"المنشاوي" يشارك في المنتدى الإقليمي الأول للتعليم القانوني العيادي في أسيوط    نائب رئيس الوزراء: معرض TransMEA شهد مشاركة دولية واسعة وحضور جماهيرى كبير    وكيل زراعة كفر الشيخ: صرف الأسمدة بالجمعيات الزراعية دون ربطها بمستلزمات الإنتاج    ستاندرد بنك يعلن الافتتاح الرسمى لمكتبه التمثيلى فى مصر    الإنتربول يكرم الأمين العام لمجلس وزراء الداخلية العرب بوسام الطبقة الخاصة    الأرصاد تحذر: حالة عدم استقرار وأمطار وبرق ورعد بعدة مناطق واحتمالات تساقط ثلوج    ختام ورشة من الحكاية إلى المسرحية ضمن مهرجان القاهرة لمسرح الطفل    وزير الاستثمار: مصر ضمن أفضل 50 اقتصاداً فى العالم من حيث الأداء والاستقرار    جنوب سيناء.. تخصيص 186 فدانا لزيادة مساحة الغابة الشجرية في مدينة دهب    وزارة العمل: 157 فرصة عمل جديدة بمحافظة الجيزة    بحماية الجيش.. المستوطنون يحرقون أرزاق الفلسطينيين في نابلس    خبر في الجول – الأهلي يقيد 6 لاعبين شباب في القائمة الإفريقية    موعد مباراة مصر وأوزبكستان.. والقنوات الناقلة    مبابي: سعداء بعودة كانتي للمنتخب.. والعديد من الفرق ترغب في ضم أوباميكانو    موعد نهائي كأس السوبر المصري لكرة اليد بين الأهلي وسموحة بالإمارات    «مؤشرات أولية».. نتائج الدوائر الانتخابية لمقاعد مجلس النواب 2025 في قنا    بعد شكوى أولياء الأمور.. قرار هام من وزير التعليم ضد مدرسة «نيو كابيتال» الخاصة    19 ألف زائر يوميًا.. طفرة في أعداد الزائرين للمتحف المصري الكبير    بعد افتتاح المتحف المصري الكبير.. آثارنا تتلألأ على الشاشة بعبق التاريخ    محمد صبحي يطمئن جمهوره ومحبيه: «أنا بخير وأجري فحوصات للاطمئنان»    أسعار الفراخ والبيض اليوم الأربعاء 12 نوفمبر 2025 بأسواق الأقصر    هبة التميمي: المفوضية تؤكد نجاح الانتخابات التشريعية العراقية بنسبة مشاركة تجاوزت 55%    الرئيس السيسي يصدق على قانون الإجراءات الجنائية الجديد    نجم مانشستر يونايتد يقترب من الرحيل    الغرفة التجارية بمطروح: الموافقة على إنشاء مكتب توثيق وزارة الخارجية داخل مقر الغرفة    ذكرى رحيل الساحر الفنان محمود عبد العزيز فى كاريكاتير اليوم السابع    أثناء عمله.. مصرع عامل نظافة أسفل عجلات مقطورة بمركز الشهداء بالمنوفية    رئيس الوزراء يتفقد أحدث الابتكارات الصحية بمعرض التحول الرقمي    غنية ولذيذة.. أسهل طريقة لعمل المكرونة بينك صوص بالجبنة    بتروجت يواجه النجوم وديا استعدادا لحرس الحدود    عاجل- محمود عباس: زيارتي لفرنسا ترسخ الاعتراف بدولة فلسطين وتفتح آفاقًا جديدة لسلام عادل    «المغرب بالإسكندرية 5:03».. جدول مواقيت الصلاة في مدن الجمهورية غدًا الخميس 13 نوفمبر 2025    وزير التعليم: الإعداد لإنشاء قرابة 60 مدرسة جديدة مع مؤسسات تعليمية إيطالية    الرقابة المالية تعلن السماح لشركات تأمين الحياة بالاستثمار المباشر في الذهب    انهيار عقار بمنطقة الجمرك في الإسكندرية دون إصابات    عاجل- رئيس الوزراء يشهد توقيع مذكرة تفاهم بين مصر ولاتفيا لتعزيز التعاون فى مجالات الرعاية الصحية    «عندهم حسن نية دايما».. ما الأبراج الطيبة «نقية القلب»؟    