«الداخلية» تكشف مفاجأة مدوية بشأن الادعاء باختطاف «أفريقي»    محمد معيط: دين مصر زاد 2.6 تريليون جنيه لم نقترضها    عضو بالأرصاد: توقعات بأمطار متوسطة على السواحل الشمالية الشرقية اليوم    يوفنتوس يقترب خطوة من قمة الدوري الإيطالي بثنائية ضد بيزا    ما بين طموح الفرعون ورغبة العميد، موقف محمد صلاح من مباراة منتخب مصر أمام أنجولا    واتكينز بعدما سجل ثنائية في تشيلسي: لم ألعب بأفضل شكل    نيويورك تايمز: توجيه سري من ترامب لضرب 24 جماعة لتهريب المخدرات خارج الأراضي الأمريكية    أمم إفريقيا - لوكمان: تونس لا تستحق ركلة الجزاء.. ومساهماتي بفضل الفريق    إصابة 3 أشخاص في اصطدام توكتوك ب"ميكروباص" في الدقهلية    هل فرط جمال عبد الناصر في السودان؟.. عبد الحليم قنديل يُجيب    2025 عام السقوط الكبير.. كيف تفككت "إمبراطورية الظل" للإخوان المسلمين؟    لافروف: أوروبا تستعد بشكل علني للحرب مع روسيا    نوفوستي تفيد بتأخير أكثر من 270 رحلة جوية في مطاري فنوكوفو وشيريميتيفو بموسكو    ناقد رياضي: الروح القتالية سر فوز مصر على جنوب أفريقيا    أحمد سامى: كان هيجيلى القلب لو استمريت فى تدريب الاتحاد    لافروف: نظام زيلينسكي لا يبدي أي استعداد لمفاوضات بناءة    الدفاع العراقية: 6 طائرات جديدة فرنسية الصنع ستصل قريبا لتعزيز القوة الجوية    تفاصيل إصابة محمد على بن رمضان فى مباراة تونس ونيجيريا    حادثان متتاليان بالجيزة والصحراوي.. مصرع شخص وإصابة 7 آخرين وتعطّل مؤقت للحركة المرورية    داليا عبد الرحيم تهنيء الزميل روبير الفارس لحصوله علي جائزة التفوق الصحفي فرع الصحافة الثقافية    نيلي كريم تكشف لأول مرة عن دورها في «جنازة ولا جوازة»    مها الصغير تتصدر التريند بعد حكم حبسها شهرًا وتغريمها 10 آلاف جنيهًا    آسر ياسين ودينا الشربيني على موعد مع مفاجآت رمضان في "اتنين غيرنا"    «زاهي حواس» يحسم الجدل حول وجود «وادي الملوك الثاني»    بعد القلب، اكتشاف مذهل لتأثير القهوة والشاي على الجهاز التنفسي    حمو بيكا خارج محبسه.. أول صور بعد الإفراج عنه ونهاية أزمة السلاح الأبيض    إيداع أسباب طعن هدير عبدالرازق في قضية التعدي على القيم الأسرية    محمد معيط: المواطن سيشعر بفروق حقيقية في دخله عندما يصل التضخم ل 5% وتزيد الأجور 13%    عمرو أديب يتحدث عن حياته الشخصية بعد انفصاله عن لميس ويسأل خبيرة تاروت: أنا معمولي سحر ولا لأ (فيديو)    خبير اقتصادي يكشف توقعاته لأسعار الدولار والذهب والفائدة في 2026    كيف يؤثر التمر على الهضم والسكر ؟    وزير الصحة يكرم مسئولة الملف الصحي ب"فيتو" خلال احتفالية يوم الوفاء بأبطال الصحة    طه إسماعيل: هناك لاعبون انتهت صلاحيتهم فى الأهلى وعفا عليهم الزمن    محافظ قنا يوقف تنفيذ قرار إزالة ويُحيل المتورطين للنيابة الإدارية    رابطة تجار السيارات عن إغلاق معارض بمدينة نصر: رئيس الحي خد دور البطولة وشمّع المرخص وغير المرخص    سوريا تدين بشدة الاعتراف الإسرائيلي ب«أرض الصومال»    القوات الروسية ترفع العلم الروسي فوق دميتروف في دونيتسك الشعبية    حرب تكسير العظام في جولة الحسم بقنا| صراع بين أنصار المرشحين على فيسبوك    نجوم الفن ينعون المخرج داوود عبد السيد بكلمات مؤثرة    صحف الشركة المتحدة تحصد 13 جائزة فى الصحافة المصرية 2025.. اليوم السابع فى الصدارة