«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بداية جديدة للغيطاني
نشر في أخبار الأدب يوم 31 - 10 - 2015


غاب الغيطاني، تاركاً إبداعا لا يغيب.
جاء جمال الغيطاني إلي العالم راويا كما يقول هو في شهادته الأخيرة، بدأ ذلك منذ الطفولة المبكرة، حينما قرأ رواية "البؤساء" لفيكتور هوجو ثم فتحت له القراءة أبوابا لعوالم لا نهاية لها.
سعي إلي كتابة لم يكتُب مثلها، ليس بحثا عن تفرد شكلي، ولكن سعيا إلي إيجاد مضمون في إطار مناسب، وباعتراف الجميع نجح الغيطاني في مسعاه، ووصل إلي لغة وطرق سرد تخصه وحده.
القراءة في أعمال الغيطاني لن تتوقف. هنا ننشر قراءات جديدة في أعماله حيث يكتب د.محمد سمير عبد السلام عن السمات والتيمات الفنية في أعماله ويتتبع الصور ذات الطابع الكوني، ويكتب من تونس محمود طرشونة عن استخدامات التراث في أعمال الغيطاني.
كما ننشر تفاصيل حفل التأبين الذي أقيم في المجلس الأعلي للثقافة وتحدث فيه أصدقاء وتلاميذ وأسرة الراحل الكبير.
اجتمع محبو وتلاميذ وأصدقاء الغيطاني في قاعة المؤتمرات بالمجلس الأعلي للثقافة، ليتحدثوا عنه ويؤكدوا أنه سيظل دائما حاضرا رغم الغياب، فالجسد رحل ولكن الأثر لا يزال باقيا، القاعة لم تسع الأعداد الكبيرة التي حضرت، ففُتحت القاعة المجاورة مزودة بشاشة تنقل كل ما يدور في "حفل تأبين جمال الغيطاني".
افتتح د.أبو الفضل بدران الأمسية قائلا: "لم يكن جمال الغيطاني أديبا فقط، بل كان أمة، وكان يعرف جمال وخصوصية الوطن، آثر أن يتكلم بلسان أهله، وانحاز أن يكون صوت نفسه، ربما لا نعرف حقيقته إلا بعد رحيله، ولكنه أدرك حقيقة هذا الوطن، ولم يأبه بأي شيء، لدرجة أنني هاتفته لأخبره بأني أخشي عليه فرد قائلا: يا أبا الفضل العمر واحد، هكذا كان جمال الغيطاني الذي حضرت ذات يوم إحدي محاضراته في ألمانيا، ففوجئت بأن أحد المستشرقين كان يحفظ نصوص روايته الزيني بركات، لدرجة أن الغيطاني فوجئ، ولقد رأيته في الخارج، لم يكن يحكي عن أدبه فقط، وإنما يحكي عن القاهرة ومصر وعن وجود العالم العربي، كان نبيلا في كل تصرفاته، ونبيها في أدبه، ووجيها أيضا".
وفي كلمته قال الكاتب الصحفي حلمي النمنم، وزير الثقافة: "هو الصحفي المتميز، الذي أسس أخبار الأدب، وكان أحد أعمدة الصحافة الثقافية، ونحن لسنا هنا لتأبينه، بل جئنا لنحتفل بحياة جديدة لأدبه وإبداعه، فرحيل المبدع عادة يكون بداية جديدة، نري فيها إبداعه مجردًا عن شخصه وحياته الخاصة، كما أنه كان مخلصا لوطنه ومدافعًا عنه، وقد دفعه إخلاصه لأن يكون عروبيا بامتياز، مدافعا عنها حتي النفس الأخير، وكان قادرا علي أن يقول رأيه بصراحة دون خوف ومهما كانت النتائج، فقد خاض الكثير من المعارك، وكما يعرف كبار مبدعي العرب، فإن الغيطاني كان عصاميا نبيلًا إلي أقصي حد، فامتلك الرؤية والبصيرة".
علاقتي بأبي كانت من الروح للروح
فضلت ابنته الصغري، ماجدة أن تتحدث عن الجانب الخاص، عن الغيطاني كأب، فقالت: والدي الأستاذ جمال الغيطاني، سأشير إليه بالاسم الحركي له في المنزل (جيمي)، فأنا أناديه به منذ أن ولدت وكان يغضب عندما أقول بابا، هذه كانت فقط البداية لعلاقة لا أظن أن هناك كلمات لدي يمكن أن تعبر عن عمقها، أرجو ألا تعتبروني أنانية عندما أتحدث عن هذا الجانب، لأن بالطبع هناك أساتذة أفاضل وتلاميذ ومعجبين استفاضوا في الحديث عن الجانب العام له، ولكني أشعر أن هناك كثيرين لازالوا لا يعرفون عن حياته وصورته كأب، أعرف جيدا أن كل بنت باستثناء بعض الحالات، تري في والدها بطلا، فالأب هو باختصار السند والحنية والحماية والبطولة، هذا مفروغ منه، وإن تحدثت في تلك النقطة يكفي أن أقول أن أبي في عطائه وقلقه علينا مثل الشلال، غمر من الحب والحنان والعطاء والقلق.
