كتبت - يارا حلمي: تصوير محمد محسن - سامح أبو حسن: الساحة الأدبية تحتفل بعيد الميلاد السبعين للكاتب والروائى الكبير جمال الغيطانى، الذى ترك بصمة مهمة فى الكتابة العربية، صانعًا مشروعًا روائيًّا خاصا به وغير متشابه مع أى مشروع آخر، متماسا فيه مع التراث، كما احتفى باللغة باعتبارها بطلا فى النص. «التحرير» تحتفى بسبعينية الغيطانى، مستطلعة آراء الكتاب من مختلف الأجيال، ساردين علاقاتهم الشخصية والإنسانية بالروائى الكبير. الروائى يوسف القعيد قال ل«التحرير»: «عرفت الغيطانى فى ستينيات القرن الماضى فى ندوة لنجيب محفوظ بمقهى ريش، وغالبا كل جيلنا تعرف ببعضه حول نجيب محفوظ وفى رحابه، ونشرنا العملين الأولين لنا فى عمل مشترك، مجموعته القصصية الأولى (أوراق شاب عاش ألف عام) فى 1968، وروايتى الأولى (الحداد) فى 1969، وكان العملان فى مشروع أسسناه كان اسمه (كتاب الطليعة)». القعيد أضاف قائلا «علاقتنا تجاوزت نصف قرن من الصداقة النادرة، يحسدنا عليها كل زملائنا وأصدقائنا، سافرنا إلى أماكن وبلدان كثيرة سويا، خصوصا الدول العربية، التى اصطحبنا بعضنا فيها كثيرا، كما كانت علاقتنا الأسرية قوية أيضًا، فلم تقتصر الأمور على علاقتى به بشكل فردى، وتداخلنا بشكل غير عادى، فلم تقتصر علاقتنا على الأدب والثقافة، لكن كانت رحلة من العلاقات الإنسانية القوية والفريدة أيضا». ويستكمل القعيد ذكرياته: «أذكر أنى حضرت من بلدتى، وكنت مجندا فى القوات المسلحة، ولم يكن لدىّ بيت أو مكتبة، وقرأت من مكتبته كل قراءاتى الأولى، وهو لديه مكتبة من أعظم المكتبات فى التراث العربى، حتى إن هناك رواية لأحد الكتاب الأجانب كنت أستعيرها منه كل عام لأقرأها، حتى كتب لى عليها إهداءً فى إحدى السنوات ومنحها لى، مؤكدا أنه اتخذ هذه الخطوة لإحساسه بمدى إعجابى بالرواية». وعن المواقف التى جمعتهما سويا قال القعيد: «علاقتنا جعلت بيننا مواقف لا تُعد ولا تُحصى، لكنى على كثرتها أذكر حين اجتمعنا فى منزل إسماعيل العادلى، المخرج بإذاعة الشعب وكاتب القصص، وهو كان شخصا محبا للأدب والأدباء، وقرأ لنا الغيطانى روايته (الزينى بركات) بالكامل، قرأها فصلًا فصلًا رغم ضخامتها، وناقشناها سويا، وسمع جمال آراءنا وأفكارنا ورؤيتنا للكتابة وكُنَّا سعداء بتلك التجربة، وبالجلسة التى استمعنا فيها للرواية الكاملة من صاحبها». الكاتب الكبير علاء الديب قال: «منذ أيام كنت أكتب عنه بمناسبة صدور أعماله الكاملة، وأنا أعرفه منذ أن كان شابا عاش ألف عام، وكان يوزع كتابه بنفسه، والتقيته فى أواخر الستينيات، وقرأت له وأعجبتنى كتاباته، ومنذ هذا الوقت أتابعه وأراقب تطوره المستمر، وهو لديه دأب مصرى أصيل على العمل، كذلك لديه اقتداء بأستاذه نجيب محفوظ، الذى كان قريبا منه جدا فى الحياة، وقد استطاع جمال أن يخلق حالة ناجحة من الصحافة والأدب، واقترب من مجالات متعددة فى الحياة العامة والاجتماعية، منها المؤسسة العسكرية، لأنه اشتغل كمراسل حربى، ما زاد من خبرته فى الحياة، وجعله يرى ويعايش الكثير، إضافة إلى سفره المستمر للخارج، الذى فتَّح أفق التجربة، مع إصراره على أن يكون فى قلب التراث العربى». الديب أضاف أن الغيطانى «تشرب لغة الكُتَّاب القدامى والمتصوفين، وعبَّر بها عن نفسه، وعن الواقع الجديد، ما نتج عنه تركيبة فنية فى الكتابة خاصة به، جعلته مختلفا ومتميزا عن غيره، إضافة إلى تجربته