موعد إجازة 6 أكتوبر 2024 للموظفين والمدارس (9 أيام عطلات رسمية الشهر المقبل)    محامي يكشف مفاجآت في قضية اتهام صلاح التيجاني بالتحرش    نائب محافظ المركزي: ملتزمين بضمان استدامة السياسات النقدية الجاذبة للاستثمار    حزب الله: اغتيال القيادي أحمد محمود وهبي في غارة إسرائيلية    فلسطين.. 3 إصابات في قصف إسرائيلي استهدف خيمة تؤوي نازحين وسط خان يونس    وزير الخارجية: الجهد المصري مع قطر والولايات المتحدة لن يتوقف ونعمل على حقن دماء الفلسطينيين    الأهلي ضد جورماهيا في دوري أبطال إفريقيا.. الموعد والقنوات الناقلة والمعلق والتشكيل    «من خليفة إيهاب جلال إلى أين سمعتي».. القصة الكاملة لأزمة الإسماعيلي وحلمي طولان    «صاحب المعلومة الأدق».. لميس الحديدي تهنئ أحمد شوبير على التعاقد مع قناة الأهلي    عاجل - الأرصاد تعلن تحسن الطقس اليوم وانخفاض الحرارة    مبلغ مالي غير متوقع وزيارة من صديق قديم.. توقعات برج العقرب اليوم 21 سبتمبر 2024    بحضور وزير الثقافة.. تفاصيل انطلاق الملتقى الدولي لفنون ذوي القدرات الخاصة    وزير الخارجية: مصر تدعم الصومال لبناء القدرات الأمنية والعسكرية    أسعار الذهب في مصر اليوم السبت 21-9-2024.. آخر تحديث    «أغلى من المانجة».. متى تنخفض الطماطم بعد أن سجل سعرها رقم قياسي؟    توجيه هام من التعليم قبل ساعات من بدء الدراسة 2025 (أول يوم مدارس)    موعد مباراة مانشستر يونايتد ضد كريستال بالاس في الدوري الإنجليزي والقنوات الناقلة    معسكر مغلق لمنتخب الشاطئية استعدادًا لخوض كأس الأمم الإفريقية    في احتفالية كبرى.. نادي الفيوم يكرم 150 من المتفوقين الأوائل| صور    قتل صديق عمره .. ذبحه ووضع الجثة داخل 3 أجولة وعاد يبحث مع أسرته عنه    أنتهاء أسطورة «ستورة» فى الصعيد .. هارب من قضايا شروع فى قتل وتجارة سلاح ومخدرات وسرقة بالإكراه    النيابة تعاين الزاوية التيجانية بعد أقوال ضحايا صلاح التيجانى    استدعاء والدة خديجة لسماع أقوالها في اتهام صلاح التيجاني بالتحرش بابنتها    د.مصطفى ثابت ينعي وزير الداخلية في وفاة والدته    عمرو سلامة: أداء «موريس» في «كاستنج» يبرز تميزه الجسدي    حفل للأطفال الأيتام بقرية طحانوب| الأمهات: أطفالنا ينتظرونه بفارغ الصبر.. ويؤكدون: بهجة لقلوب صغيرة    زاهي حواس: تمثال الملكة نفرتيتي خرج من مصر ب «التدليس»    "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. أذكار تصفي الذهن وتحسن الحالة النفسية    «الإفتاء» توضح كيفية التخلص من الوسواس أثناء أداء الصلاة    وصلت بطعنات نافذة.. إنقاذ مريضة من الموت المحقق بمستشفى جامعة القناة    أمام أنظار عبد المنعم.. نيس يسحق سانت إيتيان بثمانية أهداف    بدائل متاحة «على أد الإيد»| «ساندوتش المدرسة».. بسعر أقل وفائدة أكثر    «البوابة نيوز» تكشف حقيقة اقتحام مسجل خطر مبنى حي الدقي والاعتداء على رئيسه    إسرائيل تغتال الأبرياء بسلاح التجويع.. مستقبل «مقبض» للقضية الفلسطينية    وزير الخارجية يؤكد حرص مصر على وحدة السودان وسلامته الإقليمية    نوران جوهر تتأهل لنهائي بطولة باريس للإسكواش 2024    ارتفاع سعر طن الحديد والأسمنت يتجاوز 3000 جنيه بسوق مواد البناء اليوم السبت 21 سبتمبر 2024    عمرو أديب عن صلاح التيجاني: «مثقفين ورجال أعمال وفنانين مبيدخلوش