ثم استطردت: أنا البنت الصغيرة، عمري 34 عاما، أم وزوجة وباحثة دكتوراه، أعيش خارج مصر منذ سنوات، ومع ذلك كان جيمي حتي آخر يوم، بل ولآخر ساعة، يقول لي دائما "عايز اطمن عليك"، تلك الجملة التي لابد أن يقولها في بداية أي حديث بدءا من أكلي وابني مالك وحتي مصادري البحثية في الدكتوراه، أي شيء، فأنا جئت لأتحدث عني أنا وأبي فقط، هذا ما أحبه، لأني أعتبر نفسي وريثته الوحيدة حقا، في الطباع وكل شيء، في شدة الحب والمواقف الحاسمة، و"الدماغ" الصعيدي، لقد أخذته كليا، أنا لست حكاءة جيدة مثله، لكن والدي كان حكاء وكلامه صعب أن يُكتفي منه، ومع ذلك علاقتي أنا وهو لم تكن أبدا قائمة علي الكلام، علاقتي بأبي كانت من الروح للروح، أحاديثنا صامتة ولكن صمتها صارخ، هذه ليست كلمات كبيرة بدون معني، ولكني أقول ما كان يحدث، فعندما كنا نتقابل لابد أن نفكر ببعضنا، سأضرب بعض الأمثلة التي قد تبدو صغيرة ولكنها بالنسبة لي دنيتي، عندما كنت أدخل عليه مكتبه، يعرف ماذا أريد من صوت طرقي علي الباب، كان يعرف ما أحس به دون أن يلتفت لي، إذا كانت حالتي جيدة أم لدي مشاكل، وكنت أخبره دائما أنه الوحيد الذي يعرف إذا كان من معه حزين أم لا من وراء كتفه، فكان يشعر بي وهو خلفي دون أن يري وجهي، من وقفتي، أحيانا لم أكن أريد أن أحمله مشاكلي، لأن قلقه كان كبيرا، لذا كنت أتفادي أن أدخل مكتبه، لأني أعلم أنه بمجرد أن ينظر لي سيفهم أني لست بخير، علاقتي به كانت عميقة جدا، ليست مجرد صداقة، العلاقة كانت روحا مشبوكة بروح.
واستدركت ماجدة الصغيرة: اعتذر أنني لم أعرفكم بنفسي، أنا اسمي ماجدة جمال الغيطاني، هذا اسمي الرسمي في الجامعات والذي استخدمه في الحياة اليومية، ولكن مثلما كان اسمه جيمي في البيت، فأنا كان اسمي "الحبوب"، وكان هو فقط المسموح له مناداتي به، وكان لابد عندما يقول لي ذلك أن أرد بشيء واحد فقط وهو "أيوة يا أرق من النسمة وأجمل من الملاك"، هذه كانت أغنية لأم كلثوم يحبها جدا، في البداية كنت أرد عليه لأني اعتدت علي ذلك، ولكن عندما كبرت وسمعت الأغنية وشعرت بمعانيها ظللت أرد عليه هذا الرد لأن تلك الجملة تلخصه، "بابا" حقا أرق من النسمة وأجمل من الملاك. هل تعرفون الجوامع في القاهرة القديمة التي عاش حياته فيها وفي الحديث عنها، من بعيد يمكن أن تبدو ضخمة وفيها هيبة ورهبة، يمكن أن نشعر بالخوف منها بعض الشيء، ولكن إن اقتربتم منها لتروا الأرابيسك الخاص بها سترون أنها منمنمات صغيرة رقيقة جدا متشابكة لتصنع صورة جميلة ورقيقة، إذا أساء أحد معاملتها ستنجرح، هو كان كذلك، من بعيد قد يبدو صعيديا عصبيا وحاسما، لكن بداخله كان يوجد فيضان حنية وطفولة ورقة، كان عذبا ورقراقا، لا أستطيع حقا أن أعبر عنه، وكيف كان رقيقا معي ويحترمني، وكم أتاح لي من المساحة لأتخذ قرارات في حياتي وأخبره بآراء تتعلق به بشكل أشك أنني الآن بعدما أصبحت أما أني سأسمح به لابني في تعامله معي، لأنني أصبحت علي علم الآن كيف كان ذلك يتطلب صبرا، وكيف علي قدر خوف الأب علي ابنه يريده أن يطير ويكون نفسه، هو كان يريدني كذلك، يريد أن أطير وأكون نفسي ولكن يريد أيضا أن يحميني لآخر لحظة. بعد لحظات، استكملت ماجي: أعيش خارج مصر منذ 8 سنوات للدراسة ثم الزواج، علاقة الصمت تلك استمرت وتعمقت وتطورت، فالسفر والبعد يجعلان الشخص يستوعب أشياء لا يستطيع استيعابها وهو قريب، في كل مرة كنت أقابله سواء هنا في مصر أو عندما يأتي إليّ في إجازة بنيويورك، كانت لحظة الوداع هي الأقسي دائما، لأني لم أكن أعرف إن كنت سأراه مرة أخري أم لا، كنت أخاف عليه جدا، من صحته، ومن عمله العام ومن قلقه ومن نفسه، وخوفي بدأ يتضح ويصبح جزءا من شخصيتي بعدما أجري عمليته عام 1997، وصلت لدرجة أنني في فترة كنت استيقظ كل يوم صباحا لأطمئن أنه بخير وشرب القهوة وأقول الحمد لله، ظل هذا القلق يتزايد يوميا، ومع ذلك في لحظة الجلل الأخيرة، لم أكن بعيدة، بل بجانبه ومعه، ربما لأني علاقتي به لا أحد غيرنا يفهمها، عندما كان يأتي ويربت علي شعري ويقبل رأسي ويخبرني أن رائحة شعري مثل أمه وأنني أمه الصغيرة كنت أتأكد أن كل الأمور بخير، وإنما إن مر فقط ودخل ثم ربت علي خدي بدون كلام أعلم أن هناك شيئا يدور في رأسه وأن ذلك ليس وقتا مناسبا للجلوس والحديث، ربما لأن العلاقة كانت طبيعتها شفرات نحن فقط من نفكها، عندما حانت تلك اللحظة لم أشعر بالغياب، أشعر به بجانبي دائما، مازلت أتكلم معه وحديثنا لم ينقطع، انتظر فقط أن يفك شفرة الحياة الأخري لكي نستطيع التواصل من جديد، لأنني مازلت أتواصل ولن أتوقف أبدا، أنا ممتنة جدا، لأن جيمي حتي آخر ساعة قبل مرضه كان جالسا علي المكتب ويكتب بخطه الذي يشبهه، الذي يعرفه القريبون منه مثل شباب أخبار الأدب، عبارة عن منمنمات رقيقة، لم آخذه منه إطلاقا، لآخر لحظة كان يكتب والقلم مازال علي المكتب والورقة الأخيرة أيضا، والجملة الأخيرة لم تكن ناقصة، لأنه لم يكن يحب أن يترك عمله ناقصا، بل هي كاملة بنقطة نهايتها، وستظل هكذا علي المكتب، أنا ممتنة أنه لآخر لحظة كان يعمل فيما قال أنه خلق له، كان يكتب، فوالدي كان لديه شغف لكل شيء يحبه، للموسيقي الأجنبية والتركية والصينية والإيرانية والفارسية التي كان يسمعها، بغمرها وهدوئها وشجنها، لدي إحساس أنه طالما جوامع مصر موجودة، وطالما سيدنا الحسين موجود والجمالية بها أناس يعيشون، وطالما هناك موسيقي في تلك الحياة، هو سيبقي موجودا، ليس بأعماله فقط، وهنا أريد أن أستعير جملة أمي بأن أبي "كون" وليس كيانا أو مجرد كائن، وهذا الكون حي، كلنا سنموت ولكنه فقط سيظل حيا.
