هو صريح وعلى الصحفيين تقدير ذلك، متحدثة البيت الأبيض تبرر وصف ترامب لمراسلة ب"خنزيرة"    فلسطين.. قوات الاحتلال تعتقل شابًا من طولكرم شمال الضفة الغربية    هشام حنفي: أتمنى تتويج المنتخب الثاني بلقب كأس العرب.. وأحمد الشناوي كان يستحق فرصة في مباراتي الفراعنة    زد يفاوض كهربا للعودة للدوري المصري عبر بوابته (خاص)    أخبار فاتتك وأنت نايم | إغلاق الطريق الصحراوي بسبب الشبورة.. قائمة منتخب مصر في كأس العرب    والدة هند رجب تبكي الحضور في افتتاح مهرجان الدوحة السينمائي 2025    محمد منصور: عملت جرسونا وكنت أنتظر البقشيش لسداد ديوني.. واليوم أوظف 60 ألفا حول العالم    رئيس مياه البحيرة يتابع الموقف التنفيذي لمشروعات «حياة كريمة»    محافظ البحيرة تلتقى أعضاء مجلس الشيوخ الجدد وتؤكد على التعاون المشترك    أبرز مواجهات اليوم الجمعة 21 نوفمبر 2025 في مختلف الدوريات العالمية    الأزهر ينظِّم مهرجانًا ثقافيًّا للطفل المبدِع والمبتكِر    محافظة الإسكندرية تعلن إغلاق الطريق الصحراوي بسبب الشبورة    البابا تواضروس: مصر واحة الإيمان التي حافظت على وديعة الكنيسة عبر العصور    أوقاف القاهرة تنظّم ندوة توعوية بالحديقة الثقافية للأطفال بالسيدة زينب    طلب هام.. تطور جديد بشأن «نورهان» قاتلة أمها في بورسعيد    المؤشر نيكي الياباني يتراجع بفعل هبوط أسهم التكنولوجيا    غلق الطريق الصحراوي بالإسكندرية بسبب شبورة كثيفة تعيق الرؤية    خاص| عبد الله المغازي: تشدد تعليمات «الوطنية للانتخابات» يعزز الشفافية    أسعار العملات أمام الجنيه المصري اليوم الجمعة 21 نوفمبر 2025    عراقجي يؤكد جاهزية إيران لهجوم إسرائيلي جديد بصواريخ مطوّرة    نجوم «صديق صامت» يتألقون على السجادة الحمراء بمهرجان القاهرة    «المهن التمثيلية» تحذر من انتحال اسم مسلسل «كلهم بيحبوا مودي»    فضل سورة الكهف يوم الجمعة وأثر قراءتها على المسلم    دعاء يوم الجمعة.. ردد الآن هذا الدعاء المبارك    ما الأفضل للمرأة في يوم الجمعة: الصلاة في المسجد أم في البيت؟    إصابة 4 أشخاص في انقلاب توك توك بطريق تمي الأمديد في الدقهلية    محمد رمضان يغنى يا حبيبى وأحمد السقا يشاركه الاحتفال.. فيديو وصور    عازف البيانو العالمي لانج لانج: العزف أمام الأهرامات حلم حياتي    لأسباب إنتاجية وفنية.. محمد التاجي يعتذر عن مشاركته في موسم رمضان المقبل    بعد 28 عاما على وفاتها، الأميرة ديانا تعود إلى "متحف جريفين" في باريس ب"فستان التمرد" (صور)    سرب من 8 مقاتلات إسرائيلية يخترق الأجواء السورية    التنسيقية: فتح باب التصويت للمصريين بالخارج في أستراليا بالمرحلة الثانية لانتخابات مجلس النواب    إحالة المتهم بقتل مهندس كرموز ب7 رصاصات في الإسكندرية للمحاكمة الجنائية    القرنفل.. طقس يومي صغير بفوائد كبيرة    نائب رئيس الألومنيوم يعلن وفاة مدرب الحراس نور الزاكي ويكشف السبب    سبب غياب راشفورد عن تدريبات برشلونة    تجديد حبس سيدتين بسبب خلاف على أولوية المرور بالسلام    تجديد حبس المتهمين بسرقة طالب بأسلوب افتعال مشاجرة بمدينة نصر    أسامة كمال: نتنياهو يتجول في جنوب سوريا.. وحكومتها لا هنا ولا هناك تكتفي ببيان «انتهاك خطير».. وبس كده!    