ومن غذاء العقل والروح, إلى نوع آخر من الغذاء لا يستغنى عنه أكثر من نصف سكان كوكبنا والذى يدخل فى كثير من المنتجات الغذائية ويتطلب إنتاجه مساحات واسعة من الأراضى الزراعية الصالحة "القمح". فمصر التى كانت فى وقت من الأوقات سلة القمح الرومانية, أصبحت أكبر مستورد للقمح فى العالم؟ نظرا لتعدى السكان على الأراضى الزراعية, وليس هذا فحسب فهناك عدة مشكلات أخرى تواجه الفلاح تكلفة زراعة الفدان إلى جانب السعر الذى تشترى به الدولة الأردب من الفلاح وبرغم المحاولات الكثيرة من الدولة للحل فى هذا الصدد إلا أنه مازلت هناك فجوة كبيرة بين سعر الذى تشترى به الدولة من الفلاح المصرى وسعر الأردب المستورد وما يزرعه الفلاح المصرى من قمح وما يحتاجه السوق. ولذلك كان على الباحثين والعاملين فى مجال الإنتاج الزراعى إيجاد حلول تلائم الواقع المصري. فالدكتور عبد الرحيم النجار الأستاذ المتفرغ لعلم الوراثة بجامعة قناة السويس والذى قضى سنوات طويلة فى مطالعات مستمرة وبحث وسفر وعمل فى كثير من جامعات العالم يقول هل منطقى أن مصر لا تستطيع أن توفر قوت أهلها من العنصر الأساسى فى جميع وجبات البيت المصرى والذى لا تخلو وجبة منه بعد أن كانت سلة له وهى التى تصدره للعالم. فعكف منذ أكثر من عشرين عاماً على البحث الذي من خلاله يمكن لمصر أن تكتفى ذاتياً من إنتاج القمح بل وتصدر أيضاً, نعم تصدر ولكن كيف ومتى وأين؟ يقول دكتور عبد الرحيم النجار: بعد تجارب عديدة استطاع التوصل إلى نوع من سلالات القمح التى يمكنها تحمل أعلى درجات الملوحة والجفاف ويمكن أن يكون بداية لزراعة ملايين الأفدنة من القمح, والذى يوفر لمصر ما تحتاجه من كميات كبيرة من القمح بل وبعد عدة مواسم وبتوسعات زراعية وخطة زمنية مدروسة ومحسوبة من قبل دكتور النجار يمكن أن تكتفى مصر ذاتياً على 2020 إذا بدأت زراعة هذا النوع من القمح الذى أطلق عليه "إسماعيلية 1". فهذا الصنف الجديد يمكن أن ينتج ما بين 18 إلى 20 أردبا فى الفدان وهو معدل كبير بالقياس بإنتاجية الفدان الآن فى أجود أنواع الأرض ويعد إنجازاً علمياً وسابقة لم تحدث فى تاريخ زراعة القمح,إلى جانب أنه يتحمل درجات الملوحة العالية وأيضاً الجفاف أى أنه يمكن زراعته فى الصحراء الشاسعة التى تمتلكها مصر فى شرقها وغربها وسيناء, فقد منحت جامعة قناة السويس لدكتور النجار 25 فدانا وتم زراعتهم بهذا النوع من القمح وعمل جميع الاختبارات عليه لتأكد من صلاحيته وذلك على عدة أعوام وأكثر من موسم زراعة والذى قدم -كما يؤكد دكتور النجار- إنتاجية عالية وجودة فى المحصول كبيرة ويؤكد أنه لديه الآن كميات من التقاوى تمكنه من زراعه 50 فدانا وأكثر. وبناء عليه قام دكتور النجار أستاذ الوراثة وصاحب هذه السلالات الجديدة من القمح فى تحمل الملوحة والجفاف العاليتين بالتوجه إلى وزارة الزراعة لتسجيل الصنف الجديد والتى لم تتعامل مع الأمر باهتمام أو أنه إنجاز علمي يمكن أن يسد فجوة كبيرة من حاجة مصر من القمح فعانى من الروتين وكثرة الأوراق دون جدوى, إلى جانب دفع رسوم كبيرة لتسجيل الصنف بدلاً من تبنى الدول لهذه السلالات الجديدة من القمح. ويشير دكتور النجار إلى أن ثمرة جهوده البحثية فى جامعة