مع اقتراب انتخابات مجلس النواب، نوفمبر المقبل، يزداد النقاش حول تمويل الأحزاب السياسية والإنفاق على مرشحيها، خاصة بعد إلغاء المادة 44 من القانون رقم 40 لسنة 1977. والتمويل يعد ركيزة أساسية تؤثر على نزاهة العملية الانتخابية وجودة التمثيل البرلمانى، ورغم وجود قوانين منظمة، إلا أن مصادر التمويل وطرق الإنفاق ما زالت تثير تساؤلات جوهرية حول الرقابة والشفافية، فمن يراقب تلك الأموال؟ وكيف يمكن ضمان ألا تتحول إلى أداة للتأثير على اختيارات الناخبين، أو تشويه نتائج الانتخابات؟ فى مصر، لم تعد الدولة تمنح أى دعم مالى للأحزاب بعد إلغاء المادة 44 من قانون الأحزاب السياسية رقم 40 لسنة 1977، وأصبحت الأحزاب تعتمد بشكل رئيس على التبرعات الخاصة واشتراكات أعضائها، مع دعم رجال الأعمال، هذا الوضع يجعل الرقابة والشفافية والمساءلة تحديًا كبيرًا، ويطرح تساؤلات حول ضمانات استخدام الأموال بما يخدم العمل السياسى، وليس المصالح الفردية، ويوجد العديد من النماذج السياسية الدولية التى يمكن الاستفادة منها. تأثير المال يظهر بوضوح فى انتقاء المرشحين، وفى بعض الأحيان يفضل المال على الكفاءات السياسية، ما يضعف فرص الوصول إلى مواقع التأثير، ويؤثر على جودة التمثيل البرلمانى، كما أن التمويل غير المنضبط قد يفتح المجال للتأثير على سلوك الأحزاب أو شراء الولاءات السياسية، بشكل يقلل من استقلالية النواب وقدرتهم على تمثيل الناخبين بموضوعية، ومن هنا تبرز أهمية الآليات الرقابية الصارمة، وضمان الإفصاح المالى الدورى كجزء من الشفافية السياسية. على المستوى الدولى، ألغت المحكمة العليا فى الهند نظام «السندات الانتخابية» للتبرعات المجهولة، ما عزز الشفافية وكشف مصادر التمويل. وفى جنوب أفريقيا، ألزم قانون تمويل الأحزاب عام 2021 بالإفصاح الكامل عن جميع مصادر التمويل، ما وفر أرضية أقوى للمساءلة. ويمتلك الاتحاد الأوروبى إطارًا عامًا للشفافية، لكن تطبيقه يختلف بين الدول، وفى الولاياتالمتحدة، تفرض قيود صارمة على التبرعات الانتخابية، تشمل الإفصاح الإجبارى عن أى تبرعات تتجاوز حدًا معينًا، ما يسمح بمتابعة دقيقة لتأثير المال على العملية السياسية. خطر المال السياسى من جانبه يؤكد عفت السادات، رئيس حزب السادات الديمقراطى، أن أموال الأحزاب تخضع لرقابة دقيقة من الدولة من خلال الجهاز المركزى للمحاسبات ولجنة شؤون الأحزاب، حيث تقدم الأحزاب تقارير مالية دورية تضمن الالتزام بالقانون والشفافية. وأوضح أن اختيار المرشحين يعتمد على الكفاءة والخبرة أولًا وليس على القدرات المالية، وأن الاشتراكات المنتظمة للأعضاء والتبرعات الرسمية الموثقة هى الركائز الأساسية للتمويل. وأشار إلى أن المال السياسى يمثل خطرًا على تكافؤ الفرص، لكن الرقابة الصارمة تحد من هذا التأثير، مع إمكانية الاستفادة من التجارب الدولية فى الإفصاح المالى للأحزاب، مثل المنصات الإلكترونية فى بعض الدول الأوروبية التى تنشر تقارير مالية دورية. وشدد على أن نشر بيانات مالية مبسطة يشجع الشباب على الانخراط فى العمل السياسى. قطع الطريق أمام الشبهات وقال د. رضا فرحات، نائب رئيس حزب المؤتمر، إن الشفافية المالية جزء أساسى من بناء الثقة مع المواطنين، وأن القانون المصرى ينظم تمويل الأحزاب بوضوح، حيث يلزم كل حزب بتقديم ميزانيته وتقاريره للجهاز المركزى للمحاسبات، وتتابع لجنة شؤون الأحزاب الالتزام بالقانون، فيما تراقب الهيئة الوطنية للانتخابات الإنفاق خلال الحملات الانتخابية. وأضاف إن اختيار المرشحين لا يعتمد فقط على المال، بل يتم موازنة القدرة