الحمام غير لما يكلموا الشيخ» (فيديو)    عودة قوية لديمي مور بفيلم الرعب "The Substance" بعد غياب عن البطولات المطلقة    أول ظهور لأحمد سعد وعلياء بسيوني معًا من حفل زفاف نجل بسمة وهبة    المخرج عمر عبد العزيز: «ليه أدفع فلوس وأنا بصور على النيل؟» (فيديو)    «التحالف الوطني» يواصل دعم الطلاب والأسر الأكثر احتياجا مع بداية العام الدراسي    وزير خارجية لبنان: نشكر مصر رئيسا وشعبا على دعم موقف لبنان خلال الأزمة الحالية    أهالى أبو الريش فى أسوان ينظمون وقفة احتجاجية ويطالبون بوقف محطة مياه القرية    «جنون الربح».. فضيحة كبرى تضرب مواقع التواصل الاجتماعي وتهدد الجميع (دراسة)    لأول مرة.. مستشفى قنا العام" يسجل "صفر" في قوائم انتظار القسطرة القلبية    عمرو أديب يطالب الحكومة بالكشف عن أسباب المرض الغامض في أسوان    تعليم الإسكندرية يشارك في حفل تخرج الدفعة 54 بكلية التربية    سعر الدولار أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية اليوم السبت 21 سبتمبر 2024    أخبار × 24 ساعة.. انطلاق فعاليات ملتقى فنون ذوي القدرات الخاصة    انقطاع الكهرباء عن مدينة جمصة 5 ساعات بسبب أعمال صيانه اليوم    الأهلي في السوبر الأفريقي.. 8 ألقاب وذكرى أليمة أمام الزمالك    تعليم الفيوم ينهي استعداداته لاستقبال رياض أطفال المحافظة.. صور    حريق يلتهم 4 منازل بساقلتة في سوهاج    أكثر شيوعًا لدى كبار السن، أسباب وأعراض إعتام عدسة العين    آية الكرسي: درع الحماية اليومي وفضل قراءتها في الصباح والمساء    دعاء يوم الجمعة: نافذة الأمل والإيمان    الإفتاء تُحذِّر من مشاهدة مقاطع قراءة القرآن المصحوبةً بالموسيقى أو الترويج لها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القنفذ

لا يدري أشرف عبد الغني لماذا التصق به لقب الدكتور‏,‏ كلمة أطلقها موظف الحجز عندما تكرم فخصص له جناحا ممتازا لم يطلبه‏, لكنها التصقت. كان يكفيه غرفة هادئة قريبة من البحر, فقرر الرجل أن يعامله معاملة خاصة: أفضل جناح عندنا يا دكتور. هدية منا. ما عندناش أعز منك. وبوغت أشرف للحظة ثم شكر الموظف شكرا جزيلا, مع علمه أنه سيدفع ثمن الهدية كاملا في النهاية. مصر بلد الألقاب. كثيرون في القاهرة سائقو التاكسي والحلاقون والبوابون والزبالون وعساكر الشرطة ينادونه يا باشا, وهو يفهم ذلك: الباشا هو من يرش البقشيش أينما ذهب. أما حكاية الدكتور هذه, فهي جديدة عليه ولا يفهم ما يترتب عليها. قال مرارا إنه ليس طبيبا ولا أستاذا جامعيا ولا يحمل درجة الدكتوراه.( ود لو استطاع شرح حقيقة وضعه) أنا أيها السيدات والسادة صحفي صغير يعني في احدي المجلات ببريد العشاق. لا صلة لي بالشأن العام, ولست عضوا في الحزب الحاكم, صحيح انني كاتب أيضا. ولكن الكتابة في هذه الحالة لا تعني الشيء الكثير بالنسبة لكم. في الماضي كنت أكتب عن الحياة الطبيعية في حينا الأخضر الجميل رثاء له قبل أن يزال. والآن أكتب قصصا قصيرة في عصر الرواية). لكن قضي الأمر: هو الدكتور أشرف شاء أم لم يشأ. لم يستغرق تعميم اللقب أكثر من يومين: الدكتور دخل, الدكتور خرج, الدكتور يطلب مزيدا من البشاكير, الدكتور يريد تجديد سلة الفاكهة التي توضع في جناحه كل يوم, الدكتور لا يريد الحلويات الشرقية, الدكتور يصر علي أن يأتيه العيش البلدي مقددا في الافطار.