بجوائز عدة.. الوطن تفوز بالقصة الإنسانية والتحقيق.. الدستور تفوز بجوائز الإخراج والبروفايل والمقال الاقتصادى.. صور    الإفتاء توضح حكم التعويض عند الخطأ الطبي    سيف زاهر: هناك عقوبات مالية كبيرة على لاعبى الأهلى عقب توديع كأس مصر    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهم في واقعة أطفال اللبيني    أخبار × 24 ساعة.. التموين: تخفيض زمن أداء الخدمة بالمكاتب بعد التحول الرقمى    المكسرات.. كنز غذائي لصحة أفضل    محافظ الجيزة يتابع أعمال غلق لجان انتخابات مجلس النواب في اليوم الأول لجولة الإعادة    حزم بالجمارك والضرائب العقارية قريبًا لتخفيف الأعباء على المستثمرين والمواطنين    آية عبدالرحمن: كلية القرآن الكريم بطنطا محراب علم ونور    كواليس الاجتماعات السرية قبل النكسة.. قنديل: عبد الناصر حدد موعد الضربة وعامر رد بهو كان نبي؟    معهد بحوث البترول وجامعة بورسعيد يوقعان اتفاقية تعاون استراتيجية لدعم التنمية والابتكار    وزير الطاقة بجيبوتي: محطة الطاقة الشمسية في عرتا شهادة على عمق الشراكة مع مصر    هل يجوز المسح على الخُفِّ خشية برد الشتاء؟ وما كيفية ذلك ومدته؟.. الإفتاء تجيب    بعزيمته قبل خطواته.. العم بهي الدين يتحدى العجز ويشارك في الانتخابات البرلمانية بدشنا في قنا    افتتاح مشروعات تعليمية وخدمية في جامعة بورسعيد بتكلفة 436 مليون جنيه    اسعار الحديد اليوم السبت 27ديسمبر 2025 فى المنيا    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : المطلوب " انابة " بحكم " المنتهى " !?    المستشفيات الجامعية تقدم خدمات طبية ل 32 مليون مواطن خلال 2025    أخبار × 24 ساعة.. موعد استطلاع هلال شعبان 1447 هجريا وأول أيامه فلكيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القنفذ

لا يدري أشرف عبد الغني لماذا التصق به لقب الدكتور‏,‏ كلمة أطلقها موظف الحجز عندما تكرم فخصص له جناحا ممتازا لم يطلبه‏, لكنها التصقت. كان يكفيه غرفة هادئة قريبة من البحر, فقرر الرجل أن يعامله معاملة خاصة: أفضل جناح عندنا يا دكتور. هدية منا. ما عندناش أعز منك. وبوغت أشرف للحظة ثم شكر الموظف شكرا جزيلا, مع علمه أنه سيدفع ثمن الهدية كاملا في النهاية. مصر بلد الألقاب. كثيرون في القاهرة سائقو التاكسي والحلاقون والبوابون والزبالون وعساكر الشرطة ينادونه يا باشا, وهو يفهم ذلك: الباشا هو من يرش البقشيش أينما ذهب. أما حكاية الدكتور هذه, فهي جديدة عليه ولا يفهم ما يترتب عليها. قال مرارا إنه ليس طبيبا ولا أستاذا جامعيا ولا يحمل درجة الدكتوراه.( ود لو استطاع شرح حقيقة وضعه) أنا أيها السيدات والسادة صحفي صغير يعني في احدي المجلات ببريد العشاق. لا صلة لي بالشأن العام, ولست عضوا في الحزب الحاكم, صحيح انني كاتب أيضا. ولكن الكتابة في هذه الحالة لا تعني الشيء الكثير بالنسبة لكم. في الماضي كنت أكتب عن الحياة الطبيعية في حينا الأخضر الجميل رثاء له قبل أن يزال. والآن أكتب قصصا قصيرة في عصر الرواية). لكن قضي الأمر: هو الدكتور أشرف شاء أم لم يشأ. لم يستغرق تعميم اللقب أكثر من يومين: الدكتور دخل, الدكتور خرج, الدكتور يطلب مزيدا من البشاكير, الدكتور يريد تجديد سلة الفاكهة التي توضع في جناحه كل يوم, الدكتور لا يريد الحلويات الشرقية, الدكتور يصر علي أن يأتيه العيش البلدي مقددا في الافطار.
