يبدو أن كلمة «سعد» هي كلمة السر لإفساد السينما المصرية، والمصيبة أننا ليس لدينا «سعد» واحد بل «سعدان»، رغم أنهما يمتلكان طاقات فنية هائلة، «محمد سعد» طاقة تمثيلية متميزة، و«سعد الصغير» طاقة غنائية شديدة الخصوبة، ولكن يبدو أن غباءهما الفني والطمع وحب المال، جعلهما يتناسيان كلمة فن التي احتضنتهما وكانت سببا في شهرتهما، المصيبة أن «السعدين» لم يجنيا علي نفسيهما ويفسدا حياتهما الفنية فقط، بل جنيا علي نفسيهما وعلي السينما المصرية بشكل خاص، وعلي المجتمع كله بشكل عام بسبب سم السفه والابتذال الذي صدروه للناس في معلباتهما السينمائية مع سبق الإصرار والترصد. «محمد سعد» بداياته تشهد بأنه فنان موهوب، خاصة مع طلته الأولي وظهوره ضمن كتيبة فيلم «الطريق إلي إيلات»، ورغم صغر دوره- مثله مثل بقية أبطال الفيلم من الشباب- إلا أنهم شكلوا بطولة جماعية تحسب لهم، وخاصة دوره الذي تميز فيه بغنائه لرائعة «أحمد فؤاد نجم» و«الشيخ إمام» «مصر يا أمه يا سفينة.. مهما كان البحر عالي.. فلاحينك ملاحينك.. يزعقوا في الريح تواتي»، هذه الكلمات ومن ذاق طعمها ليس من الصعب فقط، بل من المستحيل أن تكون نتيجتها هذا النموذج «اللمباوي» الذي تتنافي مكوناته الشخصية السطحية مع الحس الوطني والإنساني الذي أفرزه عمل بحجم «الطريق إلي إيلات»، ولكنها لعنة الفلوس التي- للأسف- قضت علي مشروع نجم حقيقي كان من الممكن أن يدخل التاريخ بأدائه الصادق، بدلاً من أن يدخل في غياهب التاريخ ب«لمباوياته»، سعد «الممثل» وليس المطرب، كان من الممكن أن يصبح كوميديانا بحجم «الريحاني» وتراجيديانا أيضا بنفس الحجم، لكنه دمر تاريخه مقابل حفنة من الفلوس زائلة. الغريب أن «سعد» مصر علي الفشل والاستمرار في الفشل، وكأنه يعاند نفسه، رغم أن بيده أن يغير مسار حياته ويعود إلي رشده السينمائي، إلا أنه يأبي أن يكون من التائبين عن أخطائهم السينمائية، بل هي ليست أخطاء فقط، بل كوارث، المصيبة الأكبر هي استهانته بمستقبله الفني إلي هذا الحد وكأنه هو عبقري زمانه وكل من حوله لا يفقهون، فهو عنيد لا يستمع إلي نصائح الآخرين، مكابر لا يتراجع عن أخطائه، إذا كان «محمد سعد» يتصور أنه يعيد أمجاد «إسماعيل ياسين» بسلسلته السينمائية الشهيرة التي قدمها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ويحاول أن يقلده بسلسلة مماثلة، فهذا أكبر خطأ، فما يقدمه «محمد سعد» يختلف كثيرا عما كان يقدمه «إسماعيل ياسين»، وفي الحقيقة هو يدمر نفسه، فلا «اللمبي» هو «إسماعيل ياسين في الأسطول»، ولا في «الجيش» ولا في «الطيران» ولا حتي في «حديقة الحيوان»، فنوعية أفلام «إسماعيل ياسين» رغم بساطتها إلا أنها كانت هادفة وتحمل مضمونا، لدرجة أنها كانت تقدم بأوامر عليا لترغيب المواطنين في التطوع أو أداء الخدمة العسكرية في بداية عهد الثورة، وكانت بمثابة المشروع القومي والهدف منها قومي، رغم أن العائد المادي أيامها لا يقارن بما هو حاصل الآن، ولكن الكل كان يعمل لخدمة الوطن ولمصلحة البلد العليا بصرف النظر عن مصالحهم الشخصية، فهل ما يفعله «سعد» يخدم به الوطن، أم يهدم به أوطانًا؟! «إسماعيل ياسين» الذي ساند ثورة يوليو وأعلن انضمامه إليها ووضع نفسه منذ أول يوم في خدمتها بصناعة أفلام تخدم أهدافها لا تسخر منها - كما فعل «سعد» - ولا تنتقص من قدرها، ولم «يتريق» علي لجانها الشعبية ووقفاتها المليونية. «إسماعيل ياسين» - الذي لم يسع للإسفاف أو الابتذال وكان يحترم في أفلامه عقلية وحياء الصغير