فجأة.. وبدون مقدمات وجدت أبنائي وزوجتي وأصدقائي يهنئونني ويحتفلون بعيد ميلادي الخامس والخمسين, وأدركت ساعتها حكمة الراحل العبقري موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب حين قال لشيخ المحاورين المتألق مفيد فوزي في أحد حواراته معه: إنني أندهش من الذين يحتفلون بأعياد ميلادهم, فلم الاحتفال بسنة ضاعت من عمرك وقصرت ماتبقي لك فيه؟ إنها حكمة وفلسفة الشيوخ التي لا نفهمها ونحن صغار عندما تكون الحياة أمامنا وليست خلفنا كما نحن الآن, وتذكرت قول الشاعر زهير ابن أبي سلمي الذي قال في معلقته بعد أن عاش ثمانين عاما قولته الشهيرة: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش.. ثمانين حولا لا أبالك يسأم! أعلم ما في اليوم والأمس قبله.. ولكنني عن علم مافي غد عمي, ولو أنه كان بيننا اليوم لقال: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش.. خمسين حولا لا أبالك يسأم, فلقد أصبح إيقاع الحياة أكثر سرعة, وشهواتها أكثر إهلاكا, وضغوطها ومشاكلها وتوترها أسرع تدميرا, وزينتها من المال والبنون أقل متعة وإمتاعا. وفي الحقيقة لم أكن أتخيل أن أصل إلي هذه السن عندما كنت طفلا صغيرا, فقد كان يسيطر علي تفكيري دائما أنني سوف أرحل مبكرا عن هذا العالم مثل والدتي رحمها الله التي رحلت وتركتنا وهي لم تتعد الثانية والأربعين من عمرها, ولم يكن يزعجني أن أموت في سن صغيرة بقدر ما كان يزعجني أن أموت قبل أن يكون لي أي أثر أو تأثير في من حولي, وربما في من يأتي بعدي أيضا, فالحديث الشريف يقول: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية, وعلم ينتفع به, وولد صالح يدعو له, فما كان يقلقني حقا أن أموت وليس لدي رصيد أو زاد يصل إلي بعد موتي من خلال هذه الأشياء الثلاثة, لذا فقد كنت كثيرا ما أقرأ وأنبهر بالأشخاص والقادة من العباقرة والموهوبين الذين ماتوا في ريعان شبابهم, وعلي الرغم من هذا تركوا أعمالا عظيمة خلدتهم وخلدت سيرتهم بعد مماتهم مثل: الإسكندر الأكبر الذي غزا العالم ومات وعمره ثلاثة وثلاثون عاما, والموسيقار النمساوي العبقري موتسارت الذي مات عن عمر يناهز ال35 عاما بعد أن نجح في إنتاج626 عملا موسيقيا, وقاد الأوركسترا السيمفوني وهو في السابعة من عمره, ولم يمش في جنازته سوي خمسة أشخاص فقط ليس من بينهم زوجته لأن الجو كان شديد البرودة, وسيد درويش عبقري الموسيقي في العصر الحديث الذي صنع كل هذه الألحان والاستعراضات ومات وعمره31 عاما. وأتذكر أنني في طفولتي كنت أنظر إلي من تخطي سن الخمسين علي أنه رجل مسن أو عجوز في الغابرين, وتغيرت هذه النظرة تدريجيا كلما تقدمت في السن, بل إنني في بعض الأحيان ينتابني شعور بأنني أريد أن أتحول إلي طفل يلهو ويلعب ويضحك ويبكي ويحب, وينظر من خلال صندوق الدنيا فيري حياته ماثلة أمامه كأنها فيلم سينمائي قصير يعلم المولي فقط نهايته, ومدي نجاحه أو فشله أمام لجنة التحكيم المكونة فقط من رب العزة سبحانه وتعالي, وأسرح بخيالي ثم أتذكر قوله عز وجل ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة صدق الله العظيم.. يانهار أسود! هذا يعني أن كل هذه الحياة التي نحياها ونتصارع عليها, ويقتل بعضنا البعض من أجلها, والتي سوف نخلد بناء علي أعمالنا فيها إما في الجنة أو في النار, إنما هي سوف تمضي أمامنا يوم الحساب وكأنها ساعة, نعم.. ولم لا؟ وأنا أري حياتي تمثل أمام عيني في لحظات, وهو نفس الوصف الذي سمعته من أبي رحمة الله عليه قبل وفاته وقد بلغ الثمانين من عمره, أتذكر هذا ويصيبني الرعب من قوله وقوله الحق قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا صدق الله العظيم, تري هل نحن حقا نحسن صنعا أم أننا نظن ذلك؟ وكيف لانخاف وأبو بكر وهو أحب الناس إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم, والذي قال عنه الرسول: لو وضع إيمان أبي بكر في كفة, وإيمان الأمة كلها في كفة, لرجحت كفة أبي بكر, هذا الخليفة الراشد يقول: والله لا آمن مكر الله حتي لو كانت إحدي قدمي في الجنة. وبما أنني لا أستطيع أن أقيم نفسي أو عملي في يوم مولدي, فدعوني أتذكر في هذا اليوم بعض من أدين لهم بالفضل, وأحمل لهم في عنقي دينا, أتمني من الله أن يعينني علي رده, وأول هؤلاء الأشخاص هو والدي رحمة الله عليه, فلولاه بعد الله عز وجل لما أصبحت شيئا علي الإطلاق, ومن فضل الله علي أنني استطعت أن أنقل إليه إحساسي هذا وشعوري نحوه وهو حي بيننا, فكنت أري ابتسامة الرضا في عينيه, ودموع الفرح التي يحبسها بين مقلتيه عندما يستمع إلي في يوم ميلاده أقول له: والدي.. ما اخترتك.. ولكن منحني الله إياك/ والدي.. ما كنت في المهد بصيرا حين أبصرت محياك/ والدي.. ما كنت أستنشق عبيرا إلا من شذاك/ والدي ياخير نعمة يابلسم.. من لي سواك؟/ والدي نهر الحنان.. والدي قلب الملاك/ والدي ترتيل رحمة.. كل ما أبغي رضاك/ هل تذكر اليوم الحزين حينما اغرورقت عيناك؟ دمع تحدي هوي السنين.. دمع قوي في حماك/ وهداك رب العالمين رجاحة حين اجتباك/ لتكون للقلب الأليف.. وتزود عن نفسي الهلاك/ يا والدي.. ضاع الأنين والشجن وبقي سناك/ إن قلت للعلياء أبغي.. فإنما أبغي علاك/ إن قلت في البيداء أبني.. فإنما يبني هواك/ إن سرت يوما للضياء.. فإنما أصبو ضياك/ قد صرت شابا يافعا.. وقلبي الطفل ارتضاك/ قد ظل أبيض ناصعا.. قد ظل ينهل من هداك/ ياوالدي فلتبق لي.. فكل ما أملك فداك. لقد كان أبي هو معلمي الأول الذي وضعني علي أول الطريق, وكان بالنسبة لي القدوة التي أقتدي بها, وكنت دائما أتمني أنه كما كان اسم أبي موضع فخر واعتزاز لي في كل مكان أذهب إليه أن يكون اسمي في المستقبل موضع فخر واعتزاز لأبي في كل مكان يذهب إليه عندما أكبر, والحمد لله أنني رأيت هذا اليوم قبل وفاته. أما ثاني من تأثرت بهم وتعلمت منهم الكثير, وأدين لهم بالفضل فهو الأستاذ والكاتب الصحفي الراحل شيخي عبد الوارث الدسوقي رحمة الله عليه الذي كان مني في منزلة الوالد والصديق والمعلم والصحفي المحترف والمحترم, والأستاذ ذات العطاء المتجدد, والشيخ المتدين المستنير دون تزيد أو انغلاق أو تفريط, وكان يشغل منصب نائب رئيس مجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم, مع انه كان يكره المناصب كراهة التحريم, ويعزف عن الشهرة ويهرب منها ومن أضوائها التي تحيط به, ويسلطها علي الآخرين من تلاميذه, لقد عرفت هذا الرجل كبيرا في داخله شامخا في عطائه.. تملؤه البساطة والتواضع والإيثار الشموخ والثقة بالنفس.. يدفعه الحب إلي منابع الخير فيغترف منها ويعطي الآخرين.. بما يحمله في داخله من نور الإيمان والحكمة والمعرفة.. ونزاهة القلم عندما يكون في يد الكبير. وهناك الكثيرون ممن تعلمت منهم من علي البعد مثل الأستاذ هيكل حينما كنت أقرأ له بصراحة وعمري لايتجاوز السنوات العشر, والأساتذة مصطفي وعلي أمين بما منحهما الله من تفاؤل وقدرة علي العطاء والابتكار, وأحمد بهاء الدين بأسلوبه العقلاني الذي يحترم عقل القارئ, وأنيس منصور بأسلوبه الأخاذ ومعلوماته المثيرة وعالمه الخاص الذي كان يجعلني ألهث وراءه, والكاتب الرائع أحمد رجب الذي فشلت في أن أتعلم منه هذه العبقرية الفذة في الإيجاز وخفة الدم, وإبراهيم الورداني بأسلوبه القصصي الرائع, والكاتبة الصحفية نفيسة عابد التي كانت أول من آمن بموهبتي في الكتابة, فكانت تنشر لي صفحات ورسائل كنت أرسلها إليها من الولاياتالمتحدة في مجلة أكتوبر دون أن يعرفني أحد في مصر آنذاك. وهناك الكثيرون ممن تعلمت منهم ولكن المكان لايتسع الآن لذكرهم, ولكل هؤلاء جميعا: أقول لهم شكرا جزيلا.. وكل عام وأنتم جميعا بخير.