يرى الشاعر الأردني موسى حوامدة انه ليس بناية حجرية حتى يحافظ على نفسه من الزلزال وانه "الآن" يجد نفسه مع التجدد والتغيير ومع التشبث بالغيمة اكثر من تشبثه بالرصيف. ويؤكد صاحب مجموعة أسفار موسى انه اكتشف مؤخراً أن الشعر في مكان اخر "وانه أيضا قد افاق من عتمته السابقة على تجليات ستظهر في مجموعاته الآتية , لانه وبحسب ما يقول قد بدأ الحفر اكثر في ذاته إضافة إلى انه قد بدأ يفكر اكثر في جدوى الحياة نفسها وفي جدوى القصيدة معاً. .. التقينا الشاعر حوامدة وكان هذا الحوار الذي تطرق فيه الى جديده الشعري وربط شعريته بالإشاعة وتخلصه من قصيدة الخطاب السياسي إضافة إلى خروجه من قصيدة التفعيلة الى قصيدة النثر. * بعد مجموعاتك: "شغب" و"تزدادين سماء وبساتين" و"شجري أعلى" و"أسفار موسى" و"من جهة البحر". - ما هو جديد الشاعر حوامدة ؟ - الجديد كأني أفقت من عتمي السابقة واكتشفت أن الشعر "في مكان آخر" ثم بدأت أتجلى في مرايا اعمق وابعد واكثر إنسانية وذلك لا يعني أنني لم أتطرق في مجموعاتي السابقة الى الهموم الإنسانية, ولكن شتان بين الهم الأردني أو الفلسطيني والقلق الوجودي تجاه الحياة وتجاه الوجود بشكل عام. لم تعد تهمني اكثر في عملي الجديد القضايا الوطنية المباشرة ولا الإطراء الذي يمكن أن يبديه جمهور الأمسيات. ان جاز لي الحديث عن تجربتي فقد صرت أتأمل اكثر في ذاتي وأفكر في جدوى الحياة نفسها وفي جدوى القصيدة أي أن رهاني لم يعد مبنياً كما كنت أتوهم سابقاً وفق بعض النظريات المشوشة حول الشعر اليوم بل صرت اترك جموحي يأخذني إلى أقصى غابة وابعد سماء. وددت القول أنني أحاول أن اكسر الحدود والأطر. الحدود الاجتماعية او الدينية والقومية كي ابلغ ذاتي .. في الحقيقة دائماً يأخذني قلقي النابع من داخلي وليس من تقليد آخر حتى وان كان التقليد ليس عيباً فهذه التجربة اشعر انها تتبلور اكثر في طرح أسئلة ومناخات ربما لم تتطرق لها مجموعاتي السابقة أضف الى ذلك ان خسارتي الشخصية في فقد أبي وأمي في ضربة واحدة زادت كثيراً من مخزون الحزن ومن أسئلة الموت , و أظن ان الشعر الذي لا يتطرق إلى أسئلة الوجود وبالذات الموت والحياة يظل شعراً عادياً وان حمل بعض ملامح الجمال. انا لا أقول ذلك لكي امهد او أزين تجربتي وخصوصاً الجديد منها ولكني أتحدث عن قناعتي في ماهية الشعر نفسه وهي بالتأكيد ليست قناعة راسخة إلى الأبد. *- مع اكتشافك المتأخر ان الشعر في مكان آخر, ومع وجودك المشاكس ماذا تقول لمن ربط قصيدتك بشعرية الإشاعة والتمحك مع الساخن في المواضيع الدينية والقومية ؟ - دعني أجيبك عن الشق الأول من السؤال بالنسبة لموضوع الاكتشاف فلا يعني ان أقول لك إنني دائم البحث والتغيير ولا يعني على الإطلاق ان اكتشف ما كنت أجهله أمس او أن اكتشف ان اقتنع به اليوم, قد يكون لا يناسبني غداً او أجد نفسي قد انتقلت الى ضفة أخرى. انا لست بناية حجر حتى أحافظ على نفسي من الزلازل انا أتتشبث بالغيمة اكثر من تشبثي بالأرصفة , ففي الشعر لا يجوز التشبث- حسب وجهة نظري الآن- بأي حقيقة ولا بأي فكرة لذلك من النور إلى النور أحيانا وربما أكون اسبح في القمة دون ان ادري أنني أطارد غزالتي الهاربة , واحسب أنني لا اكتشف الذرة حينما تأخذني الرؤية الى أشكال ومضامين جديدة عن كتاباتي السابقة في الحقيقة ان القيم على ما افعل هو ملاك او