الغيطانى وسط "أخبار الأدب" استضفنا الكاتب والروائي جمال الغيطاني أو استضافنا في بيته "أخبار الأدب" . لنحتفل معه بوصوله السبعين. وبرغم أنه قد وثق معظم تجاربه تقريبا في أعماله، لكننا نعرف أن لديه الجديد دائما، نعرف قدرته الكبيرة علي الحكي، علي استخلاص الحكمة مما قد يبدو عاديا. سألناه عن الزمن قضيته المحورية وسؤاله الكبير، فعاد إلي البدايات وتأمل مسيرته الممتدة، تحدث عن قراءاته وأولي تجارب الكتابة. تحدث عن العمارة، والموسيقي، والتصوف، والقاهرة القديمة عشقه الأزلي..عن والده، وقريته، عن جمال عبد الناصر، ودور عبد الفتاح الجمل ونجيب محفوظ في حياته وكتاباته. وبقدر رضاه عما أنجزه، بقدر ما يصارع الزمن الان لانجاز ما ينبغي انجازه. يقول إنه استنفذ وقت طويل في العمل العام، فلا يفكر حاليا إلا في تدوين ما يجب كتابته. هنا ننقل التفاصيل الكاملة للحوار الممتد.. أخبار الأدب: أنت دائما مشغول بمسألة الزمن كيف تنظر لهذه القضية الآن؟ الغيطاني: في مثل هذه المناسبات، أري أنه لابد للكاتب والمتلقي أن يستفيدا من تلك الفرصة، لبيان ما يفعله هذا الكاتب، وليس مجرد الاحتفال به مثل "المولد" وأن يقول عنه الحضور ما أعظمه وما أروعه وليس هناك غيره، فتصبح القضية استعراض علاقات وليست تأملاً لمسيرة هذا الكاتب وتقييمه وإعادة النظر في أعماله، أما عني، فأنا أمر الآن بحالة من الدهشة والاستغراب، فبعد70 عاما عشتها لم تعد مسألة النهاية أو الموت مخيفة بالنسبة لي، لأن المرء عندما يتدرب علي مواجهة النهاية عدة مرات تصبح شيئاً بسيطاً، فحتي سن الثلاثين يكون لدي الإنسان شعور بأن العمر ممتد. بعدها يتغير الأمر. بالنسبة لي كانت عندي تجربة خاصة؛ هي الحرب، فأنا حي الآن بالصدفة، إن كنت غيرت مكان جلوسي فقط أو دارت عجلة السيارة مرة إضافية لما كنت هنا حاليا، من تلك المرات، في أحد الأيام عام 1969 كنت مع الأستاذين محمد عودة ومكرم جاد الكريم ومعنا محمود قابيل، كنا ننتقل من قيادة الفرقة الثانية في الإسماعيلية بمنطقة الدفرسوار؛ بحثا عن فنان تشكيلي سمعنا عنه يعمل قناصا وقتل 30 إسرائيلياً؛ هو "أحمد نوار"، فكنا نسير علي الطريق بجانب ترعة الإسماعيلية، وفجأة خرج علينا عسكري من حفرة برميلية، وكنا داخل السيارة لا نسمع صوت الطيران بسبب ضجيج الموتور، وكان بها تليفون وهو أمر نادر وقتها، حيث كان وجود تليفون في السيارة بمثابة أعجوبة، فخرج العسكري يشير لنا بأن هناك طيراناً في الجو، توقف السائق علي الفور وبدأنا نسمع هدير الطائرة، كان هناك كوبري أمامنا عليه 6 خبراء روسيين يصطادون سمكاً، وكانت الطائرة تدور لتصبح في وضع الانقضاض، وأثناء الهبوط كانت تضرب الكوبري الذي يقف عليه العساكر، كان يبعد عنا حوالي 150 متراً، وفي الطريق لمحوا سيارة تقف وأناساً منبطحين علي الأرض، فأخذوا يضربون "فيكرز" الذي يمكنه اختراق السيارة، كان ينزل بيني وبين الأستاذ عودة، وفي تلك اللحظة ووجهه في وجهي، ودعنا بعضنا البعض، وبالصدفة نجونا والخبراء الروس تمت إبادتهم، هذا موقف واحد. ما أريد قوله إن هناك فرقاً بين الموت الذي يأتي من الخارج كحادثة السيارة أو طلقة الرصاص، وبين الموت الذي يأتي من الداخل، فمع التقدم في العمر وعندما يموت للمرء شخص قريب منه ينكسر أول حاجز، وبالذات عندما توفي والدي، شيئا فشيئا يبدأ الإنسان يعتاد عليه، لماذا أتحدث عن الموت الآن؟ لأن الانشغال بالزمن يؤدي إلي الاهتمام أولا بالكون وقصة نشأته، وقد بدأت التحرش بهيئة العلوم الفلكية وصادقت علماء في مرصد حلوان، وأقمت لهم صالوناً مخصوصاً لكي أذهب إلي القطامية، عندما اقترب المريخ من الأرض منذ سنوات، مكثت هناك 3 أيام وعيني علي الكوكب، كان مثل كرة التنس وحجمها، ففكرة الاهتمام بالكون تجعلك تكتشف مع الوقت أن كل شيء في حركة، وقضية الحركة أساسية في الفلسفة، وحتي في الفلسفة الإسلامية يسمونها الحركة الأولي، ولذلك، هناك موقع الآن اسمه "جوجل بلس" يتفرع منه مواقع أخري، أحدهم هو الخاص بوكالة ناسا، لا أنام إلا بعدما أطلع عليه، لأنه يتابع 4 تليسكوبات في الخارج يصورون عمق الكون، والغريب مما لاحظته أن الأعداد التي تزور هذا الموقع أكثر من نظيرتها التي تدخل علي صور الجميلات علي نفس الموقع، فالانشغال بالكون عرض من أعراض الزمن. كما أتذكر أنني ذات مرة كنت بميونخ وحضرت ندوة عن الزمن، فقد علموا أن هناك كاتب مهتم بهذا الأمر في مصر، لذا وجهوا لي الدعوة مع ثلاثة من علماء الفيزياء، ومن بينهم كان محمد النشائي، في آخر الندوة سألتهم: هل تعتقدون أن هناك يوماً سيأتي نفهم فيه هذا الكون ومن أين نشأ؟، فأخبروني أن ذلك هو اليوم الذي ستنتهي فيه القصة كلها، سيكون الأكثر سوادا في تاريخ الوجود، وقالوا لي: أنت من يجب أن تخبرنا، فنحن نعمل في التفاصيل، بينما أنت في الكليات، وبالفعل عندما دخلت في قراءة التصوف ذهلت لأني رأيت الحقائق العلمية الحديثة جدا مُعبَّراً عنها في التصوف الراقي؛ لكن بالقانون الكوني، حاليا تغلب عليَّ الدهشة لكني مقتنع، فلم أمر بحالة استقرار أبدا مثل تلك التي أعيشها الآن، مثل شخص رتب أوراقه وحجز التذكرة واستقر وربط الحزام وجلس منتظرا، مشكلتي الآن هي مشكلة عملية، لأنني استنفدت وقتاً طويلاً في العمل العام وبالذات تجربة أخبار الأدب وقبلها تجربة الصفحة (الصفحة الثقافية بالأخبار) فحاليا تحكمني فكرة أن أتمكن من تدوين ما يجب كتابته، وهذا يفسر غزارة إنتاجي في هذه الفترة. أخبار الأدب: وما قصة الثلاث روايات التي لم تنشر؟ الغيطاني: هناك 3 أعمال في بدايتي لم تنشر، منها اثنان أخذا أثناء اعتقالي واختفيا تماما، والثالثة اسمها "رحيل الخريف الدامي"، أعطيتها لزميل لي في التعاون الإنتاجي يكتبها علي الآلة الكاتبة، وهي موجودة؛ لكن يستحيل أن يراها أحد، أما أول تجربة فكان اسمها "محكمة الأيام"، تخيلت أن هناك يوماً من أيام الأسبوع رفض أن يأتي اليوم التالي له، فحدث سكون وتوقفت الحركة، ومن يدير الأيام أقام محكمة ليحاكم يوم الاثنين، الذي يوافق دائما بداية الأسبوع بعد عطلة الأحد، فكان فيها فكرة الفانتازيا. أخبار الأدب: بما أن الاحتفال بكاتب هو الاحتفال بأعماله، مشروعك وأعمالك صعب الإمساك بها أو وضعها في قالب أو تصنيف واحد، فقد أحدثت أكثر من تغيير علي كل الشكل الخاص بالكتابة، بداية من اللغة والسرد والأفكار وحتي الاتجاه؛ كيف تري المشروع الخاص بك بداية من الزيني بركات وحتي الآن؟ وهل حققت ما تريده في مجال مثل الرواية؟ الغيطاني: نعم. ولكن ليس 100٪، لتفصيل تلك الإجابة لابد أن أعود للبدايات، فأنا ولدت في أسرة فقيرة، الأب لم يأخذ فرصة تعليم نتيجة الظروف، وأنا اكتشفت ذاتي بذاتي، كنت معتاداً أن أحكي قصصاً لجدتي، وأتذكر أنني منذ أن ولدت كان في بيتنا سحارة كبيرة فيها مخطوطات جدي لأمي، فقد كان هو شيخ القرية والمأذون وإمام الجامع ومن يصلي علي الموتي، شيخ لم يكمل الأزهر وصوته كان جميلاً جدا، أتذكر جيدا من المخطوطات واحدة للقاضي عياض وأخري لمحيي الدين بن عربي، فهذا النوع من المخطوطات يمتلئ به الصعيد، كل بيت فيه ثروة منها، كما رأيت بعيني زوجة خالي تشعل الفرن بالكتب التي لم يكن لها صاحب! القصة بدأت بحكايات وهمية أقصها، كنوع من الكذب الأبيض، وعندما كانت تعمل أمي في البيت أجلس وأحكي لها عن أنفاق في الحارة وأناس هبطوا من الفضاء، لقد كنت متأثرا وقتها بحلقات اسمها "فلاش جوردن"، وكانت السينما لديها نظام عرض 36 حلقة في أسبوع واحد، فمن يدخل 9 صباحا يخرج 10 ليلا، وكانت تعرض أيضا "زورو الثائر المكسيكي". أبي كانت قراءته بطيئة، فقد كان يشتري الوفد والأهرام، ويجلس ثم يشير علي الحروف ويقرأ بصوت عال، وبعدها يقرأ استقالة متخيلة منه لرئيسه في العمل، أقول له إنها ليست موجودة، فيخبرني أنه يريد فعل ذلك، فكان دائما يحلم أن يقدم استقالته احتجاجا، وكان خياله واسعاً وحكاء، يمتلك ثقافة الصعيد، فبدأت القراءة وعمري 7 سنوات، وكانت أول رواية قرأتها "البؤساء" لفيكتور هوجو، بينما الحاجة إلي الكتابة ظهرت وأنا في عمر العاشرة، وبالتحديد عام 1955، فكنت أكتب أحيانا الشعر وألحنه، حتي كتبت أول قصة متماسكة عام 1959 باسم "نهاية السكير" في عمر الخامسة عشرة ودخلت بها مسابقة نادي القصة، وكانت أول قصة تنشر لي في يوليو 1963 في "الأديب اللبنانية". منذ أن بدأت وأنا لدي هاجس بأن أخط شيئا لم يُكتَب مثله ولم أقرأه من قبل، كنت أقول ذلك لنفسي منذ كنت في العاشرة، وهذا القانون الذي يحكمني حتي الآن، فرأيي أن الكاتب لابد أن يضيف ليس فقط لأدب أمته وإنما للأدب الإنساني بأكمله، ولكن كيف يتحقق ذلك؟ فأنا نشرت أكثر من 50 قصة قصيرة وروايتين في ملحق المحرر الذي كان يشرف عليه غسان كنفاني، بدأت الكتابة طبقا للنمط السائد، وأتذكر أن أول مرة نزلت لوسط المدينة بحثا عن مكتبة اسمها "الأنجلو"؛ لأني قرأت في الصحف إعلاناً عن كتاب اسمه "فن كتابة القصص القصيرة" لرشاد رشدي، وكان هذا أول كتاب غير مستعمل أشتريه في حياتي، فقراءاتي كلها كانت من سوق الأزهر أو سوق الأزبكية أو دار الكتب، اشتريت هذا الكتاب وكنت فرحا جدا