فى روايته نهاية الأبدية يقول إسحق أزيموف فيلسوف الخيال العلمى إن البشر نتيجة التطور العلمى سيستطيعون السفر عبر الأزمنة وتغيير الماضى .. وبالتالى ستصبح أهم مهن المستقبل هى مهنة التقنى الذى يعيد صياغة التاريخ قبل تعديله، ويرسم الخرائط المعلوماتية التى توضح التأثيرات التى سيحدثها هذا التغيير على مجرى الأحداث، وبالتالى يقرر جدوى التعديل من عدمه. هذا الموضوع يحمل لمحة من مهنة التقنى هذه .. فإذا عدنا بالزمن الى الوراء عند اللحظات المفصلية الحاسمة فى حياة كبير المدربين المصريين محمود الجوهرى ووضعنا بدلاً منه قيمة كروية كبيرة أخرى هى ''طه إسماعيل، فهل تتفق قرارات الأول مع اختيارات الثانى، أم أن ما يقدم عليه الجنرال قد يعف عنه الشيخ ؟ قرارات الجوهرى كانت نابعة من شخصيته، واللافت أن لكل منها غنيمة واضحة، سواء على المدى القريب أو البعيد. معرفتى بالجوهرى تسبق تعرفى على الشيخ طه.. فمازلت أذكر احتفال الجمهور المصرى بمباراة هولندا فى كأس العالم (مشابهة جداً لما حدث بعد كأس الأمم، لكن مصر وقتها كانت بنصف عدد سكانها تقريبا!!) .. كنت طفلاً صغيرا انتبهت للنداء جوهريييه جوهريييه.. لم يهتف أحد لمجدى عبد الغنى صاحب الهدف ولا لحسام حسن صانع ضربة الجزاء ولا حتى للحكم الذى منحنا البينلتى.. الكل أجمع على أن البطل الأوحد هو محمود الجوهرى.. أول مدرب تهتف الجماهير باسمه فى تاريخ مصر. وعلى العكس كان لقائى بالشيخ طه فردياً هادئاً .. فبعد أحد دروس الثانوية العامة كنت أتهادى فى أحد شوارع المعادى عائدا الى البيت بصحبة أحمد يوسف صديقى عندما داهمنا أذان المغرب.. ولأن الصلاة فى الجامع هى أحد الأسلحة البتارة للدخول إلى امتحانات الثانوية فقد هرعنا الى أقرب مسجد.. وبعد أن انتهت الصلاة شعرت أن ملامح هذا الإمام ذى الصوت الرخيم تبدو مألوفة خاصة مع لحيته القصيرة.. وعندما اقتربت من الرجل تأكدت أن الرجل الذى صلى بنا هو بالفعل الشيخ طه إسماعيل الذى نسمع تحليلاته فى التليفزيون!.. هل لهذا التباين بين صخب الصدام مع الجنرال وهدوء اللقاء بالشيخ دلالة ما؟ تطابق أولى المتتبع لتاريخ النجمين الكبيرين سيجد التشابه بينهما مدهشاً.. بل إن تقاربهما يتعدى التاريخ إلى الجغرافيا أيضاً! .. فالفارق بين مولديهما عام واحد (الجوهرى 1938 وطه إسماعيل 1939) والأول مولود فى حلوان والثانى على مقربة منه فى المعادى.. كلاهما من نفس الجيل من لاعبى الأهلى (التحق طه إسماعيل بالنادى عام 1957 بعد الجوهرى بعامين فقط) والاثنان تألقا وكانا من نجوم الفريق الأول ومن بعدها منتخب مصر.. الجوهرى اعتزل الكرة عام 1965 (عامان فقط قبل إسماعيل) وبدأ مشواره التدريبى الذى قاد فيه النادى الأهلى وأندية خليجية كثيرة ومن ثم منتخب مصر الأول، وهو نفس المسار التدريبى الذى اتخذه الشيخ طه حرفياً!!.. وإذا كانت نظرية الأكوان المتوازية تقول إن البدايات المتشابهة تؤدى إلى نتائج متشابهة، فلماذا تفرع مسار كلا الرجلين منذ لحظة الاعتزال بهذا الشكل؟؟.. فى رأيى أن أول عوامل الاختلاف كانت فى لقب الشيخ الذى لازم طه إسماعيل لأكثر من خمسين عاماً. قيد وجموح حتى وهو لا يزال لاعبا شابا فى النادى الأهلى عرف طه إسماعيل بلقب الشيخ طه لتمسكه الشديد بالتعاليم الدينية بدون أية استثناءات والكل يعرف حكاية هدف البركة الذى أحرزه فى الترسانة ورسخ شخصية الشيخ فى الأذهان.. هل كان هذا اللقب قيد على الرجل؟.. العربى القديم يقول فى حكمته: لكل امرىء من اسمه نصيب (يعارضه الغربى الحديث إمبرتو إيكو ويقول: إن الأسماء يجب أن تشوش على الأفكار لا تقولبها، لكن هذا موضوع آخر) وبالتالى هل اضطر طه إسماعيل من أجل الحفاظ على صورة الشيخ إلى الالتزام بأنماط سلوكية هادئة ثابتة تحدد له اختياراته؟ على العكس من ذلك فالجوهرى اللاعب كان يلقب بالتتش الصغير (لقصر قامته تيمناً بمختار التتش، الذى كان قصيراً أيضاً لكنه برع فى القفز والحركات المرنة لذلك سمى التتش تشبهاً ببهلوان إنجليزى شهير) وبالتالى كان المتوقع من الجوهرى هو الشيطنة والعفرتة!، ولم يحمل لقب جنرال الكرة المصرية إلا بعد أن أوغل فى مشواره التدريبى. الشيخ إذن يحافظ على صورته الهادئة بسماحة الانسان النورانى والجنرال يقود فرقة بشدة الرجل العسكرى.. لهذا نجد الأول حتى فى انتقاداته الرياضية أشبه بنجيب محفوظ فى أدبه الجم وتعففه عن الهجوم العنيف، بينما عرف عن الثانى حمايته للاعبين المتمردين مثل حسام حسن وابراهيم سعيد وميدو. الاختيار الأول : التمرد على القائد/ الخروج على ولى الأمر كان الجوهرى عام 1982 هو جوهرة الأهلى اللامعة.. فهو المدرب الذى وضع اسم نادى القرن لأول مرة على لائحة الأندية الفائزة ببطولة أفريقيا للأندية أبطال الدورى على حساب أشانتى كوتوكو الغانى.. لكن شهر العسل الجميل لم يستمر للأبد لأن الجوهرى اصطدم بصالح سليم رئيس النادى فى أزمة 1985 الشهيرة التى أوصلت العلاقة بين الرجلين القويين إلى طريق مسدود ، عندما قاد الجنرال جناح التمرد ضد قائده المايسترو، وخرج بالفريق الأول للنادى الأهلى من معقله الطبيعى بالجزيرة للتدريب على ملاعب نادى الشمس.. ساعتها كان رد القائد عنيفاً، فأوقف عشرة لاعبين هم عماد فريقه كى يجهض الانقلاب فى مهده.. وخاض النادى الأهلى مباراة الكأس الحاسمة مع نادى الزمالك بفريق من الناشئين ضد الزمالك المدجج بالنجوم.. ورغم أن الجوهرى فاز مع جنوده الصغار بالمعركة يومها 3 - 2 إلا أن قرار القائد الأعلى جاء بعزله. قرار تمردى كهذا لن يصدر عن طه إسماعيل، لأنه فى أبجديات الشيوخ طاعة ولاة الأمر واجبة وإن ظلموا.. وأن من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، كانت ميتته جاهلية.. لهذا كان الشيخ طه فى الكون الموازى سيكمل بطولة الكأس بلاعبيه كلهم، وبالتالى سيخسر غنيمتى الجوهرى، القريبة: وهى الفوز التاريخى على الزمالك بالناشئين، والبعيدة: وهى تركه للأهلى مجبراً وسفره لتدريب أهلى جدة السعودى خلفاً للبرازيلى سانتانا عام 1986، ومعه حقق نتائج جيدة جعلت اتحاد الكرة المصرى يختاره لتدريب منتخب مصر الأول وهى الولاية الأولى التى أوصلتنا لكأس العالم، وجعلتنى أهتف جوهريييه.. جوهريييه مع الحشود!! الاختيار الثانى : إعادة الانتشار/ اللدغ من الجحر مرتين يبدو أننا فى الماضى كنا انفعاليين أكثر من اللازم فى قراراتنا، إذ إنى لا أرى كارثة فى أن يخسر فريقنا القومى من اليونان فى أثينا 6 -1 فى مباراة ودية.. وتاريخ المباراة نفسه مزعج جداً (16 أكتوبر 1990) أى بعد ثلاثة أشهر فقط من كأس العالم التى قارعنا فيها الكبار.. لكن اتحاد الكرة انتفض لهذه الخسارة الودية وقرر إقالة الجوهرى.. بعدها (25 سبتمبر 1991) وعقب الخروج من الدور الأول لدورة الألعاب الأفريقية التى استضفناها عرض اتحاد الكرة على الجوهرى العودة لتدريب المنتخب.. وأنا لا أملك إلا تخيل رد الشيخ طه على عرض مثل هذا.. فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، واحترام