تتبعنا فى الأسبوعين الماضيين العلاقة التى تربط جميع الجماعات التى أصابها فيروس تحقيق وهْم اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة أو الخلافة وأن أغلب هذه الجماعات الفاشية تغلف منهجها التدميرى بخطاب دينى لإخفاء جنونها. نعثر على الآفة نفسها، سواء فى جماعة «أوم» فى اليابان أو جماعة الإخوان الإرهابية وما بينهما جماعات كُثُر على مدار التاريخ ومساحة العالم، وقد يصل التدمير إلى أقصى مدَى عندما يمتلك الجنون القوة، كما حدث باستيلاء الفاشيست على الحُكم فى ألمانيا وإيطاليا ليسقط 50 مليون قتيل فى الحرب العالمية الثانية. شهوة التدمير لا يوجد فارق فى شهوة التدمير والاقتناع بوهم المدينة الفاضلة بين هتلر والبنا وقطب وأساهارو والقس جونز، الفارق الوحيد فى تغليف الخطاب، فالزعيم النازى غلف جنونه بخطاب عِرقى أمّا الآخرون فغلفوا جنونهم بخطاب دينى. يظهر أمرُ آخر فى طبيعة استخدام هذه الجماعات وتحديدًا جماعة الإخوان الفاشية، وهو الاستخدام من العدو الخارجى من أجل تدمير الدولة وصُنع الفوضى لأن الدولة تمثل العقل فى مواجهة جنون وأوهام اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة أو الخلافة. الأيديولوجيا واليوتوبيا شرحَ المفكر الفرنسى بول ريكور فى كتابه «الأيديولوجيا واليوتوبيا» حَجم هذا التناقض بين الدولة كعقل منظم لحركة الأمة واليوتوبيا كفكرة وهمية مجنونة تحاول هدم النظام المستقر فى المجتمع البشرى وتتبناها هذه الجماعات. عندما نتتبع هذا الجنون وتاريخه الدموى يظهر أمامنا فارق آخر جوهرى ارتبط بالجماعة الفاشية وأذنابها من المتسلفة والجماعات التكفيرية فأغلب الجماعات الأخرى وصولاً إلى سادة الجنون هتلر وموسيلينى يُعتبرون طفرة شاذة فى مجتمعاتهم سرعان ما يتم حصارها والقضاء عليها فيصعب عليها العودة والعمل فى مجتمعاتها. تأتى الجماعة الفاشية وأذنابها لتظهر الفارق الجوهرى الذى يتمثل فى استطاعة الفاشيست الإخوان وأذنابهم الاستمرار فى الخداع وجذب المزيد من المخدوعين إلى دوائرهم مقتنعين بوهْم المدينة الفاضلة أو الخلافة وِفْق مصطلح الفاشيست الإخوان. يعطى الاستخدام من العدو الخارجى للجماعة الفاشية من أجل محاربة الدولة المصرية إشارة قوية تكشف قدرة الدعم الخارجى للجماعة الفاشية وأذنابها على الاستمرار فى الخداع وجذب المخدوعين، فعندما تنهار الجماعة الفاشية ويتم كشف جنونها يسرع الدعم الخارجى بمد يد المساعدة للفاشيست من أجل مواصلة دورهم التدميرى. إذا أرجعنا قدرة الفاشيست الإخوان وأذنابهم على الاستمرار فى الخداع إلى العامل الخارجى فقط فنحن هنا قد خدعنا أنفسنا بالإجابة السهلة والمريحة لأذهاننا، لكن الحقيقة رُغْمَ وجود الدعم الخارجى التى يجب مواجهة أنفسنا بها أن الفاشيست الإخوان وأذنابهم يستمدون استمرارية قدرتهم على الخداع من داخل المجتمع ذاته الذى استسلم إلى خطاب اجتماعى مزيف وليس دينيّا عكس ما يتصور الجميع. الخطاب السطحى للجماعة الفاشيست كشفنا سابقًا أن الخطاب الذى تستخدمه الجماعة الفاشية مغلف بطبقة سطحية من المصطلحات شبه الدينية لإخفاء خطابها المجنون حول وهْم المدينة الفاضلة أو الخلافة، ولكن هذا الخطاب المزيف لم يهبط علينا بل صنعناه بأنفسنا وساعدت الجماعة الفاشية فى تعظيمه لتستمد منه قدرتها على الاستمرارية. يتأكد لنا زيف هذا الخطاب من الناحية الدينية لأنه يتعارض كلية مع المصدر الرئيسى للدين الإسلامى الحنيف، وهو القرآن الكريم. عندما نبدأ فى تفكيك هذا الخطاب الاجتماعى المزيف نجده يروّج إلى نظرة استعلائية ومُغرقًا فى ماض تم تصنيعه من أوهام ليثبت الوهم الأكبر المسمى بالمدينة الفاضلة أو الخلافة. ساهم المنظرون الدمويون للجماعة الفاشية من أمثال البنا وقطب وتبعهم المتسلفة فى غزل هذا الخطاب على مدار سنوات، ورُغْمَ تعارضه الكامل مع الدين الحنيف فإنهم استطاعوا إضفاء قدسية عليه حتى لا يقترب أحد منه ولا يسعى إلى كشفه ثم هدمه. برع الفاشيست فى إلباس خطابهم المزيف