رسالة الفدائية «صابحة» ناقلة خرائط تمركزات العدو على صدر طفلها الرضيع قبل وفاتها بأيام: ربنا يقويك يا ريس ويحفظ جيش مصر    إزالة بعض خيام الطرق الصوفية بطنطا بسبب شكوى المواطنين من الإزعاج    مؤسس مقاطعة السمك ببورسعيد ل"كل الزوايا": تأثير المبادرة وصل 25 محافظة    الزراعة ل«مساء dmc»: المنافذ توفر السلع بأسعار مخفضة للمواطنين    «إكسترا نيوز» ترصد جهود جهاز تنمية المشروعات بمناسبة احتفالات عيد تحرير سيناء    اعرف الآن".. التوقيت الصيفي وعدد ساعات اليوم    استقرار أسعار الدولار اليوم الجمعة 26 أبريل 2024    أستاذ اقتصاد: سيناء تستحوذ على النصيب الأكبر من الاستثمار ب400 مليار جنيه    استقالة متحدثة لخارجية أمريكا اعتراضا على سياسة بايدن تجاه غزة    ادخال 21 شاحنة مساعدات إلى قطاع غزة عبر بوابة معبر رفح البري    في اليوم ال203.. الاحتلال الإسرائيلي يواصل أعمال الوحشية ضد سكان غزة    موعد مباراة الهلال والفتح والقنوات الناقلة في الدوري السعودي    رمضان صبحي: كنت حاسس إن التأهل من مجموعات إفريقيا سهل.. ومقدرش أنصح الأهلي    «الأرصاد» عن طقس اليوم: انخفاض في درجات الحرارة بسبب تأثر مصر بمنخفض جوي    رسالة من كريم فهمي ل هشام ماجد في عيد ميلاده    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    فلسطيني يشتكي من الطقس الحار: الخيام تمتص أشعة الشمس وتشوي من يجلس بداخلها    طيران الاحتلال يشن غارات على حزب الله في كفرشوبا    حكاية الإنتربول مع القضية 1820.. مأساة طفل شبرا وجريمة سرقة الأعضاء بتخطيط من مراهق    التوقيت الصيفي في مصر.. اعرف مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 26 - 4 - 2024    إشادة برلمانية وحزبية بكلمة السيسي في ذكرى تحرير سيناء.. حددت ثوابت مصر تجاه القضية الفلسطينية.. ويؤكدون : رفض مخطط التهجير ..والقوات المسلحة جاهزة لحماية الأمن القومى    أدعية السفر: مفتاح الراحة والسلامة في رحلتك    فضل أدعية الرزق: رحلة الاعتماد على الله وتحقيق السعادة المادية والروحية    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 26- 4- 2024 والقنوات الناقلة    صحة القليوبية تنظم قافلة طبية بقرية الجبل الأصفر بالخانكة    أبناء أشرف عبدالغفور الثلاثة يوجهون رسالة لوالدهم في تكريمه    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    أمريكا تعد حزمة مساعدات عسكرية جديدة بمليارات الدولارات إلى كييف    "تايمز أوف إسرائيل": تل أبيب مستعدة لتغيير مطلبها للإفراج عن 40 رهينة    أول تعليق من رمضان صبحي بعد أزمة المنشطات    قوات الاحتلال تعتقل شقيقين فلسطينيين بعد اقتحام منزلهما في المنطقة الجنوبية بالخليل    أبرزهم رانيا يوسف وحمزة العيلي وياسمينا العبد.. نجوم الفن في حفل افتتاح مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير (صور)    الأسعار كلها ارتفعت إلا المخدرات.. أستاذ سموم يحذر من مخدر الأيس: يدمر 10 أسر    أعضاء من مجلس الشيوخ صوتوا لحظر «تيك توك» ولديهم حسابات عليه    بعد سد النهضة.. أستاذ موارد مائية يكشف حجم الأمطار المتدفقة على منابع النيل    وزير الخارجية الصيني يلتقي بلينكن في العاصمة بكين    «الإفتاء» تعلن موعد صلاة الفجر بعد تغيير التوقيت الصيفي    أذكار وأدعية ليلة الجمعة.. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 26 أبريل 2024    «جريمة عابرة للحدود».. نص تحقيقات النيابة مع المتهم بقتل طفل شبرا الخيمة    مع بداية التوقيت الصيفي.. الصحة توجه منشور توعوي للمواطنين    جدعنة أهالي «المنيا» تنقذ «محمود» من خسارة شقى عمره: 8 سنين تعب    خالد جلال يكشف تشكيل الأهلي المثالي أمام مازيمبي    إعلان نتيجة مسابقة المعلمة القدوة بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    هيئة الغذاء والدواء بالمملكة: إلزام منتجات سعودية بهذا الاسم    سيد معوض يكشف عن مفاجأة في تشكيل الأهلي أمام مازيمبي    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    تشرفت بالمشاركة .. كريم فهمي يروج لفيلم السرب    «زي النهارده».. استقالة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من مشيخة الأزهر 26 أبريل 1935    سيد معوض يكشف عن رؤيته لمباراة الأهلي ومازيمبي الكونغولي.. ويتوقع تشكيلة كولر    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميا    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    الأقصر.. ضبط عاطل هارب من تنفيذ 35 سنة سجنًا في 19 قضية تبديد    تامر حسني باحتفالية مجلس القبائل: شرف عظيم لي إحياء حفل عيد تحرير سيناء    الشروق تكشف قائمة الأهلي لمواجهة مازيمبي    مسجل خطر يطلق النار على 4 أشخاص في جلسة صلح على قطعة أرض ب أسيوط    حظك اليوم.. توقعات برج الميزان 26 ابريل 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جُوّنتنامو
نشر في الوطن يوم 11 - 03 - 2014

أحنُّ إلى البوح.. ربما أرتاح حيناً لو حكيتُ لأحد الأحبّة كلماتٍ قليلات، أو لأحد الأعداء، فهل أجدُ مَن يُنصت إلىَّ فأرى صورتى تتجلَّى على مرآته، فأرانى، فأنجو من دوَّامات الوحدة الطاحنة الملقية بنا إلى قاع أعماقنا المعتمة. تلك الأعماق السحيقة، المشوبة باشتهاء التلاشى وإغواء الانتهاء.
إغواءُ الفناء يملأنى الآن، ويُميلنى إليه، فأميلُ مضطراً من فرط الترنُّح. الهزَّات التى تهدُّ أركانى، تسحقنى ثم تبعثرنى. لم يبقَ منى بعدما استطالت جلستى هذه، إلا اليسير من الحواسِّ. فليس لى غير سَمْعٍ يؤرِّقنى بأنَّات المحيطين وشَمٍّ يعوقه احتباسُ أنفاسى، وذاكرةٍ لم يبقَ فيها إلا آياتُ الرحمن.
هل قضى الله علىَّ بعد هَوَانى هذا، بالانهيار. سبحانه. أم تراه يضعنا كالمعتاد فى المحن، ليتميَّز الخبيث من الطيب؟.. هلِ الله يحتاج ذلك؟! فلماذا إذن يعذِّبنا بالنازلات الماحقات، وهو تعالى العليم الخبير الذى لا حُجة لأحدٍ عليه، وله على العالمين الحجَّة البالغة. مَن يدرى، لعل الواسع العليم له حِكمٌ خفيةٌ لا سبيل أمامنا إلى فهمها «الله يعلم وأنتم لا تعلمون».. طيب!
أَهُوَ محالٌ أن أرى ولو طيفَ إنسانٍ، فأستريحَ لحظةً مما أعانيه ولا أعرف له سبباً؟ كُلُّ ما حولى مِحَالٌ، فالعتمة تلفُّنى بطبقات ظلامٍ بهيمٍ بعضُها فى قلب بعض، وفمى مكمَّمٌ بشريطٍ لاصقٍ لا يمكننى لمسه بأصابعى، وأطرافى مقيدةٌ بإحكامٍ يحول دون التحرُّك ويجعل التجوال حُلماً. لا هوانَ أنكَى مما يحوطنى منذ الأمس. ففى جوف ليلةٍ بهماءَ كالعماء الأول، أخذتنى هذه الطائرةُ العسكريةُ من سجن «قندهار» وحلَّقتْ إلى حيث لا أعرفُ، مع أَسْرَى لا أعرفهم، وحُرَّاسٍ عرفتُ قسوتهم من قبيح أفعالهم ومن صدق قوله تعالى: «وإذا بطشتم بطشتم جبَّارين».
فى ابتداء هذه الرحلة المريعة دسُّوا فى فمى قطعةً من زادٍ لدنٍ، كى تسدَّ البطن وتصدَّ الجوع. ومنعوا عنى وعن الجميع الماء، ليخفت نداءُ الطبيعة فلا نزعجهم باضطرارنا إلى التلبية. وبلا سببٍ مفهومٍ، وضعوا حول رأسى كيساً من قماشٍ أسود يردُّ النظر ويكتِّمُ الأنفاس، وحول جسمى لفُّوا سلاسل تقيِّدُ اليدين بالقدمين، وتشدُّنى بإحكامٍ إلى الحلقة المعدنية الناتئة من أرضية الطائرة. حتى القرود التى يُخشى انفلاتها، لا تقيَّدُ بمثل هذا الإحكام.
توهَّمتُ بسبب استحكام القيود أن الرحلة قصيرةٌ، وأن الحراس معذورون لأنهم مذعورون، وأن الإنسان لا ينحطُّ إلى ما تحت مرتبة الحيوان. فلما صدمتنى الحقائقُ أغمضتُ عينىَّ لأدفع عنى بالظلام الظلامَ، وهمستُ فى نفسى مواسياً لها بكلماتٍ من مثل: ما الأسْرُ إلا استيلاءٌ على جسمٍ سجين، ولكن لا سبيل لحبس الأرواح. والبشرى ما كانت يوماً للمستريحين الهانئين، وإنما للصابرين من المؤمنين. وسوف ينتهى قريباً ما أعانى منه، فما ابتدأ شىءٌ إلا صار له لا محالة آخر، مهما امتدَّ، إلا الأولَ والآخرَ سبحانه وتعالى.
ساعاتٌ طوالٌ مرَّت علىَّ مريرةً حتى حطَّتِ الطائرةُ بنا فى ناحيةٍ بعيدةٍ، فخمدتِ الأصواتُ من حولى حيناً عسيرَ الحسابِ والاحتمال، ثم هدرتِ المحركاتُ مجدداً وحلَّق السجنُ الطائرُ فأدركتُ أننا نبتعد عن بلاد الأفغان. بين الأرض والسماء لا أجد إلا الارتجاجَ، وزعقاتِ الحراس، ورائحةَ المأسورين التى تفوح حين ينزعون عن رأسى الكيس كى يُلقمونى الطعام اللَّدِنَ الذى لا طعم له.. انقضى منذ إقلاعنا الأول وقت لا يمكننى معرفة مقداره، فمن العسير حسابُ الوقت حين نُحجب عما يتحرك من حولنا، وحين نتألَّم، وحين نحدِّق بذهولٍ فى سراديب نفوسنا.