الأخيرة، التى خاضها فى سنواته القريبة، التى ظهرت فى (أخبار الأدب)، التى تُعد الجريدة الأهم المختصة بالأدب وأخباره، التى قدمت خدمة كبيرة لأجيال الكُتَّاب الجدد، وتعامل فى منصبه كرئيس تحرير لها بأستاذية مرحبة وحنونة على الصغار ومشجعة أيضا للمبتدئين، وقدم خدمات مشكورة لشباب الكُتَّاب». القاص سعيد الكفراوى قال: «الغيطانى كان طوال حياته (رجل أدب)، ومنذ صباه تشكَّل فى وعيه أن يكون كاتبا، وهو واحد ممن عرف الواقع الذى عاش فيه، سواء فى الصعيد، الذى ولج ونشأ به، أو فى الجمالية بالقاهرة التى عاش فيها، أو عبر رحلاته فى دول العالم المختلفة، واستطاع كتابة هذا الواقع الذى يعرفه إبداعا وفنا جميلا، وفى عام 1968 قابلت جمال للمرة الأولى، ويومها سألته (أين يجلس شباب الأدباء؟)، الذين سجلوا فى ما بعد حركتهم تحت عنوان «جيل الستينيات»، فأخبرنى أننا نجلس على مقهى ريش، وأكد لى أننى إذا انتظرته فى اليوم التالى فى نفس المكان الذى التقيت به فيه، سوف يصحبنى معه إلى المقهى، وقد كان، ومنذ ذلك الوقت أصبحت جزءًا من هذا الجيل». الكفراوى واصل قائلا: «الغيطانى من دراويش الأدب والدنيا معا، ولا يوجد أبدا ما يمنعه عن ممارسة الكتابة، لأنها موازية لحياته، سافرنا كثيرا بصحبة بعضنا البعض، وكان دائما وأبدا خير صديق فى السفر، ورأى الغيطانى الكاتب وكأنه مراحل وطبقات طيبة من الإبداع، فلقد كتب القصة القصيرة، والرواية، والسير الذاتية عن نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس ومصطفى أمين، كما كتب عن الأماكن بحرفية شديدة، وعلى رأسها الصعيد، وهو أحد الرواد الذين كانوا يكتبون بالتاريخ، بمعنى أنه كتب التاريخ ليعبّر عن زماننا، فعالج فكرة القمع، وعلاقة المثقف بالسلطة، وفكرة الزمن، وله مقولة دائمًا ما يقولها (هو النهارده راح فين؟)، فشغفه وإحساسه بالفوت والمصير دائم ومستمر». وأضاف الكفراوى قائلا: «الغيطانى واصل إبداعه فى أهم أعماله (حكايات المؤسسة)، الذى تطرق فيه إلى المؤسسة التى عمل بها، والعلاقات التى تكوّن ضمير هذه المؤسسة، ولا يُنسى دوره فى الصحافة، حيث بدأها مراسلا حربيا، وعاش تجربة الحرب بعد النكسة، وشارك الجنود فى حرب 1973». وعن علاقتهما الشخصية، قال الكفراوى: «العديد من المواقف جمعتنا، لكن أبرزها ما كان يحدث فى السفر، فقد توجهنا للمغرب أكثر من مرة، وكذلك أبو ظبى، واقترحت فى أبو ظبى إقامة احتفالية له على سبيل المفاجأة، ويومها احتفل أهل الإمارات بالغيطانى احتفال محبة». الروائى إبراهيم عبد المجيد قال: «الغيطانى بدأ فى الستينيات، وربط بين الماضى والحاضر، وهو يميل إلى التراث أكثر من الحاضر، وسيره فى هذا الطريق جعله له شكلا وملامح خاصة، كما جعل كتاباته مختلفة، ولها مذاق يختلف عن الآخرين، وتستطيع تمييزه عن غيره بسهولة». وعن علاقته الشخصية بالغيطانى قال عبد المجيد: «علاقتنا الشخصية جيدة وجميلة، ورغم أننا لم نلتق منذ سنوات، لكن لنا ذكريات سويا جميعها تحمل ودّا وقربا وسعادة». الروائى ياسر عبد الحافظ قال: «الغيطانى بالنسبة لى صاحب أحد أهم المشروعات الأدبية فى العالم العربى، وهو أحد الكُتَّاب الذين استطاعوا عمل نقلة فى مسيرة الرواية من خلال استلهام التاريخ، وتحديدا التاريخ المصرى، فلم يكتب الغيطانى رواية تاريخية بقدر ما كتب رواية معاصرة تتطلع للتاريخ كحيلة فنية للإسقاط على الواقع، وربما كان أحد أهم