قبل الكبير - كان يتفاخر دائما بالثورة وكان يضع في جميع أفلامه مقولات تؤكد هذا المعني، أذكر أنه في أحد أفلامه أشار إلي الثورة ومجلسها وهيئة تحريرها قائلا: «هيئة التحرير وما أدراك ما هيئة التحرير»! ولم يكن «إسماعيل ياسين» وحده داخل هذا المضمار أو تلك الدائرة، بل كان معظم النجوم حينها يشاركونه الهدف. عندما انحنت السينما إلي الشكل التجاري في أعقاب ثورة 52 لم تقف الدولة مكتوفة الأيدي أو عاجزة واكتفت بوضع يدها علي خدها معلنة ضعفها أمام قوة وتجبر المتبجحين من مفسدي السينما سواء كانوا ممثلين أو منتجين، وإنما قابلت ذلك بكل قوة وبكل حزم، وذلك عندما خرج «محمد نجيب» أول رئيس لمصر معلنا محاربة الفساد السينمائي، مؤكدا أن انعطاف السينما ناحية الفساد أمر غير مقبول ولا يمكن السكوت عنه، معللا ذلك بإساءة استخدام آليات السينما، مما ينعكس بالطبع علي المجتمع بأكمله، وخاصة الشباب الذين تكون السينما بالنسبة لهم في هذه الحالة معول هدم وليس معول بناء، ومن بعده جاء «جمال عبدالناصر» ليستخدم السينما كرسالة نبيلة تساعده في تحقيق أهداف الثورة وتغرسها داخل المواطنين، وهو ما ساعده فيه كل صناع السينما وقتها وسعوا للارتقاء بفكر وذوق وإنسانية المجتمع لا الصعود به إلي الهاوية كما هو حادث الآن، ومن هنا لابد من الانتباه جيدا لأهم وسيلة تأثير في المجتمع وهي صناعة السينما للوقوف ضد المتجاوزين الذين يصدرون لنا السم في العسل من أمثال «محمد سعد» و«سعد الصغير» و«السبكية» وأعوانهم. كان «سعد» موهبة تبشر بمولد نجم متميز، خال من كوليسترول الفن الرديء، لكنه- للأسف- سمح للفن الرديء باختراق مسامه، والزحف تحت جلده، والاختلاط بدمائه، ليصير السفه والابتذال جزءا من جيناته الفنية للدرجة التي أصبح فيها كالمدمن الذي لا يستطيع التخلص من إدمانه، فصار مدمن «اللمبي»، أو مجنون «اللمبي»، وأصبح يستعصي عليه أن يعود إلي صوابه، وبالتالي أصبح علي الآخرين أن يعيدوه إلي صوابه، وكأنه أصابه مس من الجان!! المؤسف أن نفس الفيروس انتقل إلي «سعد الصغير» الذي ساهم أيضا مع «سعد الكبير» في إفساد السينما بأفلامه التي أقل ما توصف به أنها أفلام داعرة تحض علي الانحراف وإثارة الغرائز ومليئة بالعري والجنس والإسفاف وحركاته اللولبية الرخيصة والألفاظ المبتذلة التي تصل إلي حد الجريمة التي من المفترض أن يعاقب عليها القانون، وهو دور الرقابة التي من المفترض أن تكون بمثابة «الفلتر» الذي ينقي الأعمال الفنية سواء كانت سينما أو غناء ليحمي المجتمع من الانحراف الأخلاقي وليحمينا من خدش الحياء ومن عديمي الحياء، ولكن يبدو أن الرقابة في غيبوبة كعادتها ولم تفق منها بعد رغم أننا في زمن جديد وعهد جديد يحتاج منا أن نكون أكثر يقظة من أجل مجتمع أفضل ومن أجل فن أرقي. السينما ليست لقمة عيش فقط، حتي لو كانت كذلك فهي في المقام الأول رسالة تدعو إلي قيم الحق والخير والجمال، وليس إلي قيم الفساد والإفساد والشر والقبح، كما تفعل بنا أفلام «السعدين»، والغريب أنهما قبلا علي نفسيهما أن يكونا مجرد عرائس مارونيت تعبث بها أيدي المنتجين الذين لا يقلون طمعا عنهما، بعد أن أعمت المادة عيونهم أمام مصالح المجتمع الذي دمروه بسمومهم السينمائية. قبل 10 سنوات لم يكن لدينا هذا الكم الهائل من الفساد السينمائي، حتي ظهر علينا «السعدان» اللذان انتقلت عدواهما إلي بقية الجسد السينمائي فأفسدته، وكما أن السمكة تفسد من رأسها، فإن السينما فسدت من «سعدها» - سواء الصغير أو الكبير.