اليابان تتعاون مع بريطانيا وكندا في مجالي الأمن والاقتصاد    وزير دفاع إسرائيل يغلق محطة راديو عسكرية عمرها 75 عاما.. ومجلس الصحافة يهاجمه    منتخب مصر يخوض تدريباته في السادسة مساء باستاد العين استعدادا لودية أوزبكستان    المشدد 15 و10 سنوات للمهتمين بقتل طفلة بالشرقية    السعودية تستخدم الدرون الذكية لرصد المخالفين لأنظمة الحج وإدارة الحشود    القليوبية تشن حملات تموينية وتضبط 131 مخالفة وسلع فاسدة    فيلم «السلم والثعبان: لعب عيال» يكتسح شباك تذاكر السينما في 24 ساعة فقط    الحبيب الجفرى: مسائل التوسل والتبرك والأضرحة ليست من الأولويات التى تشغل المسلمين    دار الإفتاء توضح حكم القتل الرحيم    ما الحكم الشرعى فى لمس عورة المريض من قِبَل زوجة أبيه.. دار الإفتاء تجيب    «العمل»: التفتيش على 257 منشأة في القاهرة والجيزة خلال يوم    الأهلي يضع تجديد عقد ديانج في صدارة أولوياته.. والشحات يطلب تمديدًا لعامين    إطلاق قافلة زاد العزة ال71 بحمولة 8 آلاف طن مساعدات غذائية إلى غزة    قصر العينى يحتفل بيوم السكر العالمى بخدمات طبية وتوعوية مجانية للمرضى    «لو الطلاق بائن».. «من حقك تعرف» هل يحق للرجل إرث زوجته حال وفاتها في فترة العدة؟    وزير الخارجية يعلن انعقاد المنتدى الاقتصادي المصري – التركي خلال 2026    اليوم.. عزاء المطرب الشعبي إسماعيل الليثي    «وزير التنعليم»: بناء نحو 150 ألف فصل خلال السنوات ال10 الماضية    نتائج أولية في انتخابات النواب بالمنيا.. الإعادة بين 6 مرشحين في مركز ملوي    اليوم.. محاكمة 6 متهمين ب "داعش أكتوبر"    دعاء الفجر | اللهم ارزق كل مهموم بالفرج واشفِ مرضانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القنفذ

لا يدري أشرف عبد الغني لماذا التصق به لقب الدكتور‏,‏ كلمة أطلقها موظف الحجز عندما تكرم فخصص له جناحا ممتازا لم يطلبه‏, لكنها التصقت. كان يكفيه غرفة هادئة قريبة من البحر, فقرر الرجل أن يعامله معاملة خاصة: أفضل جناح عندنا يا دكتور. هدية منا. ما عندناش أعز منك. وبوغت أشرف للحظة ثم شكر الموظف شكرا جزيلا, مع علمه أنه سيدفع ثمن الهدية كاملا في النهاية. مصر بلد الألقاب. كثيرون في القاهرة سائقو التاكسي والحلاقون والبوابون والزبالون وعساكر الشرطة ينادونه يا باشا, وهو يفهم ذلك: الباشا هو من يرش البقشيش أينما ذهب. أما حكاية الدكتور هذه, فهي جديدة عليه ولا يفهم ما يترتب عليها. قال مرارا إنه ليس طبيبا ولا أستاذا جامعيا ولا يحمل درجة الدكتوراه.( ود لو استطاع شرح حقيقة وضعه) أنا أيها السيدات والسادة صحفي صغير يعني في احدي المجلات ببريد العشاق. لا صلة لي بالشأن العام, ولست عضوا في الحزب الحاكم, صحيح انني كاتب أيضا. ولكن الكتابة في هذه الحالة لا تعني الشيء الكثير بالنسبة لكم. في الماضي كنت أكتب عن الحياة الطبيعية في حينا الأخضر الجميل رثاء له قبل أن يزال. والآن أكتب قصصا قصيرة في عصر الرواية). لكن قضي الأمر: هو الدكتور أشرف شاء أم لم يشأ. لم يستغرق تعميم اللقب أكثر من يومين: الدكتور دخل, الدكتور خرج, الدكتور يطلب مزيدا من البشاكير, الدكتور يريد تجديد سلة الفاكهة التي توضع في جناحه كل يوم, الدكتور لا يريد الحلويات الشرقية, الدكتور يصر علي أن يأتيه العيش البلدي مقددا في الافطار.