بأنني سأستطيع كتابة القصة القصيرة، ثم عدت للبيت وقرأته فوجدته باختصار يحدد كتابة القصة طبقا للقواعد الآتية: بداية.. عقدة.. لحظة تنوير، مستعرضا نماذج لتشيكوف وموباسان، والدرس الذي تعلمته بعد ذلك أن أحذّر أي شخص من مثل هذه الكتب، لذلك وباختصار شديد أصبح عندي تكوين ضد الباترون أو النموذج المسبق، ففي رأيي؛ الإبداع الحقيقي أن تتجاوز. وعن كيفية حدوث ذلك، هناك قواعد نقدية صارمة، وبالنسبة لجيلي، فقد رزقنا الله بشخص اسمه "عبد الفتاح الجمل"، أتذكر بعد عام 1967 كتبت قصة باسم "هداية أهل الوري لبعض ما جري في المقشرة"، وأخذتها له في جريدة المساء، وكان من النوع الذي إذا أحب أحداً جدا يسبه، فطلب مني الجلوس، وبعد قراءته للقصة فوجئت به يعتلي الكرسي ويقف فوق المكتب ويرقص ويقول "حاجة جديدة يا ولاد ..... حاجة جديدة"، والجالسون كانوا محمد البساطي ومحمد كامل القليوبي ورساماً اسمه محمد عثمان هاجر فيما بعد للدنمارك، جلس يقرأ لهم القصة بصوت عال، فأخذت أقول لنفسي إنه يجاملني، ما الجديد الذي فعلته؟! كان ذلك بشكل تلقائي أملته الحاجة، الشكل الذي كتبت به جاء من قراءاتي، التي كانت تسير في اتجاهين، الأول هو الأدب العالمي المترجم الذي يجب أن أتعرف عليه، فقد قرأت لدوستوفيسكي وأنا عمري 12 عاماً، أما الاتجاه الثاني فهو كتب التراث التي كنت أجدها في الأزهر، وكانت القراءة بالتداعي، بل إن حياتي كلها كانت كذلك، فأنا من أخلق منهجي، لا يأتيني من الخارج، وبدأت أجد أن الكتب القديمة فيها طرق للكتابة ليست موجودة في الأدب المصري المعاصر، فتساءلت: لماذا لا نكتب هكذا؟، بالإضافة إلي أنه دائما يحدث صراع داخل الكاتب ما بين ما يريد أن يخرجه وبين الذي يخرج فعلا، فهو يفكر في أحاسيس ومناظر ورؤي، لكن ما يخرج مادة جامدة بالحبر، وكلما يكافح ويقصر المسافة بين النقطتين يحقق نفسه أكثر. ومثال علي ذلك، كلنا تربينا علي أن صوت الروائي يجب ألا يكون مسموعاً، ولذلك نجد أنه في رواية عظيمة مثل "الثلاثية" -التي كُتبت علي نسق رواية "أسرة فورسايت" لجالسورثي وغيرها من روايات الأجيال-، المؤلف غير موجود، فكيف لا أكون موجودا وأنا من كتبها؟ الحل وجدته في كتب الأقدمين، وأضرب مثلا لذلك؛ كتاب "الحيوان" للجاحظ، فهذا الكتاب لم يُكتشف حتي الآن، هو يحمل اسم "الحيوان" ويبدأ بمائة صفحة عن الكلب، ثم الإنسان، وأعتبره أدق ما قرأت في الإبداع الأدبي، اسمه "الحيوان" ثم يتحدث كاتبه عن الإنسان باعتباره جزءاً من الحيوان، ويرِد ما جاء من أقوال ثم يتوقف، ويذكر شعرا مناسبا ثم يقطع، ويذكر حكاية بالمناسبة، فهناك حرية في التنقل بين الأشكال المختلفة، هذا ليس موجودا في الشكل الغربي الذي بدأ به الأدب، شيئا فشيئا بدأت عندي الجرأة في كسر القواعد، وعندما تقرأ كل القصص التي كتبتها قبل 1967 ستجد أنها قصص طبقا للباترون الجاهز، وظهرت منها بعض القصص فيما بعد، أما قصة "المقشرة" فكان فيها تعبير عن تجربة السجن، واستخدمت اللغة فيها كقناع، لدرجة أن عبد الفتاح