ليستمتع إذن بهذه الدكتوراه الفخرية وبالتكريم الذي لا يستحقه. جناح يطل علي حمام السباحة من ناحية وعلي البحر من الناحية الأخري. وسلة من الفاكهة تتجدد كل يوم وإن لم يصب منها إلا تفاحة واحدة, وصينية حلويات شرقية كل يومين, مع أنه لا يقربها. وأراد أن يكون بعيدا عن سائر النزلاء وأن يستمع في الليل إلي حركة الأمواج بين امتداد وانحسار, فكان له ما أراد. وزادت رغبته في الابتعاد عن الناس عندما رأي ما آلت إليه الغردقة ورأي الفندق الذي حجز مكانا فيه. لم يعد يعرف هذه البلدة بعد أن أصبحت مدينة أو تكاد. عندما جاءها قبل ذلك بعشر سنوات, كانت صغيرة متواضعة يسافر إليها في المساء من قريته السياحية ليتناول العشاء في مطعم متواضع للسمك. أما الآن فهو يقيم في فندق في وسط الضجيج والزحام. فندق بعده فندق أو مول أو مرقص أو بار بازار بلا نهاية. والبلدة المدينة مزدحمة بالسياح. هناك جنسيات مختلفة, ولكن الروس هم الجنسية الغالبة. وأصبح كثير من اللافتات وقوائم الطعام بالروسية. والشباب العاملون في المطاعم والبازارات والبارات يتكلمون الروسية, بل ويخاطبونه بالروسية قبل أن يؤكد لهم أنه مصري صحيح.
تمدد علي الشيزلونج وتنفس بعمق. لابد مما ليس منه بد. عليه أن يتأقلم مع هذا الجو, من حسن الحظ أن عاشور العامل في كشك البشاكير وجد له أبعد مكان عن سائر النزلاء: علي الطرف الأقصي من لسان من الخرسانة يمتد نحو البحر ويفصل بلاج الفندق عن بلاج الفندق المجاور. وهو من هذا الموقع يواجه البحر ويرقب السفن رائحة غادية ويشرف علي المصطافين من عل. وخطر له في البداية أن يحمل بعض رسائل القراء إلي ركن العشاق لكي يرد عليها, ثم رفض الفكرة علي الفور. لن يشغل باله بأي شيء. ولم يأخذ الكمبيوتر المحمول إلا بعد كثير من التردد. الكمبيوتر قد يغريه بالكتابة, وهو لا يريد أن يكتب ولا أن يفكر. ولم يغير رأيه علي مضض إلا عندما خطر له أنه ينبغي ألا يرد النعمة إذا جاءت. في بعض الأحيان يطلب الكتابة فتستعصي عليه ويجد ذهنه راكدا خامدا. ولكن أسلاك الاتصال الخفية تهتز في أحيان أخري وتحمل له الأفكار غير مدعوة. فهل يجوز له عندئذ أن يمتنع عن الكتابة؟ ليأخذ الكمبيوتر إذن علي ألا يقربه إلا إذا جاءته دعوة ملحة.