ليستمتع إذن بهذه الدكتوراه الفخرية وبالتكريم الذي لا يستحقه. جناح يطل علي حمام السباحة من ناحية وعلي البحر من الناحية الأخري. وسلة من الفاكهة تتجدد كل يوم وإن لم يصب منها إلا تفاحة واحدة, وصينية حلويات شرقية كل يومين, مع أنه لا يقربها. وأراد أن يكون بعيدا عن سائر النزلاء وأن يستمع في الليل إلي حركة الأمواج بين امتداد وانحسار, فكان له ما أراد. وزادت رغبته في الابتعاد عن الناس عندما رأي ما آلت إليه الغردقة ورأي الفندق الذي حجز مكانا فيه. لم يعد يعرف هذه البلدة بعد أن أصبحت مدينة أو تكاد. عندما جاءها قبل ذلك بعشر سنوات, كانت صغيرة متواضعة يسافر إليها في المساء من قريته السياحية ليتناول العشاء في مطعم متواضع للسمك. أما الآن فهو يقيم في فندق في وسط الضجيج والزحام. فندق بعده فندق أو مول أو مرقص أو بار بازار بلا نهاية. والبلدة المدينة مزدحمة بالسياح. هناك جنسيات مختلفة, ولكن الروس هم الجنسية الغالبة. وأصبح كثير من اللافتات وقوائم الطعام بالروسية. والشباب العاملون في المطاعم والبازارات والبارات يتكلمون الروسية, بل ويخاطبونه بالروسية قبل أن يؤكد لهم أنه مصري صحيح.
تمدد علي الشيزلونج وتنفس بعمق. لابد مما ليس منه بد. عليه أن يتأقلم مع هذا الجو, من حسن الحظ أن عاشور العامل في كشك البشاكير وجد له أبعد مكان عن سائر النزلاء: علي الطرف الأقصي من لسان من الخرسانة يمتد نحو البحر ويفصل بلاج الفندق عن بلاج الفندق المجاور. وهو من هذا الموقع يواجه البحر ويرقب السفن رائحة غادية ويشرف علي المصطافين من عل. وخطر له في البداية أن يحمل بعض رسائل القراء إلي ركن العشاق لكي يرد عليها, ثم رفض الفكرة علي الفور. لن يشغل باله بأي شيء. ولم يأخذ الكمبيوتر المحمول إلا بعد كثير من التردد. الكمبيوتر قد يغريه بالكتابة, وهو لا يريد أن يكتب ولا أن يفكر. ولم يغير رأيه علي مضض إلا عندما خطر له أنه ينبغي ألا يرد النعمة إذا جاءت. في بعض الأحيان يطلب الكتابة فتستعصي عليه ويجد ذهنه راكدا خامدا. ولكن أسلاك الاتصال الخفية تهتز في أحيان أخري وتحمل له الأفكار غير مدعوة. فهل يجوز له عندئذ أن يمتنع عن الكتابة؟ ليأخذ الكمبيوتر إذن علي ألا يقربه إلا إذا جاءته دعوة ملحة.
