فى طريقى إلى الكويت للمشاركة فى مؤتمر «رحلة المعنى» الذى نظمته «مكتبة تكوين» مؤخرًا بالتعاون مع الجامعة الأمريكيةبالكويت والمجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، كنت مشحونة بأسئلة لا تنتهى عن المعنى والكتابة وما يمكن لها أن تقوم به فى عالم عنيف ولحظة فوضوية كالتى يشهدها العالم حاليًا. كان عنوان المؤتمر، المفتوح على فضاءات وتأويلات لا تُحصى، هو المحفز والمثير لتساؤلاتى وأفكارى. إذ فى ظنى لا توجد مفردة شغلت البشر –على اختلافات ثقافاتهم- مثل مفردة «المعنى»، فالبحث لا يتوقف عن معنى كل ما يصادفنا، وحاجة الإنسان إلى الإيمان بمعنى ما لحياته وما يقابله فى رحلته فيها، دفعته دومًا لإضفاء المعنى حتى على أكثر الأفعال والأحداث عبثية. ثمة جوع لا يشبع لاستخلاص المعانى وتوظيفها واللجوء إليها. وتتضاعف أهمية المعنى عند منتجى الفن والثقافة، تتعدد رؤاهم له وتتنوع علاقتهم به، بعضهم يكفر به ويتمرد على سطوته، وبعضهم الآخر يتوسل وجوده ويسعى لتخليقه واختراعه، لكن فى كل الأحوال مكانة «المعنى» مركزية حتى لدى من يسخرون من الولع به. ربما لكل هذا كان الفضول يحدونى لمعرفة كيف سيتفاعل المشاركون الآخرون فى الملتقى مع سؤال المعنى، وكيف سيخرجه كل منهم من حيز العموميات إلى حيز الخصوصية! زاد من مساحة الفضول والترقب أن الأسماء المشاركة فى «رحلة المعنى» لا تقتصر على مجالى الأدب والنقد وحدهما، إنما تمتد لتشمل مجالات مثل الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم اللغة والفيزياء وغيرها. كنت أيضًا متشوقة للمشاركة فى إحدى فعاليات «مكتبة تكوين»، التى نجحت خلال ثلاث سنوات فقط، هى كل مشوارها حتى الآن، فى إحداث حراك ثقافى كبير فى الكويت، وانتشر تأثيرها إلى دول أخرى فى الخليج العربى. فالمكتبة، وفق رؤية مديرتها ومؤسستها الروائية الكويتية بثينة العيسى، هدفها ليس بيع الكتب بقدر ما هو نشر المعرفة وإرساء عادة القراءة. تعرض العيسى فى «تكوين» عناوين مختارة بدقة، بحيث يكون مجرد العرض فى المكتبة ترشيحًا للقراءة، وهو ما يدركه القراء جيدًا. وسبق أن نظمت «تكوين» العام الماضى بالتعاون مع الجامعة الأمريكية فى الكويت ملتقى «الحكايا والحكائين» بمشاركة مجموعة متميزة من الكُتّاب العرب، كما استضافت كُتَّابًا عالميين مثل: الأرجنتينى ألبرتو مانجويل والبرتغالى أفونسو كروش ضمن سلسلة ندوات «حديث الاثنين» التى تُقام بمركز الشيخ جابر الأحمد الثقافى، والكاتب الإيطالى جوزيه كاتوتسيلا – مؤلف رواية «لا تقولى إنك خائفة» الذى شارك فى ملتقى «الحكايا والحكائين»العام الماضى. فى ملتقى «رحلة المعنى»، كان الكاتب والناقد المغربى عبد الفتاح كيليطو هو ضيف الشرف، حيث كُرِّم صاحب «العين والإبرة» فى حفل الافتتاح، وألقى محاضرة بعنوان «بحثًا عن المعنى الضائع» تجول فيها من بليز باسكال وكافكا إلى مارسيل بروست وآخرين متوقفًا أمام ابن رشد وخورخى لويس بورخيس وولعه بالتراث العربى القديم، وقد طرح كيليطو فى محاضرته تساؤلًا لافتًا عن سر صمت بورخيس عن أبى العلاء المعرى على الرغم من أنه الأكثر قربًا إليه لجهة كثير من التفاصيل الشخصية، ومن بينها الارتباط الشديد بالأم والعمى، كما يجمع بينهما أيضًا العديد من الاهتمامات الفكرية. يرجح الناقد المغربى الكبير أن بورخيس كان يعرف بالمعرى لاستشهاده بكتاب خصص مؤلفه لصاحب «رسالة الغفران» فصلًا كاملًا فيه، مما يزيد من