الدروس فى كتابة الرواية للغيطانى أن التاريخ لحظة واحدة ممتدة». عبد الحافظ أضاف «تعرض الغيطانى لمسألة القهر والقمع كمسألة متجذرة فى التاريخ والأرض المصرية، وأنها تتكرر من زمن إلى آخر، ولا يختلف فيها غير الوجوه، واستطاع أن يضع بصمة مهمة جدا على اللغة، كما استطاع من خلال أعماله أن يرسخ للمشروع اللغوى، الذى يدفع بأن اللغة ليست أداة ثابتة طوال الوقت، لكنها يمكن تطويعها، وتختلف من عمل إلى آخر، ولديه من الشجاعة أن يخلق لغة خاصة جدا، ضفَّر من خلالها العامية المصرية البسيطة بالفصحى». وأضاف عبد الحافظ قائلا «من الأمور المبهرة لى فى أعمال الغيطانى قدرته على الانتماء إلى عوالم ورؤى مختلفة، فهو يستطيع ثقافيًّا أن يكون بوذيا أو صوفيا أو فرعونيا أو غيره، فهو يقرأ عند المتصوفة كما يقرأ نتاج الرهبان، ويقرأ للحضارة العربية مثل الغربية، ويجد فى ذلك ما يمتعه، وما يستطيع التعبير عنه، وفى تقديرى هذا هو المثقف الحقيقى، الذى يكون لديه القدرة على أن يكون ابنا لجميع الثقافات، خصوصا أن الوقوف عند ثقافة بعينها موت لمن يقف». عبد الحافظ أضاف «تزاملت مع الغيطانى، وكنت أحد تلاميذه فى عالم الصحافة الأدبية، وأذكر أننى كنت أدخل مكتبه صباحا لنتناقش فى موضوع، فيدعونى للجلوس، ويشغّل مقطوعة موسيقية، ويبدأ بشرح من هو صاحب المقطوعة، وما الفن الذى يقدمه، ولأنه كان دائم السفر، فكان دائما ما يعود بألبومات فنية لفنانين لم نكن نعرفهم، وكان لدينا فى (أخبار الأدب) مكتبة ضخمة جدا من انتقاءاته واختياراته، وهذا الأمر أحببته جدا فيه، وتأكدت لدىّ فكرة الانفتاح على كل الثقافات من خلال مرافقتى له». الروائى والمترجم أحمد عبد اللطيف قال: «الغيطانى أهم كاتب عربى بعد نجيب محفوظ، وصاحب مشروع أدبى كبير، وشيخ طريقة فى كتابة الروايات، وأنا بشكل شخصى أحب كتاباته جميعها بداية من (الزينى بركات) مرورا ب(أوراق شاب عاش ألف عام)، ومؤخرا بالطبع المجموعة القصصية الجديدة (دفاتر التدوين وحكايات هائمة)، وأرى أن مشروعه فارق ومؤثر جدا فى الرواية العربية، ويكفى أنه أول المشروعات التى استلهمت التراث العربى، وهذا كان طريقه الذى حدد أن يسير فيه بداية من (الزينى بركات)، وكان ملفتا جدا بالنسبة لى أنه صديق مقرب جدا لنجيب محفوظ، ولم يتأثر به فى أى شىء، فمحفوظ كتب روايات ما بين الفلسفية والواقعية، وله مراحل متعددة، لكن حسب كل مراحله لم يقترب الغيطانى منه وقرر أن يكون له طريقة يتفرد بها، وأسلوب كتابى ولُغوى خاص به، وتقنية فى إعادة التراث العربى وتجديده، إضافة إلى الانشغال الدائم بفكرة الموت والزمن كأسئلة كبيرة يطرحها باستمرار فى كتاباته». عبد اللطيف تابع: «علاقتى الشخصية بالغيطانى بدأت سنة 2000، وكانت بداية تعاونى مع جريدة (أخبار الأدب) من الخارج، فكنت أكتب وأترجم، والتقيت به شخصيا فى هذه الفترة، وبعدها بنحو ثمانى سنوات قرر الغيطانى أن انضم إليهم بشكل دائم، وأن أعمل معهم فى (أخبار الأدب) بشكل ثابت، وطلبنى لأجلس معه فى 2008، اقترح علىّ أن أعمل معهم، وتكررت لقاءاتى به من منطلق أنى محرر فى جريدة هو رئيس تحريرها، وهو أحد أكثر رؤساء التحرير ديمقراطية، فهو يسمع جيدا، ويدرس اقتراحات الآخرين ويوافق عليها، وحتى أفكار الموضوعات الصحفية، التى كان يرغب فى عملها لم يكن يفرضها على أحد، بل يطرحها، ولا يفرضها على أحد، ويترك لمن يرغب فى تنفيذ فكرة أن يقوم