وتحدد بعد اليومين الأولين برنامج واضح لقضاء الوقت. سبحة قصيرة في حمام السباحة قبل الافطار, وبعد الافطار تناول القهوة علي الريحة وقراءة الصحف في مقهي بلدي في مواجهة الفندق. ثم استرخاء علي الربوة وسباحة بين الحين والحين وقراءات خفيفة واللجوء إلي النعاس أو التناعس عند ظهور أي علامات للفتور. وعندما تقترب الشمس من المغيب يعود إلي الغرفة ويأخذ دشا ثم يستلقي علي الفراش في مواجهة التليفزيون ليشاهد الصور تمر أمامه دون تركيز, وفي المساء يخرج لتناول العشاء. معظم النزلاء يتعشون في الفندق لأن العشاء جزء من الباكيج. أما هو فيفضل الخروج للهروب من المناظر المزعجة. في الماضي كان يعيب علي المصريين شراهتهم في القري السياحية. يهجمون علي البوفيه المفتوح بشراسة, كأن وجبة الافطار هي آخر وجبة يتناولونها قبل يوم القيامة, والنساء أسوأ من الرجال. تراهن بعد التهام الفول والبيض والجبنة البيضاء يملأن مرارا أطباقهن بالكعك والفطائر والكراوسان يكومون ذلك أكواما, بل ويطلبن إلي أبنائهن الإتيان بالمزيد من الإمدادات. ولكنه يلاحظ الآن أن الاجانب يأتون بتصرفات مماثلة. الكل يحاول أن يتناول في الإفطار أكبر كمية من الطعام لكي يتمكن من الصمود دون غداء الغداء ليس جزءا من الباكيج طيلة النهار حتي يأتي موعد العشاء. وأسوأ الجميع بعض الأزواج الذين بلغوا أرذل العمر ولم يعد في مقدورهم السير إلا بصعوبة. لايكتفون بما يلتهمون, بل تحرص الزوجة علي مغافلة الناس والجرسونات فتخفي بسرعة بعض الفطائر في حقيبة اليد. كأن اقتراب الموت فاتح للشهية.
ومرت الأيام بسلام حتي خطرت له وهو تحت الدش فكرة دفعته دفعا إلي تجفيف جسمه بسرعة والإسراع إلي الكمبيوتر:
عندما دخلت المقهي اليوم رأيت فتاة شقراء لعلها روسية أو ألمانية تدخن الشيشة. وهي تفعل ذلك بمهاره لانظير لها. شفطات ضخمة من الدخان تدخل الفم وتخرج من الخيشومين في خطين متوازيين بسلاسة رائعة. وبلا سعال. الجرسونات وماسحو الأحذية وبائعو التوافة السياحية يحومون حولها. وكل ذلك لايصرفها عن ارتضاع المبسم. والعينان حالمتان. وابتسامة رضا ترفرف علي الشفتين. والشيشة تقرقر في سعادة. أهي روسية أم ألمانية؟ ليتهم يهدأون قليلا لكي أستطلع خبرها. لو كانت ألمانية, فبإمكاني أن أحدثها عن كاتارينا. من الغريب أنك من هامبورج. يا للمصادفات العجيبة! هل تعلمين أنه كانت لي صديقة في هامبورج. والغريب أنها كانت تشبهك شيئا ما. وما إلي ذلك, ولكن أمن المناسب أن تبدأ التودد إلي فتاة لاتعرفها بالحديث عن حب قديم؟ ولم لا؟ المهم أي كلام للتغلب علي الحرج. أما لو كانت روسية, فذلك هو الباب المسدود... لكن هب.. هب أنها روسية وتعرف قليلا من الانجليزية. عم تحدثها؟ عن لينين؟ أم عن دوستويفسكي ؟ أم عن الحرب والسلام؟ أم عن البسترويكا؟ هل جننت؟ كأنك لاتعلم ان كل ذلك أصبح جزءا من العصر الحجري. كأنك تبحث عن أفضل طريقة لتنفيرها. ماهو الكلام الذي يمكن أن يحرك المياه الساكنة؟ ماهو الطعم؟.... أريد أن أقول: ماهو الطعم الذي يمكن ان يجتذب السمك؟ النساء يعشقن الفكاهة, بقبلن علي من يضحكهن. ماذا لو حدثتها عن يلتسين والفودكا؟ ماذا لو تطرقت إلي أبو نواس الذي كان يسكر حتي يحسب الديك حمارا؟ يبدو أن هذا خط رائع للهجوم.
