أبواب مغلقة وحواجز حديدية، تحيط مساجد آل البيت، يقف خلفها المحبون والمشتاقون، متضرعين إلى الله ويدعون ويتوسلون الاستجابة لأمنياتهم، لم يمنعهم قرار إغلاق المساجد أو الصيام عن ممارسة طقوسهم التى اعتادوا القيام بها، فما أن تطأ قدماك محيط أى مسجد من مساجد آل البيت إلا وتجد عشرات المريدين جاءوا للتبارك والتمنى. تحتل مقامات آل البيت مكانة كبيرة فى قلوب المصريين، فهم وإن فاتتهم صحبة النبى فلم يفوتهم التقرب إلى أحبائه وصحابته، يلجأون إليهم بالدعاء، ويبحثون فى كنفهم عن الراحة ورفع البلاء.. وجوه خاشعة وعقول متبتلة ومشاعر جياشة تقف على عتبات مساجد الأولياء، العيون والقلوب متعلقة بساكن المقام، والأكف مرفوعة للسماء ترجو من الله ما ترجاه.
صلوات وتضرع المُحبين لم تنقطع أمام بوابات «الإمام الحسين»
توجهت «روز اليوسف» إلى أبرز مساجد آل بيت الرسول فى القاهرة، بدأناها بمسجد الإمام الحسين ثم السيدة زينب والسيدة نفيسة، فبدا لنا أن هناك ظاهرة واضحة جمعت بين المساجد ولدت مع إغلاقها بسبب انتشار فيروس كورونا، وهى وقوف مريديها أمام أسوارها، متضرعين فلم يمنعهم قرار الإغلاق من طقوسهم الروحانية خاصة فى شهر رمضان.
اعتاد آلاف المُريدين التوافد إلى مسجد الإمام الحسين قادمين من جميع محافظات مصر، خاصة فى شهر رمضان للاستمتاع بروحانيات المكان، خلال السنوات الماضية لم يكن من السهل التنقل فى رحاب المكان من شدة الزحام، بعد أن تحول إلى قبلة لسكان القاهرة والقادمين من المحافظات الأخرى والزائرين العرب، وسط أصوات الابتهالات التى تبث من المسجد على مدار اليوم.
رمضان هذا العام اختلف المشهد تمامًا بسبب الإجراءات الاحترازية التى اتخذت بإغلاقه على غرار باقى المساجد منعًا للتجمعات، إلا أن مريدى المسجد لم يمنعهم قرار الإغلاق من التسابق للذهاب له وإقامة الصلاة خارج أسواره، فالضريح أبوابه مغلقة وساحة المسجد خالية، إلا من عدد قليل من الأشخاص، يبدو أنهم يرتبطون بزيارة المسجد، الذين يجدون فى رحابه الراحة والطمأنينة، لا يعترفون بوجود أى حواجز للحيلولة بينهم وبين ممارسة طقوسهم التى اعتادوا عليها لسنوات.. شباب وشيوخ ونساء يقفون خلف الحواجز الحديدية فى نهار رمضان، لم تمنعهم ارتفاع درجة حرارة الجو أو المخاوف من انتقال عدوى كورونا، يؤدون الصلاة ويتضرعون إلى الله، موجهين رسائل الشوق والمحبة لآل بيت رسول الله.
شكرية حسن، إحدى مريدى مسجد الإمام الحسين داومت على زيارته منذ عشرات السنوات، وقفت أمام الحاجز الحديدى المقابل لإحدى بوابات المسجد، متضرعة رافعة يديها إلى السماء تدعو بما تتمناه، رافضة الابتعاد عن أحبائها من آل البيت، فبين الوقت والآخر تأتى من محافظة كفر الشيخ وتستأجر شقة صغيرة بمنطقة الزاوية، وتزور يوميًا أولياء الله، بالتزامن مع كل مناسبة دينية وهذه الفترة جاءت مع بدء أيام شهر رمضان المبارك.
«باجى كل ما ربنا بيريد بأقعد 10 أيام أزور فيهم آل البيت»، هكذا بدأت السيدة الستينية حديثها لتكمل ب «ربنا يصلح الحال» دعوة تتضرع بها إلى الله تتمنى من خلالها أن تزول الغمة وتعود الأمور لطبيعتها كما كانت بالسابق وتستطيع الدخول بالقرب من ضريح الإمام الحسين.
الرصيف المقابل لساحة مسجد الحسين ملاذ «شكرية» مؤخرًا لتجلس عليه وتقرأ الفاتحة، فلديها ثقة كاملة أن زيارتها مقبولة رغمًا من الحواجز التى تحرمها من دخول المسجد: «بأجى أقعد بره وأقرا الفاتحة وكأن ربنا قبل الزيارة دى حاجة بينى وبين ربنا وسيدنا الإمام، ولما بأصلى الصلاة كمان وصلالهم».
لم يمنعها تقدمها بالسن ومرضها من القدوم وممارسة طقوسها التى اعتادت عليها كل رمضان، فأصبح عكازها سندها الذى تستند إليه فى رحلتها لزيارة أولياء الله، وكذلك لم تمنعها عدوى كورونا ومخاوف انتقالها لها: «الكورونا غضب من ربنا واللى فيه صلة بينه وبين ربنا مش هيتصاب».
واستكملت: «زيارتى أثناء الصيام مش مرهقة، لما بزور حد بحبه مش بحس بمشقة، اللى بيحب آل البيت مش بيشعر بأى تعب»، واصفة زيارتها للمسجد كزيارة مريض للطبيب النفسى حينما يخرج من عيادته يشعر بارتياح نفسى شديد.
