علاقة يسودها قليل من الود كثير من الجفاء، تلك هى علاقة الجيش بالإخوان المسلمين، فهى علاقة ملتبسة ثأرية تعكس شعورًا إخوانيًا بالظلم والاضطهاد الذى بدأ منذ ثورة يوليو، وامتد حتى الستينيات والتى قال عنها الرئيس السابق محمد مرسى متهكمًا «الستينيات وما أدراك ما الستينيات».. إلى جملة التوصيفات الخاطئة والانتقامية لجيش مصر العظيم بوصفه جيش الهزيمة وجيش كامب ديفيد وصولاً إلى التشكيك فى الحديث النبوى الشريف والذى وصف جنود مصر بأنهم خير أجناد الأرض، والقول بإنه حديث غير صحيح. فى مثل هذه الأجواء الاحتفالية بحرب أكتوبر العام الماضى تواجد قتلة السادات صاحب نصر أكتوبر فى الاحتفالية بهذا النصر وفى الصفوف الأولى كقادة الحرب والسلام!! فكانت المفارقة أنهم لم يدعوا صناع النصر إنما قاتلوا صانع هذا النصر، ولكن اليوم تعود الأمور إلى طبيعتها عقب ثورة 30 يونيه ليصطف هؤلاء مجددا خلف الأسوار بعد أن أرهبوا الشارع المصرى ، وتحريضهم على القتل والعنف فى سبيل استرجاع شرعيتهم المزعومة.. ويستمر هذا السيناريو على يد فلول الجماعة متهمين جموع الشعب المصرى بالانقلابيين ورموز الدولة بقادة الانقلاب.
∎ الجيش والإخوان 1954
لحظات تعود بنا إلى الوراء لاسيما حول تلك العلاقة الملتبسة بين الجيش وتنظيم جماعة الإخوان المسلمين حيث عام 1954 ونقطة انطلاقة هذه العلاقة مع الإخوان والضباط الأحرار من بداية جيدة إلى صدام غير متوقع عندما تعارضت المصالح حتى وصلت إلى مرحلة اغتيال جمال عبد الناصر نفسه والتى أصبحت على إثره جماعة محظورة.
فى مارس 1954 خرجت مظاهرات ضخمة نجحت فى رفض قرار إلغاء الأحكام العرفية الذى وعد به إعلان دستورى لمجلس قيادة الثورة قبل شهر يوليو 1954، ووفرت غطاء سياسيا لاستمرار الفترة الانتقالية، لكن جمعة «إعادة نجيب» أجبرت مجلس قيادة الثورة على التراجع عن قرار إقالته، وسرعان ما تمت الإقالة عقب تدبير إضراب المواصلات العامة التى شلت الحياة المصرية، وبعد محاولة فاشلة لاغتيال جمال عبد الناصر، تم على إثرها تصفية كوادر الجماعة ومحاكمتهم عسكرياً، بدأت أحداث الاعتقالات فى 9 نوفمبر 1954 حيث ألقى القبض على العديد من أفراد الجماعة، صدرت ضدهم أحكام بالسجن بدأت من عشر سنوات إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، إلا أن سبعة من أعضاء الجماعة البارزين صدرت فى حقهم أحكام بالإعدام.
وبعد وفاة جمال عبد الناصر أطلق السادات سراح الإخوان من السجون وذلك بقصد استعمالهم ضد اليسار وبقايا الناصريين الذين كانوا يعارضون ''نزع الناصرية''. وانتهى هذا الفصل من القصة باغتيال أنور السادات يوم انتصاره فى السادس من أكتوبر، إلا أن الاحداث لم تتطور كثيرا فى عهد الرئيس مبارك حيث كانت المؤسسة العسكرية بعيدة تماما عن المشاركة السياسية كما كان الإخوان قد عادوا للسجون مرة أخرى.
∎ الجيش والإخوان فى 2011
إلى أن تعود تفاصيل العلاقة بين المؤسسة العسكرية وجماعة الإخوان المسلمين من جديد بعد أن وضحت عقب ثورة 25 يناير، والتى لم تشارك فيها الجماعة كما جاء على لسان قيادتها الدكتور عصام العريان لاعتبارها مجرد تظاهرة، بل قامت بفصل مجموعة من شباب الجماعة على إثر انضمامهم لتلك الثورة مخالفين بذلك قرار المرشد العام للجماعة، ووقفت صقور الجماعة تراقب متربصة بما ستؤول إليه تلك الثورة ومع استشراف نجاح خطواتها تحولت مقادير الجماعة نحو الثورة وشبابها وسارعوا للإمساك بأحد أطرافها للتحكم فى خيوط اللعبة السياسية، وسجل التاريخ أن محمد البلتاجى استنجد بوزيرى الدفاع والداخلية فى رسالة مؤرخة ب 26 يناير 2013 قال فيها «السيد رئيس الجمهورية - السيد رئيس الوزراء - السادة وزراء الدفاع والداخلية ماذا تنتظرون أن يحدث أكثر من ذلك حتى تتدخلوا (بكل قوة وحزم) لمنع قتل المواطنين ووقف حرق المنشآت وإنهاء قطع الطرق والكبارى والأنفاق وتوفير أمن المدن والسكان. واجبكم التدخل الفورى لمواجهة تلك البلطجة بكل الوسائل المشروعة التى كفلها الدستور والقانون بما فى ذلك إعلان حالة الطوارئ (الموقوتة بالزمان والمكان والأسباب) إذا اقتضت الظروف. سيحاسبكم الله والتاريخ والشعب إذا وقفتم دون مواجهة (حاسمة) لجرائم القتل والحرق والنهب والقطع. مهمتكم الأولى أمام الله والشعب حفظ أرواح الناس وتحقيق أمنهم.