ليتها تكون روسية علي معرفة بالانجليزية. ونكتفي بهذا القدر.
الكون لا يخطر له علي بال وهو في القاهرة. ينسي أنه جزء من العالم. ويتجاهل البيئة الحية التي كانت شغلة الشاغل ذات يوم. لم يعد يخرج في جولاته اليومية بما في ذلك جولاته الليلية ليطمئن علي حالة الشجر. لم يعد يعنيه مصير الشجر الذي يعلم أنه لابد زائل بفضل نزعة التدمير التي أصابت المصريين. كل الأحداث التي تجري وكل الأخبار الي تنشر تسير في اتجاه واحد جزئيات الحياة اليومية ومتاعبها والبحث عن لقمة العيش. والناس بعد أن فقدوا القدرة علي الثورة علي ظالميهم يدفعهم الشعور بالعجز واليأس إلي الاعتداء علي أقرب الناس إليهم: زوجاتهم أو أزواجهن وأطفالهم وإخوتهم ووالديهم. وترتكب الجريمة أحيانا لأتفه الأسباب, وتمارس فيها أفظع الأسلحة: الساطور وسم الفئران. أما هنا سيما عندما يوقظه حفيف الأمواج في الفجر فإنه يستطيع التغلب علي جاذبية الهنا والآن وجاءت حفيف الأمواج بما يشبه الغمغمة. فوضع رأسه وهو لايزال بين اليقظة والنوم بين وسادتين. وعندئذ بان الكلام: أنت ابن الطبيعة المحبوب, أنت الفائز بالغبطة.
ها هي دعوة إلي الكتابة. في لحظة ماتتراجع الحدود وينفتح فضاء للاتصالات مع المجهول. وانتقل بالكمبيوتر إلي مكانه في مواجهة البحر. وأصبح لا يفارقه طيلة اليوم:
آه استطعت أن أهب نفسي كاملة. أتابع السفن حتي تتضاءل فتصبح نقاطا صغيرة بالقرب من خط الأفق. وأصيخ السمع. أنا جهاز استقبال للمحيط ومحاور له. تأتي فكرة أو صورة أو ذكري أو عبارة تستدعي أسئلة فاقتراحات أو نصائح أو تعليقات أو تلميحات أو إشارات. تهبط أو تصعد لا أدري من أين. وأنا طالما جري الكلام واستمر الحوار ابن الطبيعة المحبوب والفائز بالغبطة. أشعر عندئذ أن الاختيار وقع علي لأكون أداة للتعبير. ولكن تقتحم هذه السعادة صورة جامحة. فأراني أتمرغ مع فتاة علي الرمل الساخن أو أخوض بها الأمواج. أهي مروة أم كاتارينا أم الروسية/ الألمانية؟ وأري أيضا أن هناك من يحرمني من الارتواء. وهذه هي الأرض الصلبة التي أرتد إليها وأرتطم بها كلما حلقت..
وتبين أن الشقراء ألمانية وليست روسية. كانت تلاعب طفلا يحبو علي الرمل. تحمله ثم تطلقه ثم تطارده. يأخذ رشفة من البزازة ثم يدور علي عقبيه ويختبئ بين مقاعد المصطافين. وتناديه: تومي( اختصار فيما يبدو لتوماس). تقولها منغمة ممدودة: تومي. صوتها يدل علي أنها ألمانية. أهو طفلها ؟ وأين زوجها؟ أم أنها أتت بالطفل وحدها؟ كيف يمكنه الاقتراب منها؟ المشكلة ليست لغوية.
فما الذي يحول بينه وبينها؟
ها أنذا جالس علي الربوة أرقب الألمانية وطفلها الحابي ولا أستطيع الاقتراب منها. قصة قديمة تتكرر بتنويعات مختلفة. قصة الرقيب الذي لا يفارقني.