خلف الأسوار الحديدية.. بكاء وشموع المشتاقين ل «السيدة زينب»
مشهد متميز اعتاده زائرو مسجد السيدة زينب خلال شهر رمضان، الذى تفوح منه النفحات الإيمانية التى تغلفها الأجواء الرمضانية بمحيط المسجد، الذى يعد قبلة محبى آل البيت من جميع أنحاء مصر، وحصنًا لعابرى السبيل والسائلين.
«وحشتينا يا أم هاشم.. جئناكى مشتاقين.. اجبرينا بكراماتك» كلمات يتمتم بها المشتاقون من مريدى السيدة زينب، الذين يقفون خلف الأسوار الحديدية المحيطة بالمسجد، يمارسون عاداتهم التى كانوا يقومون بها وهم داخل المسجد، فمنهم من يجيء ليضيء الشموع ومنهم من يوزع المساعدات على السائلين بمحيط المسجد.
أشخاص يبكون بحرقة أحوالهم المعيشية يتكئون على السور الحديدى، وآخرون يسرحون بملكوت العشق لآل البيت، ويناجون الله رفع الغمة ليستطيعوا رؤية المقام، سيدات ورجال لم يمنعهم الإغلاق أو الصيام عن ممارسة عاداتهم بالمجيء إلى ضريح السيدة زينب، ليناجى كل منهم بسره ويروى للسيدة أسراره، حتى وصل أحدهم إلى حد البكاء، ليسألها الإجابة لشكواه.
«يا سيدة يا سيدة يا أم الشموع القايدة»، هكذا كانت تتمتم سيدة وابنتها اللتان كانتا تقفان خلف السور الحديدى المحيط بالمسجد، لإشعال عدد من الشموع، ووضعها بجوار السور، حيث اعتادا على القيام بذلك خلال شهر رمضان بمساجد الأولياء، فتشعران أنهما تتقربان إلى الله.
«الحاج محمد»، كان يقف خلف الحاجز الحديدى يقرأ الفاتحة وبعضًا مما تيسر من آيات القرآن، ربط بين إغلاق المسجد بسبب فيروس كورونا والعقاب من الله، قائلًا: «أنا مقهور.. ربنا يرفع المرض.. والدولة كتر خيرها بتحمينا وتعبت معانا».
«أنا أشكر ربنا إنه حط اسمها فى بطاقتى» هكذا عبر عن امتنانه الشديد بأن يسكن فى المنطقة الموجود بها المسجد، فاعتاد منذ 32 عامًا على الخدمة بالمسجد ومساعدة الناس بشكل يومى، ففى شهر رمضان يأتى ويمارس طقوسه الروحانية بالمسجد ويذهب إلى منزله لتحضير الطعام والعودة مرة أخرى لتوزيعه على السائلين، مؤكدًا أن طقوسه لم تختلف كثيرًا هذا العام بخلاف أنه يقوم بذلك من خارج المسجد ليس بداخله.
وتمنى الحاج محمد ألا يطول غياب السيدة زينب عن محبيها ومنعهم من الدخول لمقامها، ونيل بركة لمسه، خاصة فى مثل تلك الأيام المباركة، واصفًا بملامح وجهه التى تعبر عن محبته الشديدة: «لما بزورها بحس إن أمى عايشة».
تقرب إلى الله ب«السيدة نفيسة»
فى مسجد السيدة نفيسة، بمصر القديمة، اعتاد المريدون التردد على المسجد وزيارته لأداء الصلاوات طوال أيام شهر رمضان، إضافة إلى إقامة الحضرة وحلقات الذكر، ليحيط المكان حالة روحانية وإيمانية، وخاصة أن المتيمين بآل البيت يملأون أرجاء المسجد.
فى رمضان هذا العام اختفت كل المظاهر الإيمانية والروحانية داخل المسجد، فغلقت أبوابه والمقام، وخارجه أحاطته الحواجز الحديدية، لكن المحبين لم يختفوا فالعشرات منهم ما زالوا يأتون من كل مكان للتبارك والتمنى، فكل من له دعوة وأمنية كان يعتاد أن يذهب إلى هناك ويدعى بها واثقًا من أنها ستحقق.
«يارب ارفع عنا الهم والغم والكرب» دعوات ناجى بها الله «الحاج نور» ذو العقد السادس من عمره، أثناء وقوفه أمام مسجد السيدة نفيسة، حيث اعتاد أن يجيء من منطقة الفسطاط القريبة من المسجد ويقضى أيام رمضان سواء قبل الإفطار أو بعده.
يقف الحاج نور أمام بوابة المسجد على وجهه علامات الاشتياق والحرمان، معبرًا عن افتقاده الشديد لطقوسه التى اعتاد ممارستها فى مثل تلك الأيام من شهر رمضان، والتى يأتى على رأسها استمتاعه بليلة الحضرة التى يحييها أتباع الطريقة الرفاعية، وحلقات الذكر والقرآن.
وعن طقوسه الدينية خلال شهر رمضان الجارى قال إن طقوسه لم تتغير لكنه أصبح يمارسها من خارج باب المسجد، سواء كانت الصلاة وقراءة القرآن والدعاء، أما عن التراويح وقيام الليل فيؤديهما فى المنزل بسبب الحظر، مؤكدًا أن الروحانيات بالمسجد تكون أكثر، مستطردًا: «فى هذا المسجد بالأخص أشعر بالتقرب إلى الله عن أى مكان آخر».