قطع الوزير حَبل أفكارى، حين بدأ يتلو أسماء الأوائل واحدًا واحدًا، ثم أعلن عن الجائزة التى ستقدمها الوزارة لنا.. شعرتُ وقتها بأننى سأخرج من القاعة وفى يدى كنز، إلّا أن الجائزة كانت متواضعة، جهاز كمبيوتر محمول، لا أنكر أننى كنت أحلم باقتنائه، لكننى كنت أحتاج أيضًا للمال.. فلا بُد أن أشترى ملابس أنيقة، سأصبح طالبة فى كلية الإعلام قريبًا.. على كل حال حمدتُ الله على «اللاب توب»، أحسن من عدمه! تلقى الوزير العديد من الأسئلة، وأجاب عنها أمام الصحفيين بهدوء، وانتهى المؤتمر سريعًا؛ ليبدأ حفل تسليمنا شهادات التقدير، والجائزة المنتظرة، التى تسلمناها فى حقائب يد، بعدما صافحنا الوزير مرّة ثانية، بينما كانت عيناى طوال هذا الوقت؛ تبحثان عن مكان ابن العمدة داخل القاعة، كنت أتلهف لنظراته لى خلال تلك الثوانى، إنها لحظات انتصارى. وأخيرًا وجدته، كانت عيناه تراقبانى، يا لخجلى، بالتأكيد شاهد عينىّ تتحركان هنا وهناك، وعلم أنهما تبحثان عنه، فأنا لا أعرف سواه فى القاعة، حتى مدير المدرسة بقى خارجها، وكذلك الممرضة العجوز التى لم تغادر السيارة، ملبية رغبة المدير، الذى طالبها بالانتظار فى مكانها؛ لحين عودتنا. تقابلتْ نظراتنا بعد استلامى شهادة التقدير وحقيبة الكمبيوتر من الوزير، وجدته يتحرك فى اتجاهى، فهو يعلم جيدًا أننى لا أعرف سواه هنا، اقترب بشدة، وقال: «شرفتينا يا ندى». كدت أطير من سعادتى، فها هو ابن عمدتنا؛ الشاب الوسيم صاحب الهيبة، يفتخر بى، قبل أن يفعل ما لم أتوقعه.. مد يده نحو يدى، وحمل حقيبة الكمبيوتر منّى، ورفع صوته بثقة: «عارف إنها تقيلة، خليها معايا». ابتسمتُ بينما ترتفع دقات قلبى؛ غير مصدقة ما يحدث.. أصبحتُ مع فارس أحلامى بعيدًا عن بلدنا، يا لحَظى السعيد. انتهى المؤتمر سريعًا، وابن العمدة يحمل حقيبتى، ويتعهد بإعطائى دروسًا فى فنون الحاسب الآلى، وفجأة انصرف الناس ببطء، ووجدت مدير مدرستى يدخل إلى القاعة، لتتسع ابتسامته فور رؤيته الشاب بجانبى، ثم اتجه نحونا مهرولًا، وصافح الأخير مبديًا سعادته بوجوده غير المتوقع، إلا أن ابن العمدة برّر تواجده سريعًا، مؤكدًا أنه جاء مع صديقه الصحفى، حتى لا يتركنى وحدى فى هذا اليوم، أو «بنت بلدى» مثلما وصفنى تحديدًا.. ألهذه الدرجة يهتم بى؟! إنها بركة دعائك يا أمى! خرجنا من القاعة، وابتساماتى تزداد مع خطواتى، شعرت بسعادة بالغة بسبب اهتمام المحامى بى، رأيت نفسى أميرة تسير بجوار فارسها، حتى أفقت من حلمى على صوت غريب يصافح الأخير، إنه صديقه ابن قريتنا أيضًا، الذى يعمل صحفيّا، والسبب فى وجود ابن العمدة هنا؛ بالوزارة، والسبب أيضًا فيما هو أكبر؛ حيث اعتذر الصحفى عن العودة للقرية مع صديقه؛ لاضطراره للذهاب إلى مقر جريدته، ليتحمس مدير مدرستى، ويحلف يمينًا غليظة؛ بأن يعود فارسى معنا إلى البلد، يبدو أن