بها». وعن اهتمام الغيطانى بعمله قال عبد اللطيف: «هو كصحفى له ثقل وصاحب رؤية، ويكفى أنه مؤسس جريدة (أخبار الأدب)، وبدونه لم يكم من الممكن أن تتأسس جريدة مثلها، خصوصا داخل مؤسسة (أخبار اليوم)، لا سيما أن العمل فى الأدب غير مربح نهائيا، وهو شخص محايد جدا مع الجميع، رغم أنه صاحب رأى ورؤية فى كل شىء، حتى إن جريدة (أخبار الأدب) تقريبا منذ التسعينيات وحتى تركها ظلت جريدة ثقافية لا علاقة لها بالسلطة، حتى إنه كان ينتقد وزارة الثقافة بحرية مطلقة دون أن يكون لديه أزمة فى ذلك، وكان لديه اهتمام بكل قضايا الحريات، ومناهضة الرقابة كانت فكرة أساسية لديه ولدى الجريدة طوال الفترة التى كان يرأسها خلالها، وكان أيضا دائم الاهتمام بالعالم الآخر، وبما يكتبه الكتَّاب فى الخارج، انطلاقا من اهتمامه بتطوير الكاتب فى مصر». عبد اللطيف واصل قائلا: «أما عن علاقتى الشخصية به، فأنا أحمل له الكثير من التقدير ككاتب وصحفى كبير، وإن كنت أعشق فكرة الكاتب صاحب الأسلوب المختلف والطريقة الخاصة أكثر من أى شىء آخر، ودائما يجمعنا الحديث فى الأدب والثقافة، وكنت قبل نحو شهر فى جولة معه، بصحبة أربعة كُتَّاب إسبان فى القاهرة القديمة، وأنا على علم بحبه للعمارة وللقاهرة الإسلامية، لكن لفت انتباهى أيضا تعمقه فى دراسة المعمار، وأنه له وجهة نظر خاصة وتفسيرات خاصة ربما لم ترد فى كتب المؤرخين والمتخصصين فى الآثار من قبل، خصوصا فى تفسيرات الأشكال داخل المساجد، والطريق الذى نسير فيه حتى الوصول للقِبلة فى النهاية، وهى أشياء نادر أن يهتم بها أحد، لكن هذا الأمر يظهر فى كتابته لما له من تأثير عليه». الكاتب والصحفى محمد شعير احتفل معنا بعيد ميلاد الغيطانى قائلا: «من الصعب وضع جمال الغيطانى فى إطار ضيق، هو ليس فقط الروائى، الصحفى، المفكر، السياسى، المثقف الكبير، عاشق الموسيقى، والفن التشكيلى.. هو كل هؤلاء، عجينة متفردة.. كان الغيطانى أصغر أبناء جيل الستينيات عندما بدأ الكتابة، كان أكثرهم جرأة إبداعية، استطاع أن يعثر على صوته الخاص، ونبرته التى لا تشبه أحدا غيره، ولم يكتف بهذا، إذ ما كان يدخل فى مغامرة إلا ليغادرها إلى مغامرة أخرى.. كل عمل له مغامرة مستقلة.. فيها ثوابت الغيطانى، وفيها متغيرات التجربة.. رحلة من التجريب الدائم». وعن علاقته بالغيطانى قال شعير: «عرفته كمبدع قبل أن التقيه شخصيا، وعندما دخلت (أخبار الأدب) للعمل معه، بدأت رحلتى الشخصية معه التى استمرت ما يقارب 20 عاما، من خلاله عرفت أسماء كبيرة وجالستها، كنا مجرد محررين، لكنه كان يقدمنا للآخرين باعتبارنا نواب رئيس التحرير، وكانت (أخبار الأدب) هى الجريدة الوحيدة، التى تضم رئيس تحرير وبقية الصحفيين فيها ذوو مناصب كبرى، وفى اجتماعات التحرير التى كان تتم فى الثانية عشرة ظهر كل خميس، وعلى مدى 14 عاما، كنا نكتشف فيه جانبا مهما لا يعرفه الكثيرون عنه، جانب الحكاء المبهر، بإمكانه (عندما يكون مزاجه رائقا) أن يحكى لساعات حكايات متواصلة، كان لديه موهبة أخرى هى قدرته على التشبيه، تشبيه الشخصيات والأماكن والأحداث بتشبيهات غير متوقعة، تكون غالبا مستوحاة من البيئة الجنوبية، لم يكن يمارس وصاية صحفية علينا فى ما نكتبه، لم يطلب منا أن نفكر مثله، أو نؤمن بأفكاره، كان يرى الاختلاف إثراءً للتجربة الصحفية، لم يمنع أحدا من الكتابة فى الجريدة، كان معياره الأساسى هو القيمة والجودة».