ليستمتع إذن بهذه الدكتوراه الفخرية وبالتكريم الذي لا يستحقه. جناح يطل علي حمام السباحة من ناحية وعلي البحر من الناحية الأخري. وسلة من الفاكهة تتجدد كل يوم وإن لم يصب منها إلا تفاحة واحدة, وصينية حلويات شرقية كل يومين, مع أنه لا يقربها. وأراد أن يكون بعيدا عن سائر النزلاء وأن يستمع في الليل إلي حركة الأمواج بين امتداد وانحسار, فكان له ما أراد. وزادت رغبته في الابتعاد عن الناس عندما رأي ما آلت إليه الغردقة ورأي الفندق الذي حجز مكانا فيه. لم يعد يعرف هذه البلدة بعد أن أصبحت مدينة أو تكاد. عندما جاءها قبل ذلك بعشر سنوات, كانت صغيرة متواضعة يسافر إليها في المساء من قريته السياحية ليتناول العشاء في مطعم متواضع للسمك. أما الآن فهو يقيم في فندق في وسط الضجيج والزحام. فندق بعده فندق أو مول أو مرقص أو بار بازار بلا نهاية. والبلدة المدينة مزدحمة بالسياح. هناك جنسيات مختلفة, ولكن الروس هم الجنسية الغالبة. وأصبح كثير من اللافتات وقوائم الطعام بالروسية. والشباب العاملون في المطاعم والبازارات والبارات يتكلمون الروسية, بل ويخاطبونه بالروسية قبل أن يؤكد لهم أنه مصري صحيح.
تمدد علي الشيزلونج وتنفس بعمق. لابد مما ليس منه بد. عليه أن يتأقلم مع هذا الجو, من حسن الحظ أن عاشور العامل في كشك البشاكير وجد له أبعد مكان عن سائر النزلاء: علي الطرف الأقصي من لسان من الخرسانة يمتد نحو البحر ويفصل بلاج الفندق عن بلاج الفندق المجاور. وهو من هذا الموقع يواجه البحر ويرقب السفن رائحة غادية ويشرف علي المصطافين من عل. وخطر له في البداية أن يحمل بعض رسائل القراء إلي ركن العشاق لكي يرد عليها, ثم رفض الفكرة علي الفور. لن يشغل باله بأي شيء. ولم يأخذ الكمبيوتر المحمول إلا بعد كثير من التردد. الكمبيوتر قد يغريه بالكتابة, وهو لا يريد أن يكتب ولا أن يفكر. ولم يغير رأيه علي مضض إلا عندما خطر له أنه ينبغي ألا يرد النعمة إذا جاءت. في بعض الأحيان يطلب الكتابة فتستعصي عليه ويجد ذهنه راكدا خامدا. ولكن أسلاك الاتصال الخفية تهتز في أحيان أخري وتحمل له الأفكار غير مدعوة. فهل يجوز له عندئذ أن يمتنع عن الكتابة؟ ليأخذ الكمبيوتر إذن علي ألا يقربه إلا إذا جاءته دعوة ملحة.