بنك مصر والمجلس القومي للمرأة يوقعان بروتوكول تعاون لتعزيز الشمول المالي وتمكين المرأة    كاسبرسكي تُسجّل نموًا بنسبة 10% في المبيعات وتكشف عن تصاعد التهديدات السيبرانية في منطقة الشرق الأوسط    الكويت تدين بشدة الهجمات الإسرائيلية على غزة وتدعو لتحرك دولى عاجل    مستوطنون يشعلون النار فى مستودع للسيارات بحوارة جنوبى نابلس    "عائدون إلى البيت".. قميص خاص لمباراة برشلونة الأولى على كامب نو    ضياء السيد ل dmc: الرياضة المصرية بحاجة لمتابعة دقيقة من الدولة    كأس العرب .. الننى والسولية وشريف على رأس قائمة منتخب مصر الثانى    ستارمر يستعد لزيارة الصين ولندن تقترب من الموافقة على السفارة الجديدة بدعم استخباراتي    وزير الرياضة يطمئن على وفد مصر في البرازيل بعد حريق بمقر مؤتمر المناخ    تطعيم 352 ألف طفل خلال الأسبوع الأول لحملة ضد الحصبة بأسوان    غلق باب الطعون الانتخابية بعدد 251 طعنا على المرحلة الأولى بانتخابات النواب    تطعيم 352 ألف طفل خلال الأسبوع الأول لحملة ضد الحصبة بأسوان    هل عدم زيارة المدينة المنورة يؤثر على صحة العمرة؟.. أمين الفتوى يوضح    احتفالية مستشفى الناس بحضور سفراء ونجوم المجتمع.. أول وأكبر مركز مجاني لزراعة الكبد بالشرق الأوسط "صور"    أطعمة تعيد التوازن لأمعائك وتحسن الهضم    الجبهة الوطنية يكلف عبد الظاهر بتسيير أعمال أمانة الجيزة عقب استقالة الدالي    رئيس الوزراء: مشروع الضبعة النووي يوفر 3 مليارات دولار سنوياً    محافظات المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب وعدد المترشحين بها    دعاء الفجر| اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العم ميسي
نشر في أخبار الأدب يوم 13 - 03 - 2010

ليس من الأقارب، بل زميل عمل وصديق لوالدي. ولكنني كنت أناديه بالعم ميسي. فقد كنت أحبه كثيراً. وميسي مجري الأصل يحمل الجنسية البريطانية، كان قد حارب ضد قوات المحور في ليبيا أثناء الحرب العالمية الثانية التي خلفت له إصابة بالغة في الكتف. وكان يبدو عليه أنه عاني الآلام من جراء ذلك. كان ميسي يتميز بوجه نحيل رقيق الملامح يكسوه الشحوب، وتتوسطه عينان بنيتان بهما مسحة من الحزن. كما كان متحفظًا يميل إلي الصمت، ولكنه حاد الملاحظة. وعندما كان يتحدث كان يبرع في إطلاق النكات ويتميز بالسخرية والتهكم: أي ذكري وفاة تحل اليوم؟ فجأة وبلا مقدمات كان يأسه يبدو واضحًا، حيث كان الموت يتربص خلف كل شيء. (ظل متربصاً، حتي قبض بيده عليه في لندن وهو في الخمسين من عمره.)
عندما كان يجلسني علي ركبتيه، كان يبدو رقيقًا، كان هو نفسه يتحول إلي طفل. عندئذ كان ينفض الريبة عنه ويبتسم ويمزح. أعتقد أنني أحببت الطفل الذي بداخله.
معي، لم يكن ذلك الطفل الوحيد الخجول لأبوين من اليهود الميسورين، والذي أصيب مبكرا بالربو، فقد كان بكل بساطة مجرد طفل. لعله كان مزعجاً أو متهورا بعض الشيء أو شديد الشبه بالأعمام في أسوأ الأحوال. كنت أنزع قبعته من فوق رأسه _ إذ كان يرتدي القبعة صيفًا وشتاءًا - وأحملق فيه. عندئذ كان يقول: حسنًا، علي أن أحكي مجددًا. وكنت أنا أوميء برأسي.