استطال السفرُ المريعُ وليس معى غير قُرآنى الجوَّالِ فى بئرى السحيقة، فلمَّا هجمتْ علىَّ الهواجسُ وتوالتْ علىَّ فى الظلمات ظنونٌ من تلك العادياتُ ضَبْحاً، فالنازعات غرقاً؛ تماسكتُ بقدر المستطاع واستمسكتُ بحبل القرآن، ورحتُ أتلو منه فى سِرِّى «سورة الرحمن» أحبَّ الآيات إلى قلبى وأقواها على دفع الوسواس. وفى القرآن سلوان. تيبَّستُ فى جلستى واستعدتُ سرّاً ما أحفظه عن ظهر قلب، فاشتبكت بباطنى دوَّاماتُ الآيات والأمنياتُ المشوبة بالمخاوف والتوقُّعاتُ المتشقِّقة بأسئلةٍ لا جواب لها: متى ينقضى هذا السفرُ وعذابُه المقيم «بسم الله الرحمن الرحيم» أتراهم يرحلون بنا إلى موضعٍ ناءٍ ليلقوا بنا فى حفرةٍ كالمهاد، ويردموا علينا بالتراب والجير فنصير نَسياً منسياً؟ «الرحمن عَلَّم القرآن خَلَق الإنسان» وخلق الله أيضاً غيرَ الإنسان من الجماد وجنود الأمريكان وسائر الحيوان. لكن القرآن كان موجوداً منذ الأزل ومعلوماً للأرواح وللملائكة، ثم خلق اللهُ الإنسان وسوَّاه، وأنساه ما سبق ليشقى فى الأرض ويذكر ربه، فيتذكَّر إن صحَّتْ بصيرته أن أرواح البشر جميعهم، جمعها اللهُ إليه قبل خلق الأجساد وأشهدهم على أنفسهم، فأعطوه الميثاق. كل الناس فى ذلك سواء. فما بال هؤلاء الجنود الغلاظ يعمهون فى ظلماتهم ويظلموننا ويتظالمون فيما بينهم، كأن ربهم خلقهم سُدى وكأنهم إليه لا يرجعون؟ ولماذا يا ربُّ جعلتَ معظم الناس مظلومين؟.. ليشتكوا إليك!
أتراهم يطيرون بنا الآن إلى قلب البحر المحيط، فيُطوِّحوا بنا من الأعالى ونحن مُصفَّدون، فنكون قوتاً للأسماك الكبار والحيتان؟ «علَّمه البيان» وأراه الأهوال. ولكنِ «الشمسُ والقمر بحُسبان» حقاً وصدقاً. ومهما احتجب عنا القمرُ والشمسُ ونورُ اليقين، فإن هذا الحسبانَ سارٍ فى الكون وذاك الحسابَ آتٍ، وفى النهاية سوف يرتاح المعذَّبون ويعلم الذين ظلموا أىَّ منقلبٍ ينقلبون.
لو تنقلب هذه الطائرة أو تنفجر بنا، فنصير فى الهواء هباءً منثوراً. ساعتَها سأعود إلى خالقى وأكون فى زمرة الفائزين بروضات الجنّات، ولسوف تُلقِى الزبانيةُ عندئذٍ بهؤلاء الجند وقوَّادهم فى قعر الجحيم، فتشرب من عظامهم شجرةُ الزقُّوم التى طلعُها كرؤوس الشياطين. هذا جزاؤهم بما تحجَّرتْ قلوبهم، واقترفت أياديهم.
هديرُ الطائرة عالٍ، لا يوصل لسمعى إلا أصداءً تملأنى فراغاً. وفى باطنى قلقٌ وأرقٌ، وإنهاكُ الصحو والوسن حين يختلطان «والنجم والشجر يسجدان».. لماذا ينسى الإنسان ضعفه وكدحه إلى ربه، فيطغى فى الميزان ولا يقيم العدل والقسط فى معظم الأحيان؟ هل هى أوهام التألُّه تخايله، تُخبِّله، فيظن أنه خالدٌ فى الأرض ولن يزول زمانُه؟ «كلُّ من عليها فان» نعم، مهما عظم المخلوق أو هان، فهو لا محالة إلى فناءٍ وانتهاء. فكأن كُلَّ ما كان ما كان «كلُّ من عليها فان» إلا جنة المظلومين وجحيم الظالمين، فهما خُلدانِ لا يفنيان. المظلومُ المأخوذُ والظالمُ الآخِذُ، سوف ينتهيان لا محالة عما يفعلان. ثم يبقيانِ فى النعيم أو الشقاء، حيث يُعذَّب ذاك الذى عتى واعتدى، ويُنعَّم آنذاك مَن عَانى وهَان.
فى الجنة سألقى أمى وأُلقى بكيانى المكدود فى حضنها العميم، وأجهشُ حيناً ثم أبوحُ لقلبها الرحيم ببعض الذى كان «فبأىِّ آلاء ربكما تكذِّبان» حاشا لله!. لن أكذِّب يوماً، ومهما عصرتنى نوازلُ المحن أو عصفت بى، سوف أراها من النعم والآلاء الظاهرة، أو الخفية. وأومن يا قيومُ، بأن هذا الهوان تطهيرٌ من هَناتِ الهفوات ومن الآثام الجسام «يسأله مَنْ فى السماوات والأرض» ومن بين الأرض والسماء أسألك يا جبار، أن تُرسل علينا الآن صاعقةً من تلك التى تصيب بها مَنْ تشاء، فتقبض إليك روحى خطفاً كلمحٍ بالبصر، وترفع عنى بلاء هذه الامتحانات الطاحنات. وتُبعد عنى هؤلاء العتاةَ العصاةَ وتُلقى بهم إلى قاع سَقَر، لوَّاحة البَشَر، التى لا تُبقى ولا تَذَر.
رأسى ثقيلٌ علىَّ، كأننى أوشك أن أنام.. أو أُغيَّبَ عنى بلا إرادةٍ منى. أو لعلنى أتهيّأ للممات.
مرَّت علىَّ ساعاتٌ كالأعوام العجاف، مريرةً، وبعدها جرى هَرَجٌ سمعته من خلف الحجاب وقد بلغ بى الإعياءُ مداه. أشعرُ بالطائرة توشك على الهبوط وتُهبط معها قلوب الراكبين، وعندئذٍ سكتتِ المحركاتُ وانطلقتِ الأنفاسُ التى كانت مكتَّمةً، وتداخلت أصواتُ الجنود وصلصلةُ السلاسل وهمهمةُ المتسلسلين. أبقيتُ عينىَّ فى ظلامى مغلقتَيْنِ، حتى نزع أحدُ الحراس عن رأسى الكيسَ الأسود ورجَّ دماغى بأصابعه القابضة على شعرى المنفوش، ثم تركنى حين فتحتُ عينىَّ فأيقنَ أننى لم أمت، ولم تأخذنى غيبوبةٌ كتلك التى أصابت بعض المقيَّدين من حولى.
ها هو النهارُ يقتحم ظلامنا بقوةٍ من النوافذ المرتفعة، وينفجر ضوءه المؤلم للعينين مع انفتاح بطن الطائرة وانحدار مؤخرتها المتحرِّكة إلى أرض مطارٍ لا يشبه المطارات. الحراسُ المسلحون قصُّوا عن أطرافى الأشرطة اللاصقة، وتركوا القطعة التى تُغلق فمى فتوهمتُ أنهم نسوها، لكنهم فعلوا مثل ذلك مع بقية المأسورين. أطلقوا السلاسل من الحلقة السفلية وراحوا يرفسوننا وهم يزعقون، ونحن مكمَّمون، لنقوم من قعودنا الذى استطال زمنه وطال ألمهُ.. لا أستطيع النهوض بسبب خَدَرِ أطرافى، وحَذَرَ السقوط، ولا اقتدر الباقون من حولى على القيام.
الجنودُ الأشداءُ شدُّونا من السلاسل وهم يتصاخبون، وبعد جهدٍ أوقفونا فى بطن الطائرة فصرنا مثل خُشُبٍ ليست مسنَّدةً، تتوق إلى الوقوع. القاماتُ تنوءُ بالقيود الواصلة بين المعاصم والأقدام، فتمنعنا من القيام التام وتجعلنا كأقواسٍ متتاليةٍ بعضُها بَعْدَ بعضٍ.. مضى وقتٌ مهينٌ قبل انتظامنا كصفٍّ موصولٍ من سلاسله، يُساق قسراً إلى خارج الطائرة. لو أستطيعُ فركتُ عينى بأصابعى لأتَّقى هجمة ضوء الضحى، لكن أحلام الصاغرين مستحيلاتٌ.. حائراً، أو نصف نائمٍ، رحتُ أنحدرُ إلى أرض المطار المعفَّرة المقفرة مع بقية المربوطين بى، كأننا قطعٌ من أسمالٍ بالية أو خِرَقٍ يمسكها خيطٌ يهترئ. من الأمام أتانا زعيقٌ كالنعيق، بل النهيق:
«انتبه، أنت الآن فى قبضة المارينز»
صاح بذلك جندىٌّ قبيحُ الأنفِ، أشقرُ، يقف من خلفه جندٌ كثيرون ضخامُ الأجسام كالبغال. كلهم مستنفرون بأسلحتهم كأنهم سيدخلون فوراً فى حربٍ ضروس، وكأننا الأعداء الأشداء. عقب صيحة الزاعق، سكن المتسلسلون وساد من حولى سكونُ القبور المنبوشة، بينما يصفِّر هواءٌ حارٌّ فى أذنى ويلفح وجهى. لوهلةٍ، بدا كلُّ ما حولى محض خيالٍ، فتمنيتُ أن ينقشع عنى ولا يطول. لكن الأمانى خادعات.
جاءت حافلةٌ مكشوفةُ السقف كتلك التى كان أبى ينقل فيها الخراف، لكنها أنظفُ قليلاً ومطليةٌ بلون الجيش المبقَّع. دفعونا إليها وهم يصرخون فينا متوعِّدين بالويلات وغاضبين بلا سبب، وأخذوا ينخسون ظهورنا حتى أصعدونا إلى الحافلة على لوحٍ معدنىٍّ مخرشفٍ، يناسب أقدامنا الحافية، وعلى ظهرها أجلسونا فى الهواء متقابلين. عددُنا يقارب العشرين مُهاناً.
هيئة المأسورين تُخبر بأنهم من الأفغان والعرب الأفغان، وبأنهم من أتعس البائسين. وجوههم يابسةٌ، وأسمالهم مهترئةٌ، وعيونهم المطفأةُ شاردةُ النظرات. راح أحدهم يحدق نحوى كالمخبولين ولا يحوِّل عنى عينيه الواسعتين المدهوشتين، وقد جمد وجهه الجاف المنفوش حوله شَعرٌ شَعِثٌ كثيف. ربما يستغربُ سُمرتى، أو هو مذهولٌ لا يرى، أو مشنوقٌ بغير حِبال. سوف أعرفُ بعد زمنٍ طويلٍ أن اسمه «مُحبُّ الحور». حوَّلتُ عنه ناظرىَّ، ورنوتُ إلى المدى الممتد بعدما دعكتُ عينى بحوافِ راحتىَّ، فرأيتُ بحراً قريباً ترسو على شاطئه مركبٌ كبير.