وتحدد بعد اليومين الأولين برنامج واضح لقضاء الوقت. سبحة قصيرة في حمام السباحة قبل الافطار, وبعد الافطار تناول القهوة علي الريحة وقراءة الصحف في مقهي بلدي في مواجهة الفندق. ثم استرخاء علي الربوة وسباحة بين الحين والحين وقراءات خفيفة واللجوء إلي النعاس أو التناعس عند ظهور أي علامات للفتور. وعندما تقترب الشمس من المغيب يعود إلي الغرفة ويأخذ دشا ثم يستلقي علي الفراش في مواجهة التليفزيون ليشاهد الصور تمر أمامه دون تركيز, وفي المساء يخرج لتناول العشاء. معظم النزلاء يتعشون في الفندق لأن العشاء جزء من الباكيج. أما هو فيفضل الخروج للهروب من المناظر المزعجة. في الماضي كان يعيب علي المصريين شراهتهم في القري السياحية. يهجمون علي البوفيه المفتوح بشراسة, كأن وجبة الافطار هي آخر وجبة يتناولونها قبل يوم القيامة, والنساء أسوأ من الرجال. تراهن بعد التهام الفول والبيض والجبنة البيضاء يملأن مرارا أطباقهن بالكعك والفطائر والكراوسان يكومون ذلك أكواما, بل ويطلبن إلي أبنائهن الإتيان بالمزيد من الإمدادات. ولكنه يلاحظ الآن أن الاجانب يأتون بتصرفات مماثلة. الكل يحاول أن يتناول في الإفطار أكبر كمية من الطعام لكي يتمكن من الصمود دون غداء الغداء ليس جزءا من الباكيج طيلة النهار حتي يأتي موعد العشاء. وأسوأ الجميع بعض الأزواج الذين بلغوا أرذل العمر ولم يعد في مقدورهم السير إلا بصعوبة. لايكتفون بما يلتهمون, بل تحرص الزوجة علي مغافلة الناس والجرسونات فتخفي بسرعة بعض الفطائر في حقيبة اليد. كأن اقتراب الموت فاتح للشهية.
ومرت الأيام بسلام حتي خطرت له وهو تحت الدش فكرة دفعته دفعا إلي تجفيف جسمه بسرعة والإسراع إلي الكمبيوتر:
عندما دخلت المقهي اليوم رأيت فتاة شقراء لعلها روسية أو ألمانية تدخن الشيشة. وهي تفعل ذلك بمهاره لانظير لها. شفطات ضخمة من الدخان تدخل الفم وتخرج من الخيشومين في خطين متوازيين بسلاسة رائعة. وبلا سعال. الجرسونات وماسحو الأحذية وبائعو التوافة السياحية يحومون حولها. وكل ذلك لايصرفها عن ارتضاع المبسم. والعينان حالمتان. وابتسامة رضا ترفرف علي الشفتين. والشيشة تقرقر في سعادة. أهي روسية أم ألمانية؟ ليتهم يهدأون قليلا لكي أستطلع خبرها. لو كانت ألمانية, فبإمكاني أن أحدثها عن كاتارينا. من الغريب أنك من هامبورج. يا للمصادفات العجيبة! هل تعلمين أنه كانت لي صديقة في هامبورج. والغريب أنها كانت تشبهك شيئا ما. وما إلي ذلك, ولكن أمن المناسب أن تبدأ التودد إلي فتاة لاتعرفها بالحديث عن حب قديم؟ ولم لا؟ المهم أي كلام للتغلب علي الحرج. أما لو كانت روسية, فذلك هو الباب المسدود... لكن هب.. هب أنها روسية وتعرف قليلا من الانجليزية. عم تحدثها؟ عن لينين؟ أم عن دوستويفسكي ؟ أم عن الحرب والسلام؟ أم عن البسترويكا؟ هل جننت؟ كأنك لاتعلم ان كل ذلك أصبح جزءا من العصر الحجري. كأنك تبحث عن أفضل طريقة لتنفيرها. ماهو الكلام الذي يمكن أن يحرك المياه الساكنة؟ ماهو الطعم؟.... أريد أن أقول: ماهو الطعم الذي يمكن ان يجتذب السمك؟ النساء يعشقن الفكاهة, بقبلن علي من يضحكهن. ماذا لو حدثتها عن يلتسين والفودكا؟ ماذا لو تطرقت إلي أبو نواس الذي كان يسكر حتي يحسب الديك حمارا؟ يبدو أن هذا خط رائع للهجوم.