السيارة المخصوص شجعته كثيرًا على هذا القَسَم، شكرًا لكِ أيتها العجوز. تحالف كل شىء على الأرض؛ حتى أكون سعيدة، فقد كان يومًا استثنائيّا بطريقة عجيبة، لم أتخيل أبدًا أن يكلف ابن العمدة نفسه هذا العناء؛ كى يشعرنى باهتمامه بى، ناهيكم عن أننى أمضيت ساعتين داخل السيارة؛ فى نعيم، رغم الزحام الشديد الذى حاصرنا منذ خروجنا من الوزارة، فلم يصمت المحامى ولا المدير طوال الطريق، وتحدثا عن الكثير، السياسة والتعليم والرياضة، وحال قريتنا.. ووسط كل هذا، بدأتُ أعرف تفاصيل عديدة عن فارس أحلامى، منها أنه بدأ العمل منذ أيام فى الإدارة القانونية لأحد البنوك بالقاهرة.. تبّا لن أراه بعد الآن فى قريتنا، ماذا عن وعوده بإعطائى دروس الكمبيوتر. لم أقُل هذا طبعًا، لكن غضبى من هذه المعلومة كاد يُفضح؛ خصوصًا أننى لم أتحكم فى انفعالى، عندما وجدنى مدير المدرسة أنفخ الهواء من فمى؛ كالنار، فسألنى مستغربًا: «مبسوطة يا ندى؟»، كانت إجابتى بلهاء، قلت: «لا». زادت حيرته من غضبى الواضح، فاستفهم عن سببه، أجبته ببرود: «الدنيا حَر قوى». لكن يبدو أن الشاب فهم سبب غضبى، وجدته يرفع صوته، مكملًا حديثه لمديرى: «لكن هسافر وهرجع البلد كل يوم، مش هقعد فى القاهرة». وهنا تنفست الصعداء، سأراه كثيرًا كما وعدنى. أمّا العجوز فلم تنطق بكلمة واحدة طوال الطريق، أو تستفهم حتى عن سبب تواجد ابن العمدة؛ اكتفت بالترحيب به، ثم دخلت فى صمت غامض، لم أعلم سرّه إلا بعد أسبوع واحد.. لكننى وسط تلك المتناقضات، فضلتُ السكوت، وتابعتُ حديث المدير والمحامى بتركيز، أعجبنى تفكير الأخير جدّا، وكلماته المقنعة المنمّقة، التى جعلته يكسب عدة جولات فى مبارزاتهما؛ خلال النقاش، وبجدارة، يكفيه أنه أقنع مديرى الرجل الخمسينى، بآراء كثيرة.. كان محاورًا شرسًا لا يتنازل عن وجهة نظره أبدًا. علمت أنه ثائر بطبيعته، يكره الفساد والمحسوبية، سمعته يتحدث عن طموحه؛ كان غير محدود، لم يفكر فى فتح مكتب محاماة، أو السفر إلى الخارج، بل انصبت أحلامه فى الوصول إلى كرسى البرلمان، كان يخطط للترشح بالانتخابات المقبلة، وبدأ السعى إلى هدفه، بتشكيل منظمة شبابية من أبناء القرية لخدمتها، راقنى هذا الطموح جدّا.. «أنا بالفعل أميرة، وهذا فارسى». قلت لنفسى تلك الكلمات، وأنا على قناعة تامة، بأن كل ما حدث منذ إعلانى بأننى من أوائل الثانوية؛ وحتى ذلك النقاش الذى سمعته بين مديرى وفارسى، يؤكد أن الحياة تبتسم لى، وتتعهد بمحو أحزانى، لكننى اكتشفت فيما بعد؛ أننى كنت على خطأ. وصلنا إلى قريتنا بعد ساعتين، نزلنا أمام بيت العجوز، الذى يقع فى مدخل القرية، بطريق عمومية فسيحة تشهد سوقًا يومية، تمتد حتى المساء، فما إن تنهض النسوة؛ بائعات الخضر والفاكهة والدجاج، حتى تفتح أبواب محلات الملابس والمحمول أبوابها، التى تحتل جانبى الطريق بالكامل، أستطيع