وتحدد بعد اليومين الأولين برنامج واضح لقضاء الوقت. سبحة قصيرة في حمام السباحة قبل الافطار, وبعد الافطار تناول القهوة علي الريحة وقراءة الصحف في مقهي بلدي في مواجهة الفندق. ثم استرخاء علي الربوة وسباحة بين الحين والحين وقراءات خفيفة واللجوء إلي النعاس أو التناعس عند ظهور أي علامات للفتور. وعندما تقترب الشمس من المغيب يعود إلي الغرفة ويأخذ دشا ثم يستلقي علي الفراش في مواجهة التليفزيون ليشاهد الصور تمر أمامه دون تركيز, وفي المساء يخرج لتناول العشاء. معظم النزلاء يتعشون في الفندق لأن العشاء جزء من الباكيج. أما هو فيفضل الخروج للهروب من المناظر المزعجة. في الماضي كان يعيب علي المصريين شراهتهم في القري السياحية. يهجمون علي البوفيه المفتوح بشراسة, كأن وجبة الافطار هي آخر وجبة يتناولونها قبل يوم القيامة, والنساء أسوأ من الرجال. تراهن بعد التهام الفول والبيض والجبنة البيضاء يملأن مرارا أطباقهن بالكعك والفطائر والكراوسان يكومون ذلك أكواما, بل ويطلبن إلي أبنائهن الإتيان بالمزيد من الإمدادات. ولكنه يلاحظ الآن أن الاجانب يأتون بتصرفات مماثلة. الكل يحاول أن يتناول في الإفطار أكبر كمية من الطعام لكي يتمكن من الصمود دون غداء الغداء ليس جزءا من الباكيج طيلة النهار حتي يأتي موعد العشاء. وأسوأ الجميع بعض الأزواج الذين بلغوا أرذل العمر ولم يعد في مقدورهم السير إلا بصعوبة. لايكتفون بما يلتهمون, بل تحرص الزوجة علي مغافلة الناس والجرسونات فتخفي بسرعة بعض الفطائر في حقيبة اليد. كأن اقتراب الموت فاتح للشهية.
ومرت الأيام بسلام حتي خطرت له وهو تحت الدش فكرة دفعته دفعا إلي تجفيف جسمه بسرعة والإسراع إلي الكمبيوتر:
عندما دخلت المقهي اليوم رأيت فتاة شقراء لعلها روسية أو ألمانية تدخن الشيشة. وهي تفعل ذلك بمهاره لانظير لها. شفطات ضخمة من الدخان تدخل الفم وتخرج من الخيشومين في خطين متوازيين بسلاسة رائعة. وبلا سعال. الجرسونات وماسحو الأحذية وبائعو التوافة السياحية يحومون حولها. وكل ذلك لايصرفها عن ارتضاع المبسم. والعينان حالمتان. وابتسامة رضا ترفرف علي الشفتين. والشيشة تقرقر في سعادة. أهي روسية أم ألمانية؟ ليتهم يهدأون قليلا لكي أستطلع خبرها. لو كانت ألمانية, فبإمكاني أن أحدثها عن كاتارينا. من الغريب أنك من هامبورج. يا للمصادفات العجيبة! هل تعلمين أنه كانت لي صديقة في هامبورج. والغريب أنها كانت تشبهك شيئا ما. وما إلي ذلك, ولكن أمن المناسب أن تبدأ التودد إلي فتاة لاتعرفها بالحديث عن حب قديم؟ ولم لا؟ المهم أي كلام للتغلب علي الحرج. أما لو كانت روسية, فذلك هو الباب المسدود... لكن هب.. هب أنها روسية وتعرف قليلا من الانجليزية. عم تحدثها؟ عن لينين؟ أم عن دوستويفسكي ؟ أم عن الحرب والسلام؟ أم عن البسترويكا؟ هل جننت؟ كأنك لاتعلم ان كل ذلك أصبح جزءا من العصر الحجري. كأنك تبحث عن أفضل طريقة لتنفيرها. ماهو الكلام الذي يمكن أن يحرك المياه الساكنة؟ ماهو الطعم؟.... أريد أن أقول: ماهو الطعم الذي يمكن ان يجتذب السمك؟ النساء يعشقن الفكاهة, بقبلن علي من يضحكهن. ماذا لو حدثتها عن يلتسين والفودكا؟ ماذا لو تطرقت إلي أبو نواس الذي كان يسكر حتي يحسب الديك حمارا؟ يبدو أن هذا خط رائع للهجوم.