وجاهة التساؤل عن سبب صمت بورخيس عنه. مما جاء أيضًا فى محاضرة مؤلف «حصان نيتشه» : «فى معرض الحديث عن رحلة المعنى، أود الإشارة إلى محطات فكرية قد تكون موحية، ومن بينها قول بليز باسكال (بتصرف): «من تبحث عنه قد وجدته؛ وقول كافكا: «فى أغلب الأحيان، من نبحث عنه بعيدًا، يقطن قربنا؛ وسرد لبورخيس عن فيلسوف عربى يسعى إلى ترجمة كلمتين لا يفهم معناهما، «فيقول لنفسه (دون أن يصدق ذلك تمامًا) إن ما نبحث عنه يكون غالبًا فى متناولنا». أما الروائية بثينة العيسى، فبدأت كلمتها المعنونة ب«ما معنى المعني؟» بإعلان أنها لا تعرف «معنى المعنى»، لذا سوف تحكى للحضور قصة، واحتوت القصة التى اختارت حكيها على فارس وساحرة وثلاث حبات من الليمون المسحور، فى قلب كل حبة منها امرأة جميلة غافية، تقول العيسى قرب نهاية كلمتها: «المعانى تستعصى. تراوغُ، تخاتلُ، تلعبُ لعبة الاختباء. تشعر أحيانًا أنك لا تستطيع النظرَ إلى عينيها مباشرة، وكأنك ستقتُلها، وكأنها ستقتلك. إننى أتساءل ماذا لو كان فى قلبِ كلّ ثمرة ليمون جنيًا، مثل قمقم سليمان الذى قرأنا فى الليالى، ماذا لو كان فى قلبِ تلك الثمرة فراشةٌ، تنينٌ، متاهةٌ، ساحرةٌ قادرة على مسخك إلى حشرةٍ عملاقة، (مع الاعتذار لكافكا!)، أو ربما حوتٌ يريد ابتلاعك. أعتقدُ بأن الفارس الجوال قد كان محظوظًا، لأنه حصل على نوعٍ بعينه من الليمون المسحور، وربما.. لو كنتُ كاتبة القصة، لجعلته بعد أن يعصبَ عينيه، ويقطعَ أصابعه، وينزفَ.. يجد نفسه أمام أكثر نساء الأرض دمامة، وهى ستبتسمُ له على نحوٍ مروّع وتقول؛ شكرًا على الماءِ يا حبيبى. ماذا سيحدث وقتها؟ ماذا سيحدث لو أنَّ المعنى الذى حصلنا عليه لم يكن المعنى الذى نتمني؟ ماذا لو سقطنا فى شَرَكِ المعنى، ونحنُ نعرفُ بأنّ المعنى يأتى ليعيدَ صياغةَ عالمنا، وأنّ حياتنا لن تعودَ بعده كما كانت.” وفى محاضرته المعنونة ب»يد عمياء تنبش عش الضوء»، تحدث الشاعر البحرينى مهدى سلمان عن لعبة التأويل فى لغة الشعر قائلًا: «لا يمكنك فى الشعر إلا أن تولّد المعنى من المعنى، والدلالة من الدلالة، إنها لعبة التأويل فى لغة الشعر، التأويل الذى يجعل من اللغة ترقص بتناغم مع مشاعرك، رقصاً تعبيرياً فائق القدرة والدهشة ليصل بك إلى مستويات عليا من الغياب فى المعنى، فتكون أنت ما تفكر فيه، ما تشعر به وما تحوم حوله». وأضاف: «ربما يكون أكثر ما يؤرقنى الآن أن أتحدث عن تلك اللحظات التى لا أجد فيها ما أقوله، تلك اللحظات التى يغيب فيها المعنى كله عنى، ليست المسألة فى الكتابة بحد ذاتها، قد تتوقف الكتابة لسنوات، لكنى مع ذلك أجد ما أقوله لنفسى، وأفكر فى الأشياء، لكن أن تتوقف الأفكار (الفارقة) عن المرور على عقلى، أن تصبح الأشياء كلها صفحات بيضاء ولا يشغل بالى سوى اليومى من أمور الحياة، إنها لحظات عصيبة حقاً، حزينة ومخيفة، ولطالما كانت وسيلتى للخروج من أسر هذه الأوقات التفكير بهذه الطريقة، الرقص مع اللغة، أملأ نفسى بالغائر من مشاعرى، تلك التى أخشاها، أو أتفاداها، وأدعها تقودنى نحو اللغة، واللغة تقودنى نحو النص، كلمة كلمة، تنحتنى، تهدّنى، تجرفنى وتعيدنى نحو شاطئ لا أعرف أين يكون». واختارت الناقدة العمانية منى حبراس السليمية مناقشة «المعنى» من منظور الناقد بادئةً محاضرتها بالإشارة إلى نص للكاتب المغربى محمد بوزفور يقيم فيه «حاجزًا بين الخيال والمعنى ويخبرنا أن الخيال أهمُ من تفسيره أو تأويله أو حتى محاولة البحث عن معناه، مهما بدا هذا الخيال غيرَ منطقى أو غيرَ معقول.”