي. كان ملمسها قويا و لطيفا لبرهة من الزمن . مرت بيديها علي خديّ ووجنتيّ, ظللت متسمرا دون حتي أن أقدر علي التنفس أثناء ما كانت كلارا تقرأ ملامحي بيديها . وأثناء قيامها بذلك كانت تبتسم لنفسها وتنبهت أن شفتيها كانتا تفتحان وتغلقا كما لو كانتا تهمسان في صمت.شعرت بلمسهة يديها علي جبهتي وعلي شعري وعلي جفوني. توقفت علي شفتيّ راسمةً إياهما بإصبعيها السبابة والبنصر.
كانت أصابعها تشع رائحة القرفة. ابتلعت ريقي , منتهبا أن نبضي كان يتسارع بقوة, و بفضل العناية الإلهية لم يكن هناك شهود في الخفاء ليشهدوا علي خجلي الذي كان يكفي لاشعال سيجار كوبي من علي بعد.
في ذلك المساء المليء بالضباب والرذاذ , سرقت كلارا بارسلو قلبي والقدرة علي التنفس والنوم. و تحت الضوء المسحور لمكتبة ألاتينيو رسمت يداها علي جسمي لعنة ستلاحقني لسنوات عديدة.
أثناء تأملي لها وأنا شبه فاقد الوعي, شرحت لي ابنة أخ المكتبي قصتها وكيف عثرت و بالصدفة أيضا علي كتابات خوليان كاراكس .وقعت الحادثة في قرية تابعة لمدينة بروبينسة . كان والدها محامياً ذائع الصيت وعلي صلة بحكومة الرئيس كومبانيز , كان لديه رؤية ثاقبة و لهذا أرسل ابنته وزوجته للإقامة عند أخته علي الجانب الآخر من الحدود حينما اندلعت الحرب الأهلية .بالتأكيد كان هناك من يرون ذلك مبالغة لانه لن يحدث شيء في برشلونة , و أنه في إسبانيا التي تعتبر مهد وحاضر المسيحية فإن الهمجية هي عمل الفوضويين, وهؤلاء صغار وفقراء وبالتالي لن يستطيعوا عمل الكثير. كان و الد كلارا يقول دائما إن الشعوب لا تنظر الي المرأة وخصوصا أثناء حرب أهلية. كان المحامي قارئاً جيداً للتاريخ وكان يعرف أن المستقبل يمكن قراءته في الشارع والمصانع والثكنات العسكرية بوضوح أكثر من صحافه الغد. ظل يكتب لهم كل أسبوع. في البداية كان يفعل ذلك من خلال مكتب في شارع ديبوتاسيون , بعد ذلك وبلا عودة ونهائيا في الخفاء من زنزانة في قلعة المونتويك , حيث مثل كثيرين آخرين , لم يره أحد وهو يدخلها , ولم يخرج منها أبدا.
كانت أم كلارا تقرأ الخطابات بصوت مرتفع دون أن تنجح في إخفاء بكائها, وتقفز علي الفقرات التي تظن أنها غير ضرورية لابنتها. بعد ذلك وفي منتصف الليل كانت كلارا تقنع ابنه عمتها كلاوديت بأن تعيد قراءة خطابات والدها من جديد بكاملها. هكذا صار الأمر كما لو أن كلارا تقرأ بعيون مستعارة. لم يرها أحد مطلقا تسقط دمعة ولا حتي بعد أن توقفت مراسلات المحامي, ولا حتي بعد أن فاقت أخبار الحرب الأهلية أسوأ التوقعات.
كان والدي يعرف منذ البداية ما الذي سوف يحدث شرحت كلارا ظل بجانب أصدقائه لأنه كان يظن أن ذلك واجبه . قتله الولاء للناس الذين عندما حانت ساعته خانوه. لا تثق أبدا بأحد يا دانييل, خصوصا بالناس الذين تعجب بهم, فهؤلاء سيسددون لك أشد الطعنات. كانت كلارا تنطق هذه الكلمات بحدة وكأن سنوات من السرية والظلال قد صقلتها. شردت في نظرتها البللورية وعيون بدون دموع ولا خداع, مستمعا لها تتحدث عن أشياء لم أكن أفهما بعد. كانت كلارا تصف أشخاصا وسيناريوهات وأشياء لم ترها بعينيها أبدا بتفصيل ودقة مدرّسة في مدرسة لتعليم رقصه الفلامنجو.
كانت لغتها هي الإحساس بالأشياء والأصداء ونغمات الأصوات ووقع الأقدام . شرحت لي كيف أنه خلال سنوات المنفي في فرنسا, تشاركت هي وابنة عمها كلاوديت في استئجار مدرس ومعلم خاص, و هو سكير في الخمسين من عمره يرتدي زي الأدباء و يتباهي بقدرته علي قراءة أوديسة فيرجيل بلغة لاتينية صحيحة. لقبوه باسم السيد روكفورت وذلك بسبب تلك الرائحة التي كانت تفوح منه علي الرغم من وضعه الكثير من العطور والكولونيا التي كان ينقع نفسه بها بشكل زائد عن الحد. كان السيد روكفورت وعلي الرغم من خصائصه الكثيرة (من بينها اقتناع قوي وواضح ان الطعام الذي كانت تحصل كلارا و أمها عليه من أقاربهم في إسبانيا كان مساعدة لهم) كان له ذوق رفيع , و منذ أن كان شابا اعتاد الذهاب الي باريس مره كل شهر كي يثري نهمه الثقافي بآخر المستجدات الأدبية وزيارة المتاحف, وأشيع أنه اعتاد ان يقضي ليله في أحضان سيدة كان قد سماها مدام بوفاري علي الرغم من أنها كانت تدعي هورتنسيي و لها وجه ذكوري. أثناء رحلاته الثقافية كان السيد روكفورت معتاد الذهاب الي مكان لبيع الكتب المستعملة يقع أمام كنيسه نوتردام , و بالصدفة في أحد مساءات 9291 وقع هناك علي رواية لكاتب مغمور يدعي جوليان كاراكس, وبما أنه منفتح علي كل ما هو جديد, اقتني السيد روكفورت الكتاب لا لسبب أكثر من أن العنوان بدا له موحياً حيث كان من عادته أن يقرأ شيئا خفيفا أثناء عودته في القطار.
كان عنوان الرواية هو ( المنزل الأحمر) وعلي ظهره كانت هناك صورة غير واضحة للمؤلف, ربما كانت صورة فوتوغرافية أو بقعة فحم, وفقا لنص السيرة الذاتية كان جوليان كاراكس شاباً في السادسة والعشرين, و كان يعيش آنذاك في باريس ويعمل كعازف بيانو محترف في ملهي ليلي بالتناوب .
وعلي الغلاف الخارجي الجميل والعتيق، والذي يتناسب مع روح العصر, كان موضحا بنثر بروسي( نسبه لبروسيا) أن هذه الرواية أول عمل ذي قيمة كبيرة لموهبة متقدة و وواعدة, وتمثل مستقبلا واعدا للآداب الأوربية بدون جدال. بكل هذا, كان الملخص يفهم منه أن الرواية بها أحداث أليمة بشكل مبهم وبإيقاع متسلسل ورتيب, الأمر الذي كان ميزه في نظر السيد ريكفورت, لأن أكثر شيئ كان يعجبه بعد الكلاسيكيات كانت الروايات المثيرة وذات الحبكة. كانت رواية ( المنزل الأحمر) تحكي عن الحياة المعذبة لشخص غامض يقتحم محلات لعب الأطفال والمتاحف لسرقة العرائس والدمي والتي يقتلع أعينها لاحقا, ويحملها إلي منزله, وهو عبارة عن مكان يبدو ككهف علي ضفاف نهر السين. وفي إحدي الليالي وعند اقتحام منزل شديد الثراء في شارع فوكس, كي يسرق مجموعة خاصة من العرائس لشخص واسع الثراء جراء عمليات احتيال أثناء الثورة الصناعية, تقع ابنته وهي سيدة مجتمع باريسية رقيقة وقارئة نهمة في غرام اللص. وبتتابع أحداث العشق المعذب والمليء بالعقبات الوعرة والفصول غير المكتملة, تتمكن البطلة من سبر أغوار البطل اللغز و الذي لم يفصح عن اسمه مطلقا, والمهووس بنزع أعين الدمي, تكتشف سراً مريعاً عن والدها ومجموعة تماثيله المصنوعة من البورسلين ويقود هذا بشكل حتمي لنهاية مأساوية من الطراز القوطي بامتياز.
