هو الكل واللا أحد في غرفة فسيحة يسمونها جناحًا يعيش الرجل الطاريء. لا يعرف متي يمكنه أن يغادر ولا يتذكر لمَ ومتي وصل. يشعر أحيانًا أنه كان في هذا المكان من قبل، وأحيانًا يتخيل أنه شاهده في فيلم بالأبيض والأسود، عجزه عن الفرار يجعله يعتقد أنه نائم علي سريره المعتاد في بيته يحلم بأنه طاريء في جناح بالطابق الثاني والعشرين من برج ذي ستة وعشرين طابقًا. حتي عندما يجمع ستائر الغرفة وينظر عبر الزجاج المزدوج لا يساعده البحر علي الحسم تجاه يقين الصحو أو النوم. لجة واسعة من ماء ليس له نزق مياه البحار، لا رفيف جناح نورس فوق سطحه يستثير موجه ويجعل هذا الأخضر المترامي مختلفًا عن الماء الساكن في لوحة رومانسية. يشعر الطاريء أحيانًا بأنه الكل، ويشعرغالبًا بأنه لا أحد. كل من يقابله يمنحه لقب "سير" مع انحناءة مهذبة؛ من يفتح له باب مصعد حمل آلافًا مثله من قبل، من يقدم له طعامًا معدًا للا أحد، من يسوي له سريرًا فسيحًا صنعه نجار بلا قلب ليفي باستلقاءة مؤرقة للا أحد، من يمنحه منشفة نظيفة جاهزة لأي "لا أحد" في النادي الرياضي الذي يرفع الفندق فوق السجن درجات. حاول الطاريء ذات مرة أن يحصي عدد من ينحنون له، وأحس بلحظة غبطة لأن عددهم يفوق عدد أقنان إقطاعي روسي أو نبيل انجليزي في القرون الأكثر إظلامًا في حياة الدولتين، لكن الغبطة ليست قدر الطارئين؛ إذ سرعان ما انتبه إلي أن من يبجلونه يفعلون الشيء ذاته مع مئات أو آلاف الطارئين يوميًا، وبقسمة عدد الخدم علي عدد المخدومين وجد أن نصيبه لا يمكن أن يتعدي إيماءة خفيفة وافترار ثغر بنبتة ابتسامة صغيرة حازها صدقة باعتباره غريبًا من أبناء السبيل. كل فريق الانحناء بالبرج من بلاد الشمس القارحة التي تخزي العيون وتقمطها بأجفان مسبولة لها المظهر المخادع لارتخاء الجفون بعد إشباع الحب. الفرز الأول (الجميلات والوسيمون) في الاستقبال، الفرز الثاني علي صندوق الحساب في المطعم والكافيتيريا والبار، الثالث للخدمة في المطعم وفي النادي الصحي، والأخير لخدمة تنظيف الغرف؛ حيث يمكن للإدارة أن تتركه في خلوة آمنة مع الطارئين عندما يبقون بغرفهم وقت التنظيف مصادفة أو تربصًا. بينه وبين نفسه يتمني الطاريء أن يسمع كلمات الشكر في شقشقات اللغة الآسيوية التي تشبه هديل الحمام، وقد استمع إليها ذات يوم من شاعر من تلك البلاد كان طارئًا علي بلاد الغيوم، وكاد الطاريء الذي صار صديقًا للطاريء الآسيوي أن يفهم اللغة الغريبة من فرط رقتها. للشاعر أن يشرع لغته، بل عليه أن يفعل ذلك إرضاء لمضيفيه اللحوحين الذين يستضيفونه لهذا الغرض. لكن الطارئين في البرج الذين يحصلون علي كل ما يطلبون كما في الفردوس ولا يكترثون لجمال لغة مجهولة لا يُكرهون أفراد الخدمة علي التحدث بلغتهم الأحلي من الهديل. وهكذا فإن النُدل الذين يتدربون علي حبس مشاعرهم، يتمكنون بفضل قلة خيال الطارئين من صون لغتهم الأم. يستخدمون الإنجليزية بتهذيب وظيفي: مرحبًا سيدي، استمتع بوجبتك سيدي، شكرًا سيدي، أتمني لك يومًا طيبًا سيدي. هكذا يتمرمغ أنف لغة اللوردات المتعجرفة في الأرض؛ وقد صارت لغة كونية للخدمة، لعله القصاص العادل علي توسع الجزر البريطانية في الغزو والاحتلال في غابر الزمان، لكنه بالتأكيد حظ النُدل الحسن؛ فعندما يعود سجناء الفندق إلي بلدهم، يستطيعون أن يفخروا بأن لغتهم لم تنحن، وأن يحكوا لأحفادهم عن بطولات لم يروا أبناءهم ليحكوها لهم: كيف حفظوا لغتهم في قلوبهم طوال سنوات غربتهم؛ فلم