كان درعي الواقي في مدينة تقتل الغرباء
ومن تلاميذ الغيطاني تحدث الزميل محمد شعير وقال: يكره جمال الغيطاني كلمات الرثاء، ويخجل دائما من كلمات الإطراء.
في مناقشاتنا العديدة في أخبار الأدب كان يري أن أفضل تكريم للأديب هو أعماله، أن تقرأ، وتناقش، وتتفاعل معه بالحوار والنقد، والتجاوز..تمتدح أحيانا.. وتثير الجدل والرفض أحيانا أخري..
الآن، اكتمل نص الغيطاني، ولحسن الحظ، لسنا أمام نص منغلق، بل أمام نص متعدد الطبقات منفتح علي مئات الرؤي والتأويلات! لم يتوقف الغيطاني عند أسلوب واحد، أو يركن إلي لغة واحدة سهلة، لكل عمل من أعماله لغته وأسلوبه وبناؤه الخاص. كل عمل له مغامرة مستقلة.. فيها ثوابت الغيطاني، وفيها متغيرات التجربة.. رحلة من التجريب الدائم، حيث الرواية فعل حرية وتجاوز!
الكتابة لديه هي إعادة بناء للذاكرة أو محاولة ترميمها، مقاومة الفناء والموت، وإنقاذ الأشياء التي أحبّها من الفناء، واللحظات التي أفلتت من المحو. الذاكرة من وجهة نظر الغيطاني هي الوجود الحقيقي للإنسان. عندما يفقد الإنسان ذاكرته يصبح أشبه بالخرقة البالية، معلقا في الفراغ... وهكذا الشعوب أيضا..
الكلمات كانت وسيلته للبناء، هكذا يستعيد الأب الغائب، الذي يظل حيا كلما أعيدت قراءة "التجليات"... أو يعيد بناء مبني احترق مثل المسافر خانه أحد أجمل معالم الهندسة الإسلاميّة في القاهرة الفاطميّة، يعيد بناء نصوص لم تعد موجودة.. أو أغنيات ... أو ما كان كيف يمكن أن يكون في لحظة أخري. حتي في عمله كمراسل حربي، هو يكتب عن هؤلاء الجنود البسطاء، المنسيين، يرصد بطولاتهم، ويتابع فيما بعد مصائرهم!
أبطاله بشر منسيون، أماكن مختفية أو اختفت، وحكايات وشخصيات... عاشق النخيل، وقبة قلاوون، والزجاج المعشق بالجبس في مسجد قايتباي ورسومات الفنانيين المجهولين علي مقابر المصريين القدماء، ومآذن القاهرة، والكنيسة المعلقة حيث السلام.
القرب حجاب، يقول المتصوفة، وبيني وبين الغيطاني ما يقرب من عشرين عاما من اللقاءات، والحوارات، والمهاتفات اليومية، المواعيد المؤجلة والمشروعات، والنمائم البسيطة، الكتب والمخطوطات، والأسرار، أبوة بلا وصاية، وصداقة بلا تجاوز أو تعال، المدينة الكبيرة الهائلة رأيتها مرات ومرات بعينيه، هو حارس المدينة، حارس الذاكرة، الخائف عليها ..المنفتح علي أسرارها والخبير بها! كان بإمكانه (عندما يكون مزاجه رائقا) أن يحكي لساعات حكايات متواصلة، كان قادرا علي توليد تشبيهات طريفة غير متوقعة للأماكن والشخصيات والأحداث...
لم يكن يمارس وصاية صحفية علينا فيما نكتبه، لم يطلب منا أن نفكر مثله، أو نؤمن بأفكاره، كان يري الاختلاف إثراءً للتجربة الصحفية، لم يمنع أحدا من الكتابة في الجريدة، كان معياره الأساسي هو القيمة والجودة.
في مكالمة أخيرة معه تحدثنا طويلا ..كان يتمني أن يكون الحفل الفني لافتتاح قناة السويس الجديدة مصريا خالصا..تحدث عن أم كلثوم وعبد الوهاب القديم.. عن موسيقي المتصوفة، والموسيقي الشعبية... تحدث عن أصوات محمد رفعت ومصطفي إسماعيل.. وعن ليلاه.. ليلي مراد الذي يشبه صوتها كما يقول الفضة الطافية علي أمواج النيل في ليلة مكتملة البدر. يومها قال : وحشني محمد البساطي وإبراهيم أصلان... تحدث عن عبد الفتاح مصطفي .... وتمتم بصوت خفيض "سحب رمشه ورد الباب"...
اختلفنا حول بليغ حمدي، وعمر خيرت (رغم أن ماجي الصغيرة تعشق أعماله)! وهو هنا عندما يتحدث عن المصرية الخالصة.. لا ينطلق من موقف شيفوني ضيق.. أسئلته أسئلة كونية.. موسيقاه الأقرب تركية وإيرانية ومغربية.. وكل من أضاف نغمة إلي موسيقي الكون الصادحة.. فنانوه.. ليسوا مصريين، يعشق إدوارد هوبر الأمريكي، وماجريت... وآخرين.. أفلامه إيطالية وفرنسية وألمانية.. كتابه المفضلين.. تشيكوف، وديستيوفيسكي..في المقدمة.
(ذات مرة قلت له أنني لم اعجب علي الإطلاق ببعض أعمال جوجول الذي خرج الجميع من معطفه...لثوان قليلة، رفع رأسه من الورق الذي كان منهمكا فيه.. وقال مازحا: قوم اخرج من هنا...).
سألت نفسي مؤخرا...ماذا يعني لي جمال الغيطاني؟ أتذكر إجابة صديق مصري درس مع إدوارد سعيد في نيويورك.. عندما سألته السؤال بعد رحيل إدوارد قال.. كان معطفي الواقي.. أتذكر الإجابة.. استدعيها.. جمال الغيطاني كان لي درعي الواقي في تلك المدينة التي تقتل الغرباء... عاش ليكتب.. وغاب - كما يحب أن يقول دائما - مفعما بالحياة....
والحزن ليس للرحيل، إنما للفقد.. سلاما جمال .!
سيبقي إنجازه الكبير
كما تحدث الناقد الأدبي د.حسين حمودة، فقال: جمال الغيطاني وكتابته، كانا وظلا، بالنسبة لي، أشبه بماسة صلبة تخفي بداخلها عن عمد، رقة الماء. قرأت له كثيرا قبل أن ألتقيه، فشهدت هذه الماسة وأدركت صلابتها. والتقيته، مرة ثم مرات، في المرة الأولي وقفت علي المسافة التي يضعها هو في البداية أمام بعض الناس (لا أستطيع أن أضيف "الغرباء")؛ التقيته فرأيت الماسة نفسها ثانية، وأدركت صلابتها، ثم في مرات أخري التقيته فرأيت الماسة ولمحت من جديد الماء الذي يترقرق في غورها. بالمناسبة؛ ماسة الغيطاني، وعمقها المنطوي علي أصل الحياة، معا، يضيفان بعدا آخر إلي التعبير الذي سمعناه وأشعناه حول يحيي حقي: "الجواهرجي"؛ فالمبدع وإبداعه، الغيطاني وكتاباته الثرية المتنوعة، يبثان في الحجر الكريم حياة مكتملة المعالم.
غير مرة كتبت عن بعض أعمال جمال الغيطاني: "الزيني بركات، وكتاب التجليات، وهاتف المغيب، والرفاعي، ورسالة البصائر في المصائر، ورسالة في الصبابة والوجد..." وأجريت معه حوارين وقاربت مجمل مشروعه الإبداعي مقاربة قصيرة في مدخل عنه ب "قاموس الأدب العربي" الذي أشرف عليه الدكتور حمدي السكوت، فيما كتبته بهذا المدخل تصورت أن محاولتي لمقاربة عالم جمال الغيطاني الثري لم تكن أكثر من محض محاولة، آمل أن تتبعها محاولات أخري، مني ومن غيري، تلتقط معالم وملامح، ما رآه جمال الغيطاني حلما أو علي الأقل طموحا لكتابته: أن تكون "كتابة غيطانية"، فيما أشار خلال حوار معه ل "أخبار الأدب" قبل شهور قليلة. إشارة الغيطاني هذه ليست مجرد إشارة، وحلمه هذا ليس مجرد حلم. هذه حقيقة مؤكدة، نشهدها بوضوح وبيسر في كل كتابات الغيطاني، أيا كانت وجهتها: في الرواية، وفي القصة، وفي كتب الرحلات، وفي كتب الحرب، وفي العمارة، وفي الكتابة عن القاهرة وعن أشخاص أِحَبَهم، وعلي رأسهم نجيب محفوظ.
الآن، وقد اكتمل مشروع الغيطاني، وتلاشت من حول وجوده الشخصي المشاحنات والمنافسات، وانقشع كما يقال غبار المعارك، يمكن للجميع أن يتفقوا علي ما أنجزه: الكتابة التي تخصه هو وحده، والسعي المجلل بنجاح كبير علي سبيل صياغة رواية عربية حقيقية، مميزة، استطاعت أن "تنفطم" أو تنأي بعيدا عن جماليات جاهزة وافدة من الرواية الغربية والقدرة اللافتة علي بلورة مشروع إبداعي ينطلق من الحاضر، من همومه وقضاياه وذائقته، لكنه مشروع موصول بالميراث القديم الممتد، ومشروع علي المستقبل الحافل بالاحتمالات.
رحل جمال الغيطاني وبقي وسيبقي إنجازه الكبير، آلمنا جميعا هذا الرحيل رغم أن ملابسات مرضه الأخيرة الذي امتد لفترة، بدا معها وكأن الغيطاني آثر أن يكون رحيما بنا، أن يمهد لرحيله قبل الرحيل، الآن، وقد اكتمل رحيله وتلاشت المنافسات وسكنت المعارك، لم يعد أحد منا علي مسافة من جمال الغيطاني.. الآن باتت جوهرة الغيطاني ماثلة مشهودة للجميع: بغلالتها الصلبة، وبالماء الصافي يترقرق في قلبها. له الرحمة والراحة بعد التعب، ولأعماله البقاء، ولأسرته ولنا جميعا الصبر والتأسي بما ترك لنا من إبداعات.