ليتها تكون روسية علي معرفة بالانجليزية. ونكتفي بهذا القدر.
الكون لا يخطر له علي بال وهو في القاهرة. ينسي أنه جزء من العالم. ويتجاهل البيئة الحية التي كانت شغلة الشاغل ذات يوم. لم يعد يخرج في جولاته اليومية بما في ذلك جولاته الليلية ليطمئن علي حالة الشجر. لم يعد يعنيه مصير الشجر الذي يعلم أنه لابد زائل بفضل نزعة التدمير التي أصابت المصريين. كل الأحداث التي تجري وكل الأخبار الي تنشر تسير في اتجاه واحد جزئيات الحياة اليومية ومتاعبها والبحث عن لقمة العيش. والناس بعد أن فقدوا القدرة علي الثورة علي ظالميهم يدفعهم الشعور بالعجز واليأس إلي الاعتداء علي أقرب الناس إليهم: زوجاتهم أو أزواجهن وأطفالهم وإخوتهم ووالديهم. وترتكب الجريمة أحيانا لأتفه الأسباب, وتمارس فيها أفظع الأسلحة: الساطور وسم الفئران. أما هنا سيما عندما يوقظه حفيف الأمواج في الفجر فإنه يستطيع التغلب علي جاذبية الهنا والآن وجاءت حفيف الأمواج بما يشبه الغمغمة. فوضع رأسه وهو لايزال بين اليقظة والنوم بين وسادتين. وعندئذ بان الكلام: أنت ابن الطبيعة المحبوب, أنت الفائز بالغبطة.
ها هي دعوة إلي الكتابة. في لحظة ماتتراجع الحدود وينفتح فضاء للاتصالات مع المجهول. وانتقل بالكمبيوتر إلي مكانه في مواجهة البحر. وأصبح لا يفارقه طيلة اليوم:
آه استطعت أن أهب نفسي كاملة. أتابع السفن حتي تتضاءل فتصبح نقاطا صغيرة بالقرب من خط الأفق. وأصيخ السمع. أنا جهاز استقبال للمحيط ومحاور له. تأتي فكرة أو صورة أو ذكري أو عبارة تستدعي أسئلة فاقتراحات أو نصائح أو تعليقات أو تلميحات أو إشارات. تهبط أو تصعد لا أدري من أين. وأنا طالما جري الكلام واستمر الحوار ابن الطبيعة المحبوب والفائز بالغبطة. أشعر عندئذ أن الاختيار وقع علي لأكون أداة للتعبير. ولكن تقتحم هذه السعادة صورة جامحة. فأراني أتمرغ مع فتاة علي الرمل الساخن أو أخوض بها الأمواج. أهي مروة أم كاتارينا أم الروسية/ الألمانية؟ وأري أيضا أن هناك من يحرمني من الارتواء. وهذه هي الأرض الصلبة التي أرتد إليها وأرتطم بها كلما حلقت..
وتبين أن الشقراء ألمانية وليست روسية. كانت تلاعب طفلا يحبو علي الرمل. تحمله ثم تطلقه ثم تطارده. يأخذ رشفة من البزازة ثم يدور علي عقبيه ويختبئ بين مقاعد المصطافين. وتناديه: تومي( اختصار فيما يبدو لتوماس). تقولها منغمة ممدودة: تومي. صوتها يدل علي أنها ألمانية. أهو طفلها ؟ وأين زوجها؟ أم أنها أتت بالطفل وحدها؟ كيف يمكنه الاقتراب منها؟ المشكلة ليست لغوية.
فما الذي يحول بينه وبينها؟
ها أنذا جالس علي الربوة أرقب الألمانية وطفلها الحابي ولا أستطيع الاقتراب منها. قصة قديمة تتكرر بتنويعات مختلفة. قصة الرقيب الذي لا يفارقني.