كان السيد روكفورت متمرساً جيداً في الصراعات الأدبية وكان يتفاخر بامتلاكه مجموعة كبيرة من الخطابات الموقعة من كل ناشري باريس والذين كانوا يرفضون الكتابات الشعرية والنثرية التي كان يرسلها لهم بدون توقف. تمكن من معرفة دار النشر التي نشرت الرواية والمعروفة بكتب الطبخ والخياطة وفنون المنزل, حكي له صاحب مكتبة الكتب المستعملة أن الرواية ظهرت للتو ونالت بعض التعليقات في جريدتين محليتين بجانب نعي المتوفين, وأوصي النقادُ الروائيَ كاراكس بألا يترك عمله كعازف بيانو لأنه كان واضحا أنه لن يحقق شيئا ذا بال في عالم الأدب.قرر السيد روكفورت الذي كان يرق قلبه وجيبه أمام القضايا الخاسرة أن يستثمر نصف فرنك ويشتري الرواية للمدعو كاراكس مع نسخة مفضلة للأديب الكبير الذي كان يعتبر نفسه محظوظا بمعرفته وهو جوستاف فلوبير.
أقلع القطار إلي ليون مكتملا عن آخره وبالتالي لم يكن أمام السيد روكفورت من بديل عن أن يتشارك في كابينه من الدرجة الثانية مع راهبتين, و بعد أن ترك القطار محطه أوستيرليتز لم يكفا عن إرسال نظرات استهجان وهمس مستتر. وأمام هذا التدقيق اختار الرجل أن يخرج تلك الروايه من حقيبته و يتمترس خلف صفحاتها. وكانت دهشته عظيمة عندما اكتشف بعد مئات الكيلومترات أنه قد نسي أمر الراهبتين واهتزاز القطار والمناظر الطبيعية التي كانت تتعاقب كحلم كئيب للأخوان لومير خلف شبابيك القطار. قرأ طوال الليل علي الرغم من شخير الراهبتين والمحطات التي كانت تمر سريعا تحت جنح الضباب. وعندما قلب آخر صفحات الرواية وكان ذلك عند بزوغ الفجر, اكتشف السيد روكفورت أن عيونه كانت تدمع وقلبه مليء بالحسد والدهشة.
في نفس ذلك اليوم و كان يوم اثنين, اتصل السيد روكفورت بدار النشر في باريس طالبا معلومات عن ذلك المدعو خوليان كراكس. وبعد إلحاح كبير, أخبرته عاملة تليفون يغلب علي صوتها ثأثير الربو والمرض بأنه لا يوجد عنوان معروف لكاراكس, وعلي كل حال لا توجد له تعاملات مع دار النشر الآن وأن رواية (المنزل الأحمر) قد باعت بالتحديد 76 نسخة ذهب معظمها لمجموعة من الساقطات وبعض رواد المكان الذي اعتاد الكاتب قضاء أمسياته عازفا بعض المقاطع مقابل القليل من المال. أما بقية النسخ فقد تمت إعادتها وتحولت إلي عجينة ورقية لطباعة الكتب المقدسة والغرامات وورق اليانصيب. تعاطف السيد روكفورت مع هذا الحظ العاثر لهذا الكاتب الغامض. و خلال العشر سنوات اللاحقه وفي كل زيارة له لباريس كان يبحث في المكتبات التي تبيع الكتب القديمة عن أعمال أخري لكاراكس ولكنه لم يجد شيئا مطلقا. تقريبا لم يسمع أحد عن هذا المؤلف, والذين كانوا قد سمعوا شيئا عنه , كانوا فقط يعرفون القليل . كان هناك من يؤكد أنه كان قد نشر بعض الكتب من خلال دور نشر غير معروفة في طبعات تثير السخرية . ولكن كان من المستحيل العثور علي هذه الكتب إذا كانت موجودة من الأساس. أكد له بائع كتب في إحدي المرات أنه قد وقع بين يديه إحدي نسخ رواية لخوليان كراكس تسمي ( لص الكاتدرائيات) , ولكن كان هذا من زمن طويل و لهذا لم يكن باستطاعته التأكيد. وفي نهاية 1935 وصلت إليه أخبار تقضي بأن رواية جديدة لخوليان كاراكس تسمي (ظل الريح ) قد نشرت من خلال دار نشر صغيرة في باريس. كتب اسم دار النشر لاقتناء عده نسخ. لم يحصل علي إجابة مطلقا. في العام التالي و في ربيع 1936 سأله صديق من متجر الكتب الواقع علي الضفة الجنوبية لنهر السين إذا كان لا يزال مهتما بشأن كاراكس. أكد السيد روكفورت أنه لن ييأس أبدا. أضحي الأمر تحدياً له: إذا أصر العالم علي طي صفحة كاراكس في النسيان, فلن يتراجع هو عن مبتغاه. شرح له صديقه أنه منذ عدة أسابيع سرت شائعة حول كاراكس. بدا وكأن القدر اخيرا قد تغير. كان بصدد أن يعقد قرانه علي سيدة أحوالها جيدة , و كان قد نشر رواية جديدة بعد عدة سنوات من السكون والتي لأول مرة كان قد نال استحسانا في جريده اللوموند. و لكن وبالتحديد عندما بدا أن الريح ستغير اتجاهها كما قال بائع الكتب, شوهد كاراكس في عزاء في مدفن بيير لاشيز. لم تكن الظروف التي أحاطت بتلك الواقعة واضحة. و كل ما تم معرفته هو أن العزاء كان في فجر اليوم الذي كان كاراكس يجب أن يعقد قرانه فيه, وبالتالي لم يظهر العريس أبدا في الكنيسة.
تعددت الآراء كي تناسب جميع الأذواق: تصوره البعض ميتا في هذا العزاء وقد دفنت جثته في مقبرة غير معروفة , بعض الآراء الأخري، المتفائلة، كانت تفضل الاعتقاد بأن كاراكس كان متورطاً في أمر ما مبهم, وتوجب عليه ترك خطيبته في المذبح والهرب من باريس والعودة إلي برشلونة. لم يتم العثور مطلقا علي المقبرة المجهولة وبعد ذلك ظهرت رواية أخري: تقضي بأن خوليان كاراكس - الموصوم بسوء الحظ - قد لقي حتفه في مسقط رأسه بشكل مأساوي. جمعت الفتيات اللاتي كن يعملن في الملهي الذي كان يعزف فيه البيانو بعض المال كي يقمن بدفنه بشكل كريم. عند هذا المنعطف كان قد تم دفن الجثة في مقبرة عامة جنبا إلي جنب مع المتسولين ومجهولي الهوية ممن تظهر جثثهم طافية في الميناء أو من يموتون من البرد علي سلالم المترو.
لم ينس السيد روكفورت كاراكس حتي وإن كان ذلك لمجرد تبني وجهة النظر المضادة. بعد مرور 11 عاما علي اكتشافه (المنزل الأحمر) قرر أن يعير الرواية إلي تلميذتيه, آملا أن يرسخ هذا الكتاب الغريب لديهما عاده حب القراءة. كانت كل من كلارا و كلاوديت في الخامسة عشرة حيث تتدفق الهرمونات في شرايينهما وتناديهما الحياة من نوافذ صالة المذاكرة. وعلي الرغم من كل مجهودات معلمهما وحتي تلك اللحظة, لم تظهرا اهتماما بالكلاسيكيات وأساطير إسوب أو الشعر الخالد لدانتي أليجيري. لخوف السيد روكفورت من إنهاء عقده عندما تكتشف أم كلارا أن مجهوداته التعليمية لم تثمر سوي عن جاهلتين بعقول مليئة بالأوهام, قرر ساعتها أن يهديهما رواية كاراكس بحجهة أنها قصة حب من تلك النوعية التي تثير البكاء بحرقة. الأمر الذي كان حقيقة غير مكتملة.
مقبرة الكتب المنسية
مازلت أذكر الفجر الذي أخذني فيه أبي لأول مرة لزيارة مقبرة الكتب المنسية. كانت الأيام الأولي في صيف 1945 وكنا نسير في شوارع برشلونة المحاصرة تحت سماوات مغبّرة وشمس من البخار تنسكب علي لا رامبلا دي سانتا مونيكا في شكل إكليل من النحاس السائل.
دانييل, لا يمكن أن تحكي ما ستراه اليوم لأحد- حذرني أبي- ولا حتي لصديقك توماس, ولا لأي مخلوق.
- ولا حتي لأمي؟ - سألتُ.