كان يحكي ويقول: ذات مرة، كان هناك صبي له قدمان مفلطحتان، وكان يتمني أن يصبح باحثًا في الجغرافيا. لذا كان يرسم قارات وخطوط سكك حديدية وشوارع وأنهاراً. وفي يوم من ذات الأيام ارتدي هذا الصبي أفضل بنطال لديه وانطلق، وراح يعدو فوق الجبل صعودًا وهبوطًا حتي حل الظلام. وعندما تمدد علي النجيل من فرط التعب رأي فجأة لسانًا مضيئا بدأ يلعقه. هل يحلم؟ لا، فقد كانت وجنته مبللة. فقال: دفئني! ثم أطلق الحيوان صوت حشرجة. في الصباح وجد الفتي نفسه وحيداً، وكانت معدته تعوي من شدة الجوع. فأخذ الحقيبة التي تحوي الرسومات التي خطها بنفسه وراح يجري في مواجهة الشمس، ثم يقفز فوق البرك وينصت إلي طنين صراصير الغائط. وما أن بلغ أحد جسور القطار حتي قرر أن يتوقف عند القضبان التي تؤدي إلي العالم البعيد إذا ما اتبعها. لم يقترب القطار مسرعًا إلي تلك النقطة بل كان يدنو لاهثًا وهو يطلق فحيحا وصلصلة وقرقعة. شاهد الصبي خطمه حالك السواد ورفع يده محييًا إياه. فانحني حُسن طالعه خارج قمرة القيادة: إنه الأب الذي اعتقد الناس أنه فُقِد! ها هو يرتدي قبعة سائقي القطارات الأنيقة! صعد الفتي إلي القاطرة ، كان الأمر سيان بالنسبة له، إلي أين كان القطار متجها. شخص الصبي ببصره نحو وجه الأب، وعندما كان نظره ينزلق قليلاً كان يري أنهارًا وسهولا وجبالا وبحيرات حتي حل الليل. والآن هاهي آلاف النجوم وقد أضاءت وهاهو عطر نجيل البراري يفوح. ثم غلب التعب الصبي علي إيقاع دوران عجلات القطار، فراحت الجياد تصهل والبوم ينعق. بينما كان هناك لسان يومض في مكان ما. ثم اختفي. ولكن الصبي راح في النوم بينما أقلته قاطرة الأب إلي العالم البعيد.
كان ميسي يضع يده علي رأسي برفق. فقد كان يحكي لي أساطير، رغم أنه لم يؤمن سواء بالأساطير أو يؤمن بالله، وقد كنت أقدر له جهده ومحاولته التحايل علي نفسه رغم كل شيء. كان العم ميسي يسعدني بينما كان يسعد نفسه ظاهرياً فقط. إلا أنه كان يحب تمثيل هذا المظهر ويجيده.
واليوم أعرف أنه لم يكن بالإمكان مساعدته. فسواء كان الأمر يكمن في ذكريات الطفولة التي ألقت بظلالها عليه أو في فظائع الحرب، وفي قيظ الصحراء الليبية. كان ميسي قد فقد الثقة بالحياة وأصبح جسده عبئًا عليه. فما هي إلا حركة خاطئة يفعلها حتي يخرج كتفه الأيمن عن مفصله لتستوجب إعادته إلي موضعه الكثير من الالام. الحالة الجسدية هشة، والحالة المعنوية مهتزة. (..................)
كانت زوجته، كلارا، شخصية هادئة ومتوازنة تتمتع بسخرية جافة وكثير من حنكة الحياة. لم تكن تتحدث عن ماضيها تقريبا. حيث كانت قد نجت من معسكر أوشفيتز للاعتقال والإبادة كما نجت من أحد معسكرات العمل بالسخرة. كان زوجها الأول من الأحبار وقد قضي نحبه في إحدي غرف الإعدام بالغاز. كانت تلك السيدة تملك كذلك غريزة حادة تملي عليها التمسك بالأشياء الصغيرة، بما هو ملموس ومجسد ومشمول بالبصر. أذكر جيداً كيف كانت ترتدي ملابسها بكل عناية وكيف كانت تتبضع بوعي. عندما وُلِد أخي قضيت عدة أيام لدي كلار وميسي. بينما كان ميسي يعمل كانت كلار تصحبني إلي ميركاتو كوبيرتو، صالة السوق الضخمة، حيث كانت تفاصل بائعي الفاكهة والخضروات علي النوعية والأسعار. وكانت عملية الفصال هذه تبدو لي بلا نهاية. كانت الأسماك الميتة تبدو أشبه بالزجاج. وكنت أنا أتأمل نماذج قشورها وأفواهها المفتوحة حتي أكاد أصاب بالغثيان بسبب رائحتها، بينما تواصل كلارا الفصال وقد انحنت فوق السلطعون الأحمر والقواقع السوداء لتتفحصها بدقة بل و حذلقة.
