ظلت مصر منارة الأدب والثقافة بمختلف ضروبها منذ أزمان بعيدة قصدها طلاب المعرفة والباحثون عن الشهرة للانطلاق عبر بوابتها المشرعة لكل مبدع، فهناك العشرات من الأسماء عرفت وذاع صيتها منها حتى اختلطت على العامة جنسياتهم الأصلية، فتراهم يحملون كل تفاصيل المجتمع المصرى، ويعود الفضل لأن تصبح مصر قبلتهم لبعض الشخصيات التى أثرت جانب الفن والأدب على مر الحقب قدموا أعمالا رصينة وخالدة لا يتسع المقام لذكرهم جميعًا. ولكنى أتوقف عند الأديب العالمى الكبير ابن مصر الأصيل نجيب محفوظ موسوعة الأدب الروائى الذى بهر العالم العربى بكتاباته التى صور بها المجتمع المصرى بكل تفاصيل حياته اليومية متنقلا بين أريافه وحضره بحكايات مثيرة، فبعينيه رأينا المرأة المصرية البسيطة بقسماتها الطيبة ورأينا المتعلمة المثقفة والجميلة الآسرة للألباب والمعلمة الشديدة المسيطرة، كما رأينا السياسيين والفتوات والبسطاء وأصحاب القصور والنفوذ والمقاهى ومرتاديها، رأيناهم أطفالا وشبابا وشيبًا وتابعنا حكاياتهم وكأنها حقيقة ماثلة أمام أعيننا، فهو قد برع فى تجسيد الواقعية مما أغرى بعض المنتجين بتحويل أغلب رواياته لأعمال فنية وجدت جماهيرية واسعة؛ وقام بتمثيلها عمالقة من نجوم الفن مما أتاح لها مزيدًا من الانتشار. فى كل مساء تعودت على مطالعة الجديد فى عالم التواصل الاجتماعى لمعرفة ما يدور من مستجدات، وعملا بتلك العادة اليومية لفت نظرى فيديو يتضمن احتفائية لذكرى الكاتب الكبير نجيب محفوظ، فكانت الوقفة وكان الخيط الذى بدأ بسحب ذكريات بنكهة معتقة وصور متزاحمة تتقافز حول بعضها البعض؛ لم أجرؤ على كبحها ولن أستطيع إذا ما حاولت، فالذكريات دائمًا عاصفة تأخد أمامها كل لحظات أنانية إلا بضع شعيرات تثبت العقل عن التوهان وتنير له بصيصًا للعودة، وهنا أنا أتحدث عن نفسى وعن ذكرياتى التى صاغ الراحل المقيم جزءًا منها منذ بدأت أقرأ رواياته يومها كنت أمسك الكتاب ولا أتركه إلا عندما يداهمنى النوم، وقبل أن أستسلم له أضعه فى أقرب مكان وليس أقرب من الوسادة وقد أتصور لحظة بأن أبطال الرواية سيواصلون الأحداث وأننى قد أستيقظ فأجد الأحداث قد سبقتنى فأعتزم أمرًا أن أسبقها أنا، ولكن تأتى هنا ميزة متفردة للكاتب الكبير محفوظ إذ يصعب التكهن بنهاياته لتعدد الشخصيات داخل رواياته، فيمكن لشخصيتين ألا يتقابلا حتى تنتهى القصة وهذا قد يخالف توقعات القارئ بالإضافة لتعدد الأمكنة..والأمكنة بالذات هى ما أسرتنى واقتادتنى اقتيادًا لقراءة كل ما سمحت لى به الظروف، فمن خلال الصفحات كنت أرى مصر بكل تفاصيلها، كنت أتمنى أن يتحول هذا التجوال الخيالى ليصبح واقعًا وأنعم بارتياد تلك المواقع؛ ألتمس فيها أنفاس أبطاله داخل إحدى الحارات التى سطرتها أحرفه بكل تفاصيلها وأركانها الصغيرة، كنت أبحث عنهم فى (حديث الصباح والمساء) وأحسب إننى قد وجدت ما كان يصفه بدقة عندما زرت القاهرة الجديدة ولم أسمع ولم أر إلا ما أرانى إياه وقتها، فاذا كانت القاهرة قد احتفظت بمبان لأكثر من ثمانمائة عام كيف لا تحتفظ بمعلم ولو بسيط ضم بطلًا من أبطال رواية من رواياته. فى الحقيقة لن أدعى بأننى أعرف موعد السنوية التى تقام احتفاءً به وفاء وعرفانا لما قدمه من عناوين عكست تاريخ وجغرافية وطن، ولكن ما أوكده بأنه دائمًا حاضر، ما ذكرت مصر إلا حضرت ذكراه فهو معلم من معالمها لا يقل عن الهرم وهذا الرأى يشاركنى فيه كثيرون، فمدرسة نجيب محفوظ قد خرجت الكثير من النابغين، وأمتعت فمن لم يقرأ كتبه شاهدها فيلمًا سينمائيًا أو مسلسلا تلفزيونيًا. وكنوع من أنواع التفاعل أذكر أن محلا تجاريًا فى قلب الخرطوم كان يحمل اسم (السكرية) وكان هناك موقف للمواصلات بالقرب منه حمل نفس الاسم ولاقى من الشهرة ما جعل منه معلمًا يوصف به وملتقى (انتظرنى جنب السكرية). رحم الله الكاتب الكبير نجيب محفوظ فقد أسعدنا طويلا وكان إنتاجه الأدبى الغزير مرجعية ومدرسة لكل مرتادى سكة الأدب القصصى.