تعلمت منه كيف يختلف الكبار
ومن أخبار الأدب أيضا، تحدث تلميذ آخر، وهو طارق الطاهر رئيس تحرير الجريدة، متسائلا: منذ أيام وأنا اسأل نفسي.. هل رحلتِ مع رحيل الكاتب الكبير جمال الغيطاني؟، قد ينظر البعض لهذا السؤال علي أنه نوع من الإفراط في حب الرجل أو نوع من المبالغة التي قد تكون مقبولة في مثل هذه الظروف.. لكن قبل أن أجيب أود أن أقص مجموعة قصيرة من الحكايات.
الحكاية الأولي: ذات يوم اختلفت مع الأستاذ الكبير جمال الغيطاني وسعيت لكي يتم نقلي لجريدة أخبار اليوم، إلا أنه رفض، وكلف أحد الزملاء بأن يكون والدي هو الفيصل في هذا القرار، فلما علمت ذلك عدت علي الفور، وقد تعلمت درسا بالغا هو كيف يختلف الكبار.
الحكاية الثانية: منذ أن تأسست أخبار الأدب وأنا أقوم بتغطية نشاط الثقافة الجماهيرية، وكان هناك رئيس لهيئة قصور الثقافة، لا يعجبه ما أكتب ويقوم بالاتصال بالغيطاني الذي كان يبلغني باعتراضاته بصوت محايد.. مما سبب لي حيرة ماذا أفعل؟ فاستمر ات في الكتابة وتوجيه الانتقادات ولم يحذف لي الغيطاني كلمة واحدة، إلي أن جمعنا لقاء ثلاثي؛ الغيطاني وأنا ورئيس الهيئة آنذاك، فقال له الغيطاني.. ده طارق، وضحك ثم قال: طارق رئيس تحرير أخبار الأدب بعد عشر سنوات.. ووقتها كنت لازلت "محررا تحت التمرين".
الحكاية الثالثة: ذات يوم استيقظت مصر علي ما أطلق عليه أزمة رواية "وليمة لأعشاب البحر" التي انتصرت فيها الدولة لحرية الإبداع وكذلك الغيطاني، وبعد فترة وجيزة استيقظنا أيضا علي أزمة الثلاث روايات، نسيت الدولة حرية الإبداع لتصادر الروايات.. لكن الغيطاني لم يغير موقفه.. انتصر لحرية الإبداع ولم يهادن السلطة.. وعلم الدولة أن هناك من يقف معها أو ضدها، اتساقا مع مبادئه التي لا تتغير.
بعد هذه الحكايات التي أمتلك مثلها الكثير والكثير، وسيأتي اليوم إن شاء الله التي سأرويها كاملة في سيرتنا المشتركة.. إذن ما الإجابة علي سؤالي الافتتاحي؟ الإجابة أننا الآن جزء من سيرة رجل حمانا ونحن ضعفاء ودفعنا لكي نتصدر المشهد الصحفي والثقافي، وإنه إذا كان قد رحل فهناك واجب عليَّ أن أؤديه قبل رحيلي وهو أن أحافظ علي سيرة الغيطاني.. وهو ما أقسم أنني سأفعله أنا وكل زملائي والمحبين.
كتاباته لها نبض ورائحة
حالة مختلفة من المعرفة والتقارب، اختلفت بمرور السنوات، بدأت بكونه ابن صديقه الصغير، ثم أصبح أحد زملاء العمل من الجيل الشاب في مؤسسة أخبار اليوم، والذي تدرج إلي أن أصبح رئيس مجلس إدارة المؤسسة، ولكن الغيطاني ظل بالنسبة له الأستاذ الكبير، يروي الكاتب الصحفي ياسر رزق: سأتحدث عن الإنسان والصحفي الذي شرفت بمعرفته، لقد عرفت أ.جمال منذ 41 عاما، كنت حينها صغيرا، وكان صديقا لوالدي الصحفي الراحل فتحي رزق الذي عمل معه مراسلا عسكريا أيضا، عاشا حرب أكتوبر وقبلها الاستنزاف.
أثناء ذهابي لمسجد السيدة نفيسة نظرت في الساعة، كنت أود أن ألحق به لأودعه للمرة الأخيرة ولكن الطريق مزدحم، فتذكرت أول لقاء بيننا عام 1974 وكان سببه ساعة أيضا، عندما ذهبت مع والدي إلي بورسعيد في الذكري الأولي لحرب أكتوبر، لكي يشتري لي ساعة بعد نجاحي في الابتدائية، من حينها بدأت أتعرف علي جمال الغيطاني، وأسمع حكاياته عن الحرب، فكتابات الغيطاني لها نبض ورائحة، فيها رائحة عطر الكرامة، التي تجعلك تشعر بالفخر لأنك مصري، فهو يمزج بين التاريخ والحاضر، مرت السنوات والتحقت بأسرة الأخبار، لم أجلس معه في مرة إلا وعرفت مصر أكثر وشعرت بقيمة الأديب الكبير المبدع، التي تظهر في تواضعه الشديد، وفي عام 2011، في فترة التوريث، كنت أجلس معه وأسمع كلاما لم يكن غيره يجرؤ علي الهمس به.
كما أنني أعتبر أخبار الأدب التي أسسها الغيطاني من أهم الإصدارات، بل وأعدها من المطبوعات الرئيسية لأخبار اليوم مع الأخبار ومجلة آخر ساعة، فقد كان صحفيا حتي النخاع، يفهم جيدا كل شيء في الصحافة، شكلا وإدارة ومحتوي، عندما خرجت من الأخبار في عهد مرسي، شعر بأن ذلك كان مهينا لي، فقرر أن ينزل بالأعمدة بيضاء فارغة، وطلبت منه بعدها أن يأتي معي للمصري اليوم، لكي نشكل مجموعة قتال حقيقية ضد هذا الاحتلال، ولكنه أراد أن يبقي في بيته أخبار اليوم، فهو خسارة لا يمكن تعويضها، وإن شاء الله سيُجازي أ.جمال بقدر ما أعطي وعلم وبقدر ما ترك في هذا البلد من قيم ومُثل؛ أتمني أن تتعلمها الأجيال القادمة وزملاؤنا الأصغر منا.