المالية مع الكفاءة والخبرة السياسية. وأوضح فرحات أن أى تجاوز للمال السياسى قد يضر بتكافؤ الفرص وجودة البرلمان، لذا فإن الالتزام بالشفافية والمراقبة الدقيقة يعد ركيزة أساسية للحياة السياسية السليمة. وأشار إلى تحفظ بعض الأحزاب على الإفصاح عن أرقام ضعيفة، خشية استغلالها سياسيًا، لكن تفعيل إلزام علنى بنشر الميزانيات بشكل دورى يعزز ثقة المجتمع فى العمل الحزبى، ويقطع الطريق أمام الشبهات. الشفافية حق أصيل للمواطن وقال محمد ممدوح، عضو المجلس القومى لحقوق الإنسان: إن الشفافية فى التمويل الحزبى ليست مجرد مسألة تنظيمية، بل حق أصيل للمواطن لمراقبة الحياة السياسية. وأكد أن القانون يلزم الأحزاب بعمل دفاتر محاسبية، إلا أن الإفصاح العلنى غير إلزامى، ما يخلق فجوة بين الرقابة الشكلية والشفافية الحقيقية، ويحد من قدرة المواطنين على متابعة مصادر التمويل واستخدامها. وأضاف: إن غياب الإفصاح العلنى يعود لأسباب مثل ضعف الثقافة المؤسسية داخل الأحزاب، والمخاوف من كشف الاعتماد على دعم معين أو علاقات مع رجال أعمال، كما أن غياب الشفافية يفتح الباب أمام الشكوك حول استقلالية القرار السياسى ويضعف الثقة فى الديمقراطية. وشدد على أهمية استلهام التجارب الدولية، مثل بريطانيا وألمانيا والهند التى تفرض الإفصاح المالى العلنى، بما يعزز الثقة ويضمن تكافؤ الفرص. إتاوات سياسية فى السياق ذاته، أوضح عصام شيحة، رئيس الجمعية المصرية لحقوق الإنسان، أن المصدر الأساسى لتمويل الأحزاب عالميًا هو اشتراكات الأعضاء، وفى المقابل فإن بعض الدول تمنح دعمًا ماليًا للأحزاب وفق عدد مقاعدها البرلمانية، وهو أمر غير مطبق فى مصر. وأشار إلى أن بعض الأحزاب تفرض إتاوات -حسب وصفه- أى مبالغ على الأعضاء الراغبين فى الترشح لتحمل تكاليف الدعاية، وهو ما يخل بمبدأ تكافؤ الفرص، خصوصًا مع وجود أكثر من 100 حزب مسجل، بينما لا يملك مقاعد برلمانية فعلية سوى أقل من عشرين حزبًا. وأضاف شيحة: إن القانون يلزم الحزب بعقد جمعية عمومية سنوية تعلن فيها الميزانية وتقاريرها المالية، لكن كثيرًا من الأحزاب لا يلتزم، رغم أن القانون يعتبر أموالها أموالًا عامة تخضع لرقابة الجهاز المركزى. وأكد أن الأزمة تكمن فى ضعف التطبيق، إذ يلزم القانون المرشحين بفتح حسابات بنكية وتقديم تقارير، لكن لم يحل أى مرشح للتحقيق بسبب تجاوز الإنفاق، ما يجعل الرقابة شبه غائبة. الرقابة كافية ورأى خالد فؤاد، رئيس حزب الشعب الديمقراطى، أن الأحزاب ليست شركات مساهمة فى البورصة لتعلن قوائمها المالية علنًا، فهى جزء من الدولة وتقوم بدورها السياسى اعتمادًا على إمكاناتها الذاتية منذ توقف الدعم فى 2012. وأكد أن إلزام الأحزاب بنشر تمويلاتها علنًا يتعارض مع خصوصيتها الداخلية، طالما أن أموالها تخضع لرقابة الجهاز المركزى والمحاسبة الداخلية من خلال جمعياتها والعمومية. وأوضح أن اختيار المرشحين لا يعتمد على القدرة المالية فقط وإنما على الخبرة والشعبية، والأحزاب لا يجب أن تعامل كمؤسسات مالية. ولفت إلى أن مصادر التمويل الأبرز هى التبرعات المعلنة من رجال الأعمال تحت إشراف الأجهزة الرقابية، بينما يمنع القانون الأحزاب من الاستثمار إلا فى الإعلام والنشر. وأضاف: إن الرقابة القائمة من الجهاز المركزى ولجنة شؤون الأحزاب والهيئة الوطنية للانتخابات كافية لضبط التمويل. وحذر من مخاطر المال السياسى على جودة البرلمان، وينبغى أن يرتبط الإفصاح العلنى بوجود دعم مالى من الدولة، أما فى حالة التمويل الذاتى فالمساءلة تكفى عبر الأجهزة الرقابية والجمعيات العمومية. 2 3 4