تحقيق : محمد فرج نشرنا في الإسبوع الماضي عن الشاعر العمودي الشاب "عدنان أحمد"، الذي أصدر ديوانه الشعري الأول، وعن حيرته في قراءة قصيدة النثر وعدم قدرته علي التعامل معها كشعر ربما تبدو له قصة قصيرة أو خاطرة عابرة لكن الشعر بالنسبة له هو ما احتفظ بالحدود التي تميزه عن باقي الفنون الأدبية. وبغض النظر عن مدي اتفاقنا مع ما يراه الشاعر الشاب أم لا، فإن رأي عدنان لا يخصه وحده في النهاية ولكنه رأي قطاع كبير من المتلقين الذين غابت عنهم القصيدة الجديدة لسبب اساسي هو ارتباكهم أمام هذه الكتابه وعدم قدرتهم علي تصنيفها. هذا التداخل الحاصل بين الأشكال الأدبية مثل القصيدة النثرية تحديدا- وبين القصة القصيرة، أو بين الرواية التي ربما لا تزيد في الاصل عن كونها قصة قصيرة وقرر صاحبها تضخيمها لتكون رواية. هو سمة من سمات العصر الحديث كما يخبرنا الناقد حسين حمودة حيث أصبحت الفنون كلها تتداخل وتتفاعل معا ويفيد كل منها من الفنون الاخري، وهو ذات المعني الذي أكد عليه الشاعر محمود قرني بإعتبار هذا التداخل مؤكدا حتمية الفعل الحضاري التاريخي، باعتبار أن مرجعية الفن مرجعية إنسانية يشارك في صناعتها البشر بصفة عامة علي إختلاف رؤاهم. حمودة ضرب مثالا علي العلاقة بين فن أدبي مثل "الرواية" وفن بصري مثل "السينما" حيث كانت الرواية رافدا هاما وأساسيا من الروافد التي قام عليها فن السينما ثم بدأت الرواية تستفيد من تقنيات الفن السينمائي عبر ما يسميه نقاد الرواية "السرد البصري". الغاز وارتباك بالتأكيد يبدو التداخل هنا أمرا أساسيا بشكل عام ولكن ماذا عن التداخل بين قصيدة النثر وبين القصة القصيرة والذي لا يقتصر فقط علي الشكل، ولكن أصبحت القصيدة النثرية تعتمد بشكل كبير علي "السرد" وفي المقابل أصبحت القصة القصيرة أكثر قصرا واختزالا وهو ما كان يميز الشعر. هذا التداخل وصفه قرني بأنه "ملغز" لأن قصيدة النثر -التي تتحرك نحو السطو علي منجز السردية وتفاصيلها- تفقد الكثير من بريقها عندما لا تدرك أن "التكثيف" و"المجانية" و"التوهج" تظل معايير حاكمة بين اللغة التحليلية التي تميز السرد المحض واللغة المختزلة التي تجاوز الواقع في النص الشعري. وبحسب قرني فإن أهم الاثار السلبية لهذا التداخل وانعدام الضبط هو دخول الكثير من الادعياء الي ساحة العمل الابداعي في غفلة من الواقع الساكن الذي يفتقر الي أي حيوية، ومن ثم يفتقر الي آليات الفرز الدقيق. فمع عطالة الالة النقدية يدعي هذه الفنون من يتحول إلي عبء عليها وأداة من أدوات تدميرها. تنظيرات الخراط في منتصف الثمانينات بدأ الكاتب الكبير"إدوار الخراط" التنظير لما أطلق عليه وقتها "الكتابة عبر النوعية" وهو ما يعني به النص المتجاوز لحدود النوع الواحد وبالتالي أصبح هناك ما أسماه "القصة القصيدة" وهو النص الذي يحمل سمات القصة والشعر معا بحيث يصعب حصره داخل إطار نوع واحد. ومن الأمثلة التي روج لها الخراط وقتها كانت كتابات منتصر القفاش الأولي، الذي قال لنا انه كان مختلفا مع هذا التوصيف منذ البداية وان الخراط نفسه اشار الي هذا الاختلاف في كتاباته ويكمل القفاش "سبب اختلافي ان هذا خلق حالة التباس، فالقاريء يشعر بالغرابة والضياع بين معني القصة والقصيدة.. والمصطلحات أحيانا تربك القاريء". أحمد زغلول الشيطي صاحب مجموعة "ضوء شفاف ينتشر بخفة" والتي وصفها الكثيرون ب"الشعرية" أكثر ما وصفت بالسردية رفض بداية مصطلح " النصوص العابرة للنوعية" لان الاصطلاح يفترض ثبات الانواع من قصة وشعر ورواية الخ، بينما هذه الانواع ليست ثابته فهي تتطور وتتفاعل وتتداخل وتنقلب علي ذاتها. يبدو رفض الشيطي مختلفا عن رفض محمود قرني حيث تبدو في كلام الشيطي أثار لدعوة الخراط القديمة التي يري قرني أنها دعوة أنتجت نصا مربكا وملتبسا لدي الخراط وتلامذته. فدعوة الخراط (والحديث لقرني) غاب عنها الوعي بوظيفة الفن في البلدان المتحررة من الاستعمار، حيث دعا الشاعر السوري "أدونيس" قبل الخراط بأكثر من ثلاثة عقود الي أفكار شبيهة، مع وعي أدونيس بدور "العقل" في التفرقة بين أثر الحداثة علي المستوي السياسي، وعلي المستوي الابداعي من ناحية أخري. حيث أنتجت الحداثة علي المستوي السياسي ثوارت التحرر من الاستعمار وبناء الدول القومية، وعلي المستوي الابداعي ساعدت المبدع في استعادة صوته الخاص والاستقلال عن الشعرية العربية القديمة وخلق نص مركب يستفيد من الفلسفة والأفكار والتاريخ والأساطير. لكن دعوة الخراط انتجت نصا أسرف في استخدام لغة تعتمد علي إعادة أنتاج الذات عبر خطابات مغلقة لا تعني إلا بنفسها ومن ثم انقطعت علاقتها بالواقع فغادرها المتلقي المعني بها. بين "التشجيع" و" التقييم" منتصر القفاش من ناحية أخري أكد أن أي تجديد في الكتابة هو اجابة علي اسئلة نابعة من داخل النص فلا يوجد قرار بالتجديد مسبق من الكاتب، ولكن ثمة تحديات تواجه النص وتواجه الكاتب بدون ان تسيطر عليه أفكار مسبقة لكي يحقق النص الرؤية التي يريدها الكاتب. وعن تصنيف الكتابة أشار القفاش الي حق أي شخص ان يسمي ما يكتبه ما يشاء وألقي منتصر باللائمة علي النقاد حيث يقع منهم الكثير من التسامح مع الكثير من النصوص علي اعتبار انها"بدايات" ولكن هذا يصلح علي سبيل "التشجيع" لا "التقييم"، فهو يخلق في النهاية ما يشبه نماذج معتمدة في الكتابة. وهو ما يبدو في النهاية غير حقيقي لان هذه النماذج التي تم الترويج لها لا تصمد مع مرور الوقت.