الرجل لنفسه قد يمنعه من أن يضع رقبته تحت سيف أعضاء اتحاد الكرة الهوائيين.. لكن الجوهرى الرجل العسكرى كان يعرف أن التراجع التكتيكى يعقبه مناورات أخرى، لهذا وافق على ولاية ثانية كانت غنيمتها الميدالية الذهبية فى دورة الألعاب العربية فى سوريا. الاختيار الثالث: الانضمام لقوات العدو / الكفر بعد الإيمان بداية موسم 1993 - 1994 كان مستوى نادى الزمالك منحدراً، وفى أول ثلاث مباريات فى الدورى خسر من المقاولين ومن الأهلى وتعادل مع البلدية (هل يبدو هذا مألوفاً؟) وتعرض الفريق لهزة وهجوم عنيف من جماهيره.. وهنا التقى لاعبو الزمالك الكبار (إسماعيل يوسف وهشام يكن وأحمد رمزى) بالجوهرى وطلبوا منه تدريب الفريق بناء على توجيهات المستشار جلال إبراهيم رئيس النادى.. هذا القرار شبيه بأن يأتى مدرب جزائرى ناجح جداً ويدرب منتخب مصر!.. لكن مكانة الجوهرى الكبيرة وسط عموم المصريين سمحت لوفد الزمالك أن يبتلع كبرياءه ويطلب من ابن الأهلى إنقاذ القلعة البيضاء من الدمار.. الجنرال يدرك أن الأهداف الاستراتيجية تتغير بتغير الظروف، ولهذا أخذه طموحه إلى تجربة جديدة صعبة جدا لم يكن ''الشيخ'' ليخوضها ولا حتى ''الوغد''!! لأنك بقيادة الجهاز الفنى للزمالك تصبح مرتداً ، وعليك مقارعة الأهلى (البيت العتيق) والعمل من أجل هدمه والفوز عليه .. وهو بالضبط ما فعله الجوهرى فى الدور الثانى بهدفى إيمانويل ومحمد صبرى ، قبل أن تأتى الغنيمة التاريخية بالفوز على ناديه القديم فى كأس السوبر الأفريقية فى جوهانسبرج بهدف أيمن منصور، بعد أن كان قد فاز للزمالك ببطولة أفريقيا للأندية أبطال الدورى عام 1993 وللمفارقة أمام أشانتى كوتوكو نفسه الذى هزمه برداء الأهلى قبلها بأحد عشر عاما. الاختيار الرابع : البدء بعد سن التقاعد / دار الهجرة فى عام 2002 وهو فى سن الرابعة والستين شد الجوهرى رحاله الى المملكة الأردنية الهاشمية .. دولة صغيرة جدا فى عالم كرة القدم ، سمكة صغيرة لم تتأهل قط لكأس أمم آسيا ، فما الذى يفعله صائد الحيتان فى هذا الطرف المنسى من عالم الساحرة المستديرة؟.. لكنه جوع الجنرال إلى معارك جديدة.. هل كان الشيخ يقدم على هذه الهجرة غير الضرورية التى لا تجب عليه عينياً طالما كان متمكناً من إقامة دينه آمناً من الفتنة فيه؟؟.. وبالفعل كانت الرحلة الى البتراء موفقة، واستطاع الجوهرى ان يصل بالفريق إلى دور الثمانية فى كأس آسيا بالصين عام 2004 وخسر بطريقة غريبة أمام اليابان (البطل) بضربات الترجيح بعد أن كان متقدماً بضربتين (لا يملك الإنسان إلا أن يتساءل: ماذا لو كان مع الجنرال شىء من بركة الشيخ فى هذه المباراة المصيرية؟!) ووصل بالمنتخب الأردنى الى المركز السابع والثلاثين فى لائحة تصنيف الفيفا الشهرية أواخر عام 2004 بعد أن كان دائما بعد المائة .. أما بعد: لا يكفى إذن أن يكون المرء شيخاً لكى يصبح مدربا ناجحا، والذين يتهمون حسن شحاته بأنه يفوز بالبركة وبالدعاء وبكرامات الأولياء يشبهون من يظن أن الإليكترون يدور حول النواة بالصدفة .. ربما أدرك الشيخ طه هذه الحقيقة متأخراً لهذا اتجه إلى الإدارة الفنية وبزغ فيها إلى أن أصبح مدير مشروع الهدف فى الشرق الأوسط.. وبالنسبة لمنتخب الساجدين فنحن نسجد؛ لأننا نفوز، لا نفوز لأننا نسجد.. فالفارق كبير.. وهو نفس الفارق بين مجموعى الكبير فى الثانوية العامة، ومجموع أحمد يوسف الهزيل ، رغم أنه صلى لصقى فى نفس المسجد خلف نفس الشيخ!!