كتبتُ، قبل بضع سنوات، ملحوظةً صغيرة، قلتُ فيها ما معناه إن الكُتّاب كالأبواب: هناك بابٌ موصد، وآخر موارب، وثالث مفتوح. الأبواب المُشرعة، دائماً، أشد ندرة من تلك الموصدة، وأصحابها أكثر عرضة للافتئات والافتراء، لكنهم أيضاً أكثر شجاعة ذلك أنهم لا يحجبون إنسانيتهم عمن جاء يسأل عنها. قلتُ إن الكاتب يعيش فى وجدان التاريخ بما كَتَب، لكنه بحاجة لإنسانيته إن أراد أن يحيا فى ذاكرة الناس. كتبتُ هذه الملحوظة واستشهدتُ، دون تردد، بجمال الغيطانى. أستعيد هذه الملحوظة الآن بينما أستحضر باب جمال الغيطانى المفتوح، وأتذكر أن «عبور» كانت دائماً مفردته المفضلة، التى وسمت عنوان مقاله الشهير «نقطة عبور». هل يمكن أن تكون العلاقة اعتباطية بين مفردة «باب» وكلمة «عبور»؟ وما جدوى باب لا نعبره؟ الأبوابُ خلقت لكى نفتحها لا لنحتمى خلفها ممن ندّعى أننا نكتب عنهم ومن أجلهم. حتى الآن يرتبط الغيطانى فى ذاكرتى وقلبى بهذه الكلمة: عبور، هو الذى عرفها أكثر من أى شخصٍ آخر وعاشها فى ساحة قتالٍ حقيقية لا فى غرفة نضالٍ مكيفة الهواء. ..................... صيف 1995 (أخبار الأدب) انفتح البابُ لأدخل. أخفض أصابعه الملتصقة بجبينه فيما كان يتأملُ شيئاً بين يديه. باليدِ نفسها دعانى للدخول، لأجد نفسى، للمرة الأولى، فى حضرة جمال الغيطانى. كان هذا هو مكتبه ب «أخبار الأدب»، الجريدة الوليدة فى ذلك الحين التى كانت لبنتها صفحته الثقافية الأسبوعية المؤثرة بجريدة «الأخبار» التى كنت أنتظرها كل أربعاء. كنت وجلاً، غير مصدق أننى عبرت الباب الذى يجلس خلفه من أراه أهم روائى عربى جاء بعد نجيب محفوظ على الإطلاق، وأحد رموز كُتّاب الإنسانية الفارقين. فى الحقيقة، كنت أريد أن أرى جمال الغيطانى بأكثر مما كنت أريد النشر فى جريدته. كانت هناك فى ذلك الوقت مطبوعات ثقافية أخرى يتولاها مثقفون كبار، لم أخطِها، ولم أكن شغوفاً بالتعرف إليهم. أسماء قليلة جداً حلمتُ أن أقابلها من طفولتى وكنت أتساءل إن كانت موجودة حقاً. حلمت بمقابلة نجيب محفوظ ولم أقابله، وحلمت بمقابلة جمال الغيطانى، وتحقق الحلم. استقبلنى مبتسماً. كنتُ ما أزال طالباً جامعياً، أخطو نحو الثامنة عشرة من عمرى. لستُ قاهرياً ولا أدرس فى القاهرة. ابتساماتُ هذه المدينة كانت شحيحة كهوائها، وكان وجهها عجوزاً، لم أكن أحبها، وها أنا أقابل أحد أشهر مريديها ومؤرخيها الجماليين. وإن كان لكل مدينةٍ مراياها، فجمال الغيطانى هو أحد أبرز مرايا المدينة الكبيرة وواحد من حاملى أختامها الأدبية المعدودين. صافحتنى ابتسامتُه، ربما كانت الابتسامة الأولى فى وجه المدينة الشاحب، الذى ذكرنى يومها، للمفارقة، بالسطر الأول فى رائعته «الزينى بركات». كانت ابتسامة حقيقية، رغم أننى رأيتُ خلفها وجهاً يليق بالدمع. أخرجتُ قصة، بخط يدى، (ولم تكن الكتابة على الكمبيوتر انتشرت بعد). قدمتها له بخَفَر. لحظة بدأ يقلب صفحاتها باهتمام، فكّرتُ، حرفياً، فى الهرب. احتملتُ لحظات الرعب، متسائلاً، لماذا لم يضع الأوراق، كما يفعل غيره، إلى جانبه ويكمل حديثه معى؟ سألنى مبتسماً، وقد أنهى قراءة القصة: «وإيه كمان؟» لم أعرف بما أرد. قلت له إننى أكتب النقد. ضحك ضحكته المجلجلة وقال: وناقد كمان؟ يبدو أن هيئتى كانت تُناقض تماماً تصريحى الواثق الرصين، بتصفيفة «عمرو دياب» الرائجة فى ذلك الوقت: «بوف» مبالغ فيه كالقبة الهشة تدعمه سوالف طويلة تتجاوز حلمة الأذن، وضاعف من الكارثة ارتدائى ل «طقم» من تلك التى تُستنسخ على عجل لتلائم تطلعات المراهقين فى التشبه بنجمهم الأول، عبر تقليد رخيص جعلنى فى ذلك اليوم غابةً فاقعة من ألوانٍ ربيعية أثمرت فى الموسم الخطأ. كنتُ قد كتبت مراجعة نقديةً واحدة، هى الأولى فى حياتى، لمجموعة شعرية، منحتُ بها نفسى صفة «ناقد». قدمتها له، قرأها أيضاً أثناء جلوسى. ثم نادى أحد الصحفيين، مد يده له بالمادتين هامساً. فى أسبوعين متتاليين نشرت لى أخبار الأدب القصة على صفحتين (وكانت مساحة هائلة تتسع عادة لعدة نصوص) ومقالى النقدى الأول. منحنى هذا دفعة هائلة، واعترافاً سريعاً واسعاً. لكننى أذكر أننى فى ذلك اليوم عدتُ إلى دمنهور، أتأمل من جديد أعمال جمال الغيطانى فى مكتبة أبى تحت ضوءٍ جديد، وقد رأيت صاحبها، وصافحته، وتحدثتُ إليه. كنت مكتفياً، لدرجة أن العدد التالى من «أخبار الأدب» صدر واشتريته، وقلبته، دون أن ألحظ أن مقالتى قد نُشرت. نبهنى لها أحد الأصدقاء. فى ذلك الوقت كان نشر قصة أو مقال فى «أخبار الأدب» يعنى أن تستقبل تليفونات تهانى وتبريكات وكأنك نشرت كتاباً أو حصلتَ على جائزة. ..................... فبراير 2014 (المجلس الأعلى للثقافة) لسنوات، كان عدد من الأدباء المتعاملين مع «المجلس الأعلى للثقافة» والمشرفين على لجانه وأنشطته، يعرضون عليّ، مشكورين، استضافتى ضمن فعالية هدفها التواصل بين الأجيال عبر ندوة تجمع كاتباً كبيراً بكاتب شاب ليدور بينهما حوار يمد «جسور التواصل». كنت أرفض أو أتهرب. كانت الأسماء المطروحة لأشاركها المنصة كبيرة، ولا مجال لمقارنتى بها إعلامياً بالأساس، لكن بعضها لم أكن أحبه، والآخر لم أكن أحترمه، فاعتذرت عن أكثر من دعوة، ما أشاع أننى مغرور وأوغَر صدور بعض كبار الكتاب عليَّ. فى مرة استوقفنى «كاتب كبير» بأحد أروقة المجلس الأعلى للثقافة، وسألنى بنبرة تمزج السخرية بالاستياء: «انت عايز تعمل ندوة مع مين يعني؟ نجيب محفوظ؟» قلت له: «لأ. جمال الغيطانى». قلتها وأنا أعرف استحالة التحقق، فهل سيترك الأستاذ جمال كل مشاغله ويأتى ليجلس معى على منصة واحدة، فى حدث لن يضيف له شيئاً؟ قلتها كنوعٍ من التعجيز، لأغلق باباً ولأخبر ل «الكاتب الكبير» بالاسم الذى يمثله بالنسبة لى تعبير «كاتب كبير». كانت المفاجأة أن جمال الغيطانى وافق على الفور، بل ورحب، وجاء فى الموعد ليقيم لى احتفالية، أنكر ذاته تماماً على المنصة لكى يدعم ابناً له وينبه الناس لضرورة قراءة روايته، وكانت الرواية هى «الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس» (2013)، التى نوقشت يومها تحت عنوان «يخض» هو «أقنعة الرواية التاريخية بين الزينى بركات والحياة الثانية لقسطنطين كفافيس». واحدة من أشهر الروايات فى تاريخ الأدب العربى تحتضن فى عبارةٍ واحدة رواية وليدة، كاتبها، بالكاد، واحد من قراء جمال الغيطانى وتلامذته ومعجبيه. عرفت بعد ذلك أن أحد «الكُتاب الكبار» حاول أن يثنيه عن موافقته، وقال له إنه لن يستفيد شيئاً سوى «تلميعى»، وإن ذلك سيُنزِل من قدره و»برستيجه»، وعرفت أن الأستاذ جمال صده بردود مخجلة. ..................... ديسمبر 2014 (قصر الاتحادية) كنت داخل القصر الرئاسى، مغترباً فى بيت السلطة الرحب، أبحث عمن أأتنس به. كانت المناسبة لقاء للرئيس عبد الفتاح السيسى بعدد من المثقفين، كنت من بينهم. ظللتُ أشعر باليتم إلى أن ظهر الأستاذ جمال الغيطانى. كان الضيوف قد توزعوا على أكثر من غرفة استقبال انتظاراً لظهور الرئيس وبدء الاجتماع. أجلسونى فى واحدة منها. الأستاذ جمال رآنى لدى عبورى، من غرفة أخرى كان يجلس فيها مع أصدقائه ولم أكن رأيته، فأتى لى، ربت على كتفى وقال «تعالى يا طارق اقعد معايا». يومها ترك أصدقاءه ومنحنى وقته حتى بدء الجلسة. كنت قد توليت لتوى منصب مدير تحرير مجلة «إبداع» الثقافية. أمدّنى بنصائح ذهبية، ولخص لى فى نقاط بسيطة سلسة موهبته المشهود بها فى الإدارة. قال: «استحمل.. هتتفتح عليك أبواب جهنم من غير الموهوبين».. ثم ضحك قائلاً: «علشان تعرف أنا عانيت قد إيه طول السنين اللى فاتت دى».. عندما بدأ الاجتماع. قال لى الأستاذ جمال: «اقعد جنبى»، وهذا ما حدث. فى ذلك اليوم راقبت الأستاذ جمال، للمرة الأولى، وهو يكتب تغطية الاجتماع لتُنشر فى جريدة «الأخبار» صباح اليوم التالى، ما يعنى أنها لابد أن تُسلم «الآن». كان الأستاذ جمال يلتقط العبارات المهمة «على الهوا» ليرفقها بأسماء الحضور التى كتبها وترك أمامها خالياً انتظاراً لعباراتها الأهم. لم تتوقف يده لحظة عن الكتابة، طيلة خمس ساعات استغرقها الاجتماع. كان يسكبُ ما يقال شفاهةً مصاغاً على الورق بدقةٍ متناهية وصياغة تثير الحسد. كان يفعل ذلك كمحرر صحفى مجتهد فى مطلع حياته رغم أنه كان الاسم الأبرز بين الحضور. لحظة انتهاء الاجتماع كانت نفسها لحظة تسليم التغطية، ما رأيته أنا (وأنا أعمل صحفياً) معجزةً حقيقية. يومها داعبنى بعد نهاية الاجتماع قائلاً: طبعاً قريت انت الموضوع بالكامل. ضحكت: «أيوه كنت براقب حضرتك». هنا قال ناصحاً: اوعى تتعامل مع نفسك فى لحظة انك كبرت على الكتابة.. اكتب كل رواية كأنها روايتك الأولى واشتغل كل موضوع صحفى كأنه أول خبر هتسلمه». ربت مجدداً على كتفى. كانت أواخر العام تُلقى بظلها الشجى على القاهرة التى خرجنا إليها لنواجه شمساً قوية لا تلائم النهايات. صافحته، واحتضنته. لم أكن أعرف أنه ديسمبر الأخير له، ولم أقابله بعدها، لكنى أعرف أن يده لم تغادر يدى، وأن عناقه سيظل هنا.