ليتَهم صبروا علينا قليلاً ولم يسرعوا بإعادة رؤوسنا إلى الأكياس السوداء، فقد كادت مقلتى تعتاد النظر فى الأنحاء وكفَّ قلبى عن الوجيب المتسارع، ولكن.. «هيا، هيا».. تصايح الجنودُ من حولنا بنبراتٍ مهتاجة، فتحرَّكتِ الحافلةُ ببطءِ الجنائز ثم تسارعت رويداً وتزايد بنا الاهتزازُ، فأدركتُ من دون يقين أننا نتجه ناحية البحر، وتنسَّمتُ العبقَ البعيد متنهِّداً. للبحر رائحةٌ تحرِّك الأرواح، وللقهر مقدرةٌ على هَدِّ أركان اليقين. ظهرى تملأه الأوجاع كأن فيه أشواكاً دِقاقاً، وكذلك ركبتاى، لكن روحى التحفتْ بالذكر الحكيم وحلَّقت مجدَّداً بأجنحة الآيات المواسيات:
«مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ» اللهم اجعل بينى وبين هؤلاء الظالمين برزخاً وسدَّا، وكُفّ أيديهم عنى وعن جميع المسلمين، فهم يا إله العالمين لا يرحمون. فارحم أنت يا رحمن، يا رحيم «كل يومٍ هو فى شأن» كن اليومَ يا ربُّ فى شأنى الضئيل، وأدركنى بنظرةٍ منك لا أبالى بعدها بأىِّ أمرٍ يصير، وارحمْ هؤلاء المساكين المصفَّدين معى، فهم عبادك المحزونون المحرومون والمحتاجون إليك.
الحافلةُ توقفت بعد طول إبطاءٍ وكشف جندىٌّ عن رؤوسنا اسوداد الأكياس كى نستطيع النزول، فوقفنا مثل موتى من قبورهم ينتشرون. هبطنا وهم من حولنا يضربون الظهور والرؤوس المنفوشة من غير سبب، مع أننا ننزل معهم تباعاً مستسلمين ونركب فى السفينة متسلسلين. ولما استوينا على ظهرها جالسين، جاء جندىٌّ طويلُ الأصابع غاضبُ النظرات ولفَّنى بالكيس الأسود وبالظلام الخانق، مجدّداً، فأعادنى إلى التجوال فى العتمة. مع الاهتزاز صرفتُ خواطرى عن البؤس بالاستغفار والابتهال: يا ربُّ، أدعوك بالكلمات المنجيات من بطن الحوت «ربِّ لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنتُ من الظالمين» وأبتهلُ إليك يا كريم كى تكشف الضُّرَّ وتزيح البلاء، ولا تسلِّط علينا مَنْ لا يخافك ولا يرحمنا.. ثم عدتُ إلى سورة الرحمن «سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ» نعم، نعم يا ربُّ، اُفرغْ لهم وأنت الجبار المنتقم. وانظرْ لنا، وأنت أرحم الراحمين «فَبِأَىِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ» أشهدك يا ربُّ بأننى من المصدِّقين الصابرين فى السرَّاء والضرَّاء، مهما كان الصبرُ مُراً مذاقه والبلاءُ عظيماً «فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ» هذا الموعدُ، هو..
«هيَّا تحرَّكوا يا حيوانات»
تصايح الجندُ مجدداً من حولنا، وعندما رست بنا السفينةُ بعد حينٍ لم يمتد عند شطٍّ ليس فيه إلا مرساها. إلى أين يذهبون بنا؟ الجنود البواسلُ استنهضونا بالرفسات كأنهم يحاربون وكشفوا رؤوسنا لنصعد إلى حافلةٍ محكمةِ الإغلاق، أخذتنا نحو أرضٍ جرداء لمحتها قبل تعتيم عينىَّ. هى بقعةٌ واسعةٌ فيها كتلةٌ كبيرة من أسلاكٍ شائكةٍ، تحوط أسلاكاً شائكةً فيها مبانٍ معدنيةٌ لم أتبيَّن هيئتها مع دفعات الجند المتعجِّلين، الزاعقين. الرحلةُ من مرسى السفينة إلى كتلة الأسلاك الشائكة لم تستغرق غير دقائق معدودات، وفور دخولهم بنا من البوابة أفرغونا فى موضعٍ خالٍ مسوَّرٍ بأسلاكه المشوَّكة، وأجلسونا فى صَفَّين ثم فكُّوا الوصلات بين أصفادنا، فتوهَّمتُ أنه سجنٌ مكشوفٌ أو معسكرٌ ناءٍ لجيشهم فى جهة مهجورةٍ من بلادهم، ورجوتُ أن يكون مكاناً أرحم من سجن قندهار المريع. حدَّثتُ نفسى لاستجلاب الأمل، وأسرفتُ فى التمنِّى: قد أجد هنا عقلاءَ منهم يسمعوننى، فأعرِّفهم بأننى برىءٌ مما يظنون أو يعرِّفوننى هم بما يتوهَّمون ويتَّهمون، فأدفع عنى التهم والشبهات وأردُّ هؤلاء العتاة عن عماهم، وأخلُصُ من ثِقَلِ هذا الكابوس.
البقعةُ الخالية التى عمرت بحضورنا، مسوَّرةٌ بطبقاتٍ متتاليةٍ من الأسلاك المشوَّكة، لكننى لمحتُ من فُرَج الأسوار أشجاراً بعيدةً أطرافُ رؤوسها الخضراء تطلُّ من فوق الرُّبى، فاعتبرتها بشرى ربانية يثبِّتُ الله بها قلبى الكئيب.. ما كدتُ أغمض جفنىَّ كى تغوص الشمسُ فى رأسى، وتؤنسنى، حتى شعرتُ بجوعٍ يتَّقدُ شرارُهُ رويداً حتى يحرق معدتى. تشاغلتُ عن جوعى والنعاس بالنظر إلى أقرانى القابعين على الأرض، مواسياً نفسى باختلاس اللمحات لاستكشاف ما حولى. الهواءُ هنا حارٌّ ثقيل، لكنه محتمل، الرحيمُ هو ضوء الشمس التى تخدِّر كتفىَّ بالدفء وبالرفق تلمس رأسى المتوَّج بالشَّعْر المنفوش، فتُشيع راحةَ الاستراحةِ بين زمانين كلاهما قاسٍ. السفرُ انتهى. وهذا سكونُ الظهيرة يهدِّئ الأنفاس، ويسحبنى نحو أُفقٍ لا شىء فيه. أتمنى لو أنام قليلاً..
«لا تلتفت، لا تتكلَّم، لا تتحرَّك». من خلفنا زعق حارسٌ مهووسٌ بهذه الكلمات الحاكمات اللاكمات، فطَنَّ صدى صوته فى أذنىَّ كأنه يأتينى من وادٍ بعيد، ودارت برأسى دواماتُ الأسئلة التى لا تنتهى، ثم تسارعت متتاليةً: متى ينتهون؟ أترانى سأنام بعد حينٍ على سرير؟ ألن يقدِّموا لنا أىَّ طعام؟ ما هذا الخبلُ المحيط؟ لماذا ذهبتُ إلى بلد الأهوال المسماة أفغانستان، وكان بإمكانى الرحيل عن بلاد الخليج لأسكن بمصر أو أبقى بين أسرتى فى السودان؟
سَكنتِ الأنحاءُ من حولى لحظةً أو صُمَّتْ أذنى عن الاستماع، ثم رأيتُ ضابطاً متأنِّق الهندام يأتى مزهواً بنفسه كذَكَر الإِوَزّ، تحجبُ عينَه نظَّارةٌ زرقاءُ ذات عدساتٍ عاكسةٍ كالمرايا. جاء من خلفنا يتبختر بخيلاءَ وحوله ثلاثةُ رجالٍ مختلفةٍ ملامحهم، فانتصبوا أمامنا بصرامةٍ كأنهم يؤدُّون دوراً مرسوماً لهم. أخذ المزهوُّ بنفسه يتلو علينا ما عنده، والثلاثةُ من حوله يترجمون كلماته الإنجليزية إلى العربية، وإلى البشتونية والأُردو اللتين يتحدَّث بهما الأفغانُ وأهل باكستان. قال المختالُ الفخورُ، ما ترجمته:
بالتأكيد، لست هنا لأرحِّب بكم، فأنتم لا تستحقون ذلك. جئتُ لأحذِّركم. أنتم تجسيدُ الشر. أنتم عدوٌّ محاربٌ لأمريكا. وقد استخدمتم ضدنا أحقر الوسائل، لكنكم الآن مهزومون، ومن حسن حظكم أنكم أحياء. وأنا أعرف أن لكم أدمغةً فاسدةً مريضة، مليئةً بالعنف والإرهاب، ولذلك أحذركم. لن يظل الحظُّ فى جانبكم إذا فكرتم فى أىِّ عصيان. العصيان جزاؤه الموت، والتفكير فى الهرب جزاؤه الموت، والتخريب جزاؤه الموت. وعندما يتعاون الواحد منكم مع المحققين، سوف يكون أمامه الفرصة لمحاكمة عادلة. ولكن اعلموا الآن أن الكلام بينكم ممنوع، والاعتراض ممنوع، وعدم طاعة الأوامر.. أنت يا حيوان.. أنت.. لماذا تنظر ناحية السور؟
انهال الحراسُ بالعصىِّ على المسكين الذى نظر ناحية السور، فأخذ يتقلَّى تحت مطر الضربات حتى تكوَّم حول أصفاده وهو يموء مثل قطةٍ وليدةٍ، لفظتها أحشاءُ أمها بناحيةٍ قاحلة. ظلّوا يزمجرون وهو يئنُّ، حتى أشار إليهم الضابطُ الإِوَزىُّ فأوقفوا بطش عِصِيِّهم، وأكمل هو تلاوة ما يحفظه: الكلام بينكم ممنوع، والاعتراض ممنوع، وعدم طاعة الأوامر عقوبته قاسية.. لا أسئلة، ولا..
تباعد عنى الصوتُ وأصداؤه وغُصتُ إلى أعماقى مستكملاً جَوَلانى بين آى القرآن، حتى مَرَّ وقتٌ لا حساب له. يا رب، متى ينتهون. رطوبةُ الهواء الساكن تُثقل صدرى، وحرارةُ المكان تجثم على الأنفاس فتستدعى السأم وتستجلب النعاس. فى جوف أذنى طنينٌ وجفناى يتباطآن، ورأسى كأنه حفنة رملٍ مبلول. لو أنام الآن متوسِّداً هذا التراب أو أُسلم الروح إلى ربى، سأرتاح. الصورُ فى عقلى تختلط، فلا أرانى قادراً على النظر أو الإنصات إلى ذكر الإوز المحذِّر من العصيان والهروب. ما هذه الكلمات؟ هروب!. من أين؟! وإلى أين؟ وكيف؟.. ما هذا المكان؟ هناك بحرٌ بعيد، وأحلام.. راحة.. نورا.. نيل..