الجمل عندما ذهب بها للرقيب قال له "شوف الراجل المجنون ده اللي لقي مخطوط وجايبه"، فنشرها الرقيب بالفعل علي أنها كذلك. لقد أعجبتي لغة ابن إياس والمقريزي والحوليات المصرية، وجدتها أكثر مرونة من اللغة الفصحي التي كان يكتب بها محفوظ، فرأيي أن البلاغة المصرية الحقيقية عبرت عن نفسها في العصر المملوكي، عندما تقبل المصريون اللغة العربية التي جاءت مع الغزو وكانت بالنسبة لهم أجنبية، وحدث شكل من العناق ما بين الموروث المصري واللغة العربية الوافدة، وخلق شكلا من البلاغة المصرية يتمثل في عامية الإيقاع وشكلية الفصحي، فعندما تقرأ ابن إياس، ليس هناك شيء خطأ، لا فاعل منصوب ولا مفعولاً به مرفوع أو هكذا، ولكن الإيقاع نفسه مختلف، هذا أول شيء وضعت يدي عليه، فوجدت أن ذلك يساعدني أكثر في إخراج المضمون، فاستطعت بشكل كبير أن أخضع الأساليب القديمة للتكنيك الحديث للسرد، وكان هذا ما تحقق في "أوراق شاب عاش منذ ألف عام" و"الزيني بركات"، وبعدها لم أعد أكتب بهذه اللغة، فقد تعبت جدا حتي أتمكن من الإمساك بالإيقاع الداخلي لها، فالجهد الكبير الذي بذلته فيها كان يمكنني به تعلم الصينية. أخبار الأدب: وما سبب توقفك عن استخدام تلك اللغة؟ الغيطاني: لأنها كانت لموضوع معين هو "الزيني بركات"، فالرواية تدور في القرن السادس عشر، وكان موضوعها عن البصاصين، فأنا لم أستوعب فقط العصر وإنما درست أدق تفاصيله، لذلك لن تجد شارعا مذكوراً خطأ مثلا، لأني قرأت القاهرة وتاريخها وكنت أعيش فيها. أخبار الأدب: وما سر اهتمامك بالعمارة؟ الغيطاني: لأني أردت أن أحقق نوعاً من الخصوصية، فأنت عندما تنظر لمبني معين، لماذا تقول هذا جامع أو سبيل أو عمارة إسلامية أو قبطية؟ لأن لها خصوصية، أنا أيضا، لماذا لا أكتب نصا عندما تقرأه تقول إنه لجمال الغيطاني دون أن تعرف؟!، هذا كان جزءاً من الطموح، فكان اهتمامي بالعمارة نابعا من حارة درب الطبلاوي التي عشت فيها حتي سن الثلاثين، وقد عشت فيها أثناء حرب 56، فقد انتقلنا منها مرة عام 1956 وذهبنا للدرب الأصفر الذي يحوي بيت السحيمي، وذات مرة رأي أبي حمامة خضراء في الليل، فقال: هذا الموت، وأصر أن ننتقل، لذلك عدنا مرة أخري إلي درب الطبلاوي، وعندما تخرج أخي من الفنية العسكرية عام 1970 كان لابد أن نتوسع فانتقلنا لباب الشعرية. أخبار الأدب: وبعدها انتقلت لحلوان عندما تزوجت؟ الغيطاني: انتقلت إلي هناك لأنني لم أجد شقة في الجمالية وفقا لإمكانياتي في ذلك الوقت، وكانت عائلة ماجدة زوجتي حريصة أن تكون بجانبهم، فوجدوا شقة بمقدم 500 جنيه عام 1974، ومازلت محتفظا بها حتي الآن للكتب. أخبار الأدب: عندما نتحدث عن الخصوصية، نجد أن خصوصيتك في الزمن الذي يسبب لك حالة دهشة الآن. الغيطاني: لا، الزمن قضيتي الكبري، ولكني أتحدث عن الخصوصية فيما يتعلق بالشكل. أخبار الأدب: ولكن الشكل هو الزمن، لأن التنوع في الموضوعات وحتي في مستوي اللغة نفسه كان موجودا في أحيان كثيرة بين الفرعوني الذي اعترفت أنه أكثر قيمة من المملوكي