، لتخلص فى النهاية إلى أن: «الأدب حقلُ المعانى المتعددة، وأن النقد الأدبى هو أجمل أشكال التعبير عن تعدد المعنى. نظل نبحث عنه فى ثنايا النص حتى نجده، ولا تعادل سعادةُ العثور عليه أيةَ سعادة أخرى. أليس النقد بعد كل شيء: اكتشاف؟ وما الاكتشاف فى حقيقته سوى العثورِ على معنى ما، سواء أكان اكتشافا فى النص أو فى المجرة. وجدت نفسى فى هذه المنطقة التى أسميها معملا لا يختلف فى شئ عن معامل الكيمياء، حيث تخضع النصوص للكشف والفحص والمساءلة بغية الوصول إلى معانيها الكامنة، دون أن تكون لى علاقةٌ تلزمنى بما استقر فى بطن الشاعر؛ فللشاعر بطنه وما حوى، ولى رؤيتى التى لا تلزمه». هكذا اقترن المعنى، عند السليمية،بالحرية. «الحرية التى تمنحك الحق فى أن توجد معناك الخاص بك للأشياء. معنى لا يشترط تشابهه مع معانى الآخرين، ويضبطها جميعا أنها مهما تعددت لا يمكن أن تكون غير نهائية وإلا أصبحت ضربا من الفوضى كما يقول ناقد معروف. وإذا كان النقد لا يزدهر حيث لا تكون الحرية، فإن المرء لن يكون ناقدا ما لم يكن حرا. بيد أن الحرية النقدية لا تعيش منفصلة عن الحرية فى سياقاتها السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والدينية، إلى ما لا نهاية من سلسلة الحريات المنقوصة فى بيئاتنا. فهل يمكننا - والحال هذه - أن نستمر من دون حرية/ من دون معني؟ أود أن أكون رومانسية وأنجرَّ وراء رغبتى فى قول (لا)، ولكن الواقع يقول إننا مازلنا نعيش رغم ذلك». وتحدث الروائى والشاعر العراقى سنان أنطون عن «جدلية المعنى والسلطة”، منطلقًا من أنه «إذا افترضنا أن الوجود شبكة لا متناهية من الرموز والإشارات واللغات، وأن الإنسان، بطبيعته، كائن يبحث عن المعانى وينتجها، فإن العالم نص هائل متشابك، ونحن قراؤه. لا تخلو رحلة البحث عن المعانى ولذة التعرف عليها من جماليات. لكن المعنى لا يوجد ولا يُنتج فى فراغ، فهو دائمًا مرتبط بسلطة ما، وبمؤسسات وخطابات تحتكر وتحدد تراتبية المعنى وتفرض علينا قاموسها.” فيما تساءل الدكتور نادر كاظم، فى محاضرته: «هل يشغل الناس العاديون والبسطاء أنفسهم بمشكلة المعني؟ بالبحث عن معنى لحياتهم ووجودهم؟ أم أن المعنى إشكالية وجدت كتعبير عن حيرة نخبة ما فى يوم ما أمام مشكلة الموت ومشكلة الشر، وهو ما حوَّل الحياة ذاتها إلى حدث إشكالى يحتاج إلى معنى؟» وقدَّم د. فهد راشد المطيرى المتخصص فى علم اللغة النظرى، واحدة من أفضل محاضرات الملتقى، عن «المعنى، ماهيته وأهميته»، وسعى من خلالها إلى استجلاء طبيعة المعنى من جهة والكشف عن جوانب أهميته من جهة أخرى. من الأسماء التى شاركت فى الملتقى بخلاف المشار إليهم أعلاه: الروائية اللبنانية نجوى بركات التى حاورها الكاتب الكويتى الشاب خالد تركى عن «التجريب فى الأدب القصصى.. من الشكل إلى المعنى»، الروائى الكويتى حسين المطوع الفائز مؤخرًا بجائزة الشيخ زايد لأدب الطفل عن قصة «أحلم أن أكون خلاط أسمنت»، د. يوسف البناى الحائز على درجة الدكتوراة فى الفيزياء الكونية النظرية من جامعة لايبزيج بألمانيا، الروائى السعودى أشرف فقيه ومعه من السعودية الكاتبةداليا تونسى المتخصصة فى الفلسفة وكاتبة الأطفال والناشرة أروى خميِّس والناقد سامى عجلان، الناقد التونسى محمد الودرنى، والكتاب الكويتيين: وليد الرجيب، استبرق أحمد، عبد الله الحسينى، خالد تركى، ومن الشعراء أحمد الملا (السعودية)، دخيل الخليفة وسعد الياسرى (الكويت)، محمد ماجد العتابى. إضافة إلى المحاضرات والكلمات المكتوبة والأمسيات الشعرية والسردية، كانت هناك حلقات نقاشية وحوارات تناولت موضوعات مثل «ما المعنى وراء الكتابة؟ الأدب والتغيير الاجتماعى»، و»الطفولة، القصص، والبحث عن المعنى»، و»المشاريع الثقافية وصناعة المعنى”. هذا بخلاف «ورش العمل» المتنوعة والشاملة لأنواع أدبية وفنية عديدة منها: «تقنيات كتابة النص الحديث (قصيدة النثر/ القصيدة المدورة)»التى قدمها الشاعر الكويتى دخيل الخليفة ومن بين أسئلتها: «كيف نبنى النص الجديد؟ ما شروط كتابته؟ ما أدوات وأساليب بنائه؟ كيف نصنع من اللغة فجوات توتر؟ من أين تأتى خصوصية النص؟، ونموذج الحلقة السقراطية التى قدمتها كاتبة الأطفال ومعلمة الفلسفة السعودية داليا تونسى وترى فيها نموذجًا يعرفنا على حقيقة جهلنا، و»فى نفس الصورة.. مع الخنافس والشوكولاته.. ورشة عمل عن النصوص الموجهة للصغار والكبار» وقدمتها الكاتبة أروى خميّس التى أجابت خلالها عن تساؤل: كيف يمكن أن تتناسب معانى النصوص ولغتها ومواضيعها مع الصغار والكبار؟، وورشة قدمها الكاتب المسرحى الكويتى علاء الجابر عن فن كتابة المسرحية، وأخرى للشاعر البحرينى مهدى سلمان بعنوان «تقطيع النثر.. ورشة فى جماليات النصوص النثرية ذات الطبيعة الشعرية» وبحث فيها عن جماليات الاشتغال باللغة العربية تحديدًا، وعن خصائص الصوت والحروف فيها، والتراكيب المستخدمة منذ العصر الجاهلى للتنغيم فى النثر العربي، إضافة إلى ورشة عمل: «كيف نحوِّل ركام الواقع إلى فن؟» التى قدمتها كاتبة هذه السطور وتناولت فيها طرق توليد الأفكار الفنية من التفاصيل اليومية والمكرورة، وكيفية تنمية هذه الأفكار وتطويرها بحيث تبتعد عن أصلها الواقعى. ما الذى تغير فى مكان عرفناه من قبل وكيف أثرت فيه سنوات تسع؟ سؤال دار فى ذهنى خلال وجودى فى الكويت، لكننى فى الحقيقة لم أكن مشغولة به قدر انشغالى بالتعرف على وجه جديد لم أعرفه من قبل للمكان. عديدون تحدثوا معى مثلًا عن أوجه الاختلاف بين المشهد الأدبى فى الكويت قبل سنوات والمشهد الحالى. الملاحظة المشتركة تمثلت فى وفرة الأنشطة الثقافية الآن مقارنةً بالسابق وتعدد المنصات المخصصة لها مثل: مكتبة تكوين، منصة الفن المعاصر، مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافى، الملتقى الثقافى وغيرها. هناك أيضًا نهضة فى القراءة وحرص من مؤسسات خاصة كالبنوك والجامعات والشركات على دعم الأنشطة والمبادرات الثقافية والجوائز الأدبية. مبادرة «ماراثون القراءة الخيرى» مثلًا الذى يرعاه بنك بوبيان وعيادة كلينيكا، ويُخصص عائده لمساعدة الطلاب غير القادرين على دفع مصاريف تعليمهم، حيث يقدم الرعاة دينارًا كويتيًا لكل عشر صفحات تُقرَأ خلال الماراثون الذى كانت مكتبة تكوين قد أطلقته لأول مرة عام 2017 وأُقيم مرات عديدة آخرها فى فبراير الماضى ونجح فى اجتذاب أعداد كبيرة من القراء الذين قرأوا آلاف الصفحات من كتب متنوعة. الملاحظة الأخيرة التى خرجت بها، أننا لا نعرف إلّا أقل القليل عن الأجيال الشابة من أدباء الخليج، وعلى الرغم من تحفظات معظمنا على سطوة الجوائز واعتبارها المصدر الوحيد لمعرفة المشهد الأدبى فى هذا البلد أو ذاك، فإننا –فى الغالب- نكتفى فقط بالأسماء الواردة فى قوائمها، مما يؤدى فى النهاية إلي تغييب أسماء قد تكون أكثر استحقاقًا وأهمية.