∎ تملق إخوانى
ولم ينس الإخوان عند سقوط مبارك فى 11 فبراير 2011، تملق الجيش المصرى فى هذه اللحظات ممثلا فى المجلس العسكرى، واصفين إياه ب«المؤسسة الوطنية» التى تسهر على حماية المواطنين وقال الإخوان المسلمون فى بيان رسمى: «إنهم حريصون على الجيش المصرى البطل ودعمه وتقويته وسلامته من أى مغامرات غير محسوبة؛ حتى يظل درع الأمة وحصنها الحصين ضد أى عدوان خارجى».. ثم تطورت الإحداث بشكل سريع إلى الإعلان عن مرشح رئاسى لهم بعد نفيهم المطلق سابقا لهذا الأمر وتوجهت كل قدراتهم واهتمامهم إلى حكم مصر وزادت لديهم الرغبة فى التفرد والسيطرة والنهم للسلطة فساهموا فى تشويه بعض المؤسسات العليا بالدولة والتجريح فيها حفاظا على انفرادهم المريض بحكم الدولة المصرية، كما حدث فى الفترة الانتقالية عقب الثورة والتى تولى فيها المجلس العسكرى ادارة البلاد واتهامه وقتها فى أحداث ماسبيرو باستخدام العنف والشدة تجاه المتظاهرين، وغيرها من الأحداث التى وجد فيها الإخوان فرصة للظهور بمظهر الحاكم الواعظ بما لا يخاف شرع الله.
إشكالية السلطة بين جماعة الإخوان المسلمين والجيش لا تنتهى حيث تسببت سياسات الجماعة الخاطئة، وعلى رأسها الدكتور مرسى فى الإطاحة بنظامه وتعالى المطالبات الشعبية بالاحتماء بجيشهم، والتى كان منها توسيع صلاحياته من خلال الإعلان الدستورى الصادر فى نوفمبر 2011 والذى رفضه العديد من الجهات السياسية المصرية كذلك المشكلات الاقتصادية المستمرة، إضافة إلى الوضع الأمنى المتردى بمدن الحدود ولاسيما سيناء وتزايد النشاط الإرهابى بها من الجماعات المسلحة والتكفيرية حيث استشهاد 17جنديا قد قتلوا فى رمضان مع مستهل حكم مرسى لمصر، والتى ألصقت فيها الجماعة التهمة للمشير وعنان فى محاولة منهم لإحراج الرئاسة وتشويه صورتها وخطف جنود مصريين فى سيناء وإصرار مرسى على الحفاظ على حياة الخاطفين وإرجاع الجنود فى صفقة مريبة، مما يشير لتورطه فى الأمر لإحراج الجيش وإقالة المشير وعنان وتعيين السيسى، وإن كانت الجماعة قد أساءت التعامل مع المؤسسة العسكرية أيضا بأن تكون يداً أمنية باطشة ضدالثوار، ولهذا أعطى مرسى الجيش «حق الضبطية»، وأراد منه أن يطبق قراره بفرض حظر التجوال فى مدن القناة الثلاث، علاوة على استدعاء الجيش لتأمين الاستفتاء على الدستور. وتصرف مرسى على أن «القوات المسلحة» ستعمل وفق مشيئته، لأنه «القائد الأعلى» لها.
أما عن مؤتمر نصرة سوريا والذى كان أزمة بكل المقاييس بما أدلى فيه من تصريحات حيث حرض فيه على الثوار كما توعد الشيعة إلا أن أهم تصريحاته كانت قطع العلاقات مع سوريا وإعلانه بأن الجيش والشعب ضد سوريا دون الرجوع إلى الجيش فى ذلك مما يؤثر بشكل كبير على أمن الدولة، ولذلك تعالت الأصوات المطالبة بالإطاحة بالجماعة ورئيسها، وقد وضع الجيش مهلة للرئيس مرسى لتعديل سياساته وتقويم منهجه فى إدارة الدولة المصرية، إلا أنه ضيع مهلة الجيش له وتعامل معها بغرور وعنجهية أملا فى استكمال مدته الرئاسية لأربع سنوات.