ليتها تكون روسية علي معرفة بالانجليزية. ونكتفي بهذا القدر.
الكون لا يخطر له علي بال وهو في القاهرة. ينسي أنه جزء من العالم. ويتجاهل البيئة الحية التي كانت شغلة الشاغل ذات يوم. لم يعد يخرج في جولاته اليومية بما في ذلك جولاته الليلية ليطمئن علي حالة الشجر. لم يعد يعنيه مصير الشجر الذي يعلم أنه لابد زائل بفضل نزعة التدمير التي أصابت المصريين. كل الأحداث التي تجري وكل الأخبار الي تنشر تسير في اتجاه واحد جزئيات الحياة اليومية ومتاعبها والبحث عن لقمة العيش. والناس بعد أن فقدوا القدرة علي الثورة علي ظالميهم يدفعهم الشعور بالعجز واليأس إلي الاعتداء علي أقرب الناس إليهم: زوجاتهم أو أزواجهن وأطفالهم وإخوتهم ووالديهم. وترتكب الجريمة أحيانا لأتفه الأسباب, وتمارس فيها أفظع الأسلحة: الساطور وسم الفئران. أما هنا سيما عندما يوقظه حفيف الأمواج في الفجر فإنه يستطيع التغلب علي جاذبية الهنا والآن وجاءت حفيف الأمواج بما يشبه الغمغمة. فوضع رأسه وهو لايزال بين اليقظة والنوم بين وسادتين. وعندئذ بان الكلام: أنت ابن الطبيعة المحبوب, أنت الفائز بالغبطة.
ها هي دعوة إلي الكتابة. في لحظة ماتتراجع الحدود وينفتح فضاء للاتصالات مع المجهول. وانتقل بالكمبيوتر إلي مكانه في مواجهة البحر. وأصبح لا يفارقه طيلة اليوم:
آه استطعت أن أهب نفسي كاملة. أتابع السفن حتي تتضاءل فتصبح نقاطا صغيرة بالقرب من خط الأفق. وأصيخ السمع. أنا جهاز استقبال للمحيط ومحاور له. تأتي فكرة أو صورة أو ذكري أو عبارة تستدعي أسئلة فاقتراحات أو نصائح أو تعليقات أو تلميحات أو إشارات. تهبط أو تصعد لا أدري من أين. وأنا طالما جري الكلام واستمر الحوار ابن الطبيعة المحبوب والفائز بالغبطة. أشعر عندئذ أن الاختيار وقع علي لأكون أداة للتعبير. ولكن تقتحم هذه السعادة صورة جامحة. فأراني أتمرغ مع فتاة علي الرمل الساخن أو أخوض بها الأمواج. أهي مروة أم كاتارينا أم الروسية/ الألمانية؟ وأري أيضا أن هناك من يحرمني من الارتواء. وهذه هي الأرض الصلبة التي أرتد إليها وأرتطم بها كلما حلقت..
وتبين أن الشقراء ألمانية وليست روسية. كانت تلاعب طفلا يحبو علي الرمل. تحمله ثم تطلقه ثم تطارده. يأخذ رشفة من البزازة ثم يدور علي عقبيه ويختبئ بين مقاعد المصطافين. وتناديه: تومي( اختصار فيما يبدو لتوماس). تقولها منغمة ممدودة: تومي. صوتها يدل علي أنها ألمانية. أهو طفلها ؟ وأين زوجها؟ أم أنها أتت بالطفل وحدها؟ كيف يمكنه الاقتراب منها؟ المشكلة ليست لغوية.
فما الذي يحول بينه وبينها؟
ها أنذا جالس علي الربوة أرقب الألمانية وطفلها الحابي ولا أستطيع الاقتراب منها. قصة قديمة تتكرر بتنويعات مختلفة. قصة الرقيب الذي لا يفارقني.