لم يحدث أن تشاجرت كلارا مع ميسي في حضوري مطلقاً، ورغم ذلك كنت أستشعر اختلافا كبيرا بينهما. كان ميسي رجل المثاليات المحبط، بينما كانت كلار برجماتية. وبينما كان ميسي يتمتع بالخيال والشعر، كانت كلارا تقابل تلك المواصفات بابتسامة فحسب. كان ميسي يتوق في داخله لأن يكون طفلاً، وكانت كلارا ناضجة عقلانية. بهذه الطريقة كان كلاهما يكمل الآخر دون أن يشكلا معا كيانا كاملا. كانا اثنان اجتمعا بعد أن نجيا من القدر، وكانا يجدان السلوي والدفء في السيجارة. كلاهما كان يدخن بشراهة. لذا كسا اللون الأصفر أصبعي السبابة والوسطي لديهما بل وأظافرهما أيضا، بينما أصبح فم ميسي معوجاً للغاية بسبب العيدان التي كان يمتصها ويلوكها.
توفي الزوجان المختلفان في وقتين مختلفين؛ فقد أنهي ميسي حياته بتناول العقاقير _ بسبب المرارة والإجهاد _ بينما توفيت كلارا بعد ثلاثين عامًا متأثرة بمرض السرطان. وحتي أخر وقت كانت تحل الكلمات المتقاطعة وتقرأ الروايات البوليسية الانجليزية. فقد كانت تنعم بموهبة أصيلة في كيفية تشتيت انتباهها. حتي إنها لم تضع سوي صوتها رهن تصرف إذاعة البي بي سي بوصفها مذيعة بها. ولكنها ظلت بعيدة عاطفيا، عن كل شيء بما فيه ذاتها. وقد تبرعت بثروتها التي دبرتها من التوفير في طعامها إلي منظمات يهودية.
كلارا هاسكل
كنت قلقة للغاية، كما لو كنت أنا من يتعين عليه العزف. حيث دعاني أبي إلي حفل موسيقي لكلارا هاسكيل في قاعة الأنغام. وقد ارتديت فستانًا أزرق داكن له ياقة بيضاء وحذاء أسود لامع احتفالاً بهذه الأمسية. كانت قاعة الحفل تمتليء بالجمهور. وقد سمعت أن هاسكل تعيش في سويسرا منذ فترة طويلة. وأنها تبلغ الثانية والستين.
وطأت خشبة المسرح امرأة ضئيلة الحجم لها حدبة، وشعرها دب فيه الشيب. كما كانت قسمات وجهها تكسوها تاره لمعة ملامح الفتاة الشابة، وتارة تلك اللمعة الخاصة بامرأة مُسنة. ثم جلست تلك المرأة علي البيانو، بينما اختفي رأسها بين كتفيها اللذين برزا من الحدبة. ساد الصمت المشوب بالترقب. حتي سري أول الألحان. رقيق ولكنه محدد. تتلألا الألحان كما لو كانت كرات متناهية الصغر. هيكل لجسم له ملامح واضحة، خفيف. ليس هناك ما هو مبهم أو مطموس أو متأرجح. تحلق النغمات ، ليصبح توافق نغمات المقطع الموسيقي المتقطع مثل الكرات الصغيرة. ولكن وراء ما هو نحيل يبدو هناك ما هو عميق ولا نهاية له. هذا المنحدر هو موزار.
واجهت كلارا هاسكل صعوبة في النهوض. وأمسكت بحافة جناح البيانو كما لو كانت تستجمع آخر قواها، ثم أطرقت برأسها بخفة وابتسمت. بدت كما لو أنها قادمة من مكان بعيد، من عالم آخر، وعليها أن تشق طريقها في هذا العالم مرة أخري.
مثلنا نحن أيضا.
بعد مرور سنتين تكفل والدي ثانية بشراء تذاكر حفل موسيقي لهاسكل. كنت أرتعد كلما ازداد ذاك المساء اقترابا. كان يوماً ساخن ومشحونا بالحصص المدرسية والعجلة. في صباحه شعرت بضغط في أعلي وجنتي اليمني ثم أطبق الصداع برأسي طرحني في الفراش.
ذهب أبي وحده إلي الحفل وهو حزين ، كي يستمع إلي المتتاليات الموسيقية الهاسكلية
وفي يوم لاحق قال: آه، لقد بدا رأسها الذي يكسوه الشيب مثل عش للعصافير
وضحك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.