تنهد أبي, الذي كانت تعلو وجهه ابتسامته الحزينة تصاحبه كالظل طوال حياته.
- بالطبع - أجاب مكتئبا-. نحن لا نخفي عليها شيئاً. يمكن أن تحكي لها كل شيء.
ماتت أمي بالكوليرا بعد الحرب الأهلية بقليل. دفنّاها في مونتويك يوم عيد ميلادي الرابع. ما من شيء أتذكره إلا مطر السماء طوال النهار والليل, وعندما سألت أبي هل تبكي السماء, اختفي صوته ولم يستطع الرد. بعد مرور ست سنوات كان موت أمي بالنسبة لي لا يزال سراباً, صمتاً يصرخ، ولم أكن قد تعلمت أن أسكته بالكلمات بعد. كنا نعيش أنا وأبي في شقة صغيرة في شارع سانتا آنا, بالقرب من ميدان الكنيسة, وكانت الشقة تقع بالضبط فوق المكتبة المتخصصة في الطبعات المجمعة والكتب القديمة والموروثة من جدي, كانت عبارة عن بازار جميل, يثق أبي أنه في يوم من الأيام سيؤول إليّ. تربيت بين الكتب, متخذاً أصدقاء غير مرئيين من بين صفحات مكسيةً بغبار لا تزال يداي تحتفظان برائحته. تعلمتُ وأنا طفل أن أنام وأنا أحكي لأمي في ظلام غرفتي أحداث اليوم وأحوالي في المدرسة, وما تعلمته في ذلك اليوم...لم أكن أتمكن من سماع صوتها أو أشعر بملمسها، ولكن كان نورها ودفئها يملآن كل ركن في ذلك المنزل, و كنت أنا ببراءة من لايزالون يستطيعون عد أعمارهم علي أصابع أيديهم, أعتقد أني لو كلمتها وأنا مغمض العينين, يمكنها أن تسمعني أينما كنت. أحيانا كان أبي يسمعني من غرفة الطعام و يبكي في الخفاء.
أتذكر ذلك الفجر من شهر يونيه الذي استيقظت فيه وأنا أصرخ. كانت نبضات قلبي تتسارع في صدري كما لو كانت روحي تريد أن تخرج وتنزل السلالم مهرولة. جاء أبي مفزوعا إلي حجرتي واحتضنني بين ذراعيه محاولا تهدئتي.
لا يمكنني تذكر وجهها, لا يمكنني تذكر وجه أمي همستُ لاهثاً.
احتضنني أبي بقوة.
لا تقلق يا دانييل, سوف أتذكر لكلينا.
كنا نتبادل النظر في الظلام بحثاً عن كلمات غائبة. كانت تلك هي المرة الأولي التي أدركت فيها أن والدي أصابته الشيخوخة وأن عينيه, الذابلتين والغائمتين، كانتا دائما تنظران للخلف. انحني وفتح الستائر كي يفسح المجال لدخول ضوء الفجر البازغ.
هيا يا دانييل, ارتد ملابسك.أريد أن أريك شيئا ما قال-.
الآن؟ في الخامسة صباحا؟
ثمة أشياء لا يمكن أن تُري إلا في الظلام أومأ أبي ملوحاً بابتسامة غامضة، وربما كان قد استعارها من إليكسندر دوماس.
كانت الشوارع لا تزال ترزح بين الضباب والندي عندما خرجنا إلي البوابة. كانت أعمدة الإنارة في المتنزهات ترسم طريقاً من البخار, تومض في الوقت الذي كانت فيه المدينة تمتد وتتخلص من قناعها ذي الألوان المائية. عند الوصول إلي شارع أركو دل التياترو, خاطرنا بالسير في شارع رابال تحت الرواق الذي يظهر قبة من الضباب الأزرق. كنت أتبع والدي خلال ذلك الطريق الضيق والذي يبدو كجرح أكثر منه شارعاً, حتي اختفي ضوء لا رامبلا وراءنا.
كان ضوء الفجر يتسرب عبر الشرفات والأفاريز في قطع ضوئية منحرفة لا تصل للأرض. أخيرا توقف أبي أمام بوابة خشبية مشغولة, اسودت بفعل الزمن والرطوبة. كان يرتفع أمامنا ما بدا لي جثة مجهوله لقصر ما أو منحي من الصدي والظلال.
دانييل, لا يمكن أن تقص ما ستراه اليوم علي أحد ولا حتي صديقك توماس, ولا كائنا من كان.
فتح لنا الباب رجل قصير بملامح طائر جارح وشعر فضي, استقرت نظرته التي تشبه نظرة النسر عليّ بشكل حاد.
صباح الخير يا إسحاق. هذا هو إبني دانييل قال أبي . قريبا سيتم عامة الحادي عشر, ويوماً ما سيتولي أمر المحل . عمره الأن يسمح له بمعرفة هذا المكان.
دعانا إسحاق للمرور بإشارة صغيرة تعني الموافقة. كان ظلام أزرق يلف المكان كله, وبالكاد تظهر قطع من درج رخامي ودهليز من القطع الزجاجية مليء بأشكال ملائكية ومخلوقات جميلة. اتبعنا الحارس عبر ذلك الممر الفخم ووصلنا إلي صالة دائرية كبيرة حيث ظلام دامس تحت قبة تتخللها أشعة ضوء معلقة من أعلي. متاهة من الممرات و الأرفف المكتظة بالكتب من القاع إلي القمة. راسمة خلية مملوءة بالأنفاق والأدراج والمنصات والجسور التي تجعلك تتخيل وجود مكتبة عملاقة مصممة بشكل هندسي معجز.
نظرت إلي أبي فاتحا فمي, ابتسم لي وغمز بعينيه.
مرحبا بك يا دانييل في مقبرة الكتب المنسية.
بعد أن تخطينا المنصات والممرات، كانت تصطف العديد من المخلوقات. أحيانا بعضهم من بعيد, تعرفت علي بعض الوجوه لزملاء عديدين لأبي من نقابة بائعي الكتب القديمة. بالنسبة لطفل في العاشرة , كان هؤلاء الأفراد يبدون لي كجماعة سرية من الكيميائيين تتآمر سرا. انحني أبي علي وحدثني بصوت خفيض يصلح للوعود والأسرار.
هذا المكان بمثابة لغز يا دانييل, إنه قدس أقداس. كل كتاب ومجلد تراه له روح. روح من قرأه وعاش وحلم معه. في كل مرة تحمل الكتاب يد جديدة أو تقع عليه نظرة شخص ما , تنمو روحه وتزداد صلابة.
عندما أتي بي أبي إلي هذا المكان لأول مرة كان المكان قديما بالفعل, ربما بمثل قدم المدينة نفسها. لا يعرف أحد علي وجه اليقين متي وجد أو من الذي أنشاه. سأخبرك بما أخبرني به والدي.
عندما تختفي مكتبة ما أو يغلق متجر لبيع الكتب أبوابه، وعندما يغيب كتاب ما في طي النسيان, نتأكد نحن من نعرف هذا المكان والحراس أنه سيأتي إلي هنا . في هذا المكان تحيا أبدية تلك الكتب التي لا يتذكرها أحد, الكتب التي طواها النسيان, منتظرة أن تصل في يوم ما إلي يد قاريء جديد, إلي روح جديدة. نشتريها ونبيعها في المكتبة, ولكن في الحقيقة لا يوجد مالك للكتب. كل كتاب تراه هنا كان صديقا حميما لشخص ما. والآن ليس له سوانا يا دانييل. هل تظن أن باستطاعتك كتمان هذا السر؟
تاهت نظرتي في ضخامة المكان وضوئه المبهر. أومأت بنعم فابتسم أبي.
هل تعرف ما هو أفضل؟
أومأتُ بالنفي في صمت.
- العادة أن من يزور هذا المكان لأول مرة, يختار كتاباً ما, كتاباً يفضله ويتبناه, ويؤكد علي ألا يختفي أبداً, و أن يظل موجوداً الي الأبد. إنه وعد في غاية الأهمية. مدي الحياة - شرح أبي -، و اليوم جاء دورك.