شيء غامض يغمز لي دائماً كلما انتهيت من عمل بأنه يريد شيئاً آخر, وأنا أحاول ان اقدم لهذا الكائن الغامض قرباناً جديداً والمصيبة أنني شخصياً اتفق مع هذا الكائن بأن قرابيني لم تكن كافية. أما الشق الثاني من السؤال فهو لا يعنيني ولكن لا أغوص في مناطق بكر مهما كانت وحينما أتناول في قصيدتي ديناً او مذهباً فهذا من باب تنفسي الطبيعي للأكسجين فأنفي لا يميز بين هواء قادم من فلسطين او من شبه جزيرة قبرص. كل هواء عندي قابل للشم حتى هواء الجنة والجحيم ايضاً. اما من يحرمون على الشعر مناطق وكلمات او ثقافات ومعارف سابقة فهؤلاء يريدون تربيط الإبداع وسجنه في قمقم كي تسهل السيطرة عليه. الأدب بشكل عام والشعر بالذات اذا لم يكن رائداً وفدائياً وجميلاً في الوقت نفسه فلن يخرج عن سير الخلفاء ومديح السلاطين وترديد ما تمجه الاذن من مقولات. باتت باهتة ساذجة لا تسمح لك بطرح أسئلة او كتابة قصيدة مجنونة لكنها تريدك جمهوراً تصفق للتفاهات, اجمالاً بعض المثقفين العرب ومن بينهم النقاد حين تعترض او حين تبرز في الحياة الثقافية العربية بعض الأمور التي اعتبرها طبيعية مثل التمرد والجنون والتي اعتبرها ضرورية لكل ثقافة حية تريد ان تتجدد وتتغير وكي لا يقوموا بتحمل مسؤولياتهم الأخلاقية والأدبية يحيلون الأمر الى مجرد مماحكة او مخالفة او ما شابه , ولكن ما بالهم حين اقول لهم برأس مرفوع ان هذه قصيدتي تنبع من اتونها الخاص والملتهب والذي لا يقيم وزناً لكل مراوح التبريد التي يهشون بها على وظائفهم أزيد إمعانا في قهرهم و أقول: ان كل ما اكتبه نابع عن قناعة حقيقية ومتجذرة. • كأنك تربط ما بين القصيدة كفكرة والجنون او التمرد كطبيعة ملازمة لها كنص؟ - انت شاعر وتعرف ان الشعر الذي لا يقوم على التمرد والجنون ويؤمن بالطاعة ليس شعراً أصيلا و أذكرك بمقولة من تراث الأصمعي حين قال "ان الشعر الذي يتحدث عن الأخلاق شعر ضعيف" ذلك لا يعني أنني أدعو كل شعراء العالم للتمرد اذا لم تكن النار مشتعلة من داخلهم. ولهذا ليس دفاعاً عن المقولة من اجل تثبيتها ولكن للتوصيف فقط. * كيف تنظر إلى تمرد نصك الآن بعد أن كان نصك القديم ينزاح إلى الكثير من المباشرة ؟ - الآن احتاط نصي للظروف العامة ولبعض الأحكام الخاطئة والجائرة واصبح له اكثر من غشاء او غلاف وصار من الصعب انتزاعه كي لا يكون النص وصاحبه لقمة سائغة للصيد أضف إلى ذلك ان التجربة نفسها ذهبت بعيداً عن المباشرة بحثاً عن الجمال وان كان للمباشرة في الكثير من المواضع جماليتها أيضا. * برأيك هل تخلص نصك من الخطاب السياسي الذي كنت تمزج فيه عمداً ما بين الظروف السياسية والدينية ؟ - لست في موقف الدفاع عن نصوصي القديمة لسبب بسيط وهو أنها خرجت مني ولم تعد انا وهي جديرة بالدفاع عن نفسها سواء كانت تتعمد المزج بين السياسي والديني او لقناعتها بترابط الجانبين, لكن في المجموعة الأخيرة "من جهة البحر" وكما قال بعض النقاد أنني غادرت منصة الخطاب التقليدي الذي يتحدث عن فلسطين بشكل مباشر ,وأن القصائد التي تتناول الموضوع الفلسطيني لم تكن مباشرة وهذا شيء جيد بالنسبة لي وقناعتي الحالية ان المباشرة تقتل القصيدة و أظن ان ما كتبته في السنوات الأخيرة ابتعد كثيرا عن المجموعة الأولى وهذا أمر بديهي أن تحمل المجاميع الأولى دائما أخطاء جميلة ربما تشكل في النهاية أرخبيل التجربة. * كشاعر لو خيرت بحذف بعض مجموعاتك الشعرية, هل تقدم على ذلك ام انك سوف تتردد ؟ - المجموعة الأولى وحتى التجارب الأولى كلها ليست صليبا احمله للأبد فأنا على استعداد ولدي الرغبة للتخلي عن اغلب ما كتبت بحثا عن رضا الكائن الغامض الذي حدثتك عنه, إذ ما زلت قلقا حتى هذه اللحظة حينما ادفع قصيدة للنشر او حتى مجموعة ويظل لدي هاجس التغيير حتى صدور المجموعة, إلى أن ينتابني الكثير من الندم لأنني لم أبدل عنوان المجموعة أو بعض القصائد او الجمل او الكلمات, هذا هاجس دائم يواكبني حتى اللحظة, لقد بدلت عنوان قصيدة وجدت انه مباشر فبدلته اكثر من مرة فخرج في إحدى الصحف والمجلات بأكثر من عنوان. هذا القلق وهاجس التبديل وبصراحة عدم الرضا عما أنجزت او أصدرت هو الذي يدفعني حاليا للتفكير في إصدار مجموعة جديدة وهو الحافز الأول للكتابة دائما, لكن هذا لا يعني أنني مستعد للتنصل مما كتبت سابقا فلا بد من الاحتفاظ بالأخطاء فربما تعطينا هذه الأخطاء جزءا من طفولتنا. * ولكن هناك بعض الشعراء قاموا بحذف الكثير من مجموعاتهم السابقة بل انهم كانوا يتحاشون الحديث عنها فماذا تقول ؟ - الشاعر الحقيقي والكبير في المحذوف من سؤالك لا يعتني بشطب او حذف شيء مما قال ويقدم تجربته دائما إلى الأمام أما إذا تسبب في فواجع لغوية وشعرية في وقت من الأوقات فلم تغفر له حائكات الشر تلك الأخطاء والفواجع أظن مثلا أن أبا نواس لم يكن معنيا بشطب او مسح الكثير من قصائده الأولى لكنه كان ذاهبا بجرأة شديدة للتجديد وهو ما يحفظه الناس لأبي نواس, الشاعر يكبر بقصائده الجميلة ولا يصغر إذا كان حقيقيا وليس مرعوبا بالبدايات. • مزجت بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر, الآن كشاعر أين تجد نفسك بين القصيدتين ؟ - ما زال بعض الشعراء التقليديين يوجهون الاتهامات لقصيدة النثر وهذه الاتهامات نابعة من قصور وتعال مصطنع في محاربة قصيدة النثر, الغريب في الأمر أن شاعرا وناقدا مثل "اليوت" يرى أن التحلل من الوزن والموسيقى قد يوفر الكثير من الشعر الرديء, فيما يذهب هو نفسه في تعريف الشعر الى القول ان الوزن والموسيقى لا يعطيان للقصيدة أهمية إذا لم يكن فيها شعر, كأن الشعر مختلف عن الوزن والموسيقى وهو يقول ذلك كما يقول ان هناك قصائد موزونة وليس فيها اي شعر وكأنه تناقض مع نفسه في إطلاق ذلك الحكم , وهذا ينسحب على كثير من معارضي قصيدة النثر من بينهم مثلا الشاعر المصري احمد عبد المعطي حجازي والذي هاجمه العقاد حينما كتب قصيدة التفعيلة والآن يتلبس ويتقمص دور الجلاد في هجومه على قصيدة النثر هو ومن على شاكلته بينما هناك شعراء يكتبون التفعيلة يقتربون اكثر من قصيدة النثر باختيار تفاعيل ولغة قريبة من النثر, هذا لا يعني ان كل ما كتب في قصيدة النثر شعر جميل لكن قصيدة النثر اخطر بكثير من تفعيلة تقودك الى انماط محددة ومعروفة وقوافي جاهزة, قصيدة النثر فرس لم تروض بعد ومن الصعب ان يمتطيها من هب ودب. * دعنا نتحدث عن تجربتك مع قصيدة النثر تحديدا وماذا أنجزت فيها ؟ - سأقول لك ببساطة وبتواضع وبلا ادعاء ان حجم الخيال عندي أخذني إلى قصيدة النثر رغم أنني جئت من العروض والتفعيلة إلى قصيدة النثر واكتشفت خلال أواخر التسعينيات أن التفعيلة قيد , وربما تجبرك ليس على اختيار بعض الكلمات ولكن حتى المواضيع نفسها وقد باتت مكرورة ومستهلكة فذهبت الى قصيدة لا تحمل سكاكين او مباضع في يدها فهي حرة حتى التعقيد , وهذه صعوبة المسألة ولكن رغم هذه الحرية المتاحة كأنك بلا أسلاف او كأنك تخوض في بحر متلاطم بلا مجداف وعليك ان تخلق قاربك بنفسك, لا تقل لي هناك قصائد مترجمة لرامبو "او بودلير" او "سان جون بيرس" فهي مجرد ترجمة وليست القصائد الأصلية ولا تشكل لي او لغيري دليلا لأنها منقولة من لغات أخرى والشعر بالذات يحب أن ينبت داخل لغة الشاعر الأم, فأنت هنا تحررت من كل الأشكال القديمة والجديدة وعليك ان تستنبط نصك من الصخر, قد يشير البعض إلى سيد الترجمات العربية عن قصيدة النثر وشكلها ومواصفاتها مثل الكتاب الشهير ل - "سوزان برنار" ويقول لديك تعريف او نماذج يمكن ان تحتذي بها ولكنها تظل نماذج للتعريف وهي ليست دقيقة في اللغة العربية على اللغة نفسها ان تخلق شعرها وما ينطبق على اللغة الفرنسية ليس بالضرورة ان ينطبق على لغة عتيقة ما زالت تحتفظ بشعرائها منذ مئات السنين. - * كيف تنظر إلى المشهد الشعري والنقدي في الساحة المحلية ؟ - بصدق أقول بأن في الأردن قد سبق الشعر جميع الأجناس الأخرى والقصائد المكتوبة عندنا بصراحة من أهم القصائد التي كتبت على الصعيد العربي, ولدينا تجد قامات شعرية كاملة وناضجة ولكن للأسف هناك ظلم وإقصاء كبير لكثير من هذه التجارب, مقابل التركيز رسميا على عدد من الأصوات الضعيفة وهذه الكارثة متعمدة وليست بريئة وكل من يطلع على حركة النشر او المنابر الثقافية سيجد ان هناك تركيزا دؤوبا ليس على إبراز هذه الأسماء وإنما من اجل طمس التجارب الحقيقية, كل شيء يتم الحديث عنه الا غنى التجربة وأهميتها ولذلك فإن الساحة مريضة بل هي في غرفة الإنعاش لأنه من المعيب ان يتم النظر إلى الشعر في الاردن وفق طاعة الشاعر او معصيته وحسب ميوله السياسية او حسب مسقط رأسه, القصيدة الجميلة لا تأبه للافتعال ولا تنظر في دفتر العائلة إضافة الى أن التقييم يأتيك دائما من خارج الأردن, والكثير من الكتاب والنقاد يخلقون قناعات بعدم تناول التجارب المحلية مقابل اللهاث خلف اسماء بعيدة او قديمة وهذا يصب في إجابتي عن سؤالك الثاني بأن الساحة الثقافية عموما والأردنية خصوصا أشبه بالجثة لا حراك حقيقيا فيها , وحينما تظهر بوادر تجارب فاعلة يتم تشويهها وإحالتها الى نوع من السخرية لكي لا يتحمل المثقف العربي مسؤولية مواجهة السلطة والمجتمع وأظن ان هذه ثقافة مهادنة قابلة للضمور والتلاشي واللغة التي لا تخلق فرسانها ليست ضعيفة وانما يعيش الناطقون بها في قبو مظلم. - *ولكن على من يقع مثل هذا الكلام تحديدا أم أنك تريد الأمر غائما ؟ - لست مضطرا للتحديد فأنت تعرف ان العديد من المثقفين العرب والأردنيين يمارسون دورا تخريبيا في وأد كل تجربة حية ليس في الشعر فقط ولكن في المسرح وفي الفن وفي التشكيل وفي كل شيء , وبالمقابل يتعاملون مع الإبداع وكأنه مرض معد اذا لم يستوف شروط الطاعة والرضا والشروط هذه تعني انتزاع كل ألق وتغيير وتجريب والاكتفاء بتقديم نماذج باردة وكتابات لا تخرج عن الخطاب العربي الرسمي لكي تتمتع بالامتيازات الأمر الذي يشير إلى تواطؤ وثيق بين الثقافة والسياسة وما لف لفهما, فالمثقف يمتدح السلطة او يسكت عن مثالبها والسلطة تعتمد على مثقفيها في توظيف خطابها والدفاع عنه وعنها والأخطر قتل كل إبداع نافر بعيداً عن السائد .