إلا أن الإخوان لم يدركوا أن المؤسسة العسكرية دائما ما تحظى باحترام القاعدة الشعبية المصرية نظرا لعقيدة المصريين بقيمة واحترام جيشه، وهذا ما كشفته الثلاثة الأعوام الأخيرة من استحضار بل استدعاء الشعب للجيش لحمايته داخل الدولة المصرية وليس على حدودها فقط، وكان ذلك واضحا فى أحداث قصر الاتحادية إلى أحداث بورسعيد، والتى تعالت فيها المطالبات بنزول الجيش وإدارته للدولة بديلا عن السلطة الحاكمة وقتها وانتهاء بتفويض الشعب لوزير الدفاع الفريق عبد الفتاح السيسى بإدارة شئون البلاد فى حملة توكيلات شعبية، وصارت المؤسسة العسكرية هى الراعى لمصلحة الشعب المصرى.
∎ ما بعد 30 يونيو
وفى 3 يوليو الماضى أعلنت المؤسسة العسكرية بقيادة الفريق عبد الفتاح السيسى عزل رئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسى وذلك ضمن خارطة الطريق لإدارة المرحلة الانتقالية، وهو الأمر الذى اعتبرته جماعة الإخوان انقلابًا على شرعية الرئيس المنتخب، وتناقلت تصريحاتها بأن ''الجيش خان الأمانة''.. وإن ما قام به بعض أعضاء المجلس العسكرى إنما هو انقلاب عسكرى كامل تم تدبيره بليل انقضاضًا على الشرعية، ونكوثًا عن القسم الذى أقسموه باحترام الدستور والقانون وحماية الوطن، وطاعة القائد الأعلى للقوات المسلحة وتفاقمت حدة الخلافات السياسية بين الحديث عن انقلاب عسكرى ''لدى الإخوان'' وثورة شعبية تمت عبر حشود شعبية ضخمة دعمت تدخل الجيش وأطاحت بأحلام الإخوان فى التشبث بكرسى الحكم حتى تطورت هذه الأوضاع بعد أن أصبحت المؤسسة العسكرية طرفا فاعلا فى المعادلة السياسية المصرية، وكان الفريق أول عبدالفتاح السيسى وزير الدفاع قد أكد فى حديثه الأربعاء 24-7-2013 إلى طلبة الكلية البحرية، خلال احتفاله بتخريج دفعتين جديدتين من الكلية البحرية والدفاع الجوى بان حديثه لكل المصريين، مؤكدا أن هذا الجيش هو جيش وطنى وصلب. وتابع السيسى: «أتحدث بكل وضوح وصراحة، إننا حين تعاملنا بعد تسليم السلطة فى 30 يونيو 2012 إلى قيادة مدنية تعاملنا بكل أمانة وشرف، فلن نخون أو نتآمر على أحد، بل كنا نعمل على إعطاء النصيحة»، وتابع: إن الجيش المصرى جيش محترم وأسد بجد، والأسد لا يأكل أولاده، وأضاف: «قدمنا للرئيس السابق مبادرات كثيرة، وتم الجلوس مع الكثير من القوى السياسية، وكنا نقول للتيار الدينى عليك الانتباه لفكرة الدولة والوطن، وأن ينتبه أن قيادة الدولة أمر فى منتهى الحساسية، ومن يتولى هذا المنصب لابد أن يكون رئيسا لكل المصريين».
وقال: إن هذا الجيش يؤمر فقط من المصريين، وهل تعتقدون أن كلمة «خير أجناد الأرض» جاءت من فراغ، وأقسم الفريق أول عبدالفتاح السيسى، وزير الدفاع - ثلاث مرات - على أن الجيش المصرى على قلب رجل واحد، وذلك فى تعلقه على شائعات أن هناك انشقاقات فى الجيش، فقال «والله العظيم والله العظيم والله العظيم الجيش المصرى على قلب رجل واحد، فالجيش المصرى ليس مثل أى جيش آخر». وأنهى كلمته موجها حديثه إلى كل الضباط «ارفع رأسك أوى .. إحنا ناس بتخاف ربنا».
وسريعا ما تكون تحالف دعم الشرعية والذى يضم مجموعة من التيارات الإسلامية وعلى رأسها حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان، وأصبح يهاجم المؤسسة العسكرية وأكدوا على رفضهم بيان الفريق أول عبد الفتاح السيسى، وزير الدفاع واعتبروه دعوة صريحة لحرب أهلية، محملين المسئولية الكاملة عن إراقة دماء المصريين، التى سوف تسال نتيجة هذه الدعوة.
ولكن لم يدرك قادة التحالف أن انحطاط شعبية الإخوان وفشلها فى ادارة البلاد كان كالحجر الذى أثقلها فسقطت فى بئر خيانة الدولة المصرية.
وهكذا فقد وقع الإخوان فى الفخ الذى حاولوا نصبه لجنرالات الجيش لإحراجه والوقيعة بينه وبين شعبه، تلك العلاقة التى لن تنقطع حتى وإن اهتزت أطرافها قليلا.. فالجيش والشعب إيد واحدة.