انتبهتُ من غفوة الغياب على هياجٍ ممزوجٍ بشتائم كثيرة، وركلات. جنودٌ كثيرون يقتربون خلف واحدٍ منهم قاتمِ اللون، ضخمٍ. يشبه فرس النهر. جاء يضحك بفحشٍ وهو يرفع آلةً لامعة من تلك التى يستعملها الحلاقون، وبها مال على أول جالس بالصفِّ وجزَّ منه شعر الرأس واللحية والحاجبين. ترك من الشَّعر ما يرسم الصليب على رأس السجين، ثم انتقل بسرعة إلى التالى وأصحابه من حوله يضحكون، وبقية المقيَّدين ينظرون مشدوهين. الذين قاوموه بما تبقى فيهم من رمق، ضُربوا بقسوةٍ حتى استكانوا واستسلموا للعبث اللاهى بتشويه الهيئات. لم أقاوم. أخذنى الذهولُ عما يفعله المهووسُ برأسى ووجهى، وتفرَّقت خواطرى مع حلزونات شعرى المتدحرجة على الأرض، فكنتُ أتساقطُ معها وأتفصَّدُ. ويبعثرنى مثلها الهواءُ الحارُّ.
انتهى الحلاَّقُ اللاهى من المرح المقيت، وخرج سعيداً من حدود دائرة البؤس المؤطَّرة بكرات الشعر المنفوش، وفى قلبها يقبع المسجونون. هل نحن مسجونون أم نحن مأسورون فى حربٍ لم ندخلها، أم أعداءٌ مهزومون حسبما يزعمون؟.. أنا ما عاديتُ أحداً ولا حاربتُ يوماً، ولا اقترفتُ ما يستوجب الأسر. سوف يدرك هؤلاء الجهلاء قريباً أنهم مخطئون، وأننى لا أنتمى إلى هؤلاء الجالسين من حولى وحول أجسامهم السلاسل. وعندما يسألوننى، سوف أُصرُّ على السابق من أقوالى: لقد اختطفونى بطريق الخطأ من عند الحدود التى كانت تفصل بين باكستان وبلاد الأفغان، وكنتُ أقوم بتغطية الأحداث هناك. وسأضيف: ربما قمتُ عن غير عمدٍ بخطأ غير مقصود، فقد كنتُ جديداً فى المهنة وغريباً عن المكان، لكننى لستُ العدوَّ الذى يظنون.
تلفَّتُّ حولى وقد تهيَّأتُ للصياح بالإنجليزية معلناً أنى برىء، عسى عاقلٌ منهم أن يسمعنى، لكننى تريثتُ حين رأيت اثنين من الجنود مُقبلين بهمةٍ عالية وملامح صارمة، بيدِ أحدهما مقصٌّ كبير والآخر بيده رأس خرطوم يمتد من خلفه. جاء بعدهما مزيدٌ منهم، فصاروا قرابة عشرين، فيهم مجنداتٌ خليعات تكاد تنفتق أبدانهنَّ من داخل الأردية العسكرية. قصّوا عنا ملابسنا وأوقفونا عُراةً إلا من قيودنا، وفتحوا علينا خرطوم الماء الدافق فسقط جماعةٌ من المغسولين، وكدتُ أسقط مثلهم. راح البعضُ منا يتستَّرون وهم يجهشون من شدة الخزى وفُحش العُرى، فتضحك منهم المجندات والمجندون وهم يشيرون إلى أسافلنا قُبلاً ودُبراً. رأيتُ شناعةً كهذه من قبلُ فى قندهار، لكنَّ هذا أمعنُ فى الإذلال المهين وأنكَى لمنهكين لا يملكون إلا التساقط فى طين المهانة.
متى يتحرَّك الغضبُ الربانى فيبطش بالظالمين؟ الجنودُ تعبوا من عبثهم وتخافتت رويداً ضحكاتهم فعاودوا العبوس، بعدما صارت الأرضُ من حولنا كالعجين. بعد حينٍ أخذونا إلى بقعةٍ أجفَّ وفكّوا عنَّا القيود تباعاً، والتقطوا صوراً لنا ونحن عراة لا تسترنا إلا أيادينا، ثم ألبسونا رداءً من قطعةٍ واحدةٍ لها لونٌ برتقالىٌّ ناصعٌ، براق. كنتُ فى طفولتى أحبُّ هذا اللون، لكننى الآن لست بقادرٍ على الحب أو الحنين إلى الألوان. اللباسُ البائس ليس فيه فتحات من الأمام، فهو قطعةٌ واحدةٌ خشنةُ القماش تشبه الزِّىَّ الذى يلبسه العُمَّالُ فى المصانع، لكنها تُغلق بأزرارٍ تُحاذى سلسلة الظهر ليصعب على اللابس خلعها بيديه.
صَفُّونا مثل حبَّات البرتقال اليابس قرب الجدار المعدنى القريب، وقد صرنا كالعراجين المعوجَّة أو بؤساء المهرِّجين. نحن البؤسُ متجسِّداً. ليس فينا إلا عيونٌ غائرةٌ حائرةُ التلفُّتِ، تطلُّ من وجوهٍ نحيلةٍ حليقةِ اللِّحى والحواجب، وفوقها جبهاتٌ عليها علاماتٌ من أثر السجود، تعلوها رؤوس مرسوم عليها بالشَّعْر الصُّلبان، تحتها أبدانٌ هزيلةٌ تهتزُّ من رجفات البرد والعار. لا عارَ بعد هذا العار. نظرتُ فيمن حولى بعين مشدوهٍ، وغمرنى هوسٌ مفاجئ فوجدتنى أصيح فى الحراس المحيطين بصوتٍ كالصراخ، قائلاً لهم بلغتهم: ما هذا الجنون، أنتم مخطئون، أنا أعمل بالإعلام والصحافة.
ارتاعوا من فورتى المفاجئة، وضحك واحدٌ منهم وهو يكرِّر آخر كلماتى «برسّ» التى تعنى فى لغتهم «الإعلام والصحافة» بينما غضب زملاؤه وتطوع ثلاثةٌ منهم بإسكاتى بالسافعات دكّاً. سقطتُ على الأرض مع انهمار كعوب بنادقهم، وتكوَّمتُ متألماً متكسِّرَ الأركان كَسِيفَ الروح، ومنكسراً على نفسى. سوف يسمّوننى من يومها، على سبيل السخرية: «برسّ».
مع دخول المغرب أخذونا معصوبى الأعين إلى ناحيةٍ تبعد عن بِركة الطين أكثر من مائة خطوة، وهناك كشفوا عن أعيننا الغطاء وهم يزجُّون بنا تباعاً فى زنازين مكشوفة الأجناب، تشبه أقفاص الحيوانات التى بالحدائق المفتوحة. فى قفصٍ منها، فكَّ الحارسُ قيودى من خلف باب الزنزانة المغلق، وقبل أن يفارقنى مع بقية الحراس والمحروسين أخبرنى باسمى الرسمى وهويتى الجديدة: أنت رقم ستَّة سبعة ستَّة.
لم أتبيَّن شكل المكان إلا فجراً، فقد أخذنى نومٌ كالممات فلم أشعر بشىء طيلة ليلتى. أين أنا؟ صدمنى السؤالُ حين أفقتُ فوجدتنى أسكنُ قفصاً مسيَّجاً لا تحوطه إلا قوائمُ القضبان، وألواحٌ معدنيةٌ مكسوَّةٌ بطبقة من طلاءٍ قديم، يعلوها الصدأ. كان لونها ذات يومٍ أخضر. البرودةُ تحوطنى، تتخلَّل كتفىَّ وقدمىَّ العاريتين وتُرعشنى، وعيناى زائغتان، لا يمكننى الرؤية عبر جوانب الزنزانة لكن الباب فيه القضبان الكاشفة، ويمكننى أن أرى من خلالها.. تزحَّفتُ مستطلعاً بوجلٍ، فرأيتُ جندياً من الحراس يجلس قبالة زنزانتى صامتاً، ويحدِّق نحوى بغيظٍ وهو يمسك سلاحه بكثيرٍ من الترقب والحذر. منظره فى غبش الفجر غريب. غاظه أننى أُمسك بقضبان باب الزنزانة فقام إلىَّ ونهرنى، وشتم بألفاظ المشرَّدين فى شوارعهم. عدتُ بسرعةٍ إلى الزاوية الأبعد، وقبعتُ مثل كومةٍ من أوراق الشجر الجاف. بجانبى دلوٌ فارغٌ أدركتُ بعد برهة أنه لقضاء الحاجة، لكنه بغير غطاء. لا ماءَ هنا للوضوء. تيمَّمتُ مع علمى بعدم جواز التيمُّم فى الحضَر، لكنه حُكم المضطر، وقمتُ مكبِّراً بصوتٍ خفيضٍ لأداء الصلاة الحاضرة والفائتة: الله أكبر، الله أكبر..
«اسكتْ يا ابن الخنزيرة». زجرنى الجندىُّ الجالسُ قُبالةَ زنزانتى دون أن يقوم من مكانه، فتغافلتُ عنه وأدَّيتُ الفرض همساً، وفى خاطرى المعنى الذى كُنَّا نكرِّره ونحن صغار: الذى يسبُّك بأُمِّك، يشتم أُمَّه هو فهو لا يعرف أمَّك، لكنه يعرف أُمَّه.
الصلاةُ أدفأتْ قلبى وسكبتْ عليه السلوان، فأطلتُ فيها وقضيتُ ما فاتنى فى سفرى الذى قدَّرتُ أنه امتدَّ يومين، ثم صلَّيتُ ركعاتٍ نوافل حتى أتانى مع نور النهار حارسٌ شاب يحمل مخلاة فيها عبوَّات مياهٍ صغيرةٌ دفع لى واحدةً من بين القضبان، وقال آمراً «اشربْ» فشربتُ. طلب منى العبوة الفارغة ولما مددتها أخذها بحذرٍ، ورمى إلىَّ بغيرها وقال: «اشربْ» فشربت. فعل ذلك مراتٍ حتى استغربتُ الأمر وقلتُ له بعد العبوة الخامسة إننى لا أريد المزيد، فقال مندهشاً: عجيب، أنت تتحدث الإنجليزية! فعرفتُ أنه لم يحضر بالأمس حفلة احتفائهم بقدومنا.