حدث في هامبورج الآن وأنا يقظان مستسلم للشمس ونسيم البحر أعرف علي وجه اليقين أن ذلك حدث في هامبورج دون سواها أن كنت أنا وكاتارينا نتقدم أباها وأمها في الشارع المشمس. وكانت تحاول وضع يدها في يدي فأتحاشاها. كنت أشعر بعيني الأم تراقباتا. قال لي أبوها بعد تناول الغذاء علي الرصيف أمام أحد المطاعم إنهم يشعرون كأنني واحد منهم. إشارة تشجيع صريحة ولكني لم أكن مطمئنا تماما. ومع ذلك فقد بدت الدنيا يومذاك وكأنها تحتفل بحبنا. الشمس والبواخر العملاقة في الميناء والنورس. إلي أن قالت كاتارينا: أنا في حالة من الصراع. أبي راض عنك تماما. أما أمي فتعترض عليك لأنك لست ألمانيا. وهي تريد لبنتها الوحيدة أن تتزوج ألمانيا وتعيش بالقرب منها. لا تفتأ تقول: ماذا أفعل في شيخوختي بدونك؟ قلت: لا يستطيع أحد أن يلومها علي ذلك. فردت كاتارينا محتجة: إذن تؤيد هذه البقرة؟ تريد لي أن أتزوج ألمانيا؟ قلت: لا أعني ذلك. كل ما هنالك أنني أتفهم وجهة نظرها: وكان رد الفتاة غريبا. فقد التصقت بي وقبضت علي يدي بحزم, وقالت: ما رأيك لو ذهبنا إلي غرفتك؟ وعندما استأذنا في الانصراف تمني لنا الأب قضاء وقت طيب. ثم اقتحمت صاحبة البيت الغرفة.
هل طرقت الباب قبل أن تدخل؟ ربما. لا أدري. كانت جذوة الحب مشتعلة, فانطفأت. عندئذ تصدع كل شئ. أزاحتني الفتاة عن صدرها بغير رفق. بل وأزاحتني من حياتها. هل يئست مني لخجلي وقلة حيلتي؟ وهل كانت تلك طريقتها في اختباري وحل الصراع؟ الشئ المؤكد أن روح الأم حلت في صاحبة البيت فأصبحت هي الرقيب. ثم حلت الروح في مديرة تحرير المجلة.
وأصبحت كاتارينا هي مروة. وأصبحت أنا نفسي رقيبا. لا أدخل مكانا فيه ناس حتي أضع نفسي دون وعي خارج الحلقة, أراقب ما يفعلون ولا أشارك فيه. وأراقب نفسي أنا الجالس بمفردي علي مرتفع من الأرض. ولم أعد أكتفي بوجود الكمبيوتر في الغرفة علي سبيل الاحتياط. بل أصبحت آتي به ليكون هو صاحبي الوحيد طيلة النهار. والكتابة تعني الوقوف موقف المراقب: تفحص الوجوه والتنصت علي الناس والتقاط ما يتفوهون به من عبارات لا تخطر علي بال وتسجيل تصرفاتهم الغريبة. كل شئ يصبح مادة محتملة للقصص. الاختيار الذي وقع عليك فيه قضاء بالحرمان والوحدة..
هل قلت: الغبطة؟
مد وجزر. تنحسر موجة النشوة لتتكشف الكآبة. ما جدوي كتابة القصص؟ ما جدوي الكتابة؟ الناس مشغولون بما هو أشد إلحاحا. والذين يقرأون منهم يفضلون الكتابات التي تتناول مشكلاتهم الملحة, التي تغوص معهم في وحل الحياة. وأنت إنسان محظوظ لأنك تجلس علي ربوة من الميراث تغنيك عن المذلة وسؤال اللئيم.