لم يذهب جهد العارف بمصر هباء
لم تكن تنوي التحدث، ولكن لم تتحمل الصمت أمام تدفق هذا الكم من المشاعر والذكريات، فأضافت الكاتبة الصحفية ماجدة الجندي، زوجة الغيطاني: أنا سعيدة حقا اليوم، لأن هذا العارف بمصر لم يذهب جهده هباء، فأنا أشكر شعب مصر لأنه احترمه، فقد كد الغيطاني وأحب مصر لأنه عرفها، وعندما نقل إلينا الوطنية المصرية عبر الجيش المصري كان ذلك امتدادا لفكرة المعرفة، تعلمنا علي يديه كيف نحب مصر، ورغم تكريمه بالعديد من الأكاديميات العالمية، ولكنه لم يكن يعتز بتكريم أكثر من تكريم الوطن، علي الرغم من أن رحلة صعوده قد دفع ثمنها غاليا، ولكن علاقته بالمؤسسة العسكرية ليس لها نظير، والتي سيبقي جميلها فوق رأس الأسرة تاجا، فجمال الغيطاني مدين فقط لله ولمصر.
جمال كاتب مغربي أيضا
ولأن الغيطاني اكتسب سمات العالمية، فلم يكن محبوه فقط من مصر، تحدث من المغرب، الروائي د.أحمد المديني: يتنازعني في مهابة هذا الموقف وجلال هذه اللحظة أكثر من شعور وسؤال، لقد أصبح نعي الموتي اسما لنا، عنوانا لديارنا، هل تعلمون لماذا أنا هنا؟ ببساطة لأن جمال كان يحن إلي مراكش بأجوائها الروحانية، ليلتمس بركاتها، وكان عاشقا للمغرب، خاصة موسيقاها، وأنا هنا لأن مصر حبي الدائم، فكانت دائما وستبقي منارة لعروبتنا، مصر هي التي كان جمال الغيطاني سفيرا لها، من غير أن يحتاج إلي تفويض من أحد، إنه الشاب الذي عاش أكثر من ألف عام، اتسمت كتاباته بالتجديد واستبصار الحاضر والماضي برؤية ناقدة نافذة متقدة، وتشغل أعماله حيزا كبيرا في أدب المغرب، إنه الرائي الملتمس لجوهر المعني، ونحن في المغرب كتابا ونقادا وأكاديميين وطلابا أيضا؛ نهلنا من نبعه، وتتبعنا مساره، والمكتبة الجامعية المغربية تغتني برسائل علمية حول أدبه وكتاباته، فهو لا يزال حاضرا في الأدب المغربي، وسيظل المغرب يفتقده، لأن جمال كاتب مغربي أيضا.
رحل قبل الأوان
إلي جانب كونه أديبا عالميا، كان الغيطاني كاتبا صحفيا من الطراز الفريد، كما قال مكرم محمد أحمد، نقيب الصحفيين السابق، وأضاف: جمال الغيطاني حدوتة مصرية للأسف فقدناها قبل الأوان، وقد كان عنوانا لهذا الجيل الصادق الأمين والمحب لوطنه، متنوعا في أسلوبه ومواضيعه، رحل مبكرا دون أن يكون أحد الحائزين علي جائزة نوبل، فالغيطاني من حي الجمالية قفز إلي العالمية بكتاباته الرائعة، حيث كتب في قضايا الثقافة والآثار الإسلامية، وأضاء لنا دروب ما كان يمكن أن نصل إليها، كما كان أيضا صحفيا نابها، فلم يكن هناك صحفي يجرؤ أن يُصدر جريدة أدبية ليتم توزيعها علي الأرصفة سوي الغيطاني، رغم أن الجميع لم يتصوروا لها النجاح، ولكنه كان يريد بالفعل أن يعلم المصريين كيف يتذوقون الأدب، لأنه كان متصلا بنبض الشارع والمواطنين، ولولاه لتأخر كثيرا معرفة المصريين بقصة الرقيب عبد العاطي صائد الدبابات، فلم يلتقط قصته في مصر إلا الغيطاني، ليخلدها في التاريخ، ولذلك أدعو إلي إقامة مكتبة الغيطاني في حي الجمالية، هو يستحق أكثر من ذلك كثيرا، وإذا كنا نبكي فإننا نبكي ليس وداعا للغيطاني لأنه سيظل بيننا إلي الأبد، ولكن لأنه رحل قبل الأوان وهو في عز أوجه، ورحيله منع عنا روائع عديدة كنا ننتظرها منه، ولكنه سيظل عامرا في قلوبنا.
جمع بين المعاصرة والتراث الحي
ومن الجيل ذاته تحدث الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة، فقال عنه: كان نموذجا فذا للعصامي، استطاع أن يكّون معرفة نادرة، كان صديقا لكل من عرفه ولا أذكر أن أحدا أبدي ملاحظة واحدة علي خلقه أو صفاته أو مواقفه من الآخرين، أعجبت بجمال الغيطاني لأنه استطاع أن يصل من السفح إلي القمة، كان شخصا بسيطا وتعلم تعليما متوسطا، ولكنه ظل يرقي في مستوي عمله، تتابعت أعماله التي فاجأتنا بكل هذا الزخم، وأنا أذكر أن أول رواية قرأتها له هي "وقائع حارة الزعفراني" وتصورت أنه يتتبع خطوات شيخه نجيب محفوظ، ولكن جمال الغيطاني استطاع أن يتفرد بأسلوبه وصوته، فقد جمع بين المعاصرة والتراث الحي، الذي تمكن من لمسه في الأعمال الكبري.