الذي أضعت كثيراً من الوقت من حياتك معه. الغيطاني: لقد اكتشفت أنهم شيء واحد، فعندما تقرأ علي مقبرة وزير تحتمس "رخمي رع" ما كتبه وهو داخل للأبدية عند الله "أنا الذي أكلت الفطير مع الفرعون"، وأن هذا هو مجده، تكتشف أنه لم يختلف شيء، مصر منذ قديم الزمن طبقات. أنا أحمد الله أن تعليمي كان فنيا، فأنا لم أختر السجاد، كنت أريد دراسة "النسيج الميكانيكي"، وأتذكر أن أول يوم عندما جلست أمام النول كنت حزينا جدا، فجلس بجانبي أحد الأساتذة وسألني عن سبب ذلك فأخبرته، فقال لي: "يا راجل، حد يروح للشحم والزيت والقرف بتاع النسيج ويسيب الجمال ده"، ثم إن السجاد مرتبط بالتاريخ والمكان، فعندما أقول إن تلك سجادة أصفهان، أنا أدرس أيضا تاريخ أصفهان، كما تعلمت شيئا آخر وهو الصباغة، لأن النتيجة كي تخرج دقيقة في السجاد لابد أن تتعلم كيف تنتج اللون المناسب للخيط أو الرسمة، وهذا أثر في الكتابة، فأحيانا وأنا أكتب الآن أشعر بإيقاعي وأنا أرسم السجادة. الشيء الآخر مسألة العمارة، فهي فعل مصري ضد العدم، لذلك تجد المصري ما يشغل باله دائما هو البناء، فلو تأملنا أي رئيس منذ مينا وحتي السيسي، أول ما ينشغل به منذ أن يأتي هو أن يبني، عاصمة جديدة أو قبراً أو غيره، حتي الرجل البسيط يشغله أمر البناء، يغترب ويعمل حتي يعود ويبني بيتا أولا، حتي وإن ورث بيتاً عن أبيه يهدمه ثم يبنيه، هذه حالة مصرية تجسدها العمارة، فشارع المعز مثلا هو وادي الملوك الإسلامي الذي يضم مقابرهم، والأقل رتبة في الشوارع الجانبية وهكذا، فبدأت أدرس ذلك. الشيء الثالث هو الموسيقي، ففي ذلك الوقت كان الجو الثقافي العام يقتضي لكي تكون مثقفا محترما أن تسمع موسيقي كلاسيكية، فبدأت أسمع دروس حسين فوزي في البرنامج الثاني، وكان يبذل فيها جهدا كبيرا، لكنها لم تؤثر فيًّ، ارتبطت بقطع معينة لأني تربيت علي موسيقي الراديو، لم يكن لدينا واحد فكنت أسمع موسيقاه سرقة من عند الجيران، وذات مرة عام 1960 كنت في قبة الغوري، لقد كانوا يقيمون حفلات موسيقية وهناك تخت موجود، وكان معي الأستاذ يحيي حقي، الذي يعد واحدا من أعظم كتاب مصر و لم ينل ما يستحقه، ثم فجأة ونحن نسير قال لي: "يا غيطاني، علي فكرة أنت سميع، أنا كنت أراقبك وأن تسمع الموسيقي، أبحث بالليل في الراديو علي إذاعة إسطنبول"، ومن هنا بدأت علاقتي مع الموسيقي التركية، وجدت فيها خصوصية، فأصبحت وأنا جالس في ندوة الأوبرا مثلا عند نجيب محفوظ، أجد أحدهم يتحدث عن الكونشرتو أو سيمفونية معينة وأنا في مخيلتي البشرف الذي استمعت له بالأمس، بعدها تجرأت وبدأت أتكلم، فلابد أن أكون مثقفا ومستوعبا مثل حسين فوزي ولويس عوض، لا أنقص هذا لحساب ذلك، ولكني استجبت لنفسي، حاليا كبار الموسيقيين الأتراك من أصدقائي، أقابلهم كل عام في مهرجان بفرنسا أذهب إليه باعتباري خبيراً موسيقياً لأتحدث عنها. الخلاصة أن الرواية بناء ومن هنا جاء الاهتمام بالعمارة، والرواية إيقاع ومن هنا جاء الاهتمام بالموسيقي، والروائي المجتهد هو من يمسك