لمدة نصف ساعة تجولت بين تعقيدات تلك المتاهة التي كانت تشع رائحة ورق قديم وترابا وسحرا. تركت العنان ليدي كي تلمس الصفوف المتراصة كي تقرر اختياري . لمحت من بين العناوين المطموسة بفعل الزمن, كلمات بلغات أعرفها وأخري كثيرة لم أستطع فك طلاسمها. تجولت بين الممرات و الدهاليز الحلزونية و المليئة بمئات بل بآلاف المجلدات التي يبدو أنها كانت تعرف عني أكثر ما أعرف عنها. بعد قليل خطرت لي فكرة أنه خلف غلاف كل كتاب منها يوجد عالم لا متناهي للاكتشاف , و بعيدا عن هذه الجدران فإن الحياة تمضي في مساءات مشاهدة مباريات كره القدم وسماع المسلسلات الإذاعية قانعا بما وصل إليه و أكثر قليلا.ربما كان هذا التفكير, ربما كان القدر أو قريبه المصير , و لكني في نفس تلك اللحظة أدركت اني قد اخترت الكتاب الذي سوف أتبناه , ربما يجدر بي القول الكتاب الذي سوف يتبناني. كان يطل بحذر من طرف الرف و مغلفا بجلد يميل إلي الحمرة و يظهر عنوانه بحروف ذهبية , تلمع مع الضوء الذي ينغمر من أعلي القبة. اقتربت منه وداعبت الكلمات بأطراف أصابعي , قارئا في صمت.
مقبرة الكتب المنسية
خوليان كاراكس
لم أسمع في حياتي قط ذكرا لهذا العنوان أو مؤلفه, ولكني لم أكترث. كنت قد اتخذت القرار علي المستويين. أخذت الكتاب بمنتهي الحذر وتصفحته, تاركاً صفحاته ترفرف. بعد أن تحرر الكتاب من سجنه علي الرف, أطلق سحابه من التراب الذهبي. عدتُ إلي المتاهة وأنا راض عن اختياري، حاملاً الكتاب تحت إبطي وتعلو شفتيّ ابتسامة مطبوعة. ربما كان الجو المسحور لذاك المكان قد تملكني ولكنني كنت متاكداً أن هذا الكتاب ظل ينتظرني لسنوات عديدة, ربما قبل أن أولد.
في ذلك المساء وبعد عودتي الي المنزل الكائن في شارع سانتا آنا, ركضتُ إلي غرفتي وقررت قراءة أول سطور في صديقي الجديد, وقبل أن أفيق كنت قد وقعت أسيرا له بشكل لا يمكن الفكاك منه. كانت الرواية تحكي عن قصة رجل يبحث عن أبيه الحقيقي الذي لم يعرفه أبدا, ولم تكشف عن وجوده سوي آخر كلمات نطقت بها أمه من علي سرير الموت. تحولت قصة البحث هذه إلي أوديسة خيالية يصارع فيها البطل من أجل استعادة طفولة وشباب مفقودين, و بها نكتشف للأسف ظلاً لحب ملعون, ستظل ذكراه تطارده لنهايه أيامه. بالتقدم في القراءة بدأ بناء القصة يذكرني بالعرائس الروسية التي تحتوي علي العديد من العرائس الأصغر بداخلها, و شيئا فشيئا بدأ الحكي في الانقسام إلي آلاف الحكايات, كما لو أن الحكاية قد دخلت في العديد من الانعكاسات المختلفة والزمنية في نفس الوقت.
كانت الدقائق والساعات تنساب كالسراب. وبعد ساعات من التركيز في الحكاية, انتبهت بالكاد لأجراس منتصف الليل التي ترن من بعيد من الكاتدرائية. شاردا في الضوء النحاسي الذي كان يصدره المصباح, شردت في عالم من الأشكال و المشاعر لم أعرفها مطلقا من قبل, أشخاص بدت لي وكأنها حقيقية جداً مثل الهواء الذي كنت أتنفسه وجذبتي إلي نفق من المغامرة والغموض لم أكن أريد الخروج منه. ورقة بعد ورقة , تركت نفسي للقصة وعالمها حتي بدأ نسيم الفجر يداعب نافذتي وكانت عيناي المتعبتان تنسابان علي آخر صفحة. تمددت في الظلام المكتسي بالزرقة والكتاب علي صدري وسمعت همس المدينة النائمة ينساب علي الأسطح ذات اللون الأرجواني. كان النعاس والتعب يطرقان بابي, ولكني قاومت. لم أكن أرغب في فقد سحر الرواية ولا أن أودع شخوصها.
في إحدي المناسبات، سمعت زبوناً معتاداً علي مكتبة أبي يقول, قليلة هي الأشياء التي تؤثر في قارئ ما مثل الكتاب الأول الذي يدخل فعلاً قلبه, تلك هي الصور الأولي, صدي الكلمات التي نظن أننا تركناها خلفنا, تلازمنا طيلة حياتنا وتنحت مكاناً لها في ذاكرتنا, وعاجلاً أو آجلاً لا يهم معها كم من الكتب, كم من العوالم نكتشف, كم نتعلم و كم ننسي, فدائما ما نعود اليها.
بالنسبه لي, ستكون دائماً تلك الصفحات المسحورة هي ما وجدته بين دهاليز مقبرة الكتب المنسية.
أيام الرماد
19451949
يبقي السر طي الكتمان طالما حفظه أصحابه. بعد أن استيقظت كان أكثر ما أتمناه إشراك أعز أصدقائي في سر و جود مقبره الكتب المنسية. كان توماس أجيلار زميل دراسة يكرس كل وقت فراغه وموهبته لاختراع أدوات عبقرية ولكن لا استخدام لها, مثل النبلة الهوائية أو الدوارة الديناميكية.
ما من صديق أفضل من توماس لمشاركتي هذا السر. كنت أحلم متيقظا متخيلا نفسي أنا وتوماس مجهزين بكشافات و بوصلة لسبر أغوار تلك المقبرة الأرضية الببليوغرافية.
لاحقا, و متذكرا وعدي قررت أن الظروف تقضي بما يسمي في الروايات البوليسية بطريقة تشغيل أخري. في منتصف النهار اقتربت من أبي لسؤاله عن ذلك الكتاب وخوليان كاراكس وكنت أتخيل أنهما مشهوران في العالم كله. كانت خطتي تقضي بأن أنتهي من كل أعماله وقراءتها كلها في أقل من أسبوع. كانت مفاجأتي أن أبي وهو المكتبي العتيد والمطلّع علي كل مطبوعات دور النشر, لم يسمع قط عن ظل الريح ولا عن خوليان كاراكس.
بفضول تفحص أبي الورقة المكتوب عليها معلومات الطبعة.
- وفقا لما هو مكتوب فإن هذه طبعة من 2500 نسخة مطبوعة في برشلونة, منشورة بدار نشر كابيستاني في ديسمبر 1935.
- هل تعرف دار النشر هذه؟
- أغلقت منذ سنوات. و لكن هذه ليست النسخة الأصلية, لكنها أخري تعود إلي نوفمبر من نفس العام, مطبوعة في باريس... ودار النشر هي جوليان ونوفال. لكني لا أعرف عنها شيئا.
- إذاً هل هو كتاب مترجم - تساءلت و أنا مشتت الذهن-.
لا يوجد ما يوضح ماهيته. و لكن مما هو مدون هنا يبدو نصاً أصلياً.
- أليس غريباً أنه كتاب بالإسبانية وطُبِع أولاً في فرنسا؟
-لن تكون المرة الأولي في هذا الزمن أضاف والدي ربما استطاع بارسلو مساعدتنا...
كان جوستابو بارسلو صديقاً قديماً لأبي, وله مكتبة قديمة بشارع فرناندو وكان بمثابة أفضل بائعي الكتب القديمة. كان يمسك دائماً بايباً منطفئاً يشع روائح فارسية ودائماً ما كان يصف نفسه بآخر الرومانسيين. كان يعتقد أن له صلة قرابة بعيدة باللورد بايرن, علي الرغم من أنه كان يعيش في كالدس دي مونت, وربما لرغبة في إظهار هذه الصلة، كان بارسلو يرتدي ملابسه بطريقة لا تختلف عن متأنق من القرن التاسع عشر, واضعاً شالاً أنيقا حول عنقه, وأحذية بجلد لميع أبيض ونظارة غير متدرجة والتي حسب ما يتردد لا يخلعها ولا حتي في المرحاض. في الواقع إن القرابة الأهم في حياته كانت قرابة سلفه, وهو رجل صناعة كان قد كون ثروة بوسائل تشوبها الشوائب نوعا ما في نهايات القرن التاسع عشر. وفقا لما شرحه لي والدي فإن جوستابو بارسلو كان قد أثري من الصناعة وكانت المكتبة بالنسبة له تمثل هواية أكثر منها عملاً يتكسب منه. كان يعشق الكتب بشكل لا متناه علي الرغم من أنه كان ينكر ذلك بقوة, و كان إذا دخل أحدهم المكتبة وأعجبه كتاب ما ولا يقدر علي دفع ثمنه, كان يخفض ثمنه إلي أقصي درجة ممكنة, بما في ذلك إهداؤه له لو قدر أن المشتري قاريء نهم وليس هاوياً. وعلي هامش هذه الصفات كان بارسلو يمتلك ذاكرة حديدية و حذلقة لا تقلل من وضعه أو شهرته. ولكن إذا كان هناك من يفهم في الكتب الأجنبية, فلا شك سيكون هو. في ذلك المساء وبعد غلق المحل, اقترح أبي أن نقترب من مقهي كواترو جاتس بشارع مونتسيو حيث يعقد بارسلو وأصدقاؤه دائماً جلسات بيبليوغرافية عن شعراء ملاعين ولغات ميتة وأعمال متميزة مهجورة, وذلك بفضل الشغف بالقراءة.