ميرلاند الأمريكية التى أجرى بها تجاربه ونجح فى إيجاد هذا الصنف من القمح عالى الانتاجية والذى عاد منها ليستكمل مشواره هنا فى بلده من أجل عدة أهداف . أولاً: التوسع الأفقى فى زراعة القمح لسد الفجوة الغذائية وتحقيق الاكتفاء الذاتى باستخدام هذه السلالات الجديدة المتحملة للملوحة والجفاف كما ذكرنا. ثانياً: تشغيل عدد كبير من الشباب وخلق مجتمعات جديدة وتوسيع الرقعة السكانية والإنمائية. ثالثاً: إمكانية زراعة محاصيل صيفية أخرى بعد القمح تخدم البيئة والمجتمع مثل الأعلاف والمحاصيل الزيتية وأيضاً زراعة الخضروات وإقامة صناعات غذائية عليها مثل الحفظ والتعليب. رابعاً: تنمية الثروة الحيوانية والداجنة على الأعلاف الناتجة من القمح والتوسع فى إقامة المنشآت الزراعية والصناعية. وبعد جهود كبيرة من قبل جامعة قناة السويس وأيضاً جمعية سلة الغلال المعنية بزراعات القمح فى مصر والتى بدأت من موسم زراعة القمح فى 1987 وتم زراعة عدة أفدنة والتدريج إلى أن وصلوا إلى 25 فدانا فى أماكن مختلفة مثل رأس سدر والعريش وبورسعيد ودمياط والدقهلية وجمعيها مناطق ذات ملوحة عالية وحققت إنتاجية عالية. ويقول دكتور النجار إنه فى عام 2004 تمت إعارته إلى ليبيا وقام بزراعة السلالات والأصناف المنتخبة والمقاومة للجفاف فى مشروع زراعى كبير بتمويل وإشراف من مركز البحوث الزراعية وجامعة عمر المختار فى ثلاث مناطق صحراوية تحت معاملات الملوحة والجفاف ومقارنة بالأصناف الليبية لمدة أربع سنوات وتم رصد النتائج فى بحث علمى لتؤكد أن هذه السلالات تفوقت وأعطت محصولا عاليا تحت ظروف قاسية مقارنة مع أصناف أخرى. عاد دكتور النجار إلى مصر ليستمر فى مشواره الذى بدأه و يؤكد أنه بعد تكرار زراعة هذه السلالات لم يظهر أى أمراض عليه وأنه مقاوم للصدأ ولعدد من الأمراض التى تصيب القمح، وذلك فى تقرير بحثى أجراه الدكتور إبراهيم ناجى, نائب رئيس جامعة قناة السويس وأستاذ أمراض النباتات. وبناء عليه كان حلم دكتور النجار أن يقابل هذا المشروع باهتمام أكبر وأن يكون برعاية الدولة لأن الأفراد وحدهم بجهودهم الفردية فى زراعة عدة أفدنة لن تحل المشكلة خاصة وأن هناك عددا من رجال الأعمال والفنانين قاموا بزراعة عدة أفدنة يتم رؤيتها في نهاية هذا العام، ويطمح عبد الرحيم أن يكون مشروعا قوميا وأن يتبدل الحال و يتم تبنى هذا الأمر من قبل المختصين بدلاً من وضع العراقيل و المعوقات، فهو يؤكد أنه لا يطلب أى مجد شخصى وأن غايته هى مصلحة مصر وأن يتوفر لأبنائها حاجتهم من القمح دون الاعتماد على الاستيراد من هنا أو هناك بل ويطمح أن تصدر مصر فى خلال سنوات ليست بعيدة بمجرد البدء فى زراعة هذه السلالات الجديدة. فما هى الأسباب التى لا تجعل المسئولين يأخذون الأمر بمحمل الجد وبذل مجهود أكبر فى التأكد من مدى جدية تنفيذ مشروع كهذا يمكنه أن يسد فجوة غذائية كبيرة لمصر بل ويوفر لها العملة الصعبة التى تدفع فى استيراد القمح من دول عدة وأيضاً مشاكل التخزين والعوامل الجوية التى يتعرض لها القمح إلى أن يصل إلى المستهلك. هل الدولة لا ترغب فى ذلك أم أن هناك من له مصلحة فى أن تظل مصر تحت سيطرة من يملك قوت شعبها. وإلى متى سنظل نحلم وبلا جدوى.