البداية ويحافظ علي إيقاعها حتي النهاية، وإن ظل عشر سنوات يعمل عليها فقط، هذا نجده بقوة عند نجيب محفوظ، ومن هنا كان اهتمامي بتحقيق الخصوصية، وأظن أنني نجحت، ولكن ذلك أخذ مني مراحل، فالزيني بركات كانت علامة مهمة، بعدها التجليات، ثم رواية لا يلاحظها الكثيرون، خرجت فيها من التراث بالتراث اسمها "شطح المدينة"، كما أن هناك نصوصا كبري أحلم بتجاوزها منذ كنت صغيرا، كنت أخرج مع إبراهيم الرفاعي رحمه الله في طوابير سير الصاعقة، وكان يبدأ من أنشاص قائلا إننا سنسير حتي مرسي مطروح، ثم أفاجأ به في دمنهور يخبرنا بأن المهمة انتهت، وعندما تكرر ذلك مرتين سألته إن كانت هناك أخطار، فقال لي "لا، ولكن إن أخبرتكم من البداية أننا سننتهي في دمنهور، كل منكم سيستنفر طاقة ويشعر بالتعب بعد عشرين كيلو، ولكن عندما أقول إننا سنمشي 60 لن يحدث ذلك"، فالإنسان لا حدود لقدرته علي استنفار الطاقة التي تواجه المهمة التي يحددها لنفسه، وقد حكي لي ذات مرة عن شخص تاه في الصحراء وكان معه طفل رضيع، فدرت صدره لبنا وأرضع به الوليد، تعلمت من حينها ألا أنافس من هم بجيلي، ولكن كنت أتطلع لنفسي وأقول إنني لست أقل من ديستوفسكي، ولذلك أول مجموعة لي كان اسمها "المساكين" وعمري 15 عاماً. لو تسألني الآن "ما طموحك؟" سأخبرك أنها ألف ليلة وليلة، وهذا ما وراء الحكايات، ولكن في "حكايات هائمة" كان لابد أن أعمل 60 عاماً لكي أصل لهذا الحل، فلم تعد لدي رواية بالشكل الثابت، تحررت من كل القيود التي يمكن تخيلها. أخبار الأدب: هل تعمل الآن علي هذا المشروع "ألف ليلة وليلة"؟ الغيطاني: هناك رواية سيبدأ نشرها يوم 9 مايو أنهيتها بالفعل، اسمها "حكايات قاهرية"، هي المرحلة الثانية من الحكايات ولكنها بالطبع مختلفة، هو مشروع كبير مواز لمشروع الدفاتر، فأنا لم تتم قراءتي جيدا والعمل العام أحد الأسباب، حاليا أنا أنافس نفسي، فقد انقطعت عن القراءات الأخري، إلا الأدب الجديد، فأريد أن أعرف إلي أين سيذهب الأدب، لا يهمني الحصول علي جائزة أو غيره، ما يهمني فقط هو قدر من الصحة أستطيع أن أكتب به، فأنا لا أبحث عن مواضيع، عقلي مليء بالعمل، ما يشغلني حاليا هذان المشروعان "الدفاتر" و"الحكايات"، وهناك جزء ثالث من حكايات المؤسسة. في الماضي كنت أكتب الرواية علي مرحلتين، أكتب ثم أبيِّض، وكانت أمتع مرحلة هي التبييض، مثل شخص صنع كتلة ثم أخذ يصنفر فيها، حاليا منذ العملية الأولي في القلب عام 1996 وأنا أكتب فقط لأنه لم يعد هناك وقت، كل ما تقرأونه هو كتابة أولي، لكني أحتشد، أحيانا أعيد الصفحة 3 أو 4 مرات، أما من قبل، التجليات مثلا كتبتها 3 مرات، فقد كانت الصحة جيدة والوقت متاحاً. أخبار الأدب: ما الفرق بين الكتابة الأولي والثالثة؟ الغيطاني: الفرق فقط في الشكل وليس المضامين، الهيكل هو نفسه، ولكن ما كان يهمني أكثر هو اللغة، فهي جزء من البناء، عندما بدأت في كتابة الزيني بركات، كتبت 50 صفحة بالشكل التقليدي واللغة العادية، لكني لم أستطع إكمالها، ثم وأنا أكتب