رحل الحارسُ من أمام الباب بعدما نظر نحوى بكثيرٍ من الاحتقار المشوب بالإشفاق، وجاء بعده حارسٌ آخر طويلُ الأنفِ ضيقُ العينين يحمل لفائف لامعة فيها شطائرُ خبزٍ طرىٍّ كالعجين، بداخلها لحمٌ بارد. ألقى ناحيتى واحدةً وقال: «كُل»، فقلتُ: «بسم الله». بعد أول قضمةٍ، ضحك وهو يقول لى مُتشفِّياً: هذا لحمُ خنزير. فقلتُ مجدداً: «بسم الله» وأكملتُ القضم والمضغ على هونٍ، بينما الحارسُ يرقبنى باهتمام. بعد انتهائى طلب منى الورقَ اللامع الشفاف الذى كان يلفُّ الشطائر، ولما ألقيته إليه التقطه بأطراف أصابعه وهو يشمئزُّ، كأننى مجذومٌ يُخشى من انتقال عدواه. أمر الله. توهمتُ أنه سيعطينى المزيد من الطعام مثلما فعل حامل الماء، لكنه انزوى عن باب زنزانتى وهو يهزُّ رأسه متعجباً من شهيَّتى.. عدتُ إلى آخر زنزانتى، متزحِّفاً، وتمنيتُ أن أصرف الخاطر عن الحاضر باستجلاب بعض الذكريات السعيدة، عساها أن تُبدِّد هذه الوحشة. لكننى فشلتُ. ومتى كنتُ سعيداً! لعلها الأيام المعدودات التى كانت بالإسكندرية، وليلة دخلت على «مهيرة» فى بخارى، وسويعات الصيد بالصنارة من بحيرة النوبة المنبسطة خلف السدِّ بجنوب أسوان. لا شىء أكثر، وما عدتُ الآن أقدرُ على استعادة تلك اللحظات البعيدة، مستحيلة التكرار.
سَكَنَتِ الأجواءُ من حولى وشعرتُ ببرد البواكير يغزو عظامى، فانتظرتُ أن يعاودنى النومُ الشبيه بالإغماء. لمستُ رأسى متحسِّساً الصليب المرسوم بشعرى فسالتْ فى الخفاء من عينى دموعٌ ما استطعتُ حبسها، وتكوَّرتُ فى جلستى حتى أتانى من باطنى دفءٌ ودوارٌ دافعٌ إلى النعاس، فتمدَّدتُ على قطعة المطَّاط الملقاة فوق الأرضية المعدنية، وأسخنتُ صدرى بضمِّ ذراعىَّ إليه وركبتىَّ.. كأننى نمتُ.
مع شمس الظهيرة اشتمل الأنحاءَ الحرُّ فجذبنى من هدأة الوسن، لكننى بقيتُ متكوِّماً بموضعى حتى عبر حارسان يوزِّعان الطعام منزوع الطعم، وعبوَّات الماء. شربتُ كثيراً وأكلتُ وحمدتُ الرزَّاق، ثم أدَّيتُ صلاةَ الظهر غير واثقٍ من دقة المواقيت وجلستُ فى زاوية الزنزانة أُراودُ نفسى المتحيِّرة لتهدأ، عساها أن تتعقل وتتقبَّل الأمور. استعدتُ فى سرِّى الآيات المادحة للصابرين، وطمأنتُ نفسى بأن الأزمة إذا اشتدَّتْ فهذا يؤذنُ بانفراجها القريب، ولا ييأس من رَوْح الله ورحمته إلا القوم الكافرون، والعياذ بالله.
لم أَرَ فى الغد التالى، غير ما جرى بالأمس السابق. سكونٌ تامٌّ يحيط. لا صوت يُسمع إلا حين يمرُّ الحراسُ على عجلٍ بالطعام والماء، ليحفظونا أحياءً لغايةٍ فى نفوسهم. لو تركونا نموتُ جوعاً لجعلونا فى زُمرة الشهداء، ولكن هيهات.. من دون أى اختلافٍ مرَّتْ علىَّ أيامٌ ثقالٌ بطيئةُ الخطو، وما عاد الحراسُ المارون بى يتكلمون معى أو يتمهَّلون كى أكلِّمهم، حتى الحارس الذى جلس قبالة زنزانتى فى ليلتى الأولى، لم يعد من يومها إلى موضعه. لا بد أنهم الآن يراجعون أوراقهم وسوف يكتشفون قريباً أن الذى جلبنى جَانَبَ الصواب، فيطلقوننى. سأعود إلى «الدوحة» لأصطحب زوجتى المسكينة «مُهيرة» المحصورة هناك، وأسحب مالى المدخَّر فى البنك. وسوف أطالب أصحاب المحطة التليفزيونية براتبى خلال شهور اعتقالى، فهم الذين ألقونى فى الأتون المشتعل من دون إعدادٍ ولا استعداد. لن أطلب منهم غير حَقّى، ولن أعمل بعدها معهم. سأرحل عن بلاد الخليج مع أول طائرةٍ. سأفرُّ من قَدَر الله إلى قَدَر الله، فأستقر مع «مهيرة» فى «أمِّ درمان» حيناً حتى أتوسَّل السبل للاستقرار بمصر. سأُقيم فى أسوان؟ لا، لن أعمل فى السياحة والإرشاد. لا أحبُّ أن أرى الأجانب مجدَّداً، يكفينى ما رأيته منهم. سأعيش قرب البحر فى الإسكندرية، فعندى من المال ما يسمح بشراء شقةٍ صغيرةٍ، ودكَّانِ بقالةٍ من النوع الذى يسمونه هناك «سوبر ماركت» مهما كان الدُّكَّان صغيراً. لن أجعل له اسماً أعجمياً. سأضع على اللافتة كلمةً عربيةً فصيحةً واضحة، مثل «بقالة الأمانة» وأبيع للناس ما يحتاجون بأقل ربحٍ وبأمانة، فيعمر المحلُّ بالزبائن ويبارك الرزَّاق فى الربح القليل. أهل الإسكندرية لا يكرهون الغرباء، لكنهم لا يحبون الكلمات القديمة. كانوا يسموننى اسماً طريفاً، وسوف أسمِّى به الدكَّان «سوبر ماركت سمارة» هذا سيكون مقبولاً عندهم أكثر. سأمضى الساعات جالساً فى صفوٍ أتطلع لوجوه زبائنى، وأبادلهم لطيف العبارات. هل سيحتاج الأمر تصريحاً بالعمل والإقامة؟ لا، لن يطلبوا منى ذلك، لأنه سيكون عندى بيتٌ هناك ودكانٌ، وربما أتزوَّج الإسكندرانية..
- «برسّ»، تعالَ يا حيوان، ستذهب للتحقيق.
صلصل الحارسُ بالسلاسل وهو يصيحُ بذلك مبتسماً من دون سبب، وبجانبيه انتصب جنديان عابسان. قمتُ إليه ومددت يدىَّ من الفتحة الصغيرة التى بوسط باب القضبان فقيَّد منى المعصمين، ومن الفتحة التحتانية قيَّد قدمىَّ، ثم وصل بين القيدين بسلسلةٍ تضطرنى إلى الانحناء قليلاً للأمام. بعدما اطمأن إلى إحكام قيودى وأنا محبوسٌ بقفصى، فتح بابى وأنا أتلو فى سرِّى «سورة ياسين» لاستجلاب الفرج القريب. عند نزولى الدرج على مهلٍ حَذَرَ الوقوع، صار الحراسُ الثلاثة مستنفرين كأننى جيشٌ قد يهجم عليهم. كان بيدِ أحدهم كيسُ القماش الأسود المعدّ لرأسى، ولما وقفتُ فى وسطهم منحنياً كاد يحجب به عينىَّ، لولا قال له زميله الضخم باستخفاف: دعه يَرَ زملاء الجهاد.
ليته حَجَبَنى فرحمنى مما رأيتُ. الزنازينُ أقفاصٌ مبعثرةٌ على جانبىْ شارعٍ عريضٍ متعرِّج، وقد قصدوا ألا ترى واحدةٌ منها الأخرى بأن تركوا أرضاً جرداءَ لتباعد ما بينها، وجعلوا أبوابها غير متقابلة حتى تطل وتفتح على جهاتٍ متخالفة. من جهة اليمين لم أرَ ساكن الزنزانة الأقرب، وبعد خطوات رأيتُ فى الجهة اليسرى زنزانةً صغيرةً مفردة، فيها سجينٌ عارٍ مقيَّدٌ بسلاسل تشدُّه إلى صندوقٍ حديدى كى ينكفئ فوقه، فيصير ظهره المنحنى مواجهاً لشارع الزنازين، ولمن يدخل عليه. أبهتنى بؤسُ منظره وأسال استسلامه دمعى، فوقفتُ لحظةً أحدِّق فيه بينما الحراسُ الثلاثة من حولى يتضاحكون، وهم يكرِّرون الكلمة الفاحشة الجارية دوماً على ألسنتهم «نكاح» وهى التى ينطقونها هنا «فَكْ» ويكرِّرونها فى كلامهم كأنهم يتلذَّذون بترديدها كل حين. أرادوا إيلامى بإعلامى أنهم يفعلون الفاحشة فى الرجل، وأننى لستُ بمنأى عما يقترفون، فهطلتْ من عينى دموعُ الآلام وانعدام القدرة.
مروا بى فى هواءٍ حارٍّ من أمام زنزانةٍ كبيرةٍ، فيها خمسة مسجونين على رؤوسهم الصُّلبان المرسومة، مثلى. لمحت بينهم الرجل المشدوه الذى حَدَّق نحوى على ظهر السفينة، فوجدته على حاله مشدوهاً. الأسلاكُ الشائكة كثيفة الإحاطة بالمكان الغريب ذى الرائحة المنتنة، الخليق بسكنى المفترس من الحيوان. أمرُ الله. مستسلماً سرتُ وسط العُتاة، والضخمُ منهم يتسلَّى بصفع قفاىَ كل حين ويضحك، فأبكى. ثم، لم أدرِ بما جرى. كأن صفعةً بخشبةٍ أو حديدةٍ جاءتنى من الخلف، فأسقطتنى على وجهى وصُدِمتْ بالأرض جبهتى.. غبتُ ولما استفقتُ متألماً، وجدتنى فى الزنزانة مطروحاً كالقماش القديم على الأرضية المعدنية، بلا سلاسل، وظلامُ الليل يلفُّ الأنحاء.
نظرتُ حولى بعينٍ حائرة. يدور حول الزنازين ضوءٌ كشَّافٌ يأتى من مكان عالٍ، وبالأحرى مكانين، لأن الأضواء تتقاطع فى بعض المواضع وتركب فوق بعضها البعض، وتهجم بغتةً على باب زنزانتى. نظرتُ إلىَّ بعينٍ حائرة. ماذا جرى معى عند خروجهم بى ساعةَ العَصْرِ؟ ما الذى أصابنى. أكان ضربةً لم أحتملها، أم إغماءً مفاجئاً دهمنى، أم انهياراً جرفنى من فرط الهول؟
متزحِّفاً وصلت قرب الباب مثقل الرأس بالألم وبالأسئلة التى بلا إجابات، فلم أجد فى الأنحاء المحيطة إلا الصمت والظلام والأضواء الدوَّارة والهواء الثقيل. تحسَّستُ مؤخرة رأسى فلمستُ نتوءاً يُؤلم، فعرفتُ إجابة واحدٍ من أسئلتى وظلت البقية تدور داخل دماغى كحجر الرَّحى. الرَّحى. تذكرتُ أمى أيام طفولتى، حين كانت تفترش الأرض وتدشُّ الحبوب بالرحاية، لتأكلها الأفراخ الصغار المتقافزة فى حوش البيت من حولها، ومن حولنا، وتذكرتُ نظرةَ الأسى الساكنة فى عين أبى وجلساتِ صمته الطويل عند بوابة البيت، ونحن من أمامه نلعبُ بغفلات الطفولة. وتذكرتُ كلمةً قالها الشيخ «نقطة الأكبرى» فى أول مرة زرت فيها مجلسه، ليلةَ مسَّ رأسى بأطراف أصابعه وراح يتمتم بكلماتٍ مُبهماتٍ تملأ القلب راحةً، ثم قال بوضوحٍ كأنه يخاطب شخصاً آخر بداخلى: المريدُ يجد فى القرآن ما يريد.
