أمنية عادل ظواهر غريبة شهدها التاريخ الإنسانى على مر العصور تحمل بين طياتها غرائز حيوانية ورغبات مريضة تمحى العقول وتحجر القلوب، فتجد فى سفك الدماء لذة وعوضا عن نواقص عميقة وخلل فى النشأة الاجتماعية الأولى بدءا من آكلى لحوم البشر، مرورا بمصاصى الدماء، وأخيرا قاطعى الرؤوس والرقاب ممن يتفاخرون بأفعالهم الشاذة التى لا تحمل تهديدا كما تصور لهم أمراضهم، بينما تطلق رسالة للجميع بأنهم ليسوا سوى جماعات إرهابية اتخذت من الدين تجارة رابحة، وستارا يتخفون وراءه بحثا عن الملذات السريعة وخلق أنماط بطولية وهمية وإشباع رغبات مكبوتة لبث الرعب والإرهاب والتوهم بأنهم مالكو مصائر وأقدار البشر، فيتلذذون بالفشل والتمثيل بالجثث، وقطع الرقاب، وكلها أمور تؤكد باليقين العلمى أننا نقف أمام مرضى «شواذ نفسيا»، بداخلهم من السادية والنرجسي ما يدفعهم إلى هذه الأفعال اللاإنسانية. لا وطن لهم ولا دين، وهذا ما يؤكده الدكتور أحمد عكاشة، رئيس الجمعية الدولية للطب النفسى سابقا، ورئيس الجمعية المصرية للطب النفسى، من خلال هذا الحوار، مشيرا إلى أنهم لا يختلفون عن النازيين والفاشيين وغيرها من الظواهر المرضية التى شهدها التاريخ، وما هم إلا فشلة يبحثون عن المغامرة والبطولات الوهمية والثراء السريع، فوجدوا فى الدين تجارة رابحة، ومجالا خصبا لنزواتهم المريضة ولذة فى إزهاق الأرواح والتلذذ بمشهد الدم المسال. بداية ما التوصيف العلمى للمركبات النفسية الدافعة لقاطعى الرقاب وغيرها من الجماعات الإرهابية لارتكاب مثل هذه الجرائم اللاإنسانية الشاذة؟ لا شك أنها جماعات دموية إرهابية يسيطر على سلوكها قسوة غير معقولة، وهذا دليل قاطع على أن دعواهم لا تمت بصلة بالعقيدة الدينية، فما هم سوى تجار دين يسعون فى الأرض فسادا بحثا عن غايات شاذة لا علاقة لها بأيديولوجيات دينية أو سياسية، ولابن خلدون وابن رشد مقولة شهيرة فى هذا الشأن مفادها، أن العادة فى المجتمعات المتخلفة فكريا تكون الاتجار بالدين باعتباره عالماً رابحاً، علاوة على السمات الشخصية المرضية المسيطرة على السلوك الشاذ لهذه الجماعات والتى تحركها دوافع التطرف، فينجذب صاحبها نحو الانتماء للجماعات المتطرفة التى تحمل نفس هذه السمات وغالبا ما تكون منفصلة عن الواقع الاجتماعى وتفرض على نفسها عزلة نفسية وفكرية تحيطها بسياج من الأيديولوجيات الدينية أو السياسية المتطرفة أيضا، مثالا لذلك جماعة «الإخوان المسلمين» والشيوعيين والنازيين والفاشيين وغيرهم من الحركات التى أفرزها التطرف على مر التاريخ. وما البيئة النفسية المهيئة لإفراز التطرف، وهل لهذا علاقة بتدنى المستوى الاجتماعى والثقافى أو بشكل مباشر بالفقر والجهل؟ التطرف استعداد لدى الشخص لا يرتبط بالفقر والجهل، والدليل على ذلك ظهور شخصيات تحمل سمات التطرف والسلوك والإرهابى والرغبات الدموية الشاذة تحت عباءة الدين أمثال بن لادن والظواهرى، وكلاهما من عائلات على درجة عالية من الاستقرار المادى والوعى الثقافى، وغالبا ما ينشأ التطرف لدى أشخاص بداخلهم ميول المغامرة واصطناع البطولة ورغبة فى أن يكونوا جزءا من حركة التاريخ المعاصر، وهذا يسمى علميا «اليأس الوجودى»، بمعنى أن لديهم طموحات لم توفق فيبالغون فى البحث عن مسلك آخر لإثبات الذات بشكل سلبى، ومن هنا تظهر علامات التطرف والميل الشديد نحو السادية والنرجسية وحب الذات والعشق للمديح، وهذا ما أكدته جميع الاختبارات التى أجريت على المتطرفين، والتى أثبتت أنهم يكونون ضد المجتمع ولديهم حب المغامرة الاندفاعية والبحث عن كل شىء جديد، وذلك عن اللذة حتى إن وجدها فى القتل والذبح، وهذا يؤكد أن التطرف ليس إفرازا للفقر والجهل، بل هو استعداد شخصى، مثال لذلك يبلغ عدد اليهود فى العالم 16 مليونا، بينما لا ينزح إلى إسرائيل سوى 3 ملايين، تسيطر عليهم أفكار متطرفة. وتقودهم الرغبة فى اللذة إلى شهوة القتل والذبح والتمثيل بالجثث وغيرها من السلوكيات اللاإنسانية، فهم مستهينون بالمجتمع، وبكل ما يحكمه من عادات وتقاليد، وهؤلاء يطلق عليهم «السيكوباتيين»، وهم موجودون فى كل المجتمعات والشعوب بنسبة تتراوح بين 4% إلى 6%، ويأخذ مرضهم أشكالا مختلفة كالانتحار أو الإدمان أو الجريمة. ولماذا ينساق الشباب وراء هذه الأفكار المتطرفة ويبدون كأنهم تحت وطأة عمليات غسيل مخ ممنهجة؟ هذا صحيح وتجد هذه الجماعات المتطرفة طريقها باستقطاب هؤلاء الشباب والسيطرة عليهم، تقنيا وفكريا، إما بالمدخل العاطفى تحت دعوى أن المسلمين ملزمون بمساندة إخوانهم فى العراقوسوريا وليبيا وغيرهم لتخليصهم وتحت هذا الضغط الأخلاقى والوازع الدينى المزيف، ينضم إليهم البعض وهناك فئة أخرى مركزية تبحث عن الثراء السريع، والدليل على ذلك أن الإحصائيات الأخيرة أشارت إلى أن هناك 16 ألف مقاتل فى سوريا معظهم من دول أجنبية، فمنهم 600 بريطانى و300 بلجيكى و100 دنماركى، إضافة إلى الأمريكيين، وجميعهم مرتزقة يتخذون من الحرب وسيلة للثراء، وهذا ما دفع الحكومة البريطانية إلى إسقاط الجنسية عن كل من ينتمى لهذه الجماعات الإرهابية. ولماذا يرتدون عباءة الدين لإضفاء الشرعية على سلوكياتهم الشاذة تحت مظلة الجهاد وادعاءات إحياء الخلافة الإسلامية وغيرها من الخرافات؟ هذه الجماعات تخلو مكوناتها التقنية من معانى الانتماء، فليس عندهم مفهوم «الوطن» فالجماعة أهم من المواطنة والمذهب يعلو على الدين، وبالتالى فإن المحفز الأساسى لسلوكهم هو اللذة الشديدة فى المغامرة السريعة، والاستمتاع بالبحث عن الملذات الفورية بالقتل والذبح والسرقة واستحلال الموبقات تحت عباءة الدين، وهم أبعد ما يكون عن العقيدة والشريعة السمحة، لأن الدعوة إلى الجهاد هى دعوة إلى البذل والعطاء بعيدا تماما عن التكوين الإيديولوجى التطرفى الذى تندرج تحته هذه الجماعات والذين يحاولون إخفاءه بإضفاء صبغة دينية عليه كمحاولة لاستمالة آخرين وتبرير أفعالهم وممارساتهم الشاذة ورغباتهم المريضة فيما يسمى «إقامة دولة الخلافة» وإن كانت الدعاوى الدينية الباطلة التى يطلقونها صحيحة لجمعت صفوفهم، لكن دب الانشقاق فيهم كما حدث فى القاعدة والنصرة وبيت المقدس وغيرهم. فكلهم يبحث عن مجد وهمى وثراء سريع وبطولات أسطورية ولا يهتمون بالعواقب فى غمرة اللهث وراء المغامرة السريعة ولذة القتل. هل توافر مصادر التمويل الواسعة والتركيز الإعلامى يعمقان الشعور بالرغبة فى الإثبات السلبى للذات بالمزيد من الأفعال الإجرامية؟ بالطبع مصادر التمويل تسهم فى تعميق الشعور بالنشوة الغامرة والظهور، خصوصا بعد سيطرة جماعة «داعش» الإرهابية على 17 ٪ من المناطق النفطية وحمايتهم لمهربى المخدرات والسلاح والسطو على البنوك، وإضفاء الشرعية على كل ما هو مخالف للشريعة لتبرير جرائمهم، فالدين تجارة رابحة بالنسبة لهم. وفى رأيى هذه الجماعات منبثقة من الإخوان المسلمين الذين يدعون الوسطية كنوع من المراوغة واستمالة الآخرين باسم الدين، وهم أبعد الناس عنه، فالحقيقة أنهم تلامذة سيد قطب الذى دعا فى كتابه «معالم الطريف» إلى استحلال الدماء والأعراض وتغيير الأنظمة بالقوة، وهذه المدرسة الدموية أفرزت جميع الأشكال والجماعات الإرهابية التى نعانيها اليوم، ونجد أن هذه الجماعات لا تعرف ثقافة التسامح، وهذا أمر يتعارض مع روح الدين الإسلامى السمحة فمن أين لهم أن يبرروا أفعالهم، لذا يلجأون إلى أماكن منفصلة عن المجتمع لممارسة تدريباتهم القتالية، ويضربون سياجا من العزلة على أفرادهم وخصوصا الشباب لإيهامهم عبر عمليات غسيل مخ منظمة تفرغ عقولهم من كل ما هو تنويرى وتوهمهم بالقوة والسيطرة والثروة، ودخول التاريخ من باب المجد الدينى، فهم لا يسمعون سوى أبواقهم وأصواتهم، كما حدث فى رابعة العدوية العام الماضى لا يرون سوى الجزيرة لا يسمعون سوى ضلالاتهم التى تزين لهم ما يفعلون بعقيدة الشهادة المزعومة وغيرها من الخرافات كنزول الوحى فى رابعة العدوية، وأن يتكفن بصورة مرسى سينجو من عذاب القبر وتفتح له الجنة أبوابها، وبذلك تسيطر العزلة المجتمعية على كل أفراد هذه الجماعات، تخلو حياتهم من أجندات معرفية ثقافية تنويرية بل يحرمونها فى أغلب الأحيان فينطبق عليهم القول «إذا رأيت مثقفا أتحسس مسدسى»، وهذا يعكس ما بداخلهم من دمار ورغبة فى التدمير، فالحرمان من المنبهات التنويرية والتثقفية يقود إلى التصرف، إما للشهادة أو للثراء. ما الروشتة الحمائية لحفظ أبنائنا من خطر الاستقطاب والدفع بهم فى نفق الإرهاب المظلم؟ الأمن وحده لا يكفى لمواجهة عمليات الاستقطاب الممنهجة التى تمارسها هذه الجماعات الشاذة حيال أبنائنا وشبابنا، فالأمر يتعدى هذا بكثير فهو قضية مجتمعية بالدرجة الأولى يجب أن تتكاتف لمواجهتها جميع الأطراف والأجهزة وتحتشد لها الطاقات لخلق منظومة فكرية وأيديولوجية طويلة المدى لتحقيق أهداف تنويرية راسخة فى العقل والوجدان، وبالتالى تكون حائط صد مانع لتوغل هذا الفكر التطرفى، والتنوير ليس معناه التعلم، والتعليم، فإذا لاحظنا أن معظم معتنقى هذه الأفكار والادعاءات الدينية حاصلون على درجات علمية وضيعة، ولكن التنوير يعنى إطلاق الحريات للعقل والفكر والانفتاح على الإشعاعات المعرفية والبؤر الثقافية مع الحرص على الخطاب الدينى الصحيح المنسوب إلى مصادره الحقيقية من كتاب الله نبيه ومواجهة الإرهاب ليس بالعمليات الأمنية فقط، ولكن بتحريك العقول وإزاحة النقاب عن المسكوت عنه، فالمكاشفة بداية للحركات التنويرية.