حدث في هامبورج الآن وأنا يقظان مستسلم للشمس ونسيم البحر أعرف علي وجه اليقين أن ذلك حدث في هامبورج دون سواها أن كنت أنا وكاتارينا نتقدم أباها وأمها في الشارع المشمس. وكانت تحاول وضع يدها في يدي فأتحاشاها. كنت أشعر بعيني الأم تراقباتا. قال لي أبوها بعد تناول الغذاء علي الرصيف أمام أحد المطاعم إنهم يشعرون كأنني واحد منهم. إشارة تشجيع صريحة ولكني لم أكن مطمئنا تماما. ومع ذلك فقد بدت الدنيا يومذاك وكأنها تحتفل بحبنا. الشمس والبواخر العملاقة في الميناء والنورس. إلي أن قالت كاتارينا: أنا في حالة من الصراع. أبي راض عنك تماما. أما أمي فتعترض عليك لأنك لست ألمانيا. وهي تريد لبنتها الوحيدة أن تتزوج ألمانيا وتعيش بالقرب منها. لا تفتأ تقول: ماذا أفعل في شيخوختي بدونك؟ قلت: لا يستطيع أحد أن يلومها علي ذلك. فردت كاتارينا محتجة: إذن تؤيد هذه البقرة؟ تريد لي أن أتزوج ألمانيا؟ قلت: لا أعني ذلك. كل ما هنالك أنني أتفهم وجهة نظرها: وكان رد الفتاة غريبا. فقد التصقت بي وقبضت علي يدي بحزم, وقالت: ما رأيك لو ذهبنا إلي غرفتك؟ وعندما استأذنا في الانصراف تمني لنا الأب قضاء وقت طيب. ثم اقتحمت صاحبة البيت الغرفة.
هل طرقت الباب قبل أن تدخل؟ ربما. لا أدري. كانت جذوة الحب مشتعلة, فانطفأت. عندئذ تصدع كل شئ. أزاحتني الفتاة عن صدرها بغير رفق. بل وأزاحتني من حياتها. هل يئست مني لخجلي وقلة حيلتي؟ وهل كانت تلك طريقتها في اختباري وحل الصراع؟ الشئ المؤكد أن روح الأم حلت في صاحبة البيت فأصبحت هي الرقيب. ثم حلت الروح في مديرة تحرير المجلة.
وأصبحت كاتارينا هي مروة. وأصبحت أنا نفسي رقيبا. لا أدخل مكانا فيه ناس حتي أضع نفسي دون وعي خارج الحلقة, أراقب ما يفعلون ولا أشارك فيه. وأراقب نفسي أنا الجالس بمفردي علي مرتفع من الأرض. ولم أعد أكتفي بوجود الكمبيوتر في الغرفة علي سبيل الاحتياط. بل أصبحت آتي به ليكون هو صاحبي الوحيد طيلة النهار. والكتابة تعني الوقوف موقف المراقب: تفحص الوجوه والتنصت علي الناس والتقاط ما يتفوهون به من عبارات لا تخطر علي بال وتسجيل تصرفاتهم الغريبة. كل شئ يصبح مادة محتملة للقصص. الاختيار الذي وقع عليك فيه قضاء بالحرمان والوحدة..
هل قلت: الغبطة؟
مد وجزر. تنحسر موجة النشوة لتتكشف الكآبة. ما جدوي كتابة القصص؟ ما جدوي الكتابة؟ الناس مشغولون بما هو أشد إلحاحا. والذين يقرأون منهم يفضلون الكتابات التي تتناول مشكلاتهم الملحة, التي تغوص معهم في وحل الحياة. وأنت إنسان محظوظ لأنك تجلس علي ربوة من الميراث تغنيك عن المذلة وسؤال اللئيم.
فلا تتخيل أن اهتماماتك يمكن أن تعني الناس. أنت غريب عليهم شئ يدفع إلي اليأس: كأن وحل الحياة ليست له أبعاد أخري. ثم يحدث انفراج: كبر عقلك. يجب أن تري الأمور وفقا للمنظور الصحيح. وما هو المنظور الصحيح؟ لتكن مثل الفقير الهندي الذي يدرك أن أوضاع الحياة مختلة, فتراه يقف علي رجل واحدة أو علي رأسه أو يرقد علي فراش من المسامير يحاول أن يجد التوازن الصحيح من الكون.