كان مقهي كواترو جاتس يقع علي مرمي حجر من المنزل, وكان أحد أماكني المفضلة في كل برشلونة.هناك تعارف والدي في عام 32 هكذا كانت مشاركتي الجزئية في قطع تذكره مجييء الي الحياة في بهاء هذا المقهي العتيق. كان يُزين الواجهة المربوطة بتداخل من الظلال تنانين حجرية وأعمدة إنارة غازية تتحدي الزمن وتثير الذكريات. بالداخل كانت تختلط الناس بصدي أزمنة بعيدة. محاسبون, حالمون يتعلمون حرفه ما, كلهم يتشاركون في منضدة مع سراب بابلو بيكاسو واسحق البينيس وفيدريكو جارسيا لوركا وسلفادور دالي. هناك يمكن لأي تافه أن يشعر للحظات أنه شخصية تاريخية مقابل ثمن فنجان قهوه باللبن.
- يالها من مفاجأة, سيمبري هكذا صاح بارسلو عند رؤية أبي يدخل أيها الابن الضال ما سبب تشريفك لنا؟
- سبب تشريفنا لكم ابني دانييل الذي عثر لتوه علي اكتشاف هام.
- تعالوا لتجلسوا معنا، يجب أن نحتفل بهذا الاكتشاف التاريخي هكذا صاح بارسلو.
- اكتشاف! همست بذلك لأبي .
- بارسلو يستخدم تعبيرات مقعرة أجاب والدي بصوت منخفض لا تتفوه بشيء كي لا يغتر.
أفسح لنا المتحدثون مكاناً بينهم, وأصر بارسلو أن يكون مضيفنا، وهو الذي يحب أن يكون نجما لامعا وسط الجمهور.
- كم عمر الصبي؟ سأل بارسلو وهو ينظر إليّ نظرة جانبية.
- 11 سنه تقريبا- أوضحت.
ابتسم لي بارسلو ابتسامة ماكرة.
- أو ربما عشرة, لا تزيد من عمرك يا فتي فسوف تتكفل الحياة بذلك.
همس العديد من الجالسين بما يعني الموافقة علي ذلك. أشار بارسلو إلي النادل بإيماءة تهديدية كما لو أنها لحظة تاريخية لأخذ الطلب.
كونياك لصديقي سيمبري, و لكن من النوع الجيد, وللصغير كوباً من اللبن بالبيض و السكر, فلا يزال بحاجه للنمو, وبعض شرائح لحم الخنزير، علي ألا تكون كالسابقة, فهمت؟ فالمطاط مكانه مصنع بيريللي - هكذا زأر المكتبي-.
أومأ النادل بالموافقة وذهب جارا ساقيه وروحه. أقول علق المكتبي- كيف سيوجد عمل إذا كان الناس لا يتقاعدون في هذا البلد ولا حتي بعد الموت؟ انظر سيادتك لهذا الرجل, إنها معضلة.
تذوق بارسلو البايب المنطفيء, نظرته الثاقبة كانت تتفحص الكتاب الذي كنت أحمله في يدي باهتمام شديد، والذي، علي الرغم من أن جلدته كان عليها الكثير من الكلام , كان باستطاعة بارسلو أن يشم رائحة صيد ثمين, كذئب يشتم رائحة الدم.
- لنري قال متظاهرا باللامبالاة-. ماذا أحضرتم لي؟
نظرتُ إلي أبي الذي وافق بدون مقدمات, ناولت الكتاب لبارسلو الذي أخذه بيد خبير. تفحصت يداه الشبيهتان بيديّ عازف بيانو بسرعة , وكذلك مدي تماسكه وحالته . راسما ابتسامه فلورنسية . حدد بارسلو الصفحة المدون عليها معلومات الطبعة وتفحصها بدقة بوليسية لمدة دقيقة. كان الآخرون يراقبونه في صمت كما لو كانوا في انتظار معجزة أو إذن للتنفس من جديد.
- يا للروعة, مثير للدهشة - همس بصوت قوي .
فردت يدي مرة أخري لاستعادة الكتاب, قوّس بارسلو حاجبيه, لكنه أعاده لي بابتسامة جليدية.
أين وجدته يا صغيري؟
إنه سر رددت متخيلا أبي يضحك في سره.
قطّب بارسلو حاجبيه واتجه بناظره ناحية أبي.
- يا صديقي سيمبري, لأنك أنت أنت وتعرف مدي تقديري لك، ومن أجل الصداقة الطويلة والعميقة التي تجمعنا كإخوة, اترك لي هذا الكتاب مقابل 40 دورو, و لا تطلب المزيد.
- سيتوجب عليك مناقشة هذا الأمر مع ابني أضاف والدي لأن الكتاب ملك له.
رمقني بارسلو بابتسامه ذئب.
ما رأيك أيها الصغير ؟40 دورو سعر جيد مقابل أول بيعة...سيمبري سيكون لولدك هذا باع في هذا النشاط.
ضحك المتسامرون جراء مزحته. نظر إليّ بارسلو مسروراً , مخرجاً محفظته الجلدية وعد الأربعين دورو التي كانت في هذا الزمان بمثابة ثروة ومدها إلي. اقتصر رد فعلي علي الرفض في هدوء. قطب بارسلو حاجبيه.
رفضت مجددا . رمق بارسلو والدي بنظرة غاضبة عبر نظارته.
- لا تنظر إلي أنا هنا فقط كمرافق.
تنهد بارسلو وتأملني بشكل متأن.
- لنري يا صغيري, ما الذي تريده؟
- ما أريده معرفة من يكون خوليان كاراكس وأين يمكن أن أجد كتباً أخري يمكن أن يكون قد كتبها.
ضحك بارسلو بصوت منخفض وأعاد محفظته معيداً تأمل خصمه.
- يا لها من مفاجأة, يبدو كأستاذ أكاديمي. لكن ماذا تطعم هذا الفتي يا سيمبري؟ قال مازحاً-.
انحني المكتبي ناحيتي بنبرة هامسة, وللحظة من الزمن لاحظت شبهة احترام في نظرته إلي, لم تكن موجودة منذ قليل.
- سنعقد صفقةً - قال لي - غداً الأحد في الظهيرة تأتي إلي مكتبة ألاتنيو وتسأل عني ومعك كتابك كي أفحصه جيدا وأحكي لك كل ما أعرفه عن خوليان كاراكس. كيد برو كيو
-ماذا يعني ذلك؟
- تبادل منفعة, و لكن باللاتينية يا صغيري, فلا توجد لغات ميتة لكن توجد عقول متكلسة. وتعني أنه لا يوجد شيء مجاني. ولكنك قد أعجبتني وسأسدي لك معروفاً.
كان هذا الرجل يقطر خطابة قادرة علي إباده جميع الحشرات الطائرة. لكني فكرت في أنه إذا كنت بحاجة لمعرفه شيء عن خوليان كاراكس, يجب علي أن أحافظ علي علاقة جيدة به.أرسلت له ابتسامة هادئة مظهرا له ابتهاجي بمعرفته باللاتينية وأفعالها السهلة.
تذكر الغد في مكتبه ألاتنيو قال المكتبي ولكن احضر الكتاب وإلا فالاتفاق لاغ.
تاهت المناقشه ببطء وسط همسات المتحدثين الآخرين, وتحولت إلي نقاش حول وثائق مكتشفة في بدروم مكتبه الاسكوريال والتي تقول بامكانية أن يكون دون ميجيل دي سربانتس لم يكن اسمه بل كان مجرد اسماً أدبياً مستعاراً لسيدة مشعرة من توليدو. لم يشارك بارسلو الغائب في الجدل البيزنطي، ظل ينظر إلي عبر نظارته بابتسامة غامضة أو ربما فقط كان ينظر للكتاب الذي كنت أحمله بين يدي.