حدث في هامبورج الآن وأنا يقظان مستسلم للشمس ونسيم البحر أعرف علي وجه اليقين أن ذلك حدث في هامبورج دون سواها أن كنت أنا وكاتارينا نتقدم أباها وأمها في الشارع المشمس. وكانت تحاول وضع يدها في يدي فأتحاشاها. كنت أشعر بعيني الأم تراقباتا. قال لي أبوها بعد تناول الغذاء علي الرصيف أمام أحد المطاعم إنهم يشعرون كأنني واحد منهم. إشارة تشجيع صريحة ولكني لم أكن مطمئنا تماما. ومع ذلك فقد بدت الدنيا يومذاك وكأنها تحتفل بحبنا. الشمس والبواخر العملاقة في الميناء والنورس. إلي أن قالت كاتارينا: أنا في حالة من الصراع. أبي راض عنك تماما. أما أمي فتعترض عليك لأنك لست ألمانيا. وهي تريد لبنتها الوحيدة أن تتزوج ألمانيا وتعيش بالقرب منها. لا تفتأ تقول: ماذا أفعل في شيخوختي بدونك؟ قلت: لا يستطيع أحد أن يلومها علي ذلك. فردت كاتارينا محتجة: إذن تؤيد هذه البقرة؟ تريد لي أن أتزوج ألمانيا؟ قلت: لا أعني ذلك. كل ما هنالك أنني أتفهم وجهة نظرها: وكان رد الفتاة غريبا. فقد التصقت بي وقبضت علي يدي بحزم, وقالت: ما رأيك لو ذهبنا إلي غرفتك؟ وعندما استأذنا في الانصراف تمني لنا الأب قضاء وقت طيب. ثم اقتحمت صاحبة البيت الغرفة.
هل طرقت الباب قبل أن تدخل؟ ربما. لا أدري. كانت جذوة الحب مشتعلة, فانطفأت. عندئذ تصدع كل شئ. أزاحتني الفتاة عن صدرها بغير رفق. بل وأزاحتني من حياتها. هل يئست مني لخجلي وقلة حيلتي؟ وهل كانت تلك طريقتها في اختباري وحل الصراع؟ الشئ المؤكد أن روح الأم حلت في صاحبة البيت فأصبحت هي الرقيب. ثم حلت الروح في مديرة تحرير المجلة.
وأصبحت كاتارينا هي مروة. وأصبحت أنا نفسي رقيبا. لا أدخل مكانا فيه ناس حتي أضع نفسي دون وعي خارج الحلقة, أراقب ما يفعلون ولا أشارك فيه. وأراقب نفسي أنا الجالس بمفردي علي مرتفع من الأرض. ولم أعد أكتفي بوجود الكمبيوتر في الغرفة علي سبيل الاحتياط. بل أصبحت آتي به ليكون هو صاحبي الوحيد طيلة النهار. والكتابة تعني الوقوف موقف المراقب: تفحص الوجوه والتنصت علي الناس والتقاط ما يتفوهون به من عبارات لا تخطر علي بال وتسجيل تصرفاتهم الغريبة. كل شئ يصبح مادة محتملة للقصص. الاختيار الذي وقع عليك فيه قضاء بالحرمان والوحدة..
هل قلت: الغبطة؟
مد وجزر. تنحسر موجة النشوة لتتكشف الكآبة. ما جدوي كتابة القصص؟ ما جدوي الكتابة؟ الناس مشغولون بما هو أشد إلحاحا. والذين يقرأون منهم يفضلون الكتابات التي تتناول مشكلاتهم الملحة, التي تغوص معهم في وحل الحياة. وأنت إنسان محظوظ لأنك تجلس علي ربوة من الميراث تغنيك عن المذلة وسؤال اللئيم.
