لم أجد صعوبة فى الكتابة مثلما أجدها هذه الأيام والسبب حالة الإحباط العام الذى تعيشه البلاد، يقولون إن المعاناة تولد الإبداع وهى مقولة مأثورة كنت أؤمن بها حتى لحظة كتابة هذه السطور، ولكنى أقول إن المعاناة قاتلة للطموح والإبداع، وخاصة إذا كانت من صنع البشر. ما دفعنى لذلك ما يعيشه اليوم جل أفراد الشعب السودانى دون استثناء، فكل له لون وشكل معاناة تختلف عن الآخر بحسب المستوى الاجتماعى له، رغم ما كابده الشعب من مشقة وكبت وغبن فى فترة الحكم السابقة، وبلغ به اليأس مبلغه فى أن تنصلح الأحوال أو يذهبون.. يأتى هذا إضافة لما يحيط بالعالم أجمع بحالة القلق والتوجس وأحيانا الهلع، فما آتاهم لا قبل لهم به، فبالأمس كانت صراعاتهم شرسة لا رحمة فيها، سخرت لها أكبر أنواع الأسلحة التى لا تخطئها العين لضخامتها، واليوم أصبحوا ينشدون الرحمة أمام عدو مجهول لا يرى بالعين المجردة، وربما بغيرها، عدو لا يعلم به إلا الله ولا راد له سواه..فى ظل تلك الظروف على كل البشر مهما اختلفت توجهاتهم الفكرية والعقائدية، التوقف ولو لحظة يتأملوا ضعفهم وقلة حيلتهم، بالأمس القريب خرج على العالم رجال تكبروا وتجبروا وهددوا وتوعدوا، ظلموا وجاروا، تلفظوا بعبارات الاستعلاء حتى ظننا أنهم سينطقون ما جاء به فرعون (أنا ربكم الأعلى)، بعضهم بقى وبعضهم ذهب ولم يبدلوا تبديلا لإرادة الله، تلك الخاطرة فرضت نفسها على (إذا افترضنا أن للخاطرة نفس) والله لا أراها إلا موعظة بأن الله إذا أراد لذهب بهم جميعًا فى لحظة، فليتركوا الصراعات وقتل الأطفال وتشريدهم على حدود الدول يجابهون البرد والجوع والمرض.. لم يكن السودان بعيدًا عن تلك الصراعات والتهميش مما دعى للتذمر والانشقاق وبعدما تردت الأوضاع وارتفعت الحناجر مطالبة النظام بالذهاب بعد أن فشل الحزب الحاكم فى إيجاد حلول مرضية لمقابلة أبسط مقومات العيش الكريم للمواطن، ولكن ثقافة الرحيل لم تكن متوفرة عندنا أو عند الكثير من دول العالم غير المتحضر وقابل الاحتجاج بالقتل والتنكيل وسكت الصوت بعد بطشه وطلع عليهم من يقول: ( كل فار دخل جحره)، ولكن حتى الجحر صار لا يطاق، فعادت الأصوات مرة أخرى وكان أقصى ما تتمناه أن ينصرف هؤلاء، وليأتى لحكمنا الشيطان، وصار القول تسقط بس وبعدها ليكن ما يكن.. وقد كان وسقطت بس بمساعدة لم يفصح عنها فى حينها واستيقظ الشعب من نشوة الانتصار على وماذا بعد السقوط؟ لا أحد يعلم أو يملك حلا وعاشت البلاد حالة من الترقب والتوهان والضبابية إلى أين يقاد؟ ولا من يقوده؟ وارتفع حجم المعاناة ليصل حدًا لم يتوقعه أكثر الناس تشاؤمًا، من كان يتوقع أن يقف الناس بالساعات صفوفًا أمام المخابز من أجل رغيف الخبز والسودان بلد زراعى من الدرجة الأولى، من كان يتوقع أن يرتفع سعر اللحوم والسودان يملك أعدادا لا حصر لها من المراعى التى كانت تكفينا وتكفى غيرنا دون أى ندرة أو غلاء، أما الوقود فحدث ولا حرج فقد صارت صفوفه تمتد لكيلو مترات قد يقضى المواطن صاحب السيارة نهاره وليله فى انتظار دوره وكثيرًا ما يخلص الوقود ويعود خالى (التنك).. معاناة أسبابها كلمة واحدة لم يعمل حسابها (بس) فبعد أن سقطت بس ما هى الخطط التى جاءت بها الكفاءات القادمة من الخارج هل يحتاجون لثلاثين عامًا أخرى من عمر الزمان لنرى بركاتهم؟ هل ساعد الشعب الحكومة المسيرة للبلاد فيما هو أكثر من الصبر للبحث عن عصا موسى التى صرحت منذ البداية بأنها لا تملكها أم ينتظر أن يعثروا عليها بمفردهم (ويا وجدوها ويا ما وجدوهاش)، ويبدو أن هناك من أخفى عصا موسى كمن أخفى المحافير والعهدة على المثل القائل (جاءوا يساعدونه فى حفر قبر ابوه دس المحافير) فهناك من يرتع ويصطاد فى مياه المعاناة العكر، وما غنوا ولا اغتنوا، فالقصة أشبه بساقية جحا تشيل من البحر وتصب فى البحر، وهذا السقوط لقيم السودانى أشد دويًا من سقوط النظام، فكل الحكومات ذهبت (بما لها وما عليها) كما قال الرئيس الراحل حسنى مبارك وتبقى الأمم وإنما الأمم الأخلاق أن ذهبت ذهبوا، وما أوهن سبل الذهاب هذه الأيام.. فها هى الكورونا الغامضة تلوح من بعيد وأملنا فى أن تشتد حرارة الشمس وتنخفض دون ال26٪ فهى لم تأت بعد وإذا أتت (دا المكان ناقص) نتمنى أن ينزل الله الأمن والأمان على من افترشوا الأرض والتحفوا السماء هربا من القصف والموت تحت الأنقاض ونسأله تعالى الرفق بكل محتاج وجائع وأن ينير قلوب وبصائر البشر فيتراحموا فيما بينهم ودمتم فى أمان الله