في ذلك الأحد, انزلقت السحب من السماء وكانت الشوارع ترقد غارقة تحت بحيرة من ضباب متقد كان كفيلا بجعل موازين الحراره تقطر ماءً علي الحوائط.
في منتصف اليوم وصلت درجة الحرارة إلي 30 درجة , أسرعت إلي شارع كانودا للحاق بموعد بارسلو في مكتبة الاتنيو وكتابي تحت ذراعي وجبهتي تتصبب عرقاً. كانت مكتبة الاتنيو، ولا تزال، واحدة من أماكن كثيرة في برشلونة لم يستقبل بها القرن التاسع عشر إشارات علي التقاعد بعد. كان السلم الحجري يرتفع من بهو فخم إلي شبكة كثيرة من دهاليز وصالات قراءة تبدو معها اختراعات مثل التليفون والسرعة أو حتي ساعة اليد مفارقات تاريخية مستقبلية.
لم يحرك البواب الذي بدا كأنه صنم يرتدي زيا ساكنا عند وصولي . نزلت إلي الطابق الأول ممتنا لوجود مروحة تطن وسط قراء يتنامون وينصهرون مثل مكعبات ثلج فوق كتبهم ومذكراتهم.
كان ظل دون جوستابو بارسلو يبرز بجانب نوافذ ممر يؤدي إلي حديقة داخلية للمبني. وعلي الرغم من أن الجو شبه استوائي كان المكتبي يرتدي ملابس تقليدية أنيقة ونظارة تلمع في الظلام مثل قطعة نقود في قاع بئر. بجانبه، استطعت تمييز شخص ما يتدثر بلباس من وبر الباكا الأبيض والذي بدا لي كملاك منحوت في الضباب. انتبه بارسلو إلي وقع أقدامي وأومأ إلي بالاقتراب.
دانييل , أليس كذلك؟ هل أحضرت الكتاب؟
أجبت بالإيجاب وأخذت الكرسي الذي أتاحه لي بجانبه هو ومرافقته الغامضة. لعدة دقائق اقتصر رد فعل المكتبي علي الابتسام لي بارتياح وهو الأمر الغريب علي . بعد قليل تخليت عن حلمي بأن يقدم لي تلك المتدثره بالرداء الأبيض, و تعامل بارسلو كما لو كانت غير موجودة ولا يراها كلانا. كنت أراقبها بنظرات جانبية خائفاً من أن تتلاقي نظرتي مع نظرتها التي كانت لا تزال شاردة في مكان ما. كانت بشرتها شاحبة وذراعاها شاحبان وشفافان تقريبا, و كانت ملامحها حاده راسمة خطاً واضحاً تحت فروة رأسها السوداء والتي كانت تلمع كحجر مندي.
قدرت أنها في العشرين علي أكثر تقدير, و لكن شيئا ما في هيئتها وطريقتها تبدو معه روحها وكأنها وقعت في رجليها, مثل أوراق الصفصاف جعلني أفكر بأنه ليس لها سن, كانت تبدو متسمرة في حالة من الشباب الدائم مثل الموديلات الموجودة في واجهات العرض الأنيقة. كنت أحاول قراءة نبضها من تحت حنجرتها التي تبدو كحنجرة بجعة عندما انتبهت الي أن بارسلو يلاحظني باهتمام.
هل ستخبرني إذا أين وجدت الكتاب؟ تساءل.
كنت أود و لكني وعدت أبي أني سأحفظ السر أضفت.
أري ذلك. إنه سيمبري و ألغازه قال بارسلو سأعرف أنا من أين.
يالها من ثروة عظيمة تلك التي حصلت عليها يا فتي, هذا ما أسميه العثور علي إبرة في حقل من السوسن. لنري, هلا أريتني إياه؟
مددت له يدي بالكتاب الذي أخذه بارسلو برقة متناهية.
افترض أنك قد قرأته .
نعم يا سيدي.
- إنني أحسدك , فدائما ما تصورت أن أفضل وقت لقراءة أعمال خوليان كاراكس عندما يكون العقل شاباً والذهن صافياً.
- هل تعرف أن تلك هي آخر رواية كتبها كاراكس؟
أومأت بالنفي في هدوء.
هل تعرف كم نسخه مثل هذه موجودة في السوق يا دانييل؟
أفترض وجود الالاف.
ولا نسخة أكد بارسلو فقط تلك التي معك والنسخ الأخري قد تم حرقها.
تم حرقها ؟
اقتصر رد فعل بارسلو علي ارسال ابتسامة مبهمة, مقلبا صفحات الكتاب و مداعبا الورق كما لو كان قطعة حرير متفردة في العالم .التفتت سيدة الرداء الأبيض ببطء . رسمت شفتاها ابتسامة خائفة ومرتعشة , كانت عيناها تتلمسان الفضاء بحدقتيها البيضاء مثل الرخام . ابتلعت ريقي. كانت كفيفة.
إنك لا تعرف ابنة أخي كلارا, أليس كذلك؟ - تساءل بارسلو .
أومأت بالنفي غير قادر علي ان أرفع عيني من علي تلك المخلوقه بلون وجهها الذي يشبه عروسة مصنوعة من البورسلين, و عيون بيضاء , أكثر عيون حزينة رأيتها في حياتي.
في الواقع إن الخبير في خوليان كاراكس هي كلارا, و لهذا أحضرتها قال بارسلو.
و أكثر من هذا و بعد تفكير عميق أري أن تسمحا لي بالذهاب الي صالة أخري لتفحص هذا الكتاب و أترك لكما المجال لمناقشة ماتودان, ما رأيكما ؟
نظرت إليه مندهشا, هذا المكتبي يبدو كقرصان ماكر عصي علي توقعاتي, ربت علي ظهري وغادر حاملا كتابي تحت ذراعيه.
- هل تعرف أنك قد أدهشته؟ هكذا همس صوت خلفي.
التفت خلفي لأكتشف الابتسامة الرقيقة لابنة أخ المكتبي , التي كانت تقدر الفراغ بالحدس, كان لها صوت بلور شفاف وهامس جدا للدرجة التي كنت أظن معها أن كلماتها سوف تتكسر لو قاطعتها أثناء الكلام.
- أخبرني عمي أنه عرض عليك مبلغا جيدا من المال مقابل كتاب كاراكس و لكنك رفضت أضافت كلارا و لهذا فزت باحترامه.
كان ذلك سيكون رد فعل أي شخص مكاني همست.
لاحظت أن رأس كلارا كانت تتمايل عند الضحك وأصابعها تتلاعب بخاتم يبدو كاكليل من الياقوت الأزرق.
كم عمرك؟ تساءلت.
11 عاما تقريبا, أجبت و حضرتك؟
ضحكت كلارا علي براءتي الوقحة.
تقريبا الضعف و لكن ذلك لا يعني أن تناديني بحضرتك.
إن حضرتك تبدين أصغر سنا أوضحت متخيلا أن ذلك ممكن أن يكون مهربا جيدا من عدم حصافتي.
سوف أثق بك إذا لأني لا أعرف كيف يبدو شكلي أجابت دون أن تفارق شفتيها ابتسامتها غير المكتملة و لكن إذا كنت أبدو لك أصغر سنا , فهذا سبب أدعي لأن تناديني بأنت وليس حضرتك.
كما تشائين حضرتك , يا آنسة كلارا.
تفحصت بعناية يديها المفتوحتين كجناحين فوق حجرها , وخصرها الرفيع الظاهر من تحت ثنيات غطاء الباكا, ورسم أكتافها, و شحوب حنجرتها المفرط, وغلق شفتيها, اللتين كنت أود لو داعبتهما بأطراف أصابعي. لم تتح لي من قبل تفحص سيدة عن قرب و بهذه الدقة دون خوف من أن تتلاقي نظراتنا .
إلي ماذا تنظر ؟ سألت كلارا دون خبث.
يقول عم حضرتك أنك خبيرة في خوليان كاراكس ارتجلت بحلق جاف.
عمي قادر علي أن يقول أي شيء مقابل أن يختلي بكتاب يعجبه لوقت ما أضافت كلارا و لكنك يجب أن تتساءل كيف لشخص كفيف أن يكون خبيرأ بالكتب دون أن يستطيع قراءتها.
في الواقع لم يخطر ذلك علي بالي .
إذا كنت علي وشك إتمام 11 عاما فلا تكذب بشكل مفضوح. تيقظ وإلا سينتهي بك الحال مثل عمي.