فلا تتخيل أن اهتماماتك يمكن أن تعني الناس. أنت غريب عليهم شئ يدفع إلي اليأس: كأن وحل الحياة ليست له أبعاد أخري. ثم يحدث انفراج: كبر عقلك. يجب أن تري الأمور وفقا للمنظور الصحيح. وما هو المنظور الصحيح؟ لتكن مثل الفقير الهندي الذي يدرك أن أوضاع الحياة مختلة, فتراه يقف علي رجل واحدة أو علي رأسه أو يرقد علي فراش من المسامير يحاول أن يجد التوازن الصحيح من الكون.
وأنت عندما تكتب تسعي واعيا أو غير واع إلي مثل ذلك التوازن.
ما بين القنوط والشعور بالغبطة تمر... وتوقف دون أن يكمل الجملة. ها هو صوت مسعد يدوي كعادته قبل الظهيرة بين المصطافين: أكوا جيم.. أكوا جيم... ويظهر فتي صعيدي قصير القامة نحيل مسطح البطن خفيف الحركة. يدور بين المظلات يصافح الواقفات ويقبل أيديهن ويلمس أكتاف المستلقيات. وتتمنع بعضهن إلي أداء تمرينات الماء في حمام السباحة. ولمسعد جولتان أخريان. فبعد الظهيرة يطلق صفارته ليجمع فريقين من الجنسين للعب الكرة الطائرة. وفي الرابعة بعد الظهر يدق الطبل وتصدح الموسيقي ليبدأ الرقص البلدي علي المنصة. وهنا تتجلي مواهب مسعد الفريدة. فهو رغم صغر حجمه ونحوله أستاذ في هز البطن و رجرجة الردفين وقادر علي استدراج الغربيات فتيات وسيدات في منتصف العمر إلي دوامة من حمي الانتشاء بالجسد فيما يشبه قداسا وثنيا.
من أين للصعيدي بهذا الفن ؟ كنت أريد أن أقول إن الأيام تمر والعمر ينتقضي مابين القنوط والشعور بالغبطة حتي ظهر. ذكرني ظهوره بأن ثمة طريقة للوجود بين النساء. لا يكف عن الرقص وهو يدور بين المظلات ولا يكف عن الرقص وهو يقف علي حافة حوض السباحة يعلم النساء كيف يؤدين التمرينات المائية. ويخيل إلي وهو يرقص منفرج الساقين أنه خرج من باطن الأرض. ولا أدري لماذا أضيف له في خيالي ذيلا وأذنين طويلتين كأنه فرس.... وعندما أري كيف يتلعبط بجسمه, يخيل الي.... جاء عاشور يحمل زجاجة كوكا كولا, فسألته: الواد ده حكايته إيه يا عاشور؟ فكان رده مقتضبا كعادته دائما: بتاع كله يا دكتور. وانصرف علي الفور. وصعيدي بدوره, ولكنه علي خلاف مسعد مهموم دائما لا يبتسم وقليل الكلام. يسير بسرعة وفي خط مستقيم..
وظهرت الألمانية, فتوقف أشرف عن الكتابة. كانت تطارد تومي وتناديه كعادتها. واختفي الشيطان الصغير ولم تستطع اقتفاء أثره في لعبة الاستغماية, فوقفت في مكانها لاتدري أين تتجه. ولكن أشرف استطاع من موقعه اكتشاف مخبأ الطفل وراء أحد المقاعد. فهبط بسرعة إلي أرض المصطافين وانطلق نحو الطفل. وهم بالتقاطه, لولا أنه وجد من يسد عليه الطريق. كيف ظهر مسعد فجأة علي هذا النحو الخاطف كأنما انشقت الأرض عنه ؟ وكان يبتسم وهو يقول: عنك يادكتور. وسبقه إلي أداء المهمة. فاضطر أشرف إلي الانسحاب والرجوع إلي الكمبيوتر:
ها هي فرصة رائعة لفتح باب الكلام معها قد ضاعت. ولكن هناك ما ينبغي تسجيله. قالت لمسعد إن طفلها لا يحب الماء وإنه يصرخ عندما تقترب به من حمام السباحة. ومع ذلك تراه يندفع نحو البحر كلما أطلقت سراحه. والتفت مسعد إلي الطفل مستنكرا: صحيح ياتومي ؟ كيف ياصاحبي ما بتحب البحر ؟ وكان تومي يبتسم واللعاب يسيل من فمه. وكانت مكبرات الصوت تذيع أغنية بوب مارلي نو وومان نو كراي( لا يا امرأة, كلا لا تبك), فأخذ مسعد يرقص بالطفل علي إيقاعها. وعندما بدأت جوقة النائحات تردد نو وومان نو كراي, أخذ تومي يتمايل مع مسعد. وفجأة انطلق به هذا الأخير نحو البحر. وذعرت الأم وأخذت تطارد الصعيدي: يا مسعد يا مجنون ولكن مسعد دخل البحر بتومي, ولم تظهر علي الطفل اي علامة تدل علي الخوف, ولم يصدر عنه صوت استغاثة. كان مطمئنا تماما إلي حضن الصعيدي. وعندما غمسه مسعد في الماء لم يحتج, بل أخذ يقهقه..