صدق الشيخُ، بالقرآن يستغنى الإنسان عما سوى الله. وإذا حضر الله فى قلب الإنسان، أنساه ما سواه، حتى طعامه والشراب وسائر الحاجات. صرتُ منذ ذاك اليوم كلما اشتدَّ بى الجوعُ وهَصَر معدتى، أتلو فى سرِّى الآيات فأنسى ما أنا فيه من طلب الجسم للغذاء، وأذهلُ عما أعانيه.. غير أن أرواحنا تطلب أموراً أدقَّ، وأرهف مما يحتاجه البدن من محسوسات، وتسمو بنا دوماً إلى آفاقٍ أرحب. الروحُ سماويةٌ. تفرح بالعروج إلى سقف الخيال مهما كان البدنُ كسيحاً حبيساً، وقد تبتهج بالجوع أيام الصيام، وقد تأسى للذكريات مع أن الجسم مرتاحٌ فتؤلم، وقد تؤرِّقنا حين تحيرنا بالأسئلة: ما الذى أتى بنا إلى هنا؟ وما سرُّ هذا الاختبار الربانى المرير؟ ولماذا خلق الله الإنسان «مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ» ثم أبعده عنه، وجعله يسعى إليه وأخبره بمنتهاه «يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ» فلأىِّ سببٍ كان النأىُ أصلاً؟ وما غايةُ الله من البشر؟ هل «ليعبدون» فيعرفون الكنز المخفى فى نفوسهم، ويبقى الله هو الغنىُّ عن العالمين وعن عبادتهم المستغنى عنها. الملائكةُ تنبأتْ يوم الخلق الأول بأن الناس سيفسدون فى الأرض، ويسفكون الدماء، فدفعهم القولُ الإلهى الذى لا مردَّ له: «إنى أعلم ما لا تعلمون».
من أين أتى الملائكة بعلم ما سوف يفعله الإنسانُ، وهم يجهلون أصلاً أسماء المساوئ، وقد أقرُّوا لربهم وقالوا: «لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا» ثم انصاعوا للأمر الربانى فسجدوا للإنسان. فهل كان سجودهم لآدم، أم لعموم البشر من أمثالنا؟ وكيف استقوى «إبليس» واستأمن من بطش الله، وعصاه، واستهدفنا بسهام الغواية. ولما حذَّره الرحمنُ من العصيان، قال متبجِّحاً، بلا اتقاءٍ: «فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ».
يا رحمن يا رحيم. بحقِّ هذا الصبح الذى يتنفَّس لا تكلنى إلى نفسى فأضلَّ فى مفاوز قرآنك الكريم، وهبْ لى الفهم وعلِّمنى التأويل. وارزقنى الرسوخ فى العلم حتى أقول مع القائلين «آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا»، «رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا» وهَبْ لى من لدنك رحمةً أحتملُ بها عذاب هذا السجن المكين، وأصبرُ بمشيئتك على صلف الأمريكيين الذين لا يعرفون لهم إلهاً، إلا الهوى والضلال المبين.
«يا حيوان، ألا تزال حياً، خذ الماء والطعام». هل جاء هذا الحارسُ يتسحَّبُ حتى فوجئتُ به، أم غاب وقع خطواته عن أسماعى لاستغراقى فيما يدورُ بباطنى ويُدير كالرحى رأسى؟ لا أعرف. نظر الحارسُ إلىَّ بخيلاء المقتدرين وألقى عبوات الماء واللفافة المعتادة، وانتظر حتى أفرغَ وأسلِّمه الفوارغ، فرأيتُ الفرصة سانحةً لسؤاله عما جرى معى بالأمس. قال باقتضاب إنه أُغمى علىَّ، من ضربة شمسٍ.
- ضربةُ الشمس لا تسبِّب هذا الورم بمؤخرة رأسى.
- لا تجادلنى، اشربْ بسرعة.
- لماذا أنت غاضب؟
- لماذا! لأننى خسرتُ عشرة دولارات، فبالأمس حين رأيناك تنتفض ويخرج من فمك الزَّبَدُ، تراهنَّا على أنك ستموت خلال الليل.
لم أجد ما أمدُّ به خيط الكلام، فالتزمتُ الصمت حتى انصرف الحارسُ. لو كان الأمر بيدى لجعلتُ هذا السفيه يكسب رهانه البائس، لكن الأمور جميعها بيدِ الله. سألته من بين القضبان بعدما ابتعد عنى بخطوتين، عما كانوا سيفعلون بجُثتى لو كان قد جاء فوجدنى ميتاً؟ فقال وهو يغيب عن نظرى، بلسانٍ ساخرٍ: لا تقلق على جثتك، كنا سندفنك تحت هذه الزنزانة، وبذلك لن يعرف أحدٌ أنك جئت أصلاً إلى «جُوَّنتنامو».
الكلمةُ الأخيرةُ التى تفوَّه بها الحارسُ، كان وقعُها على أذنى عجيباً، ومريعاً. لماذا يسمُّون سجنهم بهذا الاسم الغريب؟ جُوَّنتنامو. لا تبدو الكلمة إنجليزيةً ولا يُعقل أن تكون فرنسية، مع أن لها وقعاً فرنسياً، ربما، لو كانت عربية فهى تجمع بين الجوَّانية والنوم، وكلاهما قريبٌ من معنى السكون والموت. ليكن هذا الاسم حسبما يكون، فلا فرق! فالأسماء كلها صارت عندى سواءً، والمعانى.
بقيتُ جالساً قرب الباب مثل تمثالٍ قديم، حتى صَدمتْ باطنى الآيةُ: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ» فانتبهتُ إلى سهوى عن صلاة الصبح وقد اقترب الظهر. لا ماء هنا للوضوء ولا تراب يصحُّ به التيمُّم. مثلما فعلتُ من قبل، خبطتُ كفىَّ على الأرضية المعدنية كأن فيها رمالاً طاهرة، ومسحت على وجهى وعلى الذراعين حتى المرفقين ثم صلَّيتُ جالساً، لأنه لا مقدرة لى على قيامٍ أو سجودٍ وركوع. كُلُّ ما فىَّ يؤلمنى. لكن اللهُ رحيم، وهو تعالى يحبُّ أن تؤتى رُخصه كما يُحب أن تُجتنبَ نواهيه. انتهيتُ، ثم تلوتُ فى سرِّى أدعية ختام الصلاة، وفوق بساط الملل نمت على ظهرى كمومياءَ تالفةٍ ملقاةٍ فى العراء.
الأيام التالية مرَّتْ متشابهاتٍ، كشأنِ أوقات الموتى الذين لا ينتظرون بعثهم ولا يصدِّقون به.. وصارت روحى والساعاتُ خاوية، ليس فيها إلا النومُ المتواصلُ والرؤى المشوَّشة فى نهارى، وفى ليلى الطويل الأرقُ الدائمُ وهجومُ الأضواء الكاشفة. فى أىِّ يومٍ صرنا، وأىُّ شهرٍ هذا؟ الحراسُ لا يتحدَّثون معى ولا يتمهَّلون للإجابة عن أسئلتى. أراهم لثوانٍ فينكسر سكون الساعات الطوال، والنهار الصامت، والليل الكتوم. ما عاد فى ليلى ونهارى ما يلوِّن الأيام. لماذا يلقون بى فى غَيابة هذا الجب السحيق؟ هل يريدون أن يجتاحنى الهوسُ الذى يكون حين نتلمس خفايا نفوسنا، ويستعينوا علينا بحُرقة الوحدة وخطر الانفراد. مَنْ قال إنى وحيدٌ منفرد! أليس الله بكافٍ عبده، ألم يقل «وهو معكم أينما كنتم».. الله معى، ومعى قرآنه المحفوظ فى صدرى وفى اللوح المحفوظ، وليس أمامى إلا استجلاب الأنس بتلاوة الآيات، وبالصلوات، حتى وإن لم يصحَّ الوضوء.
لكن الحراس بعد زمنٍ مديدٍ صاروا يتكلمون معى أحياناً، فعرفتُ أن أغلبهم من المجندين الجدد، ومن المهووسين بالأوهام. ولما استطال الكلام معهم مع مرور الأيام، عرفتُ منهم بعد شهور أشياءَ كثيرة، منها أنهم قالوا إن هذا السجن المسمَّى «جُوَّنتنامو» هو واحدٌ من معتقلاتٍ عسكريةٍ، تُسمَّى المواقع أو الحفر السوداء، وهى لا تقع داخل حدود أمريكا ومعظمها مجهولٌ لا يعرف عنه الناسُ شيئاً. لكن هذا المعتقل الذى نتعذَّب الآن فيه، سمع به أناسٌ كثيرون داخل أمريكا لأنه قريبٌ منها، ولا يفصله عنها غيرُ بحر. هو مكانٌ مُستأجر من كوبا منذ عشرات السنين والكوبيون لا يحبون وجود الأمريكيين فيه، ويكرهون جنودهم كراهيةَ الأتقياء للموبقات، لكنهم لا يستطيعون طردهم فيصبرون عليهم على مضضٍ، حتى ينتهى عقد الإيجار الذى مدته مائة عامٍ. لم يبق منها اليوم الكثير. وهؤلاء الجنودُ والحراسُ الذين يملأون المكان، يبالغون فى إهانتنا لأنهم مأمورون وآمنون من اللوم والملاحقة القضائية، لوجودهم خارج بلادهم. وهم ينتظرون انهيارنا آملين فى اعترافنا بأمورٍ خطيرة يتوهَّمونها، منها أن رعاة الماعز من مسلمى أفغانستان هم الذين قاموا بتفجيرات عام 2001 المروِّعة التى أسقطت الأبراج والهيبة، وانخلع لها قلبُ الناس داخل أمريكا، وفى العالم كله.
والسَّجَّانون هنا يحرصون على إبقائنا أحياءً ليحصلوا على تلك الاعترافات التى يتمنَّون، وهم لا يدركون أن معظم المحبوسين ليس عندهم أصلاً ما يعترفون به، ويجعلوننا نشرب مياهاً كثيرة لظنِّهم أن ذلك يقى أجسامنا من الأمراض الوبائية، التى يخشون انتقال عدواها إليهم إذا أصابتنا. وعرفتُ منهم أن المأسور هنا، ليس له أىُّ أملٍ فى خروجٍ أو هروبٍ أو رحمة. لكننى لم أيأسْ من روح الله.