يكرهوها علي الترحيب بمن لا يستحق أو يورطوها في عمل غير منطقي، كأن يشكروا المخدوم بينما كان عليه أن يشكرهم. آيس كريم كاثرين لا يكف السجين عن عد أيامه ولا يبدأ استسلامه الذي يرقي إلي درجة الرضي إلا عندما تنقطع علاقاته بالعالم في مصادفات حزينة؛ كأن يبلغه نبأ موت أمه، أو فرار الزوجة مع صديق، أو عندما يكتشف أنه وصل إلي زنزانته بوشاية من رفيق كان محل ثقته. الفنادق التي ترتفع فوق السجون درجات لا تدع نفسها رهن المصادفات، وإنما تحتاط لنفسها وتقصقص أجنحة الطاريء حتي لا يتمكن من الطيران. لا تفعل ذلك بالإجراءات الخشنة المدانة من منظمات حقوق الإنسان كالأقفال الضخمة علي أبواب الغرف أو القيود الثقيلة علي كواحل المساجين، بل بالحيل اللطيفة التي لا تدع الطاريء عرضة لمشاعر سأم تدفعه للفرار. هناك دائمًا التدابير التي تأخذ الطاريء نحو الاستسلام الطوعي أو حتي الغبطة بوجوده في الفندق؛ كأن تفاجئه بصنف غير متوقع من الطعام علي الغداء، أو تخصص لونًا للمفارش في كل وجبة أو تسرب فتاة من الفرز الأول للخدمة في المطعم بين فتيات الفرز الثاني. وكاثرين من بنات الفرز الأول منظورًا إليها بعين طاريء يداوم علي التحديق في فتيات الاستقبال؛ لكنها أجمل بعين طاريء عجول اعتاد المروق من البهو دون تأمل. جفنها الواسع النعاس يُعلِّم الغزل. وجهها كله من النوع الكوزموبوليتي الذي يخرجها من الوطنيات الضيقة الجالبة للحروب ويجعلها صالحة لأن تكون نجمة في هوليوود أو بوليوود أو بائعة في الأسواق الحرة الدانماركية أو نادلة في مطعم بجزيرة العرب. كاثرين فوق ذلك تمشي مرفوعة الرأس بقامة أطول من قامات نساء بلادها، وأطول ما تكون كاثرين يوم الجمعة؛ حيث ترتدي النادلات فساتين حريرية ملونة بلا أكمام مع لفاحات تلاعب العيون سترًا وتعرية. تبدو كاثرين في اليوم السابع أكثر فتنة وأطول عنقًا مما هي عليه في ستة أيام ترتدي فيها البنطلون والبلوزة مع مريلة صغيرة تغطي المنطقة الأكثر عرضة لانسكاب النظرات لا السوائل، حيث تتعلق بزنار يُخصِّر الخصر وتنسدل من السِوّةِ إلي ما موق الركبة. تبدو في الفستان ملكة بين وصيفاتها، يكشف همود الحرير علي جسمها عن رهافة نبيلة في أقواس النهدين والردفين. تبتسم للطارئين بعزة ترجح أنها كانت ملكة في حياة سابقة، وبالنسبة لعينٍ فنانةٍ فتنتها سرة تحت فستان كتاني في لوحة من الحجر لن تكون كاثرين سوي واحدة من العازفات الفرعونيات المنذورات لبهجة الملك الإله. كاثرين أحست الإعجاب في عيني الطاريء، وانهزمت داخلها تعليمات البرج عندما لاحظ شحوب وجهها ذات يوم، وسألها عن أحوالها. قالت بامتنان: نعم سيدي، متوعكة قليلاً بسبب وجبة دجاج، يبدو أن كيمياءه مختلفة هنا عما اعتدته في بلادي، ليس شيئًا خطيرًا، شكرًا سيدي، شكرًا. يبدو أن الطاريء كان الوحيد الذي خاطبها بشيء غير إصدار الأوامر منذ طرأت. بدأت تعامله كصاحب بيت، تسأله إن كان يريد أن يشرب شايًا أو قهوة مخصوصة بعد غداء اللا أحد. والطاريء الذي يقدس نومة القيلولة بدأ يتخلي عن رفض قهوة الظهيرة، وصار يطيل زمن بقائه في المطعم قدر المستطاع، يتطلع إلي كاثرين متشهيًا كلما مرت به، وترد بابتسامة من شفتين غضتين وتُسرِّب إليه من بين شقي الجفون نظرة امتنان يتقبلها فرحًا مثلما يتقبل شاكرًا الضيافات المميزة التي تقدمها إليه كلما وجدت فراغًا. في عشاء جمعة، وبعد الفاكهة والحلو والشاي، كانت أعداد الطارئين تتضاءل بالمطعم. وقفت كاثرين أمام الطاريء، وسألته: هل تحب أن تجرب الآيس كريم سيدي؟ أحب كل ما تقترحين. أجاب الطاريء؛ فابتسمت واحمرت قليلاً وذهبت ثم عادت بالآيس كريم. وضعته أمامه ورمقته بنظرة ودود، بينما هشّم عبور طاريء آخر كلمات الغزل القليلة التي رتبها بالإنجليزية. لم يتمكن من جمع نثار الجملة من تحت قدميه، لكنه تماسك في النهاية وشكرها باقتضاب، وأخذ يصرف تلعثمه في مداعبة الكرات الباردة بطرف الملعقة، بينما انصرفت كاثرين إلي حاجز في زاوية قصية تشارك زميلاتها في إعداد مفارش الإفطار، ترمق صورته المنعكسة أمامها علي زجاج الواجهة، تبتسم لتلذذه باللعق. وعندما رأت سكون الصورة علي الزجاج، خطت نحوه تحمل الطبق من أمامه. ربما تري العين المحايدة في اهتمام كاثرين بالطاريء التزامًا بمقتضيات الوظيفة، وربما تقول عين ذكورية غيور أن الطاريء قد شغف النادلة المميزة حبًا، بينما هرب الطاريء نفسه من التفكير في سر اهتمامها، كان كل ما يعنيه أن تخف الحركة بقدر يمكِّنه من تركيب جملة هامسة يحملها إليها بقلق خادم تحمل عمودًا مائلاً من أطباق القيشاني، بينما تبدو كاثرين ملكة مطمئنة. أعجبك سيدي؟ إنه خاص بالفندق. لا يمكن لجهاز مراقبة النادلات أن يلحظ شيئًا في كلماتها الوظيفية الباترة، وسيتطلب الأمر سنوات طويلة من التجارب قبل تطوير تكنولوجيا لرصد الحواس ترصد غصة لا إرادية تفاجئها في الحرف الأخير وتفتح بابًا للأمل أمام الطاريء. رمقته بحنان وقد تفهمت سر صمته، ومالت تحمل الطبق حتي رأي نهديها الصغيرين. حشد القليل من قلة الحياء التي يملك مستأنسًا بدعم خاص من اللغة الغريبة، حيث يكون الطاريء أشجع في اللغة التي لا يحسها، وقال: I like your eyes more than any ice cream.- ردت كاثرين بغبطة محتشمة: Thank you, Mr.- هل من الممكن أن أحصل علي رقم تليفونك؟ بكل سرور سيدي. أملته الرقم، وطلبت منه أن يسجله باسم "مالو" لأن الاسم الذي تحمله علي شريط معدني فوق صدرها ليس اسمها الحقيقي. لكنه سر. هنا، نادني كاثرين. قالت، وابتسمت عيناها. ودعها منصرفًا بابتهاج مضطرب. وكان أول ما فعله بعد أن أغلق عليه باب غرفته أن كتب لها رسالة دافئة، ووضع أمامه التليفون منتظرًا ردًا لم يأته. لا يمكنها أن ترد في وقت الخدمة. قال معزيًا نفسه، واستلقي علي السرير ضاغطًا زر تشغيل التليفزيون. أخذ يتنقل بين القنوات بسرعة لم تدع لأحدهم أو إحداهن فرصة إكمال جملة. نظر في ساعته حاسبًا وقت انتهاء ورديتها والزمن اللازم للوصول إلي مهجعها. ضغط الرقم وأخذ يستمع إلي الرنين حتي انقطع متبوعًا بطنين الصمت، كرر المحاولة مرتين من دون جدوي. أمضي ليلته متقلبًا بين مشاعر القلق والخجل والحيرة من تطفله ومن أسباب صمتها. هل سمعتها إحدي الوصيفات تملي عليه الرقم بالمخالفة لقواعد البرج التي تحرم الاتصال الشخصي بالطارئين؟ هل عاقبوها علي رنين تليفونها المريب في النزل الجماعي بعد منتصف الليل، هل تجاهلته بسبب الخفة التي أبداها ولا تناسب مكانته كطاريء مميز؟ لم يتمكن النوم من جفونه إلا بعدما تسلل نور الصبح من تحت الستائر المسدلة. في الغداء حرص علي ألا يتخير طاولته إلا بعد أن مسح المطعم بعينيه واختار القسم الذي تخدم فيه مالو. ابتسم إليها عندما اقتربت. حيته بحياد محبط، ومع ذلك همس إليها: كتبت إليك وهاتفتك ولم تردي. لا أحمل الهاتف دائمًا. أجابت بكبرياء ملكة غير مجبرة علي المجاملة أو تقديم المزيد من المبررات. شددت قبضتها علي صينية تحمل عليها طبقًا من الآيس كريم إلي طاريء آخر، ومضت.