وخوفا من أن أسيء التصرف مره أخري, اقتصر رد فعلي علي الجلوس في هدوء متأملا إياها في دهشة.
هيا اقترب قالت.
عفوا؟
اقترب ولا تخف فلن آكلك.
استويت علي الأريكة واقتربت حيث كانت كلارا.
رفعت ابنة أخ المكتبي يدها اليمني تتلمسني .دون ان أدري كيف يجب أن أتصرف فعلت مثلها ومددت لها يدي. أخذتها بيدها اليسري ومدت لي كلارا في هدوء يدها اليمني . فهمت بصورة غريزية ما الذي تريده ووجهت يديها ناحية وجهي. كان ملمسها قويا و لطيفا لبرهة من الزمن . مرت بيديها علي خديّ ووجنتيّ, ظللت متسمرا دون حتي أن أقدر علي التنفس أثناء ما كانت كلارا تقرأ ملامحي بيديها . وأثناء قيامها بذلك كانت تبتسم لنفسها وتنبهت أن شفتيها كانتا تفتحان وتغلقا كما لو كانتا تهمسان في صمت.شعرت بلمسهة يديها علي جبهتي وعلي شعري وعلي جفوني. توقفت علي شفتيّ راسمةً إياهما بإصبعيها السبابة والبنصر.
كانت أصابعها تشع رائحة القرفة. ابتلعت ريقي , منتهبا أن نبضي كان يتسارع بقوة, و بفضل العناية الإلهية لم يكن هناك شهود في الخفاء ليشهدوا علي خجلي الذي كان يكفي لاشعال سيجار كوبي من علي بعد.
في ذلك المساء المليء بالضباب والرذاذ , سرقت كلارا بارسلو قلبي والقدرة علي التنفس والنوم. و تحت الضوء المسحور لمكتبة ألاتينيو رسمت يداها علي جسمي لعنة ستلاحقني لسنوات عديدة.
أثناء تأملي لها وأنا شبه فاقد الوعي, شرحت لي ابنة أخ المكتبي قصتها وكيف عثرت و بالصدفة أيضا علي كتابات خوليان كاراكس .وقعت الحادثة في قرية تابعة لمدينة بروبينسة . كان والدها محامياً ذائع الصيت وعلي صلة بحكومة الرئيس كومبانيز , كان لديه رؤية ثاقبة و لهذا أرسل ابنته وزوجته للإقامة عند أخته علي الجانب الآخر من الحدود حينما اندلعت الحرب الأهلية .بالتأكيد كان هناك من يرون ذلك مبالغة لانه لن يحدث شيء في برشلونة , و أنه في إسبانيا التي تعتبر مهد وحاضر المسيحية فإن الهمجية هي عمل الفوضويين, وهؤلاء صغار وفقراء وبالتالي لن يستطيعوا عمل الكثير. كان و الد كلارا يقول دائما إن الشعوب لا تنظر الي المرأة وخصوصا أثناء حرب أهلية. كان المحامي قارئاً جيداً للتاريخ وكان يعرف أن المستقبل يمكن قراءته في الشارع والمصانع والثكنات العسكرية بوضوح أكثر من صحافه الغد. ظل يكتب لهم كل أسبوع. في البداية كان يفعل ذلك من خلال مكتب في شارع ديبوتاسيون , بعد ذلك وبلا عودة ونهائيا في الخفاء من زنزانة في قلعة المونتويك , حيث مثل كثيرين آخرين , لم يره أحد وهو يدخلها , ولم يخرج منها أبدا.
كانت أم كلارا تقرأ الخطابات بصوت مرتفع دون أن تنجح في إخفاء بكائها, وتقفز علي الفقرات التي تظن أنها غير ضرورية لابنتها. بعد ذلك وفي منتصف الليل كانت كلارا تقنع ابنه عمتها كلاوديت بأن تعيد قراءة خطابات والدها من جديد بكاملها. هكذا صار الأمر كما لو أن كلارا تقرأ بعيون مستعارة. لم يرها أحد مطلقا تسقط دمعة ولا حتي بعد أن توقفت مراسلات المحامي, ولا حتي بعد أن فاقت أخبار الحرب الأهلية أسوأ التوقعات.
كان والدي يعرف منذ البداية ما الذي سوف يحدث شرحت كلارا ظل بجانب أصدقائه لأنه كان يظن أن ذلك واجبه . قتله الولاء للناس الذين عندما حانت ساعته خانوه. لا تثق أبدا بأحد يا دانييل, خصوصا بالناس الذين تعجب بهم, فهؤلاء سيسددون لك أشد الطعنات. كانت كلارا تنطق هذه الكلمات بحدة وكأن سنوات من السرية والظلال قد صقلتها. شردت في نظرتها البللورية وعيون بدون دموع ولا خداع, مستمعا لها تتحدث عن أشياء لم أكن أفهما بعد. كانت كلارا تصف أشخاصا وسيناريوهات وأشياء لم ترها بعينيها أبدا بتفصيل ودقة مدرّسة في مدرسة لتعليم رقصه الفلامنجو.
كانت لغتها هي الإحساس بالأشياء والأصداء ونغمات الأصوات ووقع الأقدام . شرحت لي كيف أنه خلال سنوات المنفي في فرنسا, تشاركت هي وابنة عمها كلاوديت في استئجار مدرس ومعلم خاص, و هو سكير في الخمسين من عمره يرتدي زي الأدباء و يتباهي بقدرته علي قراءة أوديسة فيرجيل بلغة لاتينية صحيحة. لقبوه باسم السيد روكفورت وذلك بسبب تلك الرائحة التي كانت تفوح منه علي الرغم من وضعه الكثير من العطور والكولونيا التي كان ينقع نفسه بها بشكل زائد عن الحد. كان السيد روكفورت وعلي الرغم من خصائصه الكثيرة (من بينها اقتناع قوي وواضح ان الطعام الذي كانت تحصل كلارا و أمها عليه من أقاربهم في إسبانيا كان مساعدة لهم) كان له ذوق رفيع , و منذ أن كان شابا اعتاد الذهاب الي باريس مره كل شهر كي يثري نهمه الثقافي بآخر المستجدات الأدبية وزيارة المتاحف, وأشيع أنه اعتاد ان يقضي ليله في أحضان سيدة كان قد سماها مدام بوفاري علي الرغم من أنها كانت تدعي هورتنسيي و لها وجه ذكوري. أثناء رحلاته الثقافية كان السيد روكفورت معتاد الذهاب الي مكان لبيع الكتب المستعملة يقع أمام كنيسه نوتردام , و بالصدفة في أحد مساءات 9291 وقع هناك علي رواية لكاتب مغمور يدعي جوليان كاراكس, وبما أنه منفتح علي كل ما هو جديد, اقتني السيد روكفورت الكتاب لا لسبب أكثر من أن العنوان بدا له موحياً حيث كان من عادته أن يقرأ شيئا خفيفا أثناء عودته في القطار.
كان عنوان الرواية هو ( المنزل الأحمر) وعلي ظهره كانت هناك صورة غير واضحة للمؤلف, ربما كانت صورة فوتوغرافية أو بقعة فحم, وفقا لنص السيرة الذاتية كان جوليان كاراكس شاباً في السادسة والعشرين, و كان يعيش آنذاك في باريس ويعمل كعازف بيانو محترف في ملهي ليلي بالتناوب .
وعلي الغلاف الخارجي الجميل والعتيق، والذي يتناسب مع روح العصر, كان موضحا بنثر بروسي( نسبه لبروسيا) أن هذه الرواية أول عمل ذي قيمة كبيرة لموهبة متقدة و وواعدة, وتمثل مستقبلا واعدا للآداب الأوربية بدون جدال. بكل هذا, كان الملخص يفهم منه أن الرواية بها أحداث أليمة بشكل مبهم وبإيقاع متسلسل ورتيب, الأمر الذي كان ميزه في نظر السيد ريكفورت, لأن أكثر شيئ كان يعجبه بعد الكلاسيكيات كانت الروايات المثيرة وذات الحبكة. كانت رواية ( المنزل الأحمر) تحكي عن الحياة المعذبة لشخص غامض يقتحم محلات لعب الأطفال والمتاحف لسرقة العرائس والدمي والتي يقتلع أعينها لاحقا, ويحملها إلي منزله, وهو عبارة عن مكان يبدو ككهف علي ضفاف نهر السين. وفي إحدي الليالي وعند اقتحام منزل شديد الثراء في شارع فوكس, كي يسرق مجموعة خاصة من العرائس لشخص واسع الثراء جراء عمليات احتيال أثناء الثورة الصناعية, تقع ابنته وهي سيدة مجتمع باريسية رقيقة وقارئة نهمة في غرام اللص. وبتتابع أحداث العشق المعذب والمليء بالعقبات الوعرة والفصول غير المكتملة, تتمكن البطلة من سبر أغوار البطل اللغز و الذي لم يفصح عن اسمه مطلقا, والمهووس بنزع أعين الدمي, تكتشف سراً مريعاً عن والدها ومجموعة تماثيله المصنوعة من البورسلين ويقود هذا بشكل حتمي لنهاية مأساوية من الطراز القوطي بامتياز.