الأيامُ والأسابيع توالت علىَّ ساكنةً كئيبةً، حتى توقَّفتُ عن عَدِّها وعن الاعتداد بأىِّ شىء، بل صرتُ اللاشىء. كأن الكون كفَّ عن الدوران من حولى، وصار يدور بباطنى. أنامُ طويلاً وأصحو على أضغاث الأحلام والدَّوَار الذى ينتظرنى ليدفعنى إلى نومٍ جديد، وما عاد يستحق الانتباه إلا نوادر الأحداث مثل الجلبة التى سمعتها ذات يومٍ آتيةً من الناحية اليمنى، ومن جهتها جاء إلى باب زنزانتى مجندٌ ضخم من القطع المعتاد هنا. جاء يضحك ببلاهةٍ وهو يحمل فى يده مصحفاً ممزقاً، وبعدما وقف ينظر إلىَّ بعينين تتراقصان فَرَحاً وخبَلاً، قال: «يا ستَّة سبعة ستَّة، هذا كتابكم المقدس». ومزَّق منه أوراقاً رماها على الأرض ودهسها بحذائه وهو يضحك ويرمقنى بزاوية عينيه الضيقتين، منتظراً ما سيكون منى. لم أُحرِّك ساكناً، واكتفيتُ بالنظر تجاهه مثلما يجب النظر تجاه أىِّ مخبول، فاقترب بحذر من باب الزنزانة وقال وهو يرفع الكتاب ويهزُّ عوده كالنساء المائعات: «هذا قرآن».. وبحمقٍ قبيح ألقى المصحف على الأرض، بعدما مزَّق ورقةً منه وبالغ فى تقطيعها نتفاً وهو يقهقه كحمارٍ ينهق، ثم طوَّح فى الهواء بالقطع الورقية الممزقة.
قلَّبت فى الهواء كفِّى، بهدوءٍ، وبلا اهتياجٍ كان يتوقَّعه اللاهى ويريده. فانصرف من أمامى خاسئاً وخلفه زملاؤه الذين قال لهم وهو يشير إلىَّ بإصبعه، ويهزُّ رأسه: هذا مجنون تماماً، مجنون تماماً.. بعد قليلٍ، سمعتُ تكبيراتٍ أتت عاليةً كالصراخ من الناحية اليسرى فاقتربتُ من الباب، ولكن لم يظهر لى إلا الشجرةُ العجفاءُ الموضوعةُ قبالة باب زنزانتى.. هذه الشجرة تبدو وسط الزنازين، كأنها مشهدٌ فى فيلم مُضجرٍ فى النهار ومرعبٍ فى الليل. لماذا يُرعب الأمريكيون الناس بأفلامهم البائسة؟
ما عدتُ أترقَّبُ استدعائى للتحقيق مجدَّداً، فالانتظار استطال حتى توهَّمتُ أنهم نسونى هنا. شغلتُ فراغى بالذِّكر وبالصلوات المهموسة، ودفعتُ عن عقلى الجنون بالدوران بين معانى الآيات التى أحفظها على ترتيب ورودها فى المصحف. كنتُ كثيراً ما أرتجفُ مع توالى التلاوة لآياتٍ مُزلزلاتٍ من مثل «إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثَّاً» ثم أستبشر إذ تنفسح الجنة أمام عباد الرحمن «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» فأدعو مرتجفاً: اللهم لا تبعدنى عنك يوم العرض العظيم، واجعلنى فى زمرة المستريحين فى مراتع الجنة «عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ» واعفُ عنى بحق قولك فى سورة الحديد: «مَنْ ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضَاً حَسَنَاً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» وقولك بعدها: «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ» آنَ يا ربَّ العالمين، آنَ، الآن.
فى يومٍ غائمٍ شديدِ البرد، توهَّمتُ أنه من أيام الشتاء، تمطَّى الفجرُ متثاقلاً حتى امتدَّ غَبشُهُ ومطره الكثيف إلى وقت الضحى. توهمتُ أننى وحيدٌ فى هذا الكون، وأن كل ما أظن أننى أراه هو مجرد خيالٍ. أوانَ الظهر سمعتُ أطيط الطين وحشرجة الحصى تحت أحذية حراسٍ. جاءنى ثلاثةٌ منهم عابسون، صفَّدونى بالسلاسل وهم يتحاشون الاقتراب منى وأخذونى من الزنزانة إلى غرفة التحقيق من دون إهانتى بحجبٍ أو ضرب، لم أرَ فى طريقى ذلك السجين الذى كان من قبلُ مقيداً وهو عارٍ. كانت زنزانته خاوية. رأيتُ زنازين عامرة بالمعتقلين تتناثر على الجانبين، ليست كلها مفردة كزنزانتى. معظمها أقفاصٌ كبيرة تحبس ثلاثة مسجونين أو أربعة، ومنها ضيقةٌ لسجينٍ واحد. لماذا حبسونى منفرداً؟
راح السجناء عند مرورى أمام أقفاصهم، يكبِّرون، ليشجِّعونى. وعندما مررت من أمام القفص الكبير المحبوس فيه خمسة مسجونين، هتفوا لى وكبَّروا، كأننى مجاهدٌ يخرج فى سبيل الله. ابتهجتُ، ثم انتبهتُ إلى أننى لستُ مجاهداً، وأن هذه ليستْ سُبُلَ الله. فى غرفة التحقيق الواسعة، معدنية السقف والجوانب، أجلسونى على المقعد الحديدى وشدُّوا إليه قيودى والبردُ يُرعش أطرافى. قبل ابتداء التحقيق لكزونى من خلفى بكعوب بنادقهم من دون سبب، كأنهم يلعبون، وربما أعجبهم اللعب فتمادوا. نتف أحدهم بعضاً من شعر الصليب المرسوم على رأسى فصرختُ، فضربونى وهم يضحكون ويسخرون ويشتمون، ثم تركونى فى الغرفة منفرداً أرتجفُ وينتفض كتفاى من ألم البرودة المنهمرة من مكيف الهواء الكبير. عرفتُ لاحقاً أنهم فى التحقيقات يتعمَّدون تبريد الهواء لرفع المعاناة على السجين، أو لسببٍ آخر أخفَى فى نفوسهم وأخبث.
طال انتظارى وسط السكون، فقدَّرتُ أنهم يراقبوننى من حيث لا أرى، وقلت فى سرى مهما جرى فلن أضعف أو أنهار، وسأصبر على تلك الألاعيب كلها حتى أرى ما يكون فى النهاية. بعد ساعة صمتٍ باردٍ دخل المحقِّقان ومن خلفهما بعض المجندين الأشداء، فقلَّتْ برودةُ المكان بعضَ الشىء. المحقِّقُ الأشقر سألنى ب«الإنجليزية» إن كان الأسهل علىَّ الكلام ب«الإنجليزية» أم ب«العربية»؟ استغربتُ غباءَ السؤال وقلتُ باقتضاب «العربية». المحقِّقُ الآخر ذو الملامح الهندية تحرَّك على كرسيه مستوفزاً، وسألنى بلهجة مصرية صريحة: انتَ عارفْ رقمك؟.. فسألته: انتَ مصرى!
- جاوب على قَدّ السؤال، وبس، عارف رقمك؟
- ستَّة سبعة ستَّة.
- تمام كده، قُل لى بقى يا شاطر، انت إيه حكايتك؟
حكيتُ له أهمَّ الوقائع منذ خروجى من الخليج إلى أفغانستان لتغطية أحداث الحرب، واحتجازى بطريق الخطأ عند الحدود مع باكستان، وكيف سُجنت بطريق الخطأ فى قندهار مع أناسٍ لا أعرفهم فقضيتُ أسابيع عصيبةً لا أعرف عِدَّتها، بعدها نقلونى إلى هنا وحبسونى كحيوانٍ مفترسٍ ونسونى. قاطعنى المحققُ الأشقرُ، فاكتشفتُ أنه يعرف «العربية»، بأن قال ما ترجمته: نحن نعلم ذلك كله، قُل لنا ما يفيد وتعاونْ معنا لنختصر الطريق، ويكون أمامك فرصة المحاكمة العادلة أمام المحاكم الأمريكية، هل قابلت أسامة بن لادن؟.. سألنى عن ذلك بصوتٍ زاعقٍ، كأنه يريد أن يرجَّنى كى تتساقط منى الإجابات، فلم أكترث وقلتُ بهدوءٍ كاظماً غيظى:
- سألونى عن ذلك منذ شهور فى سجن قندهار، وأجبتُ.
- لا مشكلة، أجبْ من جديد.
- قابلته بالصدفة مرةً واحدةً منذ سنوات بعيدة فى السودان، أيام كان يعظ الناس ويرعى المساكين والفقراء.
- هل قابلته فى أفغانستان أو باكستان؟
- لا، وأنا لم أقضِ هناك إلا أياماً قليلة.
- ومَنِ الذين قابلتهم خلال تلك الأيام القليلة، مِنْ مساعدى «بن لادن» وأعضاء حركة طالبان؟
- لم أقابل منهم أحداً.
- أنت تكذب، قُلْ ما تُخفيه واعترف بما تعرفه.
- لا أخفى أىَّ شىء، ولا أعرف أىَّ شىء.
أعاد المحققُ الأشقر ظهره إلى قائم كرسيه كأنه قد أُنهك، ونظر إلى زميله المصرى شبيه الهنود، وهو يهزُّ رأسه ويمطُّ شفته السفلى كالمتأسِّف. أطال المصرىُّ النظر فى عينىَّ، لإفزاعى، ثم قال إننى إذا لم أعترف الآن بكل شىء، فسوف يأخذوننى إلى سجنٍ مصرىٍّ اسمه «العقرب» فيه من العذاب ما لا يخطر على البال. لم أرد عليه بشىء لكننى اضطربتُ من نظرته القاسية المتوعِّدة، فنظرتُ إلى الأرض وقررتُ التزام الصمت التام حتى يجعل الله لى مخرجاً. قام المحقِّقُ الأشقرُ فأتى نحوى يحمل كرسيّه البلاستيكى الخفيف، ووضعه قبالتى وجلس فى مواجهتى ليسألنى بنبرةٍ أهدأ، وأمكر:
- أخبرنى، هل أنت متديِّن؟
- نعم، الحمد لله.
- فلماذا أكلت الشطائر التى فيها لحم الخنزير؟
- للضرورة.
- ماذا تقصد، أليس هذا اللحم محرَّماً عندكم وعند اليهود؟
- لا شأن لى باليهود، هو فى ديننا محرَّمٌ حين يتاح طعامٌ غيره، وعند الضرورات تُباح المحظورات.
- فهمتُ، أوكِّى. هل وجدت طعمه طيباً؟
- لم أجد له أىَّ طعم.