فلا تتخيل أن اهتماماتك يمكن أن تعني الناس. أنت غريب عليهم شئ يدفع إلي اليأس: كأن وحل الحياة ليست له أبعاد أخري. ثم يحدث انفراج: كبر عقلك. يجب أن تري الأمور وفقا للمنظور الصحيح. وما هو المنظور الصحيح؟ لتكن مثل الفقير الهندي الذي يدرك أن أوضاع الحياة مختلة, فتراه يقف علي رجل واحدة أو علي رأسه أو يرقد علي فراش من المسامير يحاول أن يجد التوازن الصحيح من الكون.
وأنت عندما تكتب تسعي واعيا أو غير واع إلي مثل ذلك التوازن.
ما بين القنوط والشعور بالغبطة تمر... وتوقف دون أن يكمل الجملة. ها هو صوت مسعد يدوي كعادته قبل الظهيرة بين المصطافين: أكوا جيم.. أكوا جيم... ويظهر فتي صعيدي قصير القامة نحيل مسطح البطن خفيف الحركة. يدور بين المظلات يصافح الواقفات ويقبل أيديهن ويلمس أكتاف المستلقيات. وتتمنع بعضهن إلي أداء تمرينات الماء في حمام السباحة. ولمسعد جولتان أخريان. فبعد الظهيرة يطلق صفارته ليجمع فريقين من الجنسين للعب الكرة الطائرة. وفي الرابعة بعد الظهر يدق الطبل وتصدح الموسيقي ليبدأ الرقص البلدي علي المنصة. وهنا تتجلي مواهب مسعد الفريدة. فهو رغم صغر حجمه ونحوله أستاذ في هز البطن و رجرجة الردفين وقادر علي استدراج الغربيات فتيات وسيدات في منتصف العمر إلي دوامة من حمي الانتشاء بالجسد فيما يشبه قداسا وثنيا.
من أين للصعيدي بهذا الفن ؟ كنت أريد أن أقول إن الأيام تمر والعمر ينتقضي مابين القنوط والشعور بالغبطة حتي ظهر. ذكرني ظهوره بأن ثمة طريقة للوجود بين النساء. لا يكف عن الرقص وهو يدور بين المظلات ولا يكف عن الرقص وهو يقف علي حافة حوض السباحة يعلم النساء كيف يؤدين التمرينات المائية. ويخيل إلي وهو يرقص منفرج الساقين أنه خرج من باطن الأرض. ولا أدري لماذا أضيف له في خيالي ذيلا وأذنين طويلتين كأنه فرس.... وعندما أري كيف يتلعبط بجسمه, يخيل الي.... جاء عاشور يحمل زجاجة كوكا كولا, فسألته: الواد ده حكايته إيه يا عاشور؟ فكان رده مقتضبا كعادته دائما: بتاع كله يا دكتور. وانصرف علي الفور. وصعيدي بدوره, ولكنه علي خلاف مسعد مهموم دائما لا يبتسم وقليل الكلام. يسير بسرعة وفي خط مستقيم..
وظهرت الألمانية, فتوقف أشرف عن الكتابة. كانت تطارد تومي وتناديه كعادتها. واختفي الشيطان الصغير ولم تستطع اقتفاء أثره في لعبة الاستغماية, فوقفت في مكانها لاتدري أين تتجه. ولكن أشرف استطاع من موقعه اكتشاف مخبأ الطفل وراء أحد المقاعد. فهبط بسرعة إلي أرض المصطافين وانطلق نحو الطفل. وهم بالتقاطه, لولا أنه وجد من يسد عليه الطريق. كيف ظهر مسعد فجأة علي هذا النحو الخاطف كأنما انشقت الأرض عنه ؟ وكان يبتسم وهو يقول: عنك يادكتور. وسبقه إلي أداء المهمة. فاضطر أشرف إلي الانسحاب والرجوع إلي الكمبيوتر:
ها هي فرصة رائعة لفتح باب الكلام معها قد ضاعت. ولكن هناك ما ينبغي تسجيله. قالت لمسعد إن طفلها لا يحب الماء وإنه يصرخ عندما تقترب به من حمام السباحة. ومع ذلك تراه يندفع نحو البحر كلما أطلقت سراحه. والتفت مسعد إلي الطفل مستنكرا: صحيح ياتومي ؟ كيف ياصاحبي ما بتحب البحر ؟ وكان تومي يبتسم واللعاب يسيل من فمه. وكانت مكبرات الصوت تذيع أغنية بوب مارلي نو وومان نو كراي( لا يا امرأة, كلا لا تبك), فأخذ مسعد يرقص بالطفل علي إيقاعها. وعندما بدأت جوقة النائحات تردد نو وومان نو كراي, أخذ تومي يتمايل مع مسعد. وفجأة انطلق به هذا الأخير نحو البحر. وذعرت الأم وأخذت تطارد الصعيدي: يا مسعد يا مجنون ولكن مسعد دخل البحر بتومي, ولم تظهر علي الطفل اي علامة تدل علي الخوف, ولم يصدر عنه صوت استغاثة. كان مطمئنا تماما إلي حضن الصعيدي. وعندما غمسه مسعد في الماء لم يحتج, بل أخذ يقهقه..