سافرت معه إلي بعض البلدان ، منها علي سبيل المثال العراق، السعودية، وآخرها السودان، والتي أقاموا له فيها ندوة كبيرة وأحاطوه بحب غامر، وإعجاب شديد، لقد كان دائما في معاركه شريفا، صارما، وحاسما، لم يعمل مطلقا من أجل مصلحة خاصة، أعرف أن الغيطاني سوف يبقي بيننا بهذه الأعمال الرائعة، التي تركها ولن تتركه، ستظل تلك الأعمال علامة علي شخصية نادرة استطاعت أن تجسد موهبة فريدة في تاريخ أدبنا الحديث.
نموذج حي للمثقف العضوي
كما تحدث الشاعر سيد حجاب: جمال بالنسبة لي 50 عاما، عمر متواصل من الفكر، عرفته عام 1964 مع مجموعة من كتاب القصة القصيرة، التقينا واقتربنا وتشاركنا في العمل السياسي، وانضمينا لتنظيم علي يسار اليسار آنذاك واعتقلنا معا عام 1966، في هذه الفترة كان واضحا من هو جمال الغيطاني، أدبيا وسياسيا، هو معتز جدا بأصوله الصعيدية ونشأته في الجمالية واهتمامه بالناس، فهو نموذج حي للمثقف العضوي، لقد اختار أن يوظف معرفته للإنسانية، ولذلك عندما حدثت النكسة وتطوع للتجنيد ثم "رفدوه" من الخدمة بعد شهور بسبب اعتقاله من قبل، حزن كثيرا، لكن الله عوضه بعدها بقليل عندما صار مراسلا عسكريا علي الجبهة، فظل حتي نهاية عمره يعمل لحساب الشعب المصري والجيش المصري والدولة المصرية.
كان من أرق وأنبل من رافقتهم في السفر
وعبرت الكاتبة سلوي بكر عن أسفها وحزنها، فقالت: هذا العام فقدنا أعزاء، ربما هي السنة الأولي في تاريخنا التي تموت فيها رضوي عاشور وابتهال سالم وفؤاد قنديل والأبنودي ومحمد ناجي، لن أعدد الجميع ولكنها بالفعل سنة كئيبة علي الأدب في مصر، وقد قاربت علي الانتهاء، فأخذت معها الأديب الكبير جمال الغيطاني، الذي يعد بصمة وعلامة ليس في الأدب المصري ولكن في الأدب العربي كله، الغيطاني أختط طريقا في الكتابة الروائية الإبداعية، فهو أول من أعاد قراءة التاريخ وتساءل عنه، هو بالفعل موسوعة أدبية، وهو من قدم القاهرة مثلما لم يقدمها أحد غيره من قبل، إنه امتداد لمؤرخي مصر العظماء، لابن إياس والمقريزي، امتداد لكل من أحبوا مصر وكتبوا عنها، الغيطاني نري تجلياته أيضا في أجيال جاءت بعده وربما أجيال قد لن نراها ولن نعايشها، لقد ترافقنا في العديد من السفريات الأدبية وكان بالفعل من أرق وأنبل من رافقتهم في السفر، نحن نعزي أنفسنا عندما نقرأ له، ومن هنا أطالب المجلس الأعلي للثقافة بإقامة مؤتمر يليق بقامته ويكون موضوعه هو "جمال الغيطاني".
اخترع لغته وسرده وأقام بناءه الفني
بينما حمّله القاص سعيد الكفراوي رسالة، متذكرا فضله: في السيدة نفيسة وأنا أقف قرأت له الفاتحة وحمًّلته السلام لأمل دنقل ويحيي الطاهر وعبد الحكيم آسر وإبراهيم أصلان ومحمد عفيفي مطر، أبناء جيله، وكنت واثقا أنه سيوصل الرسالة، لقد قابلته عام 1968 في ميدان العتبة مع د.أحمد مرسي، فتوجهت له وسألته أين يجلس هؤلاء الأدباء الشباب، لأن حينها كان اسمه معروفا ا بعدما صدرت له مجموعة قصصية، فأخبرني أنهم يجلسون في مقهي ريش حول الأستاذ نجيب محفوظ، وطلب مني انتظاره في اليوم التالي في نفس المكان ليأخذني معه، وهو ما حدث بالفعل، ومن يومها وهو صديقي، إنه واحد من أصحاب الإرادات الذي صنع نفسه وثقافته، وعمره يتماهي مع الأدب، فدائما كنت أقول عنه أنه رجل أدب، هو واحد من هذا الجيل الذي اختار منطقه للتعبير واستطاع أن يقرأ تراثه، فكان ابن إياس والجبرتي علي أطراف أصابع الغيطاني وهو يكتب نصه، فقد اخترع لغته وسرده وأقام بناءه الفني، كما تتبع خطوات معلمه في اختراق القاهرة والتاريخ والضمير والوعي، فكان هو ابن القاهرة المملوكية ومحفوظ ابن القاهرة الحديثة، الغيطاني واحد ممن انشأوا سردا أضاف للغة العربية الكثير.
خسرنا مرشحا كان يمكن أن يجلب لنا نوبل ثانية
ومن جانبه قال الناقد د.صلاح فضل: كل نفس ذائقة الموت، ولكن ليست كل نفس بذائقة المجد، والغيطاني قد ذاق المجد وتوج بأعلي جائزة في مصر وهي جائزة النيل منذ شهور، قبل هذا أذاقنا الغيطاني حلاوة مصر ومساجدها وتاريخها، وأذاقنا كثيرا من جمال روحه وعينيه ولغته، كما أذاقنا رحيق الشخصية المصرية، كان أهم كاتب مصري معاصر، ترجم إلي كل اللغات، أعتقد أننا خسرنا مرشحا كان يمكن أن يجلب لنا مثل شيخه نجيب محفوظ نوبل ثانية.