القول إن تلك الممرضة العجوز؛ كانت تسكن فى مكان استراتيجى بقريتنا، أو كما يقال وسط البلد، فالجميع يمر بهذه الطريق يوميّا، وهنا كانت المصيبة. أترككم الآن إلى الطائرة، مضت الساعات الثلاث سريعًا، قتلت حروفى عقارب الساعة، لم أشعر بالوقت إطلاقًا؛ وأنا أتحدث إليكم.. اعذرونى؛ تعهدت هنا فى بيروت، أن أمضى كل وقتى إمّا فى القراءة أو الكتابة، كان أسبوعًا مبهجًا فعلًا، تعلمت فيه الكثير، لكننى لاأزال أصرّ على أن كل ما يحدث فى حياتى؛ ما هو إلا استجابة من الله لدعاء أمّى، سأذهب إلى قبرها فور وصولى لقريتنا غدًا. نسيتُ أن أخبركم، سأتوجّه إلى فندق على النيل، بعد هبوط طائرتى بالقاهرة، فأنا على موعد مساء اليوم، مع حفل كبير يقام فى الفندق نفسه؛ سببه «مدينة الطالبات»، لكن لا تقلقوا؛ سأقضى الساعات الفاصلة بين وصولى للفندق والحفل، معكم، سأشتاق كثيرًا لفضفضتى.. إلى أن نلتقى فى مصر المحروسة، أستودعكم الله. كم كانت جميلة بيروت، لكن القاهرة لها سحر خاص، يكفى أن تقف بشرفة عالية؛ فى عقار يطل على النيل؛ لتتأمله، وتجرى ذكرياتك أمام عينيك، مجرَى المياه بين الشاطئين.. وقتها فقط ستتذكر كل شىء، ستدمع وتفرح. الآن أشعر بذلك، وأنا أجلس على أريكة ناعمة بالفندق، وأمامى تتداعب الموجات الهادئة للنيل.. فالحمد لله، دخلت إلى غرفتى منذ دقائق بعد رحلة مثيرة، تعثرت خلالها الطائرة قليلًا؛ خلال هبوطها فى مطار القاهرة، لكننا نزلنا على الأرض بسلام. أنهيت حمّامى الدافئ قبل ثوانٍ، وجئت إلى هنا سريعًا؛ لأجلس فى شرفة الغرفة، التى أرى منها المحروسة بكل الأبعاد.. وفتحت حاسبى؛ لأكمل حديثى إليكم، اشتقت لكم كثيرًا، رغم أننى لا أعرفكم، ولا أعلم متى ستقرؤون كلماتى تلك، لكنكم أصبحتم الآن أصدقائى المقربين، يكفى أننى تركت العالم، وجئت إليكم لأبوح بأسرارى، وأفضفض دون تفكير. إنه إحساس لا يوصف، ستجرّبونه عندما تقررون قتل أوجاعكم على الأوراق، مثلما أفعل الآن، فأنا أكتب لأقتل الماضى الأليم مع سبق الإصرار؛ فما يسجل بالدفاتر، يمحى من العقول.. هذه قناعتى، لكننى أعلم أن هناك أشياء ستبقى فى ذاكرتى للأبد، حتى لو كتبتها. فلن أنسى- مَهما حاولت- صفعة والدى التى لاتزال توجع مشاعرى، وثورتى عليه وسط الملأ، إنها لحظات فارقة فى حياتى، أعتقد أنها ستبقى فى عقلى حتى موتى.. لن أنسَى أيضًا ما حدث فور عودتى إلى مينا القمح، بعد تكريمى من الوزير وسط أوائل الثانوية، عندما استقرت السيارة المخصوص، أمام منزل العجوز بالطريق العمومى لقريتنا.. وكانت الصدمة المؤلمة. تلك الصدمة أخبرتنى أن لا شىء فى الحياة يستحق الحزن، لا شىء على الإطلاق، كل الأشياء رخيصة أمام راحة البال، لن يقدرك أحد، ستهون على الجميع، حتى ذلك الذى منحته حبك وإخلاصك، وكنت مستعدّا لمحنه حياتك كلها، سيكون أول من يطعنك، وبلا رحمة! (تمت)..