وفي الليل لم يستطع أشرف النوم إلا خطفة هنا وخطفة هناك. ولما استحال عليه النوم نهض في الفجر ليجلس الي الكمبيوتر. يبدو أنه لم يعد قادرا علي الوفاء بوعده لنفسه أن يقضي علي شاطيء البحر أياما هادئة. يبدو أن عطلة الدكتور قد أشرفت علي نهايتها, وأن عليه أن يعود من حيث أتي: جحيم القاهرة. ووضع أصابعه علي لوحة المفاتيح مستسلما.
خفق قلبي عندما رأيت انتصاب قامتها مع انسياب الظهر فوق خصر يتقعر قليلا ليبرز ما دونه. خفيفة لينة يسهل حملها وطيها. حبذا لو حملتها واقتحمت بها البحر. كذلك الحوت الذي شاهدته في أحد الأفلام يحمل صاحبته حملا لا ينفك عنها. يغوص بها نحو القاع ليقفز بها نحو النجوم. أما الطفل الرضيع... أما مسعد, فهو مخلوق خرج من بطن الأساطير اليونانية: نصفه إنسان ونصفه فرس: بتاع كله. ساتيروي أو جني الغابة والتلال, من أتباع ديونيسيوس رب الخمر والنشوات العارمة.... يحمل الكأس دائما ويطارد الحوريات.
وفي الليلة الأخيرة التي قضاها في الغردقة وقف أمام باب الفندق حائرا لا يدري أين سيتعشي. كان الرصيف غاصا بالناس والشارع مزدحما بسيارات الميكروباص. وفي وسط الضجيج سمع من يقول: مساء الخير يادكتور والتفت إلي يمينه فوجد مسعد وفي صحبته الألمانية. وابتسم عندما رآها تسير علي كعب عال فيبدو مسعد شديد القصر بجانبها. ولكنها كانت سعيدة: تسير بخفة كأنها تريد أن ترقص. جمالها يخطف الأبصار. تتمايل في فستان بنفسجي يبرز ليونتها ورشاقتها. وماذا حدث لشعرها ؟ غيرت التسريحة, فأصبح شعرها أفرو تتدلي منه ضفائر كثيرة. شقراء ولكن إفريقية. أو قل إنها خلاسية. وخيل إليه لأول وهلة أنها خرجت مع مسعد ليرشدها إلي المتاجر. ولكن قلبه غاص بين ضلوعه عندما رأي الصعيدي يشبك كفه بكفها ثم يخاصرها دون اعتراض. والأمر العجيب أنها استدارت لتلوح له بالتحية هي التي لم تلتفت إليه قط طيلة أيام. هاهي الدنيا تحييه في مرورها به. ترتدي فستانا بنفسجيا وشعرها أفرو. هل يهرع إلي غرفته فيقف علي رجل واحدة كي يستعيد التوازن الذي اختل؟ أم يلجأ إلي الكمبيوتر لكي يسجل اللحظة وهي ما زالت طازجة ؟
افعل ما تشاء, فلن تأتيك اليوجا ولا الكتابة برضيع مثل تومي يظهر ثم يختفي ويتدحرج كأنه قنفذ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.