لباس القدسية بطريقتين، أولاهما استخدام الاسم الدينى، ويظهر هذا فى اسم الجماعة الفاشية نفسه، فهى ألصقت نفسها بالدين الإسلامى واعتبرت نفسها ادعاءً أنها جماعة المسلمين والمتحدثة بلسانهم. الإسلام هو الحل نجد أيضًا استخدامها للشعارات المحملة بالاسم الدينى، فشعارها الشهير «الإسلام هو الحل» هو شعار فارغ من المضمون ولكنه بالغ فى التأثير الدعائى ويلبس دعايتها الفاشية قدسية مصنوعة. الطريقة الثانية التى تستخدمها الجماعة الفاشية لإلباس القدسية إلى خطابها المزيف هى تصنيع ماض أسطورى يروى تاريخ مدينتهم الفاضلة أو خلافتهم الموعودة وتلصقه بالدين كما طريقة الاسم وتبدأ فى ترويجه. هذا الماضى الأسطورى يتكون من حكى وروايات موضوعة تتم صياغتها بدقة لأجل تثبيت رؤية واحدة أن هذا الماضى الأسطورى كان مدينة فاضلة سادها العدل والإنصاف والرحمة والازدهار فى كل شىء. السرد والتحليل التاريخى للماضى المرتبط بالحضارة العربية والإسلامية ينزع هذا الغطاء الأسطورى ويعيده إلى الواقع البشرى والإنسانى الطبيعى الذى يحوى الإنجازات والتجاوزات. استطاع الفاشيست الإخوان وأتباعهم من المتسلفة غير إلباس خطابهم المزيف لباس القدسية إعطاءه السيادة فى المجتمع لتتم أكبر عملية تزوير فى تاريخ الأمم ليصبح الخطاب المزيف هو الخطاب الحقيقى والخطاب العقلانى هو الخطاب العدو الذى يسعى أصحابه لتدمير المجتمع. حققت عملية التزوير تلك غرضها بسبب دعم سياسى مباشر داخلى وخارجى خلال الأربعة العقود الماضية، وهذا الدعم شرحه يطول وقد أشرنا إليه فى موضوعات سابقة. سمم هذا الخطاب المزيف كل خلية فى عقل المجتمع وجعله أسير وهْم مدينة فاضلة اسمها الخلافة، وبلغ الإفك مداه فى هذا الخطاب عندما أقنع المتلقين بأن هذه المدينة الوهمية كانت متحققة ولكننا أضعناها بسبب ذنوبنا ولا عودة لها إلا بسبيلين، أولهما أن يتولى أمر قيادة المجتمع الفاشيست الإخوان، وثانيهما تدمير الدولة التى تقف حائط صد أمام تحقيق المدينة الفاضلة أو خلافتهم المزعومة. أمدت القدسية المصنعة للخطاب المزيف فعل التدمير هو الآخر بقدسية مماثلة فتحوّل الإجرام والعنف إلى جهاد فى سبيل تحقيق وهْم المدينة الفاضلة أو الخلافة المزعومة. لم يكتف الفاشيست الإخوان بسيادة خطابهم المزيف بل صدروا أخطرما فيه وهو الماضى الأسطورى كنسخة مستقبلية يجب علينا تحقيقها حتى ننعم بالمجتمع المثالى بعد تدمير النسخة الفاسدة أو المجتمع الحالى الذى نعيشه. عند نقطة التصدير تلك نستطيع أن نفهم لماذا استمرت قدرة الفاشيست على الخداع وجذب المخدوعين لأن الخطاب المزيف فى مرحلة تصديره المستقبلية يعمل على ما هو قادم، وهذا أمر مستمر ودائم. الخلافة المزعومة نجح للأسف الخطاب المزيف فى الوصول للتعامل اليومى وابتكار آلية الديمومة، فيكفينا فقط الاستماع إلى خطب الجمع فى الكثير من المساجد أو بعض شيوخ الفضائيات ستجد هذا الخطاب المزيف مندسّا بخبث ويشحن عقل المجتمع بوهْم المدينة الفاضلة أو الخلافة المزعومة ويضغط بشراسة من أجل تحقيق غرضه الجنونى فى الإيحاء بأن العائق أمام تحقيق وهْم المدينة الفاضلة هو وجود الدولة ترديد الخطاب المزيف على لسان الكثيرين يأتى بحُسن نية دون أن يدروا أنهم ينشرون عدوَى فيروس الجنون المسمى بالمدينة الفاضلة أو الخلافة المزعومة. بعيدًا عن حُسن النية أو سوء النية فما يهمنا هو تفكيك هذا الخطاب المزيف وإزالته من المشهد المجتمعى بنزع القدسية عنه وتجريده من السيادة حتى يفقد الفاشيست قدرتهم على الاستمرار فى الخداع وجذب المزيد من المخدوعين. لن تتحقق هذه الإزالة المرجوّة إلا بتغليب الخطاب العقلانى والمكوّن من ثقافة مبتكرة فى منتجها وإعلام ذكى ونشط فى اشتباكه اليومى مع هذا الخطاب المزيف ويصلان إلى جميع طبقات المجتمع فى سرعة وقوة، وهو أمر أصبح واجبًا على الدولة، ليس من أجل حماية وجودها فقط بل الهدف الأهم هو شفاء شرائح من المجتمع أصابها فيروس الجنون المسمى بالمدينة الفاضلة أو الخلافة المزعومة. •