اعرف مواعيد غلق المحلات الصيفية.. التوقيت الصيفي 2024    عيار 21 بكام ؟.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم الخميس بالصاغة بعد الانخفاض    توقعات ميتا المخيبة للآمال تضغط على سعر أسهمها    إصابة شاب فلسطيني برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة رام الله    طلاب مدرسة أمريكية يتهمون الإدارة بفرض رقابة على الأنشطة المؤيدة للفلسطينيين    مستشار الأمن القومي الأمريكي: روسيا تطور قمرا صناعيا يحمل جهازا نوويا    الخارجية المصرية: محاولة تفجير الوضع داخل غزة ستؤدي إلى مزيد من التوتر    عجز بقيمة 2 مليار.. ناقد رياضي يصدم جماهير الزمالك    بالورقة والقلم، ماذا يحتاج ليفربول للتتويج بلقب الدوري الإنجليزي بعد لدغة إيفرتون؟    تعديل موعد مباراة الزمالك وشبيبة سكيكدة الجزائري في بطولة أفريقيا لكرة اليد    المصائب لا تأتي فرادى، كارثة غير متوقعة في حريق 4 منازل بأسيوط، والسر في العقارب    الحماية المدنية تسيطر على حريق بمخزن أجهزة كهربائية بالمنيا.. صور    لتفانيه في العمل.. تكريم مأمور مركز سمالوط بالمنيا    حنان مطاوع لصدى البلد عن أشرف عبد الغفور: شعرت معه بالأبوة    نجوم الفن في حفل زفاف ابنة بدرية طلبة، وبوسي وحمادة هلال يفاجئان العروس (صور)    حظك اليوم وتوقعات الأبراج الخميس 25/4/2024 على الصعيد المهني والعاطفي والصحي    أمريكا تضغط على إسرائيل على خلفية مزاعم بشأن قبور جماعية في مستشفيين بقطاع غزة    إيران وروسيا توقعان مذكرة تفاهم أمنية    بعد الصعود للمحترفين.. شمس المنصورة تشرق من جديد    فرج عامر يكشف كواليس «قرصة ودن» لاعبي سموحة قبل مباراة البلدية    بعد ارتفاعها الأخير.. أسعار الدواجن والبيض اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بالبورصة والأسواق    السيناريست مدحت العدل يشيد بمسلسل "الحشاشين"    تخصيص 100 فدان في جنوب سيناء لإنشاء فرع جديد لجامعة السويس.. تفاصيل    انخفاض جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بالمصانع والأسواق    صندوق التنمية الحضرية يعلن بيع 27 محلا تجاريا في مزاد علني    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    الليلة.. أدهم سليمان يُحيي حفل جديد بساقية الصاوي    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    حصول 5 وحدات طب أسرة جديدة على اعتماد «GAHAR» (تفاصيل)    رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر: تخصصنا يحافظ على الشخص في وضعه الطبيعي    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    بعد نوى البلح.. توجهات أمريكية لإنتاج القهوة من بذور الجوافة    محافظ شمال سيناء: منظومة الطرق في الشيخ زويد تشهد طفرة حقيقية    الهلال الأحمر: تم الحفاظ على الميزانية الخاصة للطائرات التى تقل المساعدات لغزة    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    كرة السلة، ترتيب مجموعة الأهلي في تصفيات ال bal 4    منسق مبادرة مقاطعة الأسماك في بورسعيد: الحملة امتدت لمحافظات أخرى بعد نجاحها..فيديو    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    كيف أعرف من يحسدني؟.. الحاسد له 3 علامات وعليه 5 عقوبات دنيوية    دعاء في جوف الليل: اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور واهدنا سواء السبيل    محافظ شمال سيناء: الانتهاء من صرف التعويضات لأهالي الشيخ زويد بنسبة 85%    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    بعد اختناق أطفال بحمام السباحة.. التحفظ على 4 مسؤولين بنادي الترسانة    "مربوط بحبل في جنش المروحة".. عامل ينهي حياته في منطقة أوسيم    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    ميدو: لاعبو الزمالك تسببوا في أزمة لمجلس الإدارة.. والجماهير لن ترحمهم    تأجيل بيع محطتي سيمنز .. البنوك الألمانية" أو أزمة الغاز الطبيعي وراء وقف الصفقة ؟    إصابة أم وأطفالها الثلاثة في انفجار أسطوانة غاز ب الدقهلية    رئيس تحرير «أكتوبر»: الإعلام أحد الأسلحة الهامة في الحروب    الصحة تفحص مليون و413 ألف طالب ضمن المبادرة الرئاسية للكشف المبكر عن فيروس سى    مدير تعليم القاهرة: مراعاة مواعيد الامتحانات طبقا للتوقيت الصيفي    صور.. الطرق الصوفية تحتفل برجبية السيد البدوي بطنطا    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجذور
نشر في أخبار الأدب يوم 15 - 01 - 2011

متجر أبي يقع في مواجهة المسجد وكان أبي يجلس علي كرسي دوار إلي جانب مكتب كبير يجلس أمامه خالي »حمدي« الذي كان مسئولًا عن الحسابات والدفاتر... وأمام أبي كنبة كبيرة... يجلس في ركنها الأيسر الشيخ عوض العبد -وهو كفيف - يتلو القرآن الكريم يوميًّا، ويتلو سورة الكهف في المسجد قبل صلاة الجمعة، وكان صوته جميلا يأتي الناس من القري الأخري بل ومن رأس البر علي الشاطئ المقابل للاستماع إليه.
ولدت في اليوم الثاني من شهر يوليو 1932 في عزبة البرج وهي القرية الساحلية التي تقع عند مصب النيل بفرع دمياط، وأبي هو الحاج السيد شعبان الريدي، حقق مكانته الاجتماعية وثروته من خلال صفات وسجايا منحها له الله، فكان ذكيًّا مما جعله رجل أعمال ناجحًا، كما كان ذا شخصية مهيبة وكان وسيم الطلعة، يرتدي الجلباب الصوف والمعطف والطربوش. بدأ حياته العملية بأن خرج إلي البحر وهو طفل صغير مع أبيه، وفي السابعة عشرة من عمره أصبح »قبطان« مركب »شراعي« من تلك المراكب التي كانت تعمل بالنقل بين ميناء دمياط وموانئ شرق البحر الأبيض وتركيا، وكان يعمل معه طاقم بحارة يتكون من ثمانية أو عشرة بحارة، وعندما بلغ الخامسة والعشرين ترك البحر واستقر في البَرِّ، وبدأ يعمل في التجارة وهي تدور حول البحر، الأخشاب التي تلزم في صناعة السفن، من ألواح إلي »صواري«، الحديد من جنازير وخطاطيف، القماش الذي يستخدم في عمل الشراع، الأحبال والبويات، وعندما بدأ أهل القرية يعرفون »الجاز« أي الكيروسين الذي كان يستخدم في إشعال المواقد وفي الإنارة، حصل علي امتياز بيع »الجاز« من شركتي شل وسوكوني فاكوم، وكان »الجاز« يصل في آخر النهار من كل يوم في براميل »حديدية« علي المراكب النيلية القادمة من المدينة الكبيرة »دمياط« التي تقع إلي جنوب عزبة البرج بحوالي أربعة عشر كيلو مترًا... وهذه المراكب النيلية كانت هي الوسيلة الرئيسية للنقل الثقيل بين عزبة البرج ودمياط.
ومن خلال نجاحه في التجارة أصبح يمتلك عددًا من السفن أو أنصبة فيها بالمشاركة مع آخرين، بعد أن كان امتلاك هذه السفن مقتصرًا علي التجار الكبار في دمياط، ثم بدأ بعد ذلك في تطوير صناعة صيد السردين بواسطة سفن شراعية صغيرة تخرج إلي البحر في موسم الفيضان (أغسطس وسبتمبر) وتعود محملة بأطنان من السردين التي كانت تجذبه إلي سواحلنا تلك المياه المتدفقة في موسم فيضان النيل، وهي محملة بالطمي فيتحول لون البحر من لون أزرق إلي لون بني داكن.
بمجرد أن حقق ثروة من التجارة قام أبي ببناء المسجد الذي يعرف حتي الآن في البلد باسم مسجد »الريدي« وقد فعل ذلك قبل أن يبني بيتنا الذي كنتُ أول من ولد فيه... ثم أتبع ذلك كله بالحج إلي بيت الله الحرام (عام 1934)... وكانت قصة الحج بالسفر وسط مودعيه إلي السويس ثم السفر إلي جدة علي الباخرة »زمزم« التابعة للشركة الخديوية... قصة يحلو لي الاستماع إليها منه كلما جاءت المناسبة... بحيث أصبحت تفاصيل هذه الرحلة مطبوعة في مخيلتي.
كان لأبي محل كبير في الطابق الأرضي من المبني الذي بناه مسكنًا لنا... أما الجزء الآخر من الدور الأرضي فكان مؤجرًا لوزارة الداخلية ليكون نقطة بوليس عزبة البرج التي يرأسها »صول« ومعه
أربعة عساكر وخمسة خفراء، العساكر لضبط الأمن أثناء النهار أما الخفراء فلحراسة البلد أثناء الليل... وكان لباس الرأس للخفير لباسًا مميزًا فهو طربوش طويل ذو لون رمادي غامق تتوسطه قطعة نحاسية مستديرة تحمل رقم الخفير... وفي أعماق الليل كان الخفراء يطلقون صيحات تهدف إلي إشعار الناس أن هناك من يسهر علي أمنهم ومن المفترض أيضًا أن هذه الصيحات كانت ترعب من تسول له نفسه الإخلال بالأمن.
كان متجر أبي يقع في مواجهة المسجد وكان أبي يجلس علي كرسي دوار إلي جانب مكتب كبير يجلس أمامه خالي »حمدي« الذي كان مسئولًا عن الحسابات والدفاتر... وأمام أبي كنبة كبيرة... يجلس في ركنها الأيسر الشيخ عوض العبد -وهو كفيف - يتلو القرآن الكريم يوميًّا، ويتلو سورة الكهف في المسجد قبل صلاة الجمعة، وكان صوته جميلا يأتي الناس من القري الأخري بل ومن رأس البر علي الشاطئ المقابل للاستماع إليه.
منذ طفولتي وأنا أنزل إلي »المحل« أي إلي المتجر... وكان مكاني دائمًا علي كرسي خيزران علي يسار أبي... وكنت أساعد في أعمال المحل... وكنت أراقب أبي وأستمع إلي القصص التي يحكيها القباطنة والبحارة العاملون علي المراكب الشراعية وكان حديث البحر هو الحديث الأساسي... يحكون عن البلاد التي ذهبوا إليها... والعواصف التي واجهوها... وكيف أن الأمواج كانت كالجبال... وكيف أن المركب »شحطت« علي البر... أي أنها اصطدمت مع اليابسة...
عاش أهل عزبة البرج أخطارًا كبيرة في هذه الفترة، التي كانت المراكب فيها تعمل بالشراع، ولا يوجد بها موتورات يمكن اللجوء إليها إذا جدّ طارئ، ولم تكن السفن أو المراكب مجهزة بأجهزة المساعدة البحرية باستثناء البوصلة وخبرة البحارة المتوارثة عن مواقع النجوم للاهتداء بها في تحديد
الاتجاه.. ومما زاد الأمر خطورة أن نظام «التأمين» علي السفن وعلي الأفراد لم يكن معروفًا، ولا يلجأ إليه أهل عزبة البرج.. كانت أقرب البلاد التي تذهب إليها هذه السفن هي موانئ الشام، حيفا ويافا وغزة وصيدا وبيروت واللاذقية، ثم موانئ قبرص »اللماسون« والمقصود هو »الليماسول« و»المغوصة« أي «فاماجوستا» ثم تركيا وخاصة مرسين وأزمير.
كنا نذهب للمسجد لصلاة الجمعة وفي المناسبات، خاصة في احتفالات مولد النبي - الذي كنا نحتفل به لاثنتي عشرة ليلة، وكان خالي حمدي الذي درس في الأزهر يجلس فيما بين صلاة المغرب وصلاة العشاء علي كنبة صغيرة ذات مسندين ويلتف حوله علي أرض المسجد أهل البلد ويحكي في كل ليلة من هذه الليالي قصصًا عن الرسول -، وفي الليلة الثانية عشرة كانت تختتم الاحتفالات بأن يقوم أبي بتوزيع الحلوي علي المصلين... ثم نخرج جميعًا في »سيارة« أي في قافلة تسير في الشارع الرئيسي نتلو الأذكار علي أنغام الطبول، أما في رمضان فكنا نذهب في كل ليلة لصلاة العشاء ثم نصلي التراويح.
أما المنزل فكان رحبًا وإلي جانب غرف النوم كانت هناك غرفة الطعام في الصالة الكبري، وكان موعد الغداء ثابتًا وهو الثانية بعد الظهر، أما الغرفة الأخري التي كنا نجتمع فيها فكانت هي غرفة »الجلوس« وهو ما يماثل الآن غرفة »المعيشة« »Living room« وكانت كلها مكونة من أرائك »إستانبولي«... أي كنبات عالية عليها وسائد ومساند، ومن أمتع الأمسيات في هذه الغرفة كانت تلك التي يحضر فيها أبي ولا يذهب للعب »الدومينو« في المقهي ونجلس معه، ورغم أنه لم يكن كثير الحديث إلا أنه من حين لآخر كان يحكي لنا طرفًا من رحلاته في بلاد الشام وتركيا، وكذلك بعض الحواديت ولكنه لم يكن يحكي لنا كثيرًا مما يقوله الشاعر الذي كان يأتي إلي البلد ويجلس علي كنبة مرتفعة في المقهي ويحكي قصص أبوزيد الهلالي سلامة والزناتي خليفة، ولكنني كنت أستمع إلي هذه القصص من أصدقائي البحارة الذين يكبرونني في السن ويحضرون اللقاءات مع الشاعر »أبو ربابة«.

وفي أمسيات الشتاء الباردة كنا نجلس علي الأرض حول »المنقد« الذي يحتوي جمرًا من الفحم، وكان أبي يلقي حبات أبو فروة في الموقد ونقوم نحن بالتقاطها، وتلك كانت أكثر المناسبات التي كان يحكي لنا فيها الحواديت والقصص، وكان لدينا جهاز راديو كبير يعمل بالبطاريات من نوع البطاريات التي تستخدم في السيارات، وكانت البطاريات تشحن في دمياط... وفي الراديو كنت أستمع إلي أحاديث الشيخ شلتوت والشيخ عبد الوهاب خلاف، والدكتور طه حسين، وفكري أباظة...وغيرهم. وكانت هذه الأحاديث مما تفتحت عليه مداركي الأولي.
كانت أيام الشتاء دائمًا أيامًا باردة تسقط فيها
أمطار غزيرة... ولم تعد الأمطار الآن تسقط بنفس الغزارة وذلك نتيجة للتغيرات المناخية التي طرأت علي العالم منذ منتصف القرن العشرين.
أما المكان الآخر الذي تدور فيه الحياة العملية والتجارية فهو مخزن السردين »علي البحر« وموسمه يأتي مباشرة مع فيضان النيل في أغسطس وسبتمبر، حينما تكون مياه الفيضان داكنة اللون تصب في البحر بكميات هائلة وتجتذب قوافل السردين من كل أنحاء البحر الأبيض، والتي كانت تأتي في «جزر عائمة» للغذاء من هذه المياه الغنية بالخيرات فتخرج المراكب من عزبة البرج لحصدها في الشباك وتعود محملة بالسردين الذي كان يتم وزنه بالميزان »القباني« ذي »الرمانة«، ثم تجري تعبئته بعد ذلك في براميل خشبية وسط كميات كبيرة من الملح الخشن، ثم توضع قطعة من القماش وتثبت علي فوهة البرميل... وبذلك يتم حفظ السردين لمدد طويلة تصل إلي عام وأكثر، ويجري تصديره إلي تجار من كافة أنحاء القطر، وكثيرًا ما كانت البراميل تنفد فلا يكون أمامنا من سبيل إلا وضع السردين في أكوام خارج المخزن، ثم يتم استدعاء سيارات نقل كبري ويقذف السردين وسط ألواح من الثلج ويرسل إلي الإسكندرية ليباع في سوق السمك هناك، وكنا دائمًا نقول إن أهل الإسكندرية يستوعبون أية كمية وأية أنواع تأتي من البحر، وكانت هناك أنواع مثل سلحفاة البحر »الترسة« لا نأكلها نحن فترسل إلي الإسكندرية حيث يتلقفها الناس هناك. وفي أيام موسم السردين كانت البلدة لا تنام بل تعمل ليل نهار.. وفي المساء كانت المخازن تضاء بالكلوبات التي تعمل بالكيروسين حيث لم تكن بلدتنا قد عرفت الكهرباء.
كان أبي قد تزوج مع بدء حياته العملية وأنجبت له زوجته ولدين وبنتين ثم توفيت وكان هناك تاجر أقمشة أو ما كان يسمي آنذاك تاجر »مني فاتورة« قادم من الإسكندرية وكانت له ابنة تربت في الإسكندرية، وبعد وفاة أمها وزواج أبيها من امرأة أخري ذهبت هذه الابنة لتعيش مع جدها لأمها في دمياط وكان قاضيًا شرعيًّا، وقد سمع أبي عن هذه الفتاة وعن أنها ذات خلق قويم، فضلا عن جمالها، فتقدم إلي أبيها القادم الجديد إلي عزبة البرج لخطبتها، فوافق الأب وكان مما أغراه علي الموافقة أن أبي كان قد أصبح ذا عزوة كبيرة في البلد فضلا عما اشتهر به من حسن الخلق.
جاءت أمي من عالم المدينة (الإسكندرية) التي شبت فيها ودمياط التي عاشت فيها لسنوات مع جدها، وذهبت إلي مدارسها - وكان عمرها سبعة عشر عامًا- جاءت إلي عالم آخر هو عالم عزبة البرج، أي عالم البحر، الذي ينتمي إليه زوجها.
كان هذا العالم غريبًا عليها، ففي عزبة البرج لا توجد مياه جارية في الأنابيب بل تأتي المياه إلينا في كل يوم مع السقا لتوضع في خزان بأعلي المنزل وفي الأزيار والقلل ولا توجد كهرباء للإضاءة... ولا توجد شوارع معبدة... فما الذي يجمع بين هذه الفتاة الجميلة ابنة المدينة وبين هذا الرجل الذي عرف حياة البحر ولم ينشأ في المدينة.. ورغم ما حققه من نجاح فإن طباعه ما زالت هي طباع البحر وليست طباع أهل المدينة؟... إلا أن هذه الفتاة سرعان ما طورت حياة زوجها والبيت... حيث تم فرض نظام صارم للبيت في المأكل والملبس... ثم استطاع الزوج أن يأسر قلب الزوجة بمعاملته الطيبة وحسن معاشرته...فأحبته... ولكنها ظلت طوال حياتها تتوجس من هذا العالم الجديد الغريب عليها... عالم عزبة البرج والبحر، ورغم أن أهل زوجها أحبوها فإنهم كانوا يشعرون دائمًا أنها قادمة من عالم آخر فكان اختلاطها بهم أقل من اختلاطها مع زوجات طبيب القرية وقموندان السواحل ومأمور الفنار... ومع زوجة أخيها؛ الشقيق الوحيد الذي جاء إلي عزبة البرج من الإسكندرية بعد أن أقنعه أبي بأن يعمل معه في التجارة فسرعان ما أصبح ساعده الأيمن.
وجدت هذه الفتاة نفسها مسئولة عن تربية أربعة أبناء هم أولاد الزوجة المتوفاة ثم بدأت هي بدورها في الإنجاب، ولكن دائمًا ما يكون المولود أنثي في الوقت الذي تلد فيه زوجة عمي ولدًا... وهكذا كل عامين تضع أمي بنتًا وتضع زوجة عمي ولدًا... ولكن أبي كان دائمًا يقول لها إن »خلف البنات يجلب الرزق«... إلي أن رزقها الله بولد بعد أربع بنات، وبطبيعة الحال تقرر أن يسمي الولد علي اسم أبيه وهو أيضًا اسم سيدي »السيد البدوي« شيخ المسجد البدوي في طنطا عاصمة الدلتا... وزف أبي هذا الخبر إلي الشيخ فرغلي الريدي شيخ المعهد الديني بدمياط، الذي ينتمي إلي عائلة الريدي الأصلية في الصعيد، والتي كان جدي الأكبر قد غادرها وأتي إلي عزبة البرج لأسباب اختلفت الآراء في روايتها، فاقترح الشيخ فرغلي علي أبي أن يقترن اسم الوليد الجديد باسم آخر إلي جانب اسم »السيد« كأن يكون مثلا »السيد عبد الرءوف«... وأحمد الله أن الشيخ فرغلي اقترح ذلك علي أبي حيث جاءت الثورة بعد عشرين عامًا وألغت الألقاب وأصبحت جميع الأسماء تسبقها كلمة »السيد« وأصبحت أعرف باسمي الثاني أي »عبد الرءوف«.
سرعان ما مرضت أمي بعد أن وضعت أختي الصغري، وكان مرضها في القلب وشببت لأراها مريضة لا تكاد تغادر المنزل... ورغم إشرافها الدقيق علي شئون المنزل فإن حركتها كانت محدودة وكانت تقلق عليَّ كثيرًا، وكنت كثيرًا ما أتبرم من هذا القلق الذي كان يحرمني من اللعب مع الأطفال »علي البحر« وتعلم السباحة، حيث كان يقذف بالطفل في المياه ويترك لشأنه ليتعلم السباحة وكان الأطفال يقضون الساعات الطوال في ممارسة هذه الرياضة، أما الخروج مع الصيادين في البحر العالي فكان ممنوعًا عليّ تمامًا، ولكنني مع ذلك استمتعت بالبحر حيث كان علي الشاطئ الآخر من عزبة البرج مصيف رأس البر وكان في أزهي أيامه وكنت أذهب إليه بصحبة أخي الأكبر محمد للاستحمام وفي بعض الأحيان أذهب مع أبي وهناك في البحر »المالح« تعلمت السباحة بنفسي.
كان إصرار أمي علي أن أتلقي التعليم الحديث هو الذي دفع أبي لكي يرسلني إلي مدرسة دمياط الابتدائية وكان الدخول للمدرسة بامتحان فلا يلتحق بالمدرسة إلا من ينجح في الامتحان.

ومن أجل تهيئتي لدخول امتحان المدرسة الابتدائية تم ترتيب دروس لي بواسطة الشيخ زكريا فودة الذي كان يقوم بتدريس اللغة العربية في المدرسة الإلزامية فوق أنه كان إمامًا وخطيبًا لمسجد »البحر« وهو مسجد كبير تابع لوزارة الأوقاف... وقد نشأت بيني وبين الشيخ زكريا صداقة استمرت حتي وفاته في الثمانينيات وكان عمره آنذاك حوالي تسعين عامًا، وبفضل دروس الشيخ زكريا اجتزت امتحان القبول في مدرسة دمياط الابتدائية وكنت في الثامنة من عمري.
كان الانتقال من تلك الحياة السهلة التي تحوطني فيها عناية الأسرة في المنزل إلي المدرسة في دمياط نقلة نوعية؛ فمبني المدرسة يضم كلا من مدرسة دمياط الابتدائية ومدرستها الثانوية، ولم أكن أعرف أحدًا في المدرسة وكان من بين طلبة الابتدائية من يتمتعون بضخامة الجسم... وكان أحدهم في فترة الفسحة يمر علي الطلبة الصغار وينتزع طرابيشهم ثم يضعها الواحد داخل
الآخر ويقذف بها جميعًا إلي أعلي فتتناثر، وتسقط علي الأرض في فناء المدرسة، وعلي كل منا أن يجري للبحث عن طربوشه، كنت تائهًا وسط هذا الجو الجديد الذي لم آلفه من قبل في عالم عزبة البرج الوديع.
شيئًا فشيئًا بدأت أتعود علي المدرسة وبدأت عيني تتفتح علي هذا العالم الجديد... بما فيه من أنشطة رياضية وثقافية... وقد اختارني الأستاذ طاهر أبو فاشا أستاذ اللغة العربية والشاعر المعروف لأكون في فريق التمثيل الذي كان يشرف عليه وقدمنا في المهرجان الرياضي الثقافي السنوي مسرحية بعنوان »أبو القاسم الإسكافي«... وكنا في بعض الأحيان نحضر بروفات فريق التمثيل للمدرسة الثانوية... وكان من بين نجوم هذا الفريق الأستاذ سعد أردش رحمه الله.. أما طاهر أبو فاشا نفسه فسرعان ما اكتشفه وزير الأوقاف إبراهيم دسوقي أباظة باشا أثناء رحلة له في رأس البر لقضاء الصيف، وكان أباظة باشا مولعًا بالشعر واكتشاف المواهب الشعرية الجديدة فنقل الأستاذ »طاهر أبو فاشا« إلي القاهرة حيث عمل في مكتب »الوزير« في القاهرة وتألق طاهر أبو فاشا كشاعر كبير وكان مسلسل »ألف ليلة وليلة« من إبداعاته الشعرية ومن أعظم ما قدمته الإذاعة المصرية في تاريخها الطويل.
كانت مصاريف المدرسة سبعة جنيهات سنويًّا... وعلينا أن نرتدي زيًّا موحدًا، بنطلون قصير رمادي و»جاكت كحلي« بلا ياقات مقلوبة وقميصًا أبيض وهناك دائمًا تفتيش علي النظافة الشخصية وكانت تقدم لنا وجبة غداء في مطعم المدرسة الذي كان يسمي «اليماخانة» وهناك ضابط المدرسة والمدرسون يشرحون لمن لا يعرف كيف يستخدم أدوات الأكل الحديثة ... ولم أكن أحب أكل المدرسة، فالوجبة الرئيسية كانت تنتظرني عندما
أعود إلي المنزل وهي مكونة في الغالب من سمك مشوي وأرز وسلطة، والبط والسمان في موسم صيد الطيور المهاجرة التي تشتهر بها المنطقة مثل السمان الذي يجري اصطياده علي ساحل البحر في الخريف والبط الطائر بأنواعه المختلفة القادم من أجواء وشتاء أوروبا البارد إلي شواطئنا الدافئة ويجري اصطياده علي سواحل بحيرة المنزلة الواقعة شرق عزبة البرج.
لم يكن الطريق بين عزبة البرج ودمياط معبّدًا بل ترابيًّا والمسافة حوالي أربعة عشر كيلومترًا، وكان الطريق معرّضًا للانقطاع من حين لآخر في فصل الشتاء عندما تسقط الأمطار، فكنا نذهب للمدرسة إما مشيًا علي الأقدام وإما في السفن الشراعية، وفي هذه الحالة كنت أضطر للمبيت في دمياط، وكان لأبي صديق يمتلك «دهبية» في دمياط لها طاقم بحارة من الصعيد فكنت أبيت بها، وكان هؤلاء يتحدثون في المساء عن أهل الصعيد وعاداتهم وعن العالم السفلي أي عالم الجن وكانت لهم أغانٍ ومواويل تفيض بالحنين إلي بلاد الصعيد.
كنت أنتظر فصل الصيف بفارغ الصبر، وعندما يأتي يصبح مصيف رأس البر هو نقطة الجذب الرئيسية في حياتي، وذلك إلي جانب مساعدة أبي في عمله في »المحل«... وكان وصول المصطافين إلي رأس البر يتم في هذه الأيام عن طريق عزبة البرج إذ كانت دمياط هي المحطة الأخيرة للقطارات القادمة من القاهرة... وكان علي المصطافين القادمين بالقطار أن يستأجروا سيارات من المحطة تأخذهم إلي عزبة البرج حيث تنتظرهم المراكب التي تعبر بهم نهر النيل إلي رأس البر علي الضفة المقابلة، وكان بعضهم يأخذ قاربًا بخاريًّا نسميه «اللنش» يركبونه من أمام محطة السكة الحديد في دمياط إلي رأس البر، أما
القادمون بسياراتهم فكانوا يتركونها في جراجات بعزبة البرج ثم يعبرون النيل بالمراكب إلي رأس البر.
تفتحت عيناي علي رأس البر وهي في أزهي عصورها، وكانت هذه هي فترة الحرب العالمية الثانية (1939-1945) التي شهدت محاولات دول المحور غزو مصر عن طريق الغرب، والتي كانت ذروتها حملة »روميل« عندما وصل عام 1942 إلي منطقة العلمين أي علي بعد حوالي ستين كيلو مترًا غرب الإسكندرية. في هذه الفترة أصبحت الإسكندرية هدفًا للغارات الجوية من سلاح الجو الألماني ... كل ذلك جعل الأرستقراطية المصرية تتجه إلي رأس البر.
كانت رأس البر في هذه الحقبة مدينة كاملة تنشأ في فصل الصيف ويتم تفكيكها بعد الصيف وكانت الوحدة السكنية - وما زالت حتي الآن - تسمي »عشة« وهي وباقي المنشآت من فنادق إلي مصالح حكومية يعاد تركيبها في أوائل الصيف، وكانت ذروة المصيف هي تلك الفترة التي تبدأ في أواخر يونيو حيث تنتهي الامتحانات حتي أواخر أغسطس حين تصل مياه الفيضان المحملة بالطمي والتي تحيل لون البحر إلي لون بني، فيصبح الاستحمام في البحر غير مرغوب فيه.
كانت العشش تبني من قوائم وألواح خشبية أما الجدران فهي من البوص ويتم ربط هذه الجدران مع السقف بواسطة حبال مكونة من »جريد« مجدول من فروع النخيل الذي ينتشر بكثافة قبالة دمياط في منطقة »السنانية« وكانت الفراندة هي أهم جزء في العشة فهي مكان تجمع الأسرة واستقبال الضيوف. وفي أواخر الصيف يتم تخزين هذه العشش في مخازن كبيرة تقع علي شاطئ نهر النيل في منطقة »الجربي« جنوب المصيف... وبعد تفكيكها كانت رأس البر تصبح أرضًا خالية منبسطة تفيض عليها مياه البحر فتغسلها حتي إذا جاء الصيف أصبحت جافة وصالحة لإقامة العشش، لم تكن هناك شوارع معبدة فكانت الكثبان الرملية منتشرة في طول وعرض المصيف... وهي الكثبان التي لم أر لها شبيهًا إلا في منطقة كارولينا الشمالية بالولايات المتحدة، وكان تخطيط رأس البر تخطيطًا رائعًا وما زال قائمًا حتي بعد تحول »العشش« إلي مبانٍ وكانت بدائية المصيف في رأس البر أهم أسباب الإقبال عليه، كان المصطافون يشعرون هناك بحرية لا يعرفونها في الإسكندرية وكنت تري الكثير من الشخصيات الكبيرة في المجتمع القاهري يتحركون أثناء النهار بالجلابيب البيضاء.
يبدأ نشاط المصطافين في رأس البر من الصباح المبكر علي شاطئ البحر حيث تصطف المظلات والخيام ويبدأ الاستحمام في البحر وباستثناء ساعة الصباح المبكر المخصصة للرجال فقط وساعة أخري بعدها للنساء فقط والتي كان عساكر الهجانة السودانيون راكبو الجمال يحرسونها، كان البلاج يعج بعد ذلك بالمصطافين من الجنسين؛ رجالا ونساءً، الذين يرتدون لباس البحر ويتمشون علي الشاطئ ثم تهدأ رأس البر في فترة الغداء والقيلولة لتنشط بعد ذلك مع الغسق حيث تكون التمشية في شارع النيل الذي تصطف فيه الكازينوهات وهي علي أرقي مستوي، ولم أر لها مثيلا في أناقتها إلا في ثغور البحر الأبيض المتوسط في أوروبا والتي كانت أصلًا مستوحاة منها... وكنت إذا سرت في شارع النيل تري مراكب النزهة تملأ النهر وقد استأجرتها جماعات المصطافين للتنزه في نهر النيل وبعد النزهة في النيل والتمشية في شارع النيل كان النشاط ينتقل إلي السوق البلدي حيث المقاهي التي تقدم الفطير الدمياطي المشهور.
وكانت النزهة في النيل من بين أمتع ما يقوم به المصطافون، وكانت المصطافات يرتدين أحدث الأزياء، ويصبح شارع النيل بقعة فريدة في الأناقة والجمال وكان المصطافون اليهود يتوافدون علي رأس البر بأعداد كبيرة، وكانوا يعشقون النزهة في النيل، ويتجمعون في قوارب النزهة وينشدون الأغاني، وتري النهر وقد امتلأ بهذه الأشرعة البيضاء فيما يشبه الكرنفال اليومي، أما الأكثرية فيكتفون بالتمشية في شارع النيل غدوًّا ورواحًا وكانت النقطة النهائية هي »اللسان« حيث يلتقي النهر بالبحر في »المصب«. أما ساعة الغروب فالكثيرون يذهبون إلي شاطئ البحر ليشاهدوا سقوط قرص الشمس في مياه البحر. وكنت تري في رأس البر أكبر الشخصيات المصرية؛ مصطفي النحاس وفؤاد سراج الدين ودسوقي أباظة وأم كلثوم ومحمد التابعي وغيرهم من الشخصيات المعروفة.
بدأنا أيضًا في هذه الفترة وبسبب الحرب نشاهد الجنود الإنجليز في المنطقة وذلك بسبب الموقع الاستراتيجي للمنطقة وقربها من بورسعيد علي مدخل قناة السويس وعلي مصب نهر النيل فرع «دمياط»، وبسبب هذا الموقع أقام الإنجليز معسكرًا للرادار علي البحر الأبيض شمال عزبة البرج.
وفي عام 1941 قرر أحد أهالي بورسعيد أن يبني فندقًا حديثًا في عزبة البرج لخدمة الجنود الإنجليز وأسماه »كريستال بالاس« وكان هذا الفندق شيئًا فاخرًا جدًّا لم نألفه من قبل، وأغرب ما كنا نشاهده في هذا الفندق هو وجود صالة للرقص حيث كانت توجد فرقة موسيقية تعزف ألحانًا غربية لم تكن مألوفة لنا وعلي هذه الأنغام كان الجنود الإنجليز يرقصون مع نساء أجنبيات قادمات من بورسعيد في الأغلب، ولم نكن قد رأينا مثل هذا المشهد من قبل... وأصبح هذا الفندق حدثًا في المنطقة، وكان له مرسي علي النيل حيث يأتي المصطافون من رأس البر بالمراكب.. ويقضون السهرة هناك ثم يعودون...
وفي عام 1942 حدث أن حضرت الملكة نازلي أم الملك فاروق وبناتها شقيقات الملك وأقمن بهذا الفندق وتقرر أن يقام لهن شاطئ خاص علي أول الطريق الساحلي ما بين عزبة البرج وبورسعيد أمام الفنار... وكنا عندما نذهب إلي بورسعيد نري رجال الهجانة وقد أحاطوا هذا الشاطئ الخاص بعلامات من الحبال التي يحظر علي أي شخص اجتيازها وذلك لتوفير الخصوصية للملكة والأميرات...
والواقع أن الحرب العالمية الثانية كانت مصدر خير عميم لأهل عزبة البرج... ذلك أن تقدم «روميل» علي جبهة الصحراء الغربية جعل الحلفاء يركزون دفاعاتهم وقواعدهم في شرق البحر الأبيض وخاصة منطقة قناة السويس وفلسطين وقبرص... ولأهمية النقل بين موانئ هذه المنطقة أصبح الطلب كبيرًا علي السفن الشراعية من عزبة البرج... أدي ذلك كله إلي رواج عمل هذه السفن وبالتالي تضاعفت أجور الشحن وراجت أحوال البحارة وجرت أوراق البنكنوت فئة المائة جنيه بين أيديهم، وكانت ورقة المائة جنيه ورقة كبيرة تكاد تكون في حجم ورقة فلوسكاب.
كان اليهود المصريون هم الأكثر ترددًا علي رأس البر وكانوا يأتون في بداية المصيف ومع مقدمهم كنا نعتبر أن المصيف قد بدأ ويغادرون قبيل الفيضان مباشرة وكان رحيلهم إيذانًا بانتهاء موسم الصيف.
وأثناء عملي في واشنطن وقبلها في نيويورك التقيت في مناسبات كثيرة بمصريين يهود من بين الذين تركوا مصر بعد حربي 48 و56 وكانوا
يتحدثون عن ذكرياتهم الجميلة في رأس البر في حنين، والواقع أن الصداقات مع اليهود في رأس البر كانت أمرًا عاديًّا ومألوفًا حتي بدأ الحال يتغير مع الحروب المتعاقبة بين مصر وإسرائيل ورحيل اليهود.
في سنوات الحرب العالمية هذه كنت أسمع مناقشات تدور بين الكبار وكنت أسمع من يتمني انتصار الحلفاء في الحرب وآخرين يتمنون انتصار المحور علي إنجلترا التي كانت قواتها تحتل مصر، إلا أن أبي كان من بين الفريق الذي يؤيد انتصار الحلفاء حيث كانت في ذاكرته دائمًا تلك الفظائع التي ارتكبها الإيطاليون ضد أهل ليبيا أثناء الغزو الإيطالي لليبيا في مطلع القرن.
وفي آخر عام من أعوام الحرب أي عام 1945 قبضت السلطات المصرية علي شخص أجنبي كان يدَّعي أنه من »مالطا« وقد أقام صالة للتزحلق (الباتيناج) في رأس البر لاقت نجاحًا كبيرًا، وظل هناك طوال أعوام الحرب ثم تبين أنه كان جاسوسًا لألمانيا وكان يخرج إلي البحر كثيرًا بحجة الصيد علي مقربة من المعسكر البريطاني الذي يوجد به جهاز »الرادار«.
كان أبي »وفديًّا« وكانت عزبة البرج عن بكرة أبيها »وفدية« شأنها في ذلك شأن أغلب مدن وقري مصر آنذاك، أما مدينة دمياط فكانت تشايع حزب الأحرار الدستوريين وهو حزب أقلية وذلك لكون حامد العلايلي وكيل حزب الأحرار الدستوريين من دمياط، وكان دائمًا ما يفوز في الانتخابات عن دمياط في الوقت الذي اعتاد أن يفوز فيه مرشح الوفد »محمود الجمال« في الدائرة التي تقع فيها عزبة البرج، وبعد مجيء حزب الوفد للحكم عام 1942 أعلن الدكتور عبد الواحد الوكيل وزير الصحة أن وزارة الصحة ستكون مستعدة لبناء مجموعة صحية (مستشفي صغير) في أية قرية تقدم قطعة أرض صالحة للبناء عليها بالإضافة إلي تقديم مبلغ نقدي قدره ألف جنيه. وقد قرر أبي أن تلك فرصة سانحة لإقامة مستشفي بعزبة البرج فتبرع بثلث المبلغ ثم جمع بقية الألف جنيه من أصدقائه.
ذهبت مع أبي ومعه وفد من عزبة البرج للقاهرة وقابلنا علي توفيق باشا شوشة وكيل وزارة الصحة وقدم له أبي شيكًا بالألف جنيه. ووافق شوشة باشا علي إنشاء مجموعة صحية بعزبة البرج وتقرر إنشاؤها علي أرض مملوكة لوزارة الصحة كانت تستخدم للحجر الصحي... وقد تطور هذا المستشفي وأصبح مستشفي كبيرًا وحديثًا يخدم
المنطقة.
وبعد ذلك بحوالي ربع قرن وبينما أشارك لأول مرة في عضوية الوفد المصري في اجتماعات منظمة الصحة العالمية بجنيف وجدت أن المنظمة تقدم كل عام جائزة باسم المرحوم شوشة باشا الذي عمل بعد تركه وزارة الصحة مديرًا للمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لشرق البحر المتوسط في الإسكندرية وقام بدور مشهود في مقاومة وباء الكوليرا الذي هدد المنطقة عام 1948.
إن جيلي الذي عاش في منطقة عزبة البرج ورأس البر في الثلاثينيات والأربعينيات وشاهد السفن التي كانت تدخل وتخرج من البوغاز (أي بوغاز دمياط) إنما شهد في الواقع العهد الأخير من صورة نادرة لعصر فات وانقضي؛ فرغم الاحتلال البريطاني الذي وقع عام 1882 بقيت مصر من الناحية القانونية جزءًا من الإمبراطورية العثمانية التي تفككت في أواخر الحرب العالمية الأولي وأعلن استقلال مصر في تصريح 28 فبراير 1922 في أعقاب ثورة 1919.. لقد شهدنا لمحة من عصر كان ميناء دمياط فيه واحدًا من أهم موانئ الإمبراطورية العثمانية في شرق البحر الأبيض، وكان شرق البحر المتوسط بحيرة عثمانية أو بحيرة تركية، لذلك كان الكثيرون في عزبة البرج يتحدثون التركية ويشيرون إلي تركيا باسم »الأناضول« بالمقارنة بما يحدث اليوم حيث يتحدث الكثيرون من أهل عزبة البرج اليونانية بعد أن أصبحوا يعملون في البواخر اليونانية بأعداد كبيرة.

لم أكن طالبًا متميزًا أثناء دراستي الابتدائية، كما لم يكن لي نشاط رياضي أو فني باستثناء مشاركتي في السنة الأولي في فريق التمثيل، ولكنني بدأت أتعلق بالعمل مع أبي في المحل، وعندما انتهيت من الدراسة الابتدائية كنت أمني نفسي بألا أذهب إلي المدرسة الثانوية، بل أظل في البلد وأتابع الأعمال التجارية الخاصة بأبي، إلا أنه بناء علي إصرار أمي ذهبت إلي المدرسة الثانوية ومن أجل ضمان النجاح تم الاتفاق مع بعض المدرسين لإعطائي دروسًا خصوصية بعد الخروج من المدرسة يوميًّا، وكان ذلك يعني أن أبقي في دمياط حتي المساء ولم أحب هذه الدروس أبدًا وفي بعض الأحيان لم أكن أذهب إليها وبدلًا عنها أقضي الوقت في دمياط مع الأصدقاء، بل تفاقم الأمر ففي كثير من الأحيان كنت »أزوغ« من المدرسة نفسها وكانت النتيجة أنني في عامين متتاليين لم أنجح في الانتقال من السنة الأولي إلي السنة الثانية وهو ما أدي إلي أن أفصل من المدرسة، ولقد رحبت بذلك في قرارة نفسي واستسلم أبي للأمر وبدأ يتحدث معي عن العمل معه في المحل، إلا أن أمي لم تستسلم وأصرت علي أن أحاول مرة أخري في الدراسة... فانتهزت فرصة سفر أبي إلي الإسكندرية وبعد أن حدد لي بعض المهام التي أقوم بها في المحل أثناء سفره، طلبت أمي من خالي أن يعمل علي إعطائي فرصة أخري للدراسة فاصطحبني إلي دمياط وذهبنا مع أحد أصدقائه إلي المدرسة وقابلنا الأستاذ سعد زاهر مدرس أول اللغة الفرنسية الذي تحدث مع ناظر المدرسة الذي وافق علي الفور علي عودتي للمدرسة، وعندما عاد أبي من الإسكندرية سألني بمجرد وصوله عن أخبار المحل فأخبرته بما حدث وأنني عدت مرة أخري إلي المدرسة... فأبدي فرحته وأخبرني بأنه من الآن فصاعدًا سأكون مسئولا عن شئوني، سآخذ مصروفًا شهريًّا بدلا من مصروف يومي ولن يطلب إليَّ أبدًا أن أذهب إلي مدرسين خصوصيين إلا إذا أردت أنا ذلك بل إنه لن يسألني عما إذا كنت قد ذهبت إلي المدرسة أم لا...وكان ذلك عام 1946 وكان شيء ما قد بدأ
يشدني إلي المدرسة عندما وجدت الطلبة مجتمعين في الفناء يتحدثون ويتصايحون فسألت عما يجري فعلمت أن الطلبة الكبار قرروا أن يكون اليوم يوم إضراب عن الدراسة، وذلك تضامنًا مع زملائنا في القاهرة احتجاجًا علي سياسة إنجلترا التي ترفض الجلاء عن مصر، وسرعان ما انقلب الإضراب إلي مظاهرة داخل المدرسة وبدأت الهتافات تعلو مطالبة بالجلاء والاستقلال التام والتنديد بالإنجليز وبالاستعمار.
مضي أغلب عام 1946 في مظاهرات وإضرابات واضطربت الدراسة وكلما كانت تحدث مظاهرة في القاهرة، كان عبد القادر خليل - الذي ظهر كزعيم للمدرسة - يدعو إلي الإضراب في مدرسة دمياط، وكنت أذهب مع بعض الزملاء إلي مقهي »العزوني« علي أطراف دمياط، وكان مقهي داخل حديقة تقع علي الترعة الشرقاوية... ونجلس هناك ونتبادل الأحاديث حول حالة مصر والوطن... ثم يذهب كل منا إلي حال سبيله، ولكنني بدأت أشتري الصحف والمجلات وخاصة جريدة «المصري» اليومية الوفدية ومجلة «الاثنين» التي تصدر عن دار الهلال و»المصور«، حيث كنت أقرأ كتابات فكري أباظة... أما في »المصري« فكنت أقرأ الصفحة الأدبية وتعرفت فيها علي كتابها سعد مكاوي وعبد الرحمن الخميسي، و»الصاغ« ثروت عكاشة وبطبيعة الحال أحمد أبو الفتح وبدأت أستمع إلي الراديو وأحاديث طه حسين، ثم بدأت أقرأ روايات الجيب وأغلبها كانت روايات بوليسية، وبدأت تتكون لي صداقات يجمعنا فيها حب الأدب... وبدأت آنس في نفسي القدرة علي الكتابة وارتفع مستواي فجأة في كتابة موضوعات الإنشاء، ومنذ هذا العام الذي تفتحت فيه اهتماماتي السياسية والأدبية بدأت أحب المدرسة وأصبح الذهاب إليها متعة أسعي إليها... ونجحت في كل سنوات الدراسة الثانوية بعد ذلك وكان ترتيبي في السنة النهائية الأول علي المدرسة وحصلت علي المجانية طوال دراستي الجامعية.
وبخروج الوفد من الحكم عام 1944 وتولي أحزاب الأقلية أصبح الوفد يمثل المعارضة الشعبية وكان الوفد يصدر من حين لآخر بيانًا إلي الأمة ينتقد فيه الأوضاع، ويطالب بإجراء انتخابات حرة، وظهرت صحيفة وفدية أخري إلي جانب »المصري« وهي جريدة »الوفد المصري« التي كان يحررها مجموعة من الشبان تجمعهم مشاعر الوطنية ونزعة يسارية وحب الأدب والكتابة وكان من بين هؤلاء محمد مندور وعزيز فهمي وكانا يكتبان بانتظام في جريدة »الوفد المصري« وبدأ إعجابي بهما...
وكنت أجلس في المحل أقرأ علي أبي وصحبه البيانات التي تصدر عن حزب الوفد وكانت هذه البيانات تكتب بلغة تثير الحماسة، وتؤجج المشاعر الوطنية وكان من بين الأحداث الخطيرة التي حدثت في هذه الفترة عندما فتحت الشرطة كوبري عباس بالقاهرة أثناء سير طلبة الجامعة في مظاهرة ضخمة في فبراير 1946، مما تسبب في مقتل وجرح عدد منهم وقد أصبح هذا اليوم هو يوم عيد الطلبة العالمي وكانت هذه الحادثة سببًا في تفاقم حالة الغليان في البلاد، وتشكلت علي أثرها اللجنة الوطنية للطلبة والعمال... ولم يكن السخط علي الحكومة قادمًا فقط من جانب حزب الوفد... ولكن كانت هناك الحركات الحزبية الجديدة التي بدأت تظهر في الحياة السياسية في مصر مثل الشيوعيين والإخوان المسلمين... كما بدأت أسمع عن »مصر الفتاة« وزعيمها أحمد حسين.

ووسط أجواء المشاعر الوطنية بدأت تجري في
المدرسة مناقشات حول موضوع »الطربوش« الذي كنا نضعه علي رؤوسنا وبدأنا نتساءل عن معني هذا الطربوش وما الذي يرمز إليه... وكانت هذه المناقشات تجري في المدرسة وفي بعض الصحف وتبين لنا أن الطربوش ليس لباسًا مصريًّا بل هو من بقايا العهد العثماني أو التركي، واجتمع الطلبة الكبار في المدرسة الثانوية وقرروا الحضور للمدرسة في اليوم التالي بدون طربوش وقد فرحنا بهذا القرار وفي اليوم المحدد جاء أغلب الطلبة إلي المدرسة بدون طربوش، وكان ذلك التحرك جزءًا من حركة عامة بين طلبة الجامعة والمدارس الثانوية في القاهرة والإسكندرية، ولكن مدرسة دمياط كانت من أولي المدارس التي قاطعت الطربوش، ومنذ ذلك التاريخ بارت صناعة الطرابيش التي كانت مزدهرة في دمياط.
في هذه الفترة ومع بداية اهتمامي بالقراءة تكونت لي صداقات مع طلبة آخرين كان لديهم نفس الاهتمام، وبوجه خاص مع الصديق المرحوم عبد المنعم سليم، الذي عرفني بعد ذلك بالصديق محمود سالم، ولقد بقيت هذه الصداقة بين ثلاثتنا في كافة مراحل العمر... وكان عبد المنعم ومحمود أكثر انغماسًا مني في مجال الأدب ولم تكن السياسة تستهويهما، أما أنا فكنت أكثر انغماسًا في السياسة مع اهتمام بالأدب في درجة تالية، إلا أن صداقاتي لم تكن مقتصرة علي زملائي في المدرسة... كان لي أصدقاء من عالم البحر... وكان أهمهم المرحوم عباس الحليلي الذي كان يكبرني والذي سرعان ما أصبح قبطان مركب... وكنت ألتقي مع عباس عندما يحضر إلي البلد ليبقي بعض الوقت بين الرحلات... وعندما كنا نلتقي ونذهب إلي رأس البر إذا كان الوقت صيفًا كان عباس يحكي لي عما صادفه في رحلاته والأهوال التي خاضوها في العواصف، ويحكي لي عن جبال لبنان وجمالها...وعن موانئ فلسطين واليهود الوافدين بأعداد كبيرة إلي تل أبيب... وقد حزنت حزنًا كبيرًا عندما توفي عباس في ميناء مرسين بتركيا في منتصف الستينيات حيث مات مختنقًا في قمرته بعد أن ترك المدفأة تعمل وأخذه النعاس.
في عام 1946 بدأ رئيس الوزراء الجديد إسماعيل صدقي في مفاوضة الإنجليز وهي المفاوضات التي عرفت باسم مفاوضات صدقي-بيفن وكانت المفاوضات من أجل تحقيق الجلاء عن الأراضي المصرية ووحدة وادي النيل أي وحدة مصر والسودان... إلا أن حزب الوفد كان يهاجم
هذه المفاوضات باعتبار أن حكومة صدقي لا تمثل الشعب وبدأت الصحافة الوفدية تنشر عن تاريخ إسماعيل صدقي وترسم له صورة علي أنه الرجل الذي يحكم بيد من حديد وأنه في عام 1930 ألغي دستور 1923 كما بدأت تشكك في وطنيته وخرجت المظاهرات ضده، وفي ضوء الصورة التي رسمتها الصحافة الحزبية لإسماعيل صدقي... وعندما توصل إلي الاتفاق المعروف باسم اتفاق »صدقي- بيفن« أصبح هذا الاتفاق موضع هجوم شعبي عارم، وخرجنا في مظاهرات صاخبة تهتف بسقوط اتفاق »صدقي - بيفن«. وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية في فشل المفاوضات المصرية البريطانية آنذاك، والواقع أن الاتفاق الذي عقدته حكومة الثورة بعد ذلك بثمانية أعوام أي في عام 1954 لم يكن مختلفًا كثيرًا عن اتفاق »صدقي - بيفن«... إلا أن حكومة الثورة كان لديها القوة لفرض هذا الاتفاق وتمريره وهو ما لم يكن متاحًا لحكومة صدقي التي لم تكن لها قاعدة شعبية.
مع ارتفاع حدة الشعور الوطني ضد الاحتلال فكرت أن نفعل شيئًا في عزبة البرج نعرب فيه عن رفضنا لوجود القوات البريطانية، كان معسكر الرادار البريطاني بجوار الفنار هو الشيء الوحيد الموجود في المنطقة والذي يرمز إلي الاحتلال وتحدثت مع طالب آخر من عزبة البرج، بدأت تربطني به صداقة وهو حسنين مصطفي حسنين فاقترح عليَّ أن نأتي بكميات من الجبس والطلاء الأبيض الذي تستخدمه السفن في ذلك الوقت، ونكتب بعرض الطريق الذي تمر به سيارات اللوري المحملة بالجنود الإنجليز الشعارات الوطنية التي كنا ننادي بها آنذاك والتي كان أهمها شعار »الجلاء«، فذهبنا إلي مدرس اللغة الإنجليزية بالمدرسة وسألناه عن الكلمة الإنجليزية التي يمكن أن تترجم بها كلمة الجلاء... فأجاب بأنها كلمة Evacuation وأحضرنا »جرادل البوية« وكتبنا في عدة مواضع من الطريق بالخط الكبير Evacuation وساعدنا في ذلك أهالي عزبة البرج.
أغرانا هذا النجاح علي أن نفعل شيئًا آخر... فقررنا الدعوة إلي مظاهرة في عزبة البرج ضد قوات الاحتلال... وما كدنا نجتمع في السوق مع بعض الشباب حتي وجدنا أعدادًا كبيرة تنضم إلينا وكان علينا أن نجد مكانًا نتوجه إليه للإعراب عن مشاعرنا فقررنا أن نذهب إلي فندق كريستال بالاس الذي كان يؤمه الإنجليز... هنا ذهب مأمور نقطة عزبة البرج إلي أبي وأبلغه بما يجري وأن الموضوع يمكن أن يتطور إلي ما لا تحمد عقباه، فجاء أبي... وأمر المظاهرة بالانفضاض وتحدث معي قائلا: إن ذلك ليس هو الطريق لإخراج الإنجليز من مصر...
بعد أسابيع قليلة من بدء العام الدراسي عام 1946 وجدت الطلبة في المدرسة يتجمعون للتظاهر فسألت عن السبب فأجابني البعض أنها ذكري وعد بلفور في أول نوفمبر ولم أكن وقتها أعرف أن وعد بلفور هو الوعد الذي أعطاه وزير خارجية إنجلترا بلفور في نوفمبر 1917 إلي زعماء اليهود لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
أخذت أقرأ بعد ذلك عن قضية فلسطين خاصة أن الزعيم الفلسطيني الحاج أمين الحسيني كان قد لجأ إلي مصر كما عقد الملك فاروق اجتماعًا مع الملوك والرؤساء العرب في مزارعه بأنشاص عام 46 لبحث قضية فلسطين، وهكذا بدأت فلسطين تدخل دائرة الاهتمام الوطني لدينا وإن كان الاهتمام الأول ظل للقضية الوطنية المصرية التي قرر رئيس الوزراء النقراشي باشا عرضها علي مجلس الأمن بعد أن فشلت المفاوضات بينه وبين إنجلترا.
أخذنا نتابع جلسات مجلس الأمن من الراديو،
وقد اكتسب المندوب السوري بمجلس الأمن فارس الخوري شعبية كبيرة لمؤازرته الموقف المصري في دفاعه عن المطالب الوطنية في الجلاء ووحدة وادي النيل، ورغم أنني بحكم انتمائي العائلي كنت وفديًّا إلا أنني استهجنت قيام النحاس باشا بإرسال برقية إلي مجلس الأمن بأن النقراشي باشا لا يمثل الأمة، في نفس الوقت أعجبني أحمد حسين رئيس حزب »مصر الفتاة« لذهابه إلي نيويورك لدعم موقف رئيس الوزراء وهو يعرض القضية الوطنية فأرسلت خطابًا إلي الأستاذ أحمد حسين وهو في نيويورك أعرب فيه عن تقديري لهذه الخطوة، فرد عليَّ بخطاب جاءني علي المدرسة. وبدأت منذ ذلك الحين أقرأ جريدة »مصر الفتاة« الأسبوعية التي كان يصل منها لدمياط عدد لا يجاوز أصابع اليدين كل يوم أربعاء مع قطار الصحافة... وبدأت أقرأ في هذه المجلة عن تاريخ »مصر الفتاة« ومقالات أحمد حسين التي كانت تلهب المشاعر الوطنية، وكان برنامج »مصر الفتاة« يدعو إلي أن تصبح الدول العربية بمثابة دولة عربية فيدرالية واحدة علي غرار الولايات المتحدة الأمريكية.
بدأنا أيضًا نسمع عن حركة جديدة في مصر هي الحركة الشيوعية فكان بعض الطلبة الكبار في السنة الخامسة الثانوية ينتمون أو يتعاطفون مع الشيوعية، وكان الشيوعيون المصريون يصدرون مجلة اسمها »الملايين« فبدأت أشتري هذه المجلة، ووجدت المجلة تشن حربًا شعواء ضد الإنجليز وضد الرأسمالية... ولكنني لاحظت في نفس الوقت أن المجلة لا تهاجم الصهيونية وبدأت أري المجلة تسعي لتجميع التوقيعات لإنقاذ روزنبرج الذي كان متهمًا في أمريكا بالتجسس لصالح الاتحاد السوفييتي، وأحسست بأن هناك شيئًا غير مصري في هذه الحركة.
في نفس الوقت بدأت حركة الإخوان المسلمين في تكوين فروع لها وكان الفرع يسمي »شعبة«، وتكونت شعبة للإخوان في عزبة البرج التي كانت معروفة بأنها وفدية مائة في المائة، والواقع أنني لم أشعر أبدًا بتعاطف مع حركة الإخوان، وبقيت عواطفي موزعة بين حزب الوفد وحزب مصر الفتاة.
أما بالنسبة لفلسطين فقد بدأنا نقرأ عن لقاءات أمين عام جامعة الدول العربية آنذاك عبد الرحمن عزام باشا مع الحاج أمين الحسيني للاتفاق حول ما يجب عمله لإنقاذ فلسطين وفي نفس الوقت قرأنا عن النشاط الذي تقوم به الوكالة اليهودية لإحضار المزيد من المهاجرين اليهود إلي فلسطين وفجأة قرأنا عن أن إنجلترا قررت الانسحاب من فلسطين وإحالة القضية إلي الجمعية العامة للأمم المتحدة التي بدأت تناقش فكرة تقسيم فلسطين إلي دولة يهودية وأخري عربية وكان موقف العرب هو رفض فكرة التقسيم وأن تكون فلسطين كلها دولة مستقلة موحدة يترك الحكم فيها لحكومة منتخبة انتخابًا مباشرًا من سكانها العرب واليهود، إلا أن أغلبية الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت تؤيد فكرة التقسيم، وبالفعل صدر قرار الجمعية العامة الاستثنائية التي انعقدت بقصر شايو في باريس في نوفمبر 1947 بتقسيم فلسطين وتحديد المناطق التي يتكون منها كل من الدولتين العربية واليهودية، وكان أكبر المدافعين عن الموقف العربي في الجمعية العامة للأمم المتحدة هو سير ظفر الله خان مندوب باكستان في المنظمة الدولية المتحدة آنذاك، الذي سأتحدث عنه فيما بعد .
ما إن صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في 29 نوفمبر 1947 حتي أعلنت الوكالة اليهودية قبوله أما اللجنة العربية لإنقاذ فلسطين والدول العربية من ورائها فقد رفضت
هذا القرار، وكان طبيعيًّا أن يعمل كل من الجانبين اليهودي والعربي علي ملء الفراغ الذي ستتركه إنجلترا وراءها بعد الانسحاب، وبدأت قوات الهاجانا وعصابات أرجون وشترن في طرد المواطنين العرب من قراهم وارتكاب المذابح مثل مذبحة دير ياسين لترويع المواطنين الفلسطينيين حتي يفروا من بلادهم، وكنا نتابع ونحن في المدرسة أنباء المعارك بين قوات الهاجاناه والفدائيين، وظهر اسم كل من عبد القادر الحسيني وحسن سلامة كقائدين فلسطينيين، وكان واضحًا أن القوات التي تحت تصرفهما لا تقارن بالميليشيات اليهودية التي كانت قد شاركت في الحرب العالمية الثانية إلي جانب قوات الحلفاء وحصلت علي التدريب والعتاد...
كان الجانب اليهودي في فلسطين منظمًا ولديه البنية التحتية ومقومات الدولة التي عمل علي إيجادها بمعاونة بريطانيا دولة الانتداب استعدادًا ليوم إعلان قيام الدولة، أما القيادة الفلسطينية فقد ظلت طوال الحرب العالمية الثانية بعيدة عن فلسطين بل لقد لجأ زعيمها الحاج أمين الحسيني إلي برلين عاصمة ألمانيا النازية... في ضوء ذلك كانت استراتيجية القيادة الفلسطينية هي أن تتحمل الدول العربية مسئولية تحرير فلسطين وقد التقت هذه الرغبة مع رغبات بعض القيادات العربية آنذاك لأسباب مختلفة، فبالنسبة لمصر كان هناك الملك فاروق الذي وجد في القضية الفلسطينية فرصة لاكتساب الشعبية في مصر وفي العالم العربي والإسلامي، أما الملك عبدالله ملك الأردن فقد وجد في دخول فلسطين طريقًا لتوسيع رقعة مملكته (شرق الأردن).. أما الجامعة العربية فلقد كان أمينها عبد الرحمن عزام واحدًا من تلك الشخصيات التي تؤمن بتوحيد العالم العربي والإسلامي وكان طبيعيًّا أن يري في قضية فلسطين عاملا هامًّا في توحيد الأمة العربية.

وبصدور قرار التقسيم بدأت قوات المتطوعين من الدول العربية تتوافد علي فلسطين للدفاع عن أهلها وخلع القائمقام »أحمد عبد العزيز« بزته العسكرية وذهب إلي فلسطين كما ذهبت وحدات المتطوعين من الإخوان المسلمين وحزب مصر الفتاة، بينما كان جيش تحرير فلسطين الذي أنشأته الجامعة العربية بقيادة فوزي القاوقجي يعمل من سوريا، وكنا نتابع أنباء هذه المعارك باهتمام شديد... ومع تواصل المعارك علي أرض فلسطين بدأنا في عزبة البرج نستقبل لاجئين فلسطينيين، جاءت محفوظة جارتنا التي كانت متزوجة في يافا من أحد
أفراد عائلة الدجاني...وكانت محفوظة تحضر قبل ذلك في زيارات لعزبة البرج، وكانت تحكي لنا عن جمال فلسطين ولكنها جاءت هذه المرة ضمن عدد من اللاجئين وهي شاحبة الوجه، فاقدة للضحكات المجلجلة التي كنا نسمعها منها من قبل، بعد أن تركوا بيتهم بما فيه في يافا وجاءوا إلي عزبة البرج آملين أن يعودوا بعد فترة وجيزة يتم فيها تحرير فلسطين إلا أن الأحداث سرعان ما تطورت في الاتجاه المعاكس وبقي اللاجئون الفلسطينيون في مصر وغيرها من البلاد العربية، ومرت الأعوام الطوال دون أن يعودوا.
وهكذا بدأت القضية الوطنية تخلي مكان الصدارة لقضية فلسطين، وكان الملك ومعه عبد الرحمن عزام يقودان هذا التيار بينما الأحداث علي الأرض تدفعنا كشباب إلي التعاطف مع إخوتنا الفلسطينيين الذين يراد اغتصاب وطنهم بواسطة العصابات الصهيونية، وكان السؤال هو ماذا ستفعل الدول العربية عندما يأتي يوم 15 مايو 1948؛ هل ستكتفي هذه الدول بتشجيع المتطوعين للذهاب إلي فلسطين أم أنها ستبعث بالجيوش العربية لتحرير فلسطين وإعادة اللاجئين إلي بيوتهم؟
كانت الصحافة كلها تدفع في اتجاه دخول الجيوش العربية إلي فلسطين في اليوم المحدد لمغادرة القوات البريطانية ولكننا كنا نسمع عن أن هناك بعض السياسيين المصريين يعارضون هذه الخطوة وكان علي رأس هؤلاء إسماعيل صدقي باشا . وعندما دعا النقراشي باشا رئيس الوزراء آنذاك مجلسي البرلمان للانعقاد في جلسة سرية لإبلاغهما بقرار الحرب وقف إسماعيل صدقي وأعلن معارضته لقرار الحرب وقدم أسئلة إلي رئيس الوزراء كان الهدف منها هو إيضاح أن مصر غير مستعدة للدخول في الحرب وأن الأصوب هو التفاوض إلا أن محاولة إسماعيل صدقي كانت ضد التيار.
مثلت نتائج حرب فلسطين صدمة كبري لنا لما أدت إليه من نتائج عسكرية وسياسية وخيمة وأعلن بن جوريون يوم 15 مايو 1948 إنشاء دولة إسرائيل، وبدأت بعدها صورة الملك فاروق تهتز لدينا، فهو الذي قاد البلاد إلي الهزيمة... من ناحية أخري جاء اغتيال النقراشي باشا رئيس الوزراء علي يد أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين نذيرًا بأن البلاد تدخل في نفق مظلم... وجاء رئيس الوزراء الجديد إبراهيم باشا عبد الهادي بسياسة حاسمة ضد الإخوان المسلمين وبدأت حملة الاعتقالات ضد الإخوان.. ثم ما لبث أن جاء اغتيال مرشد الإخوان حسن البنا كرد فعل لاغتيال النقراشي... وأصبح واضحًا أن الأوضاع الداخلية في مصر تتدهور بسرعة في الوقت الذي كانت مصر تواجه القضيتين الكبيرتين، القضية الوطنية ضد إنجلترا وقضية فلسطين.
وبصفة عامة كان عام 1949 عامًا سادته أجواء قاتمة... فالقوات المصرية عائدة من فلسطين بعد أن تخلت عن أغلب المواقع التي كانت قد احتلتها قبل الهدنة الأولي وذلك باستثناء قطاع غزة، وأصبح جزء من هذه القوات محاصرًا في الفالوجة ولم ينته هذا الحصار إلا في إطار اتفاقية الهدنة المصرية الإسرائيلية التي وقعت في رودس عام 1949.
في نفس الوقت كانت المفاوضات البريطانية المصرية متوقفة بينما يعلو صوت الشعب مطالبًا بالجلاء ووحدة وادي النيل، وأصبح واضحًا أن النظام السياسي في أزمة... فلم يكن هناك بد أمام الملك إلا أن يأتي بحكومة تقوم بإجراء انتخابات، وهو ما قامت به حكومة حسين سري باشا ونجح حزب الوفد بأغلبية كبري وجاء للحكم في يناير 0591.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.