قام عنى المحقِّقُ وقد تقوَّس كتفاه، فصارت له هيئة الضِّباع حين لا تجد طعاماً. دار حولى دورتين والكلُّ صامتٌ يترقَّب، ثم عاد إلى جلسته السابقة وسألنى كالمتهكِّم عن السبب فى عدم انفعالى، عندما مزَّق أحدهم المصحف أمامى. التزمتُ الصمت. أعاد السؤال بألفاظٍ أخرى أسهل، وأضاف أنه يصرُّ على معرفة وجهة نظرى، فقلت إنه لا توجد أىُّ وجهة نظر! فهذا الحارس سفيهٌ، وهو لا يفهم أن القرآن المقدَّس ليس صفحاتٍ فى كتاب، وإنما هو كلام الله المحفوظ فى صدورنا وفى اللوح المحفوظ، وقد قال الله إنه كتابٌ مكنونٌ لا يمسُّه إلا المطهرون، وهذا الحارس غير طاهر وغير عاقل، ولو مزَّق ألف مصحف مطبوع فلن ينمحى القرآن، لأن الله يحفظه، وقد أكرمنى فحفظته كاملاً.
لا أعرفُ سبباً لإفاضتى فى الكلام، ربما راق لى أن المحقِّق الأمريكى لم يفهم معظم كلامى وبدا مغتاظاً كمن تسعى على جسده أسراب النمل الفارسى. ثم بدا كالذى لدغته عقربٌ عابرة، فقد حملق فىَّ بعينين تجحظانِ واستشاط حقده والتهب وهو يقول ما ترجمته: ماذا، تحفظه كله، لماذا؟ فأجبتُ باقتضاب: لينير لى ظلمات القبر بعد الموت.
- كيف، هل هو طاقة كهربائية؟
- لا تشغل بالك، فلن تفهم ذلك.
وددتُ لو أزيد، فأُفهمه أن القرآن يضىء قلبى فى ظلمات الحبس الظالم، ولولا آياته لكنتُ جُننت، لكننى أحجمتُ عن ذلك وصرفتُ خاطرى بعيداً عن المحقِّق الحانق حين تذكَّرت قوله تعالى: «وجعلنا على قلوبهم أكنَّةً أن يفقهوه» وقوله جلَّ وعلا «وأعرض عن الجاهلين» فآثرتُ التزام الصمت مجدَّداً. لكن المحقق أَصَرَّ على إظهار حُمقه وإعلان جهله بقوله وهو يتذاكى على طريقة الأمريكيين: حسناً، يعنى لو أعطيتك الآن قرآناً، هل تمزِّقه؟
أجبته من فورى ب«العربية»: «حاشا لله» فلم يفهم واستفهم، فقلتُ له ب«الإنجليزية» إننى لن أفعل شناعةً كهذه، وإنما سأحتفظ بالمصحف للتبرُّك به. دَعَكَ الرجل ذقنه الدقيق بأصابعه اليابسة، وهزَّ رأسه كأنه يسمع كلاماً عجيباً، ثم عاد بظهره إلى ظهر كرسيه كمن يرتاح بعد جهد جهيد! كان المحقق المصرى يبتسم ابتسامةً غير معلنةٍ، فتشجَّعتُ وسألته باللهجة المصرية عن السبب فى أنهم يحبسوننى وحدى، ولا يضعوننى فى زنزانةٍ مع آخرين. فقال ب«العامية»: يعنى، هُمَّ شايفين إنك خطير شوية، ومختلف.
ساد صمتٌ يدل على انتهاء التحقيق، وقام المحقِّق الأحمق ليخرج غير راضٍ من الغرفة، ولحق به المحققُ المصرىُّ والمجندون فصرتُ وحدى من جديدٍ فى الغرفة الباردة، ورجع إلىَّ ألمُ العظام.. ما هذا السكون؟ هل عادوا لمراقبتى من وراء ستار؟ ما الذى يتوقَّعون أن يروه؟ نجِّنى منهم يا ربَّ العالمين. الصمتُ تامٌّ من حولى، إلا من حفيف ريشة المكيِّف التى لا تكفُّ عن الحركة وضخِّ الصقيع، وآلام ظهرى اجتمعتْ معها وخزاتُ الجوع والرغبة فى النوم المواسى.. أين ذهب هؤلاء؟ مَرَّ وقتٌ طويل وأنا متخشبٌ على الكرسى، وليس حولى إلا هذا الفراغ. كأننى منسىٌّ هنا، أو أنهم بى يلعبون. سأصبر وأسبِّح فى سرِّى حتى يحينَ الحين: يا فتاح، افتح لنا بالخير. يا وَهَّاب، هَبْ لى من لدنك رحمة. رَبِّ لا إله إلا أنت سبحانك، إنى كنتُ من الظالمين..
اندفع الباب ودخل المجندون مجدداً وراء محقِّقٍ جديدٍ يرتدى حُلَّةً أنيقةً سوداء، ومن ياقة قميصه الأبيض تتدلى ربطةُ عنقٍ فاقعة الأحمرار كاللهيب. قال بسرعةٍ إنه ضابطٌ إنجليزى منتدبٌ مؤقتاً للعمل مع المخابرات الأمريكية فى حربها ضد الإرهاب، وإنه يريد مساعدتى لأنه يحب المسلمين ويقرأ كثيراً عن الإسلام، ثم شرع بعد تمهيداته هذه فى إجراء التحقيق. قلتُ له قبل أن يتم السؤال الأول: إننى لن أجيب عن أىِّ شىء حتى أعرف أولاً ما هى تهمتى، وما هذا المكان المريع، وما الذى يريده منى الأمريكيون؟ فقال بهدوء: «حسناً، أنت بالنسبة لهم عدوٌّ محارب، وقد صرتَ أسير الحرب ضد الإرهاب، والمطلوب منك هو الاعتراف بما لديك من معلومات».ثم سألنى فجأة إن كنت أكره الأمريكيين؟ فقلتُ من فورى: إننى أكره هذا الظلم الذى يفعلونه بى، من دون سببٍ مفهوم.
- هل تراهم مخطئين؟
- نعم. مخطئون فى حقى، وهم مغرورون بأنفسهم لكنهم فى الواقع تافهون ولا يعرفون شيئاً..
رفع المحققُ حاجبيه كالمندهش ورسم على وجهه ابتسامةً مُستخِفَّةً، وبعدما تأملنى ملياً بعينين تلمعان بالمكر قال واثقاً بلهجته البريطانية الفخمة، ما ترجمته: لا أظن أن أحداً قد أخطأ فى حقك، فنحن نعلم عنك الكثير. على سبيل المثال، أنت رفضت التعاون معنا من دون إبداء سبب، ثم تعاونت مع الجماعات الإسلامية الإرهابية، وكنتَ تقوم بتوصيل الأموال لتمويل العمليات الانتحارية فى وسط آسيا، وبالتحديد فى جمهورية أوزبكستان، وكان اسمك الحركى آنذاك «أبوبلال المصرى» وتزوَّجت امرأة من المجاهدات وأخذتها معك من بخارى إلى دول الخليج، وكنت تقوم بتحويل بعض الأموال من الخليج إلى السودان، ثم عدت إلى وسط آسيا بحجة العمل الإعلامى، ودخلت أفغانستان ساعياً لمقابلة أسامة بن لادن والاتصال بجماعة طالبان، وكنت..
«هذا الكلام غير صحيح». صرختُ بذلك مقاطعاً تخريف المحقِّق، فارتاع وكفَّ كلامه. طنَّ فى الغرفة الباردة صمتٌ ثقيلٌ، ولما رأيتُ فى غمرة اليأس أننى هالكٌ لا محالة، اندفعتُ قائلاً للمحقِّق ما فحواه أن كلامه كله غير دقيق. فالله يعلم أننى لم أتعاون معهم ولا مع غيرهم، ودفعات المال التى أوصلتها إلى بخارى كانت لإنشاء مصنع حلمتُ بأن أكون مديراً له، والاسم الذى يظنونه حركياً ليس إلا دعابة لاطَفَنى بها رجلٌ طيب من «الأوزبك» عندما رفعتُ الأذان للصلاة، وأعجبه صوتى. وزوجتى المسكينة هى بنتٌ يتيمةٌ، لا تجاهد إلا فى مطبخ بيتها. وأنا لم أفكِّر يوماً فى مقابلة أسامة بن لادن، ولا أردتُ يوماً لقاء جماعة طالبان الذين يقتلون مخالفيهم، ويدمِّرون الآثار القديمة بدعوى الدفاع عن الدين وإقامة شرع الله.
بدا المحقِّقُ البريطانى مرحِّباً باندفاعى، فقد راح يهزُّ رأسه وهو يُنصت باهتمامٍ، كأنه يستدرجنى للإفاضة. لكننى رأيتُ فيما قلته كفايةً فتوقفتُ، خشيةَ أن أُفضى بما يأخذونه حُجَّةً علىَّ. ساد الصمتُ فما عاد يُسمع بالغرفة إلا وجيبُ قلبى المضطرب، وفحيحُ مكيِّف الهواء الذى بلغ بردُه مداه. بداخلى سكونٌ لا سكينة فيه، وقلقٌ، وترقُّبٌ لضربةٍ مباغتة قد تأتينى فجأةً من خلف.
- هل تريد إضافة أىِّ شىء؟
- لا، قلتُ كُلَّ شىء.
هزَّ المحقِّق رأسه مرتين وقام عن كرسيه وهو يقول إننا سوف نُكمل التحقيق لاحقاً، لكننى لم أرَه بعدها. بعد خروجه رفعنى الجنود بغيظٍ من تحت إبطىَّ ودفعونى للخروج أمامهم، فمشيتُ على هونٍ حتى انسحب من ساقى الخدرُ فاستطعتُ السير بخُطى اليائسين. لحظة خروجى من الباب، لمحتُ فى الناحية اليمنى عمالاً يشبهون الهنود، كلهم قصارٌ وسُمْرُ الوجوه، ينهمكون فى بناء عنبرٍ طويل له من خارجه هيئة المصانع، لكنه من داخله يحوى الزنازين الحديثة التى سأسميها لاحقاً «جُحور الرحمة» وفيها سأعرف المرأة الفريدة التى اسمها «سارَّة».
كانت شمس اليوم قد آذنت بالمغيب وازداد البردُ مع تسارع الهواء ومع شدَّة الإنهاك بدا لى طريقُ الرجوع إلى الزنزانة طويلاً، ومُهيناً. لكننى ما كدتُ أدخلُ إلى شارع الأقفاص المعلَّقة على قوائمها النحيلة، حتى بدأ المحبوسون فى التكبير والتهليل لتشجيعى، أو لتذكيرى بأننى واحدٌ منهم. قبالة الزنزانة الكبيرة المسكونة بالأسرى الخمسة، ارتفع التكبيرُ فاضطرب الحراسُ الثلاثة المحيطون بى، ومن بين صيحات «الله أكبر» سمعتُ أسيراً يسألنى بصوتٍ كالصراخ، خليجيةٍ لهجته: ما اسمك يا أخا الإسلام؟ فرددتُ من فورى، بلا خوفٍ أو تدبير سابق، وقلتُ زاعقاً: «أبوبلال».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.