وأنت عندما تكتب تسعي واعيا أو غير واع إلي مثل ذلك التوازن.
ما بين القنوط والشعور بالغبطة تمر... وتوقف دون أن يكمل الجملة. ها هو صوت مسعد يدوي كعادته قبل الظهيرة بين المصطافين: أكوا جيم.. أكوا جيم... ويظهر فتي صعيدي قصير القامة نحيل مسطح البطن خفيف الحركة. يدور بين المظلات يصافح الواقفات ويقبل أيديهن ويلمس أكتاف المستلقيات. وتتمنع بعضهن إلي أداء تمرينات الماء في حمام السباحة. ولمسعد جولتان أخريان. فبعد الظهيرة يطلق صفارته ليجمع فريقين من الجنسين للعب الكرة الطائرة. وفي الرابعة بعد الظهر يدق الطبل وتصدح الموسيقي ليبدأ الرقص البلدي علي المنصة. وهنا تتجلي مواهب مسعد الفريدة. فهو رغم صغر حجمه ونحوله أستاذ في هز البطن و رجرجة الردفين وقادر علي استدراج الغربيات فتيات وسيدات في منتصف العمر إلي دوامة من حمي الانتشاء بالجسد فيما يشبه قداسا وثنيا.
من أين للصعيدي بهذا الفن ؟ كنت أريد أن أقول إن الأيام تمر والعمر ينتقضي مابين القنوط والشعور بالغبطة حتي ظهر. ذكرني ظهوره بأن ثمة طريقة للوجود بين النساء. لا يكف عن الرقص وهو يدور بين المظلات ولا يكف عن الرقص وهو يقف علي حافة حوض السباحة يعلم النساء كيف يؤدين التمرينات المائية. ويخيل إلي وهو يرقص منفرج الساقين أنه خرج من باطن الأرض. ولا أدري لماذا أضيف له في خيالي ذيلا وأذنين طويلتين كأنه فرس.... وعندما أري كيف يتلعبط بجسمه, يخيل الي.... جاء عاشور يحمل زجاجة كوكا كولا, فسألته: الواد ده حكايته إيه يا عاشور؟ فكان رده مقتضبا كعادته دائما: بتاع كله يا دكتور. وانصرف علي الفور. وصعيدي بدوره, ولكنه علي خلاف مسعد مهموم دائما لا يبتسم وقليل الكلام. يسير بسرعة وفي خط مستقيم..
وظهرت الألمانية, فتوقف أشرف عن الكتابة. كانت تطارد تومي وتناديه كعادتها. واختفي الشيطان الصغير ولم تستطع اقتفاء أثره في لعبة الاستغماية, فوقفت في مكانها لاتدري أين تتجه. ولكن أشرف استطاع من موقعه اكتشاف مخبأ الطفل وراء أحد المقاعد. فهبط بسرعة إلي أرض المصطافين وانطلق نحو الطفل. وهم بالتقاطه, لولا أنه وجد من يسد عليه الطريق. كيف ظهر مسعد فجأة علي هذا النحو الخاطف كأنما انشقت الأرض عنه ؟ وكان يبتسم وهو يقول: عنك يادكتور. وسبقه إلي أداء المهمة. فاضطر أشرف إلي الانسحاب والرجوع إلي الكمبيوتر:
ها هي فرصة رائعة لفتح باب الكلام معها قد ضاعت. ولكن هناك ما ينبغي تسجيله. قالت لمسعد إن طفلها لا يحب الماء وإنه يصرخ عندما تقترب به من حمام السباحة. ومع ذلك تراه يندفع نحو البحر كلما أطلقت سراحه. والتفت مسعد إلي الطفل مستنكرا: صحيح ياتومي ؟ كيف ياصاحبي ما بتحب البحر ؟ وكان تومي يبتسم واللعاب يسيل من فمه. وكانت مكبرات الصوت تذيع أغنية بوب مارلي نو وومان نو كراي( لا يا امرأة, كلا لا تبك), فأخذ مسعد يرقص بالطفل علي إيقاعها. وعندما بدأت جوقة النائحات تردد نو وومان نو كراي, أخذ تومي يتمايل مع مسعد. وفجأة انطلق به هذا الأخير نحو البحر. وذعرت الأم وأخذت تطارد الصعيدي: يا مسعد يا مجنون ولكن مسعد دخل البحر بتومي, ولم تظهر علي الطفل اي علامة تدل علي الخوف, ولم يصدر عنه صوت استغاثة. كان مطمئنا تماما إلي حضن الصعيدي. وعندما غمسه مسعد في الماء لم يحتج, بل أخذ يقهقه..