كان السيد روكفورت متمرساً جيداً في الصراعات الأدبية وكان يتفاخر بامتلاكه مجموعة كبيرة من الخطابات الموقعة من كل ناشري باريس والذين كانوا يرفضون الكتابات الشعرية والنثرية التي كان يرسلها لهم بدون توقف. تمكن من معرفة دار النشر التي نشرت الرواية والمعروفة بكتب الطبخ والخياطة وفنون المنزل, حكي له صاحب مكتبة الكتب المستعملة أن الرواية ظهرت للتو ونالت بعض التعليقات في جريدتين محليتين بجانب نعي المتوفين, وأوصي النقادُ الروائيَ كاراكس بألا يترك عمله كعازف بيانو لأنه كان واضحا أنه لن يحقق شيئا ذا بال في عالم الأدب.قرر السيد روكفورت الذي كان يرق قلبه وجيبه أمام القضايا الخاسرة أن يستثمر نصف فرنك ويشتري الرواية للمدعو كاراكس مع نسخة مفضلة للأديب الكبير الذي كان يعتبر نفسه محظوظا بمعرفته وهو جوستاف فلوبير.
أقلع القطار إلي ليون مكتملا عن آخره وبالتالي لم يكن أمام السيد روكفورت من بديل عن أن يتشارك في كابينه من الدرجة الثانية مع راهبتين, و بعد أن ترك القطار محطه أوستيرليتز لم يكفا عن إرسال نظرات استهجان وهمس مستتر. وأمام هذا التدقيق اختار الرجل أن يخرج تلك الروايه من حقيبته و يتمترس خلف صفحاتها. وكانت دهشته عظيمة عندما اكتشف بعد مئات الكيلومترات أنه قد نسي أمر الراهبتين واهتزاز القطار والمناظر الطبيعية التي كانت تتعاقب كحلم كئيب للأخوان لومير خلف شبابيك القطار. قرأ طوال الليل علي الرغم من شخير الراهبتين والمحطات التي كانت تمر سريعا تحت جنح الضباب. وعندما قلب آخر صفحات الرواية وكان ذلك عند بزوغ الفجر, اكتشف السيد روكفورت أن عيونه كانت تدمع وقلبه مليء بالحسد والدهشة.
في نفس ذلك اليوم و كان يوم اثنين, اتصل السيد روكفورت بدار النشر في باريس طالبا معلومات عن ذلك المدعو خوليان كراكس. وبعد إلحاح كبير, أخبرته عاملة تليفون يغلب علي صوتها ثأثير الربو والمرض بأنه لا يوجد عنوان معروف لكاراكس, وعلي كل حال لا توجد له تعاملات مع دار النشر الآن وأن رواية (المنزل الأحمر) قد باعت بالتحديد 76 نسخة ذهب معظمها لمجموعة من الساقطات وبعض رواد المكان الذي اعتاد الكاتب قضاء أمسياته عازفا بعض المقاطع مقابل القليل من المال. أما بقية النسخ فقد تمت إعادتها وتحولت إلي عجينة ورقية لطباعة الكتب المقدسة والغرامات وورق اليانصيب. تعاطف السيد روكفورت مع هذا الحظ العاثر لهذا الكاتب الغامض. و خلال العشر سنوات اللاحقه وفي كل زيارة له لباريس كان يبحث في المكتبات التي تبيع الكتب القديمة عن أعمال أخري لكاراكس ولكنه لم يجد شيئا مطلقا. تقريبا لم يسمع أحد عن هذا المؤلف, والذين كانوا قد سمعوا شيئا عنه , كانوا فقط يعرفون القليل . كان هناك من يؤكد أنه كان قد نشر بعض الكتب من خلال دور نشر غير معروفة في طبعات تثير السخرية . ولكن كان من المستحيل العثور علي هذه الكتب إذا كانت موجودة من الأساس. أكد له بائع كتب في إحدي المرات أنه قد وقع بين يديه إحدي نسخ رواية لخوليان كراكس تسمي ( لص الكاتدرائيات) , ولكن كان هذا من زمن طويل و لهذا لم يكن باستطاعته التأكيد. وفي نهاية 1935 وصلت إليه أخبار تقضي بأن رواية جديدة لخوليان كاراكس تسمي (ظل الريح ) قد نشرت من خلال دار نشر صغيرة في باريس. كتب اسم دار النشر لاقتناء عده نسخ. لم يحصل علي إجابة مطلقا. في العام التالي و في ربيع 1936 سأله صديق من متجر الكتب الواقع علي الضفة الجنوبية لنهر السين إذا كان لا يزال مهتما بشأن كاراكس. أكد السيد روكفورت أنه لن ييأس أبدا. أضحي الأمر تحدياً له: إذا أصر العالم علي طي صفحة كاراكس في النسيان, فلن يتراجع هو عن مبتغاه. شرح له صديقه أنه منذ عدة أسابيع سرت شائعة حول كاراكس. بدا وكأن القدر اخيرا قد تغير. كان بصدد أن يعقد قرانه علي سيدة أحوالها جيدة , و كان قد نشر رواية جديدة بعد عدة سنوات من السكون والتي لأول مرة كان قد نال استحسانا في جريده اللوموند. و لكن وبالتحديد عندما بدا أن الريح ستغير اتجاهها كما قال بائع الكتب, شوهد كاراكس في عزاء في مدفن بيير لاشيز. لم تكن الظروف التي أحاطت بتلك الواقعة واضحة. و كل ما تم معرفته هو أن العزاء كان في فجر اليوم الذي كان كاراكس يجب أن يعقد قرانه فيه, وبالتالي لم يظهر العريس أبدا في الكنيسة.
تعددت الآراء كي تناسب جميع الأذواق: تصوره البعض ميتا في هذا العزاء وقد دفنت جثته في مقبرة غير معروفة , بعض الآراء الأخري، المتفائلة، كانت تفضل الاعتقاد بأن كاراكس كان متورطاً في أمر ما مبهم, وتوجب عليه ترك خطيبته في المذبح والهرب من باريس والعودة إلي برشلونة. لم يتم العثور مطلقا علي المقبرة المجهولة وبعد ذلك ظهرت رواية أخري: تقضي بأن خوليان كاراكس - الموصوم بسوء الحظ - قد لقي حتفه في مسقط رأسه بشكل مأساوي. جمعت الفتيات اللاتي كن يعملن في الملهي الذي كان يعزف فيه البيانو بعض المال كي يقمن بدفنه بشكل كريم. عند هذا المنعطف كان قد تم دفن الجثة في مقبرة عامة جنبا إلي جنب مع المتسولين ومجهولي الهوية ممن تظهر جثثهم طافية في الميناء أو من يموتون من البرد علي سلالم المترو.
لم ينس السيد روكفورت كاراكس حتي وإن كان ذلك لمجرد تبني وجهة النظر المضادة. بعد مرور 11 عاما علي اكتشافه (المنزل الأحمر) قرر أن يعير الرواية إلي تلميذتيه, آملا أن يرسخ هذا الكتاب الغريب لديهما عاده حب القراءة. كانت كل من كلارا و كلاوديت في الخامسة عشرة حيث تتدفق الهرمونات في شرايينهما وتناديهما الحياة من نوافذ صالة المذاكرة. وعلي الرغم من كل مجهودات معلمهما وحتي تلك اللحظة, لم تظهرا اهتماما بالكلاسيكيات وأساطير إسوب أو الشعر الخالد لدانتي أليجيري. لخوف السيد روكفورت من إنهاء عقده عندما تكتشف أم كلارا أن مجهوداته التعليمية لم تثمر سوي عن جاهلتين بعقول مليئة بالأوهام, قرر ساعتها أن يهديهما رواية كاراكس بحجهة أنها قصة حب من تلك النوعية التي تثير البكاء بحرقة. الأمر الذي كان حقيقة غير مكتملة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.