انتهي زمن الممنوعات في الصحافة المصرية، انتهت أيام الرقابة والحذف والمنع من النشر ليس من صغار الصحفيين وحدهم بل ومن كبار ونجوم الصحافة أيامها! الآن يستطيع كل من هب ودب أن يكتب ما يشاء، ويهاجم من يشاء بدون استثناء وسوف يضمن نشر ما يكتبه، فإذا لم يستطع نشره في صحيفة ما، وجدت عشرات الصحف والمجلات التي تنشر هذه البطولات الزائفة لكل من هب ودب!! فإذا ضاقت الصحافة المكتوبة بنشر هذا «الهراء»، وجد كاتب هذا الهراء من ينشره له ويذيعه عبر الفضائيات أو المواقع الالكترونية!! في مناخ الفوضي الصحفية اكتب أي شيء يشتم وينتقد ويهاجم كل الأوضاع وكل المسئولين، وبعدها سوف تصبح بطلا وزعيما، ويصبح لك ثمن وسعر في سوق الكفاح الصحفي والنضال الفضائي، وحركات التغيير والاحتجاج والاعتصام!! طافت بذهني هذه الخواطر وأنا اقرأ للأستاذ المفكر الكبير «أحمد بهاء الدين» كتابه البديع «محاوراتي مع السادات»، وكان «بهاء» قد ترك رئاسة تحرير الأهرام ليسافر إلي الكويت لرئاسة تحرير مجلة العربي الشهيرة، وكان حريصا علي الكتابة بشكل أسبوعي في الأهرام مقاله الشهير «حديث الأحد» وهنا تبدأ القصة حيث يقول بهاء: خلال إحدي زياراتي للقاهرة تشكلت أول وزارة برئاسة الدكتور مصطفي خليل وقد الغيت في التشكيل وزارة الثقافة وضمت إلي وزارة الإعلام وأسرعت أكتب مقالا لينشر يوم الأحد بعنوان «خطاب عاجل إلي رئيس الوزراء الجديد» بقصد أن أهاجم إلغاء وزارة الثقافة ولكنني دون أن أدري كتبت مقالا عنيفا ظهر كأنه انفجار للكثير المكبوت في نفسي بدءا من اتهام العهد بأنه ضد الثقافة الحقيقية، والمثقفين الحقيقيين ثم استطردت إلي تعقب كل ما كنت أري أنه من مظاهر التفسخ والانحلال في المجتمع والتسيب الذي يغمر مرافق الدولة ومقدمات العواقب الاقتصادية الوخيمة التي كنا نتوقعها! يضيف بهاء: علمت بعد ذلك أن هذا المقال وفي الأهرام بالذات ترك أثرا عنيفا في نفس السادات، ولكن حديث الأحد ظل ينشر في ا لأهرام كالمعتاد، وقد جرت أحداث كامب ديفيد بكل ما صاحبها وأنا بعيد عن القاهرة وتصاعدت الحملات الصحفية بشدة بين الصحافة العربية والصحافة المصرية، وعندما أعلنت نصوص اتفاقيات كامب ديفيد، كتبت مقالا تحليليا موضوعيا ونقديا للاتفاقية وأرسلته كالمعتاد للأهرام ولكنه لم ينشر وإن كان قد نشر بالطبع في الصحف الأخري التي تنشر «حديث الأحد» في اليوم نفسه! والغريب أنني كنت في القاهرة وهنأني الدكتور «مصطفي خليل» علي هذا المقال بل وعلي ما فيه من نقد ومناقشة لنصوص الاتفاقية وروجها عندما كنت أزوره في مكتبه بمجلس الوزراء ودهشت وسألته أين قرأ المقال فقد منع من النشر في الأهرام، وتبين أن بعض شباب وزارة الخارجية كانوا قد صوروا المقال من إحدي الصحف العربية وتداولوه بينهم، ووصلت نسخة منه إلي الدكتور مصطفي خليل الذي وافقني يومها علي أن أسلوب المناقشة والنقد الموضوعي خير من أسلوب التهليل لكل ما أحاط بالاتفاقية، وما جاء بها، وعدت إلي الكويت وأنا لا أعرف إذا كان المنع منصبا علي هذا المقال بالذات أم لا؟! ثم يروي الأستاذ بهاء الواقعة التالية عندما توجه إلي أبوظبي لحضور ندوة حيث يقول: وهناك وجدت في الفندق السيد محمود رياض وزير خارجية مصر الأسبق والأمين العام للجامعة العربية وقتها والسيد «عبدالعزيز بوتفليقة» وزير خارجية الجزائر وقتها، كان ذلك في فترة مرض الرئيس الجزائري «هواري بومدين» والغيبوبة التي استمرت أسابيع طويلة قبل وفاته، وكان أحد أهم الأسئلة في العالم العربي كله هو معرفة التيارات والشخصيات المتصارعة في الجزائر ومن الذي سيكتب له أن يكون الرئيس المقبل، وروي لنا «عبدالعزيز بوتفليقة» قصة هذه التيارات كاملة بالوقائع والأسماء الدقيقة، وكان من أهم ما قاله إنه هو شخصيا ليس واردا علي الاطلاق كمرشح للرئاسة ... و... و... أما الأمر الثاني الجديد الذي قاله لنا فهو أنه يرجح أن ينتهي الأمر باختيار الشاذلي من جديد رئيسا للجمهورية! وهنا تذكر بهاء أنه يعرف هذا الاسم الذي كان حاكما لولاية وهران والتقاه بهاء لمدة يومين وفي نفس الليلة امسك بهاء بالتليفون واتصل بعدد من أصدقائه الجزائريين في عواصم أوروبا والعالم العربي ومنهم السيد «الأخضر الإبراهيمي» سفير الجزائر وقتها في لندن وقبلها كان سفيرا في القاهرة باختصار شديد يقول بهاء «كانت عندي قصة صحفية مفصلة ليس لها مثيل، وفيها أول صورة مفصلة عما يدور في فراش بومدين وأول تأكيد لاسم رئيس الجمهورية القادم. وتم ارسال القصة التي ستشغل صفحة كاملة من الجريدة إلي الأهرام أسرعت بهذا كله لسببين الأول هو الواجب الصحفي نحو الجريدة وقرائها والسبب الثاني أنني وجدت أن هذه الرسالة الصحفية لا يمكن لجريدة أن تمتنع عن نشرها وبالتالي فإذا لم تنشر فمعني ذلك أن المنع هو منع مطلق لي من الكتابة، الأمر الذي كنت أرجحه بيني وبين نفسي». ولم ينشر الأهