نعم علمنا دعاة الإخوان أن نتكلم ، وأن نخطب . ومعروف أن الخطابة هي فن مشافهة الجماهير الذى يقوم على الإقناع والاستمالة. أو كما عرفها بعض النقاد بأنها: فن أدبي نثرى، هدفه إقناع السامعين، فهو إلقائي، يكتب أو يرتجل ليسمع، لا ليقرأ. وكانت الخطابة هي الآلية الأولى التي اتخذها الإمام الشهيد لدعوته، ونشرها في كل الأوساط، واستطاع الإمام الشهيد أن يجعل لهذا الفن وجودا وكيانا قويا بالغ التأثير. وسلك دعاة الإخوان السبيل نفسها في اتخاذ الخطابة أهم الآليات في نشر الدعوة، والدفاع عنها، يستوي في ذلك الخطب الجماهيرية العامة والمحاضرات الدعوية والأكاديمية، والحوار، والمناقشة، والمجادلة. واختيار هذه الآلية إنما هو اتباع لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم واستصحاب لهذا الأصل الكريم من ناحية، واعتراف بالواقع الاجتماعي والسياسي والديني بالنسبة لمصلحة الدعوة من ناحية أخرى. وهو واقع يتأثر بالكلمة المسموعة، أكثر من الكلمة المكتوبة. ولأمر ما كان فعل الأمر "قلْ" هو أكثر الأفعال ورودا في القرآن الكريم. كما أن الخطابة أيسر تناولا واستخداما من الشعر والمقال، فهي تنطلق بلا قيود صارمة، وضوابط حادة من وزن وقافية. وفي حقل الدعوة الإخوانية آلاف الخطباء من العلماء والطلاب والأكاديميين، وكثير منهم تمرسوا بالخطابة وتدربوا عليها من أيام أن كانوا في حقل الدعوة أشبالا، وكذلك منخرطين في الأسر. ********** وبعد هذا المدخل ، وفي مقامي هذا أذكر أن الأستاذ الإخواني شمس المحلاوي مدرسي في المرحلة الابتدائية ، والمشرف على جماعة الخطابة بالمدرسة ، وكنت أنا عضوا فيها كان يعلمنا طريقة الإلقاء السليم ، وكيف يعيش الإنسان الكلمة متبعا تغيير الصوت تبعا للمعنى ، فأسلوب الحماسة يقتضي رفع الصوت ، وأسلوب الدعاء يحتاج إلى هدوء ورقة في الأداء ، وقد تمكنت بحمد الله في حضرته أن اخطب ارتجالا . ********** وهنا تلتقي دعوة الإخوان بما علمنا الأستاذ شمس ، فقد كنا بأمر الأستاذ محمد قاسم صقر رئيس جوالة الإخوان ، وكنت أنا أحد أشبالها نجتمع كل يوم جمعة بزي المدرسة ، ونؤدي صلاة الجمعة في " الجامع الكبير " . وذات يوم وقع حدث جديد في حياتي كان له في نفسي أثر مستقبلي عظيم . فبعيد صلاة الجمعة دفعني الأستاذ محمد صقر إلى الكرسي العالي الذي يجلس عليه قاريء سورة الكهف قبل صلاة الجمعة ، وقال لي بلهجة الآمر : " اطلع بسرعة يا جابر، اطلع بسرعة واخطب في الناس " ... فلما ترددت قال " اطلع بالأمر واخطب في الناس ، قل ما في ذهنك " . وصعدت على الكرسي وليس في ذهني فكرة واحدة ، فأخذت أمطط في المقدمة وأقول بصوت جهوري : أيها المسلمون ... إليّ إليّ وبقلوبكم نحوي ، من كان يحب الله ورسوله فليأت إليّ ويستمع ، ثم بدأتُ بالبسملة والصلاة على النبي ، وقفز إلى عقلي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصه : عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول"ألا إن رحى الإسلام دائرة ، فدوروامع الكتاب حيث دار. ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان ، فلا تفارقوا الكتاب ، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يرضون لأنفسهم ما لا يرضون لكم،فأن اطعتموهم أضلوكم ،وأن عصيتموهم قتلوكم. قالوا:وماذا نفعل يارسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم:كما فعل بأصحاب عيسى بن مريم ، حُملوا على الخشب،و نشروا بالمناشير ،فوالذي نفسي بيده لموت في طاعة خير من حياة في معصية" . وأخذت أتحدث بحماسة في ظل هذا الحديث الذي كنا حفظناه في "أسرتنا " في جمعية الإخوان بالمنزلة . ( ومن المعروف أن كل شعبة من شعب الإخوان تتكون من عدة أسر ، كل أسرة من قرابة سبعة أعضاء ، يجتمعون أسبوعيا ، ليتدارسوا القرآن والسنة وعلوم الدين وغير ذلك ) . كنت قد بدأت الخطبة وأنا أحس بأن حرارتي ارتفعت ، وأن أذنيّ قد اشتعلتا ، وأن وجهي لا أنف فيه ، ولكن عدت إلى حالتي الطبيعية بعد أن تدفقت في الكلام . ولم أصدق عيني وأنا أرى الناس يتزاحمون عليّ وأنا الصبي الصغير لتقبيل يدي . ولكني بأدب عاتبت الأستاذ محمد صقر بعد ذلك ، وقلت له لقد قسوت عليّ بهذه المفاجأة ، وكان من المفروض أن أبدأ تدريجيا في الشعبة ، ولكنه قال لي : " خذ مني هذه الكلمة ، لو أنا أردت أن أعلم واحدا منكم السباحة ، وأتيت بطست أو إناء كبير مليء بالماء ، وطلبت منه أن يعوم فلن يتعلم السباحة طيلة حياته ، ولكن المنهج الصحيح أن آخذه في قارب وألقي به في البحر ، وأطلب منه أن يعوم ، سيحاول وإذا عجز أخذنا بيده إلى القارب ، ونكرر العملية ، وبذلك سيتعلم فن العوم ، ولا ينساه طيلة حياته " . وفي هذا السياق أذكر ان الشيخ كامل أحد دعاة الإخوان في المنزلة كان قبل محاضرته يقدمني للخطابة أنا وزميلي الطالب الرفاعي شبارة فى احتفالات القرى على حداثة سننا ليشجعنا على ألخطابة ، ولقاء الجماهير . وهنا التقى منهج الأستاذ شمس الدين المحلاوي في تعليمنا الخطابة بالمدرسة، ومنهج الأخ الأستاذ محمد قاسم صقر ، والشيخ كامل الخريبي . وكنت أعتقد أنهما مبتكران في هذا المنهج إلى أن اندمجت في الجماعة ، وعرفت أن هذا هو المنهج العام ، وتأكد لي ذلك في الكبر بعد أن قرأت عن منهج الإمام الشهيد حسن البنا في هذا المجال . ********** وقد أكد الأستاذ انيس منصور هذه الحقيقة بعد ذلك بقرابة أربعين عاما بما كتبه في الأهرام يوم السبت 26 /2/ 1983 م . ونصه : " أنا أقول لك ما الذي خلفه فينا الشيخ حسن البنا في شباب الأربعينيات ، إنها قصة قديمة ، ولكنها ليست قديمة جدا . ونحن طلبة صغار كان الواحد منا يستطيع بمنتهى الثبات والثقة بالنفس أن يذهب إلى أي مسجد ، ويقترب من إمام المسجد ، ويقول له : " أنا فلان من جماعة الإخوان المسلمين " ، وإذا بإمام المسجد يقول : " تفضل يا بني ... فتح الله عليك ... اخطب وتقدم المصلين " . وقد فعلت ذلك كثيرا ، وقد سمح لنا الشيخ حسن البنا نحن الصغار أن نخطب من ورقة ، وأكد لنا أن المهم ليس أسلوب الخطبة ، ولكن الموعظة الحسنة ، وتعلمنا منه قدرا كبيرا من التواضع ، فلا نخوض في المشاكل الدينية الصعبة ، وإذا فعلنا فلا ننسى أن نقول : هذا اجتهادي والله أعلم . وكان هدف هذه الخطبة هو سلوك الناس في حياتهم العادية . ولم أكن أعرف تفسير الطبري ، ولا تفسير ابن كثير ، ولكن كان لا بد من معرفة تلك المراجع الطيبة في فهم القرآن الكريم . وأذكر أن زميلا لنا ما كان يحسن الخطابة ، فذهبنا إلى الأشتاذ المرشد العام حسن البنا ، ولاحظ هو بسرعة أن زميلي خجول ، فطلب إليه أن يخطب في موضوع مناسب وهو : " كيف يذاكر الطالب وهو مستريح النفس ، وأن يعمل ما عليه ثم يترك الباقي على الله " . وطلب إليه أن يوجه حديثه إلى الآباء والأمهات ، وليس إلى الطلبة وأن يجعل ذلك من واقع تجربته هو . وسمعت زميلي هذا يخطب في أحد مساجد امبابة لقد كان موفقا تماما ؛ فقد استهل خطابه بقوله : أيها الإخوان أحدثكم من نفسي ... إلخ . إنه الإيمان يدفع إلى الشجاعة في مواجهة الناس ، وإنها الممارسة تدفع إلى الانتقال من القول إلى العمل ، ومن العمل إلى التضحية ما دام كل قول وكل عمل في سبيل الله ".الأهرام 2621983 ********** ومن الذكريات ما يتغلغل في نفس الإنسان حتى تتشربه روحه، وتغدو هذه الذكريات كأنها عضو حي من أعضائه، بل أشدها وأقواها نبضا وحياة. أقول هذا بعد مضيّ أكثر من ستين عاما من الزمان على واقع عظيم لذيذ.. عشته لساعات، وأنا تلميذ بالمرحلة الابتدائية، وذلك في مدينة "المنْزَلة" –بلدى ومسقط رأسى- وهي مدينة ساحلية تقع على بحيرة المنزلة، في أقصى شمال دلتا النيل، بعيدا عن القاهرة بقرابة مائة وخمسين ميلا. وهذا الواقع العظيم هو أنني رأيت واستمعت للمرة الأولى والأخيرة للشيخ حسن البنا . فبعد صلاة العشاء كنت أنا ووالدي نأخذ مكانينا في السرادق الكبير، أما "الجوالة" فقد انتشروا داخل السرادق وخارجه لإقرار النظام. وبعد نصف ساعة ارتج المكان بالهتاف "الله أكبر ولله الحمد".. وشعرت بأنني كبير جدا وأنا أردد مع هؤلاء الناس بصوتي "النحيف".. "الله أكبر ولله الحمد".. لقد حضر المرشد.. رأيته وعلى فمه ابتسامة عريضة، وهو يشق طريقه إلى المنصة بين صفين من الجوالة على هيئة "كردون" وهم متشابكو الأيدى، واستطاعوا بصعوبة بالغة أن يمنعوا "بظهورهم" تدفق الجمهور المتدافع من الجانبين لمصافحة المرشد العظيم. ********** وعلى مدى ثلاث ساعات كان الناس يستمعون إليه كأن على رءوسهم الطير، لقد سمعته يقدم لونا جديدا من الكلام.. كلاما يختلف تماما عما نسمعه في خطب الجمعة، واحتفالات المولد النبوي، ومن المشهور عن بلدي "المنزلة" أنها بلد الصيد والسفن والبحارة (نقل الركاب والبضائع بالسفن الشراعية في بحيرة المنزلة). ومن هذا الواقع البيئي- الذي لا يجهله واحد من الحاضرين صغارهم وكبارهم- انطلق حسن البنا في حديثه فشبه الأمة بسفينة: جسمها الشعب وشراعها الإيمان ودفتها الحكومة، وقد تعوزني الدقة في هذا التجْزِيء التشبيهى. ولكن الذي أذكره أن السفينة كانت مشبَّها به، وأنه –رحمه الله- دخل نفوس الناس من الدقائق الأولى، وهو يشرح مقولته مكثرا من الاستشهاد بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ووقائع من السيرة النبوية وحياة السلف الصالح . كنت –على صغر سني- أفهم، بل أعيش كل كلمة بقولها الرجل العظيم. ولكن الأهم من ذلك هو إحساسي القوي –وأنا أجلس بجانب والدي في الحفل- أن الإمام يوجه كلماته ونظراته إليّ دون غيري. وأخفيت هذا الخاطر عن والدي، وفي اليوم التالي سمعت والدي يقول لواحد من جيراننا الذين حضروا الحفل- وكان يجلس أقرب إلى المنصة منا: - لقد شدني الشيخ حسن –الله يكرمه- بخطبته مساء أمس، كنت أشعر أنه يخصني بنظراته وكلامه الجميل. وقال جارنا. -عجيبة!!! والله كنت أشعر نفس الشعور. فآمنت بعدها بأن الرجل –رحمه الله- قد بلغ مقاما يمكن أن نسميه "البلاغة الإيمانية"، لا يرقى إلى مثله إلا أقل الأقلين على مدار التاريخ الإنساني كله. وكان يوظف من التشبيهات أنسبها للواقع الاجتماعي والسياسي والمذهبي للبلد الذي يخطب فيه، وقد رأيت ذلك بنفسي عندما زار مدينة المنزلة (دقهلية) مسقط رأسي، ********** كما كان الإمام الشهيد يحرص على هذه السمة فيما يوظفه من أخبار التراث العربي والإسلامي، فيتخير منه أنسب الوقائع والشخصيات لطوابع المجتمع الذي يخطب فيه. وقد قص عليّ أحد الأخوة من الرعيل الأول للإخوان واقعة حضرها بنفسه وخلاصتها: من المعروف أن حي "بولاق" كان حي "الفتونة والفتوات": فالقوة الجسدية، وقدرة التغلب كانا معيار الأفضلية في هذا المجتمع. وكان لهذا الحي جهاد معروف في مقاومة جنود الحملة الفرنسية حتى إن "الجبرتي كان يذكره مع القاهرة، وكأنه عاصمة أخرى، فمن عباراته التى تكررت في تاريخه "وثار أهل القاهرة وبولاق". كان الإمام الشهيد يعرف هذه الحقائق عن "بولاق" في تاريخها وطوابعها. وفي السرادق الضخم الذى أقيم، وضم الألوف من أهل بولاق: احتفالا بمناسبة إسلامية –تحدث الإمام الشهيد عن "القوة في الإسلام" وأنواعها، ومنها القوة المادية الجسدية، والقوة المعنوية في الإيمان، وتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كنموذج للقوة بكل أنواعها، وبلغ من قوته أنه استطاع أن يصرع أشد العرب وأقواهم: ركانة بن عبد يزيد بن هاشم، صرعه مرتين، وأسلم بعدها وبهذا المثال استطاع الإمام الشهيد أن يتسلل إلى نفوس السامعين، وبلغ بهم الإعجاب والحماسة أن وقف أحدهم –وهو إبراهيم كروم فتوة بولاق –وأخذ يهتف "اللهم صلّ على أجدع نبي.. اللهم صلّ على أجدع نبي" . وعن هذا الملمح كتب "جاكسون" عن الإمام الشهيد" كان قديرا على أن يحدث كلا بلغته، وفي ميدانه، وعلى طريقته، في حدود هواه، وعلى الوتر الذي يحس به، وعلى الجرح الذي يثيره،ويعرف لغات الأزهريين والأطباء والمهندسين والصوفية، وأهل السنة، ويعرف لهجات الأقاليم في الدلتا وفي الصحراء، وفي مصر الوسطى والعليا، وتقاليدها، بل إنه يعرف لهجات الجزارين والفتوات، وأهالي بعض أحياء القاهرة الذين تتمثل فيهم صفات معينة بارزة. وهو يستمد موضوع حديثه – أثناء سياحاته في الأقاليم، وفي كل بلد – في مشكلاتها ووقائعها، وخلافتها، ويربطه –في لباقة- مع دعوته ومعالمها الكبرى، فيجيء كلامه عجبا يأخذ بالألباب. كأن يقول للفلاحين في الريف" عندنا زرعتان- إحداهما سريعة النماء كالقثاء، والأخرى طويلة كالقطن..." . ********** نعم : تعلمنا في مدرسة الإخوان أن نقول ، وأن نعيش ما نقول ... وأن ندعو إلى الله على بصيرة ، في ثقة واطمئنان ، واعتزاز بالنفس بلا غرور ، وتواضع جم بلا ضعة . [email protected]