علاقة أسرية ممتدة.. وصداقة ثلاثية منذ 6 سنوات
أما صديق العمر، الكاتب يوسف القعيد، فقد آثر أن يترك فرصته في الكلام لكل من اللواء المهندس إسماعيل الغيطاني شقيق جمال، وللدكتور فاروق العقدة صديقهم الثالث المشترك، لأنه يعد نفسه واحدا من الأسرة، وقد جاء حديث ماجدة الصغير معبرا عنهم جميعا، لكنه تمني لو أنهم سجلوا حكايات الغيطاني لحفيده مالك قبل النوم، والتي أخبره عنها من قبل.
وعندما تحدث شقيقه اللواء إسماعيل، أكد : لقد كان يساعدنا دائما وبجانبنا في أي شدة، ويتحمل المسئولية، كان مثابرا ومحبا للقراءة وشخصيته قوية، كنت أحب تقليده ولكني لم أصل لموهبته أبدا، عزاؤنا الوحيد أن جمال حي بأخلاقه وأعماله وفكره.
بينما روي الصديق الثالث، د.فاروق العقدة، محافظ البنك المركزي السابق، قصة تعارفهما منذ عام 2009، فقال: خلال تلك السنوات الست، كان الغيطاني صديقا وأخا ودائم الاتصال والمقابلة، بدأت معرفتنا بصدفة غريبة، عندما كنت اقرأ الجريدة في أواخر عام 2009، وجدت له مقالا كتبه عن موقف حدث معه في نيويورك أثناء السفر بعد الأزمة المالية العالمية، وأحد الأساتذة عرف أنه مصري، فأخبره أنه من الجيد أن مصر فيها بنك مركزي يفهم عمله وسيحميها من هذه الأزمة، فعاد وكتب تلك المقالة وأنهاها بدعوة لمنحي قلادة النيل مع د.مجدي يعقوب، ولم نكن قد تقابلنا أبدا.
القعيد مواليد 1944 والغيطاني 1945 وأنا 1946، كنا نتقابل دائما، في العام الماضي احتفلنا بسبعينية القعيد، واتفقنا أننا سنحتفل في نفس المكان هذا العام بجمال، وكان في سعادة بالغة ، فقد كانت 2015 أفضل عام تم تكريمه فيه، واتفقنا مجددا أن نحتفل العام القادم بميلادي السبعين، سنفتقده، ولكنه سيبقي معنا دائما، عرفته 6 سنوات فقط ولكن بها من المشاعر التي لن أنساها أبدا.
علامة بارزة في تاريخ الوطن
اعتبره الشاعر شعبان يوسف خبيرا، فقال: الغيطاني كتب عددا كبيرا جدا من العناوين التي يصعب الإحاطة بها، هو خبير في القراءة، لديه تجربة عظيمة ككاتب وقارئ، وقد كان خبيرا في شوارع القاهرة التي حفظها شبرا شبرا عن ظهر قلب، وهو أحد أساتذة العصر الحديث في التواضع و الإبداع، من أنبل أبناء جيله، كان يتركنا نكتب بكل جرأة وحرية علي صفحات أخبار الأدب متحملا المسئولية، وهي الجريدة التي عُرف منها أناس كثيرون.
أما أستاذ الآثار، د.علي رضوان، فتذكر: الغيطاني قيمة وقامة، وعلامة بارزة في تاريخ هذا الوطن، ففي يوم تحدثنا عن تفكيك العجلة الحربية للملك توت عنخ آمون لكي تعرض في اليابان، فانزعج بشدة وكتب في اليوم التالي عمودا في الأخبار عن شرف العسكرية المصرية، ويومها تدخل فورا المهندس محلب ورفض ذلك، هذا نموذج واحد من شخصية جمال الغيطاني المحب لوطنه وتاريخه وتراثه.
ومن جانبه، أكد الأنبا بسنتي أسقف حلوان والمعصرة، أن الغيطاني قيمة مصرية ووطنية، خاصة عندما سجل فترة الحرب التي أعطاها جزءا كبيرا من العمر، وأضاف: هو شديد الوطنية تجاه مصر، كان يعد نفسه للدخول في الأبدية والخلود، وأعماله تكشف عن قيمته وإيمانه وروحانيته، فلا بد أن نشكر ربنا لأنه يعطينا شخصيات نتعلم منها ونستزيد بها.
لم يتحدث الكاتب بهاء طاهر إلا قليلا، ولكن بدا عليه التأثر الشديد عندما قال: "جمال الغيطاني حالة غير قابلة للرحيل، ولم أستطع أن أدرك رحيله بعد"، كما عبر د.يحيي الجمل عن تأثره بكلمة ماجدة الغيطاني، مؤكدا أنه دائما سيظل بجانبها وقت تحتاجه، فهي له بمثابة الابنة أيضا.
ومن ليبيا، قال د.أحمد إبراهيم الفقيه: "الغيطاني قبل أن يكون الأديب والروائي والقصاص، فهو ظاهرة مصرية عربية بامتياز، استوعب مفردات المجتمع المصري ماضيا وحاضرا"، وعبرت عنه د.عزة كامل فقالت: »كان الغيطاني صوت الروح، وتوحد في التراث الإنساني«، بينما أكدت الكاتبة السعودية أميمة زاهد أنه لم يرحل سوي جسده فقط، لكن في كل لحظة سيبقي الحاضر الغائب.
وقد شارك في الأمسية أيضا كل من: اللواء محسن عبد النبي مدير إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة، د.ليلي تكلا، د.أيمن فؤاد، الكاتب يوسف الشاروني، وغيرهم الكثير من محبيه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.