وفي الليل لم يستطع أشرف النوم إلا خطفة هنا وخطفة هناك. ولما استحال عليه النوم نهض في الفجر ليجلس الي الكمبيوتر. يبدو أنه لم يعد قادرا علي الوفاء بوعده لنفسه أن يقضي علي شاطيء البحر أياما هادئة. يبدو أن عطلة الدكتور قد أشرفت علي نهايتها, وأن عليه أن يعود من حيث أتي: جحيم القاهرة. ووضع أصابعه علي لوحة المفاتيح مستسلما.
خفق قلبي عندما رأيت انتصاب قامتها مع انسياب الظهر فوق خصر يتقعر قليلا ليبرز ما دونه. خفيفة لينة يسهل حملها وطيها. حبذا لو حملتها واقتحمت بها البحر. كذلك الحوت الذي شاهدته في أحد الأفلام يحمل صاحبته حملا لا ينفك عنها. يغوص بها نحو القاع ليقفز بها نحو النجوم. أما الطفل الرضيع... أما مسعد, فهو مخلوق خرج من بطن الأساطير اليونانية: نصفه إنسان ونصفه فرس: بتاع كله. ساتيروي أو جني الغابة والتلال, من أتباع ديونيسيوس رب الخمر والنشوات العارمة.... يحمل الكأس دائما ويطارد الحوريات.
وفي الليلة الأخيرة التي قضاها في الغردقة وقف أمام باب الفندق حائرا لا يدري أين سيتعشي. كان الرصيف غاصا بالناس والشارع مزدحما بسيارات الميكروباص. وفي وسط الضجيج سمع من يقول: مساء الخير يادكتور والتفت إلي يمينه فوجد مسعد وفي صحبته الألمانية. وابتسم عندما رآها تسير علي كعب عال فيبدو مسعد شديد القصر بجانبها. ولكنها كانت سعيدة: تسير بخفة كأنها تريد أن ترقص. جمالها يخطف الأبصار. تتمايل في فستان بنفسجي يبرز ليونتها ورشاقتها. وماذا حدث لشعرها ؟ غيرت التسريحة, فأصبح شعرها أفرو تتدلي منه ضفائر كثيرة. شقراء ولكن إفريقية. أو قل إنها خلاسية. وخيل إليه لأول وهلة أنها خرجت مع مسعد ليرشدها إلي المتاجر. ولكن قلبه غاص بين ضلوعه عندما رأي الصعيدي يشبك كفه بكفها ثم يخاصرها دون اعتراض. والأمر العجيب أنها استدارت لتلوح له بالتحية هي التي لم تلتفت إليه قط طيلة أيام. هاهي الدنيا تحييه في مرورها به. ترتدي فستانا بنفسجيا وشعرها أفرو. هل يهرع إلي غرفته فيقف علي رجل واحدة كي يستعيد التوازن الذي اختل؟ أم يلجأ إلي الكمبيوتر لكي يسجل اللحظة وهي ما زالت طازجة ؟
افعل ما تشاء, فلن تأتيك اليوجا ولا الكتابة برضيع مثل تومي يظهر ثم يختفي ويتدحرج كأنه قنفذ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.