وفي الليل لم يستطع أشرف النوم إلا خطفة هنا وخطفة هناك. ولما استحال عليه النوم نهض في الفجر ليجلس الي الكمبيوتر. يبدو أنه لم يعد قادرا علي الوفاء بوعده لنفسه أن يقضي علي شاطيء البحر أياما هادئة. يبدو أن عطلة الدكتور قد أشرفت علي نهايتها, وأن عليه أن يعود من حيث أتي: جحيم القاهرة. ووضع أصابعه علي لوحة المفاتيح مستسلما.
خفق قلبي عندما رأيت انتصاب قامتها مع انسياب الظهر فوق خصر يتقعر قليلا ليبرز ما دونه. خفيفة لينة يسهل حملها وطيها. حبذا لو حملتها واقتحمت بها البحر. كذلك الحوت الذي شاهدته في أحد الأفلام يحمل صاحبته حملا لا ينفك عنها. يغوص بها نحو القاع ليقفز بها نحو النجوم. أما الطفل الرضيع... أما مسعد, فهو مخلوق خرج من بطن الأساطير اليونانية: نصفه إنسان ونصفه فرس: بتاع كله. ساتيروي أو جني الغابة والتلال, من أتباع ديونيسيوس رب الخمر والنشوات العارمة.... يحمل الكأس دائما ويطارد الحوريات.
وفي الليلة الأخيرة التي قضاها في الغردقة وقف أمام باب الفندق حائرا لا يدري أين سيتعشي. كان الرصيف غاصا بالناس والشارع مزدحما بسيارات الميكروباص. وفي وسط الضجيج سمع من يقول: مساء الخير يادكتور والتفت إلي يمينه فوجد مسعد وفي صحبته الألمانية. وابتسم عندما رآها تسير علي كعب عال فيبدو مسعد شديد القصر بجانبها. ولكنها كانت سعيدة: تسير بخفة كأنها تريد أن ترقص. جمالها يخطف الأبصار. تتمايل في فستان بنفسجي يبرز ليونتها ورشاقتها. وماذا حدث لشعرها ؟ غيرت التسريحة, فأصبح شعرها أفرو تتدلي منه ضفائر كثيرة. شقراء ولكن إفريقية. أو قل إنها خلاسية. وخيل إليه لأول وهلة أنها خرجت مع مسعد ليرشدها إلي المتاجر. ولكن قلبه غاص بين ضلوعه عندما رأي الصعيدي يشبك كفه بكفها ثم يخاصرها دون اعتراض. والأمر العجيب أنها استدارت لتلوح له بالتحية هي التي لم تلتفت إليه قط طيلة أيام. هاهي الدنيا تحييه في مرورها به. ترتدي فستانا بنفسجيا وشعرها أفرو. هل يهرع إلي غرفته فيقف علي رجل واحدة كي يستعيد التوازن الذي اختل؟ أم يلجأ إلي الكمبيوتر لكي يسجل اللحظة وهي ما زالت طازجة ؟
افعل ما تشاء, فلن تأتيك اليوجا ولا الكتابة برضيع مثل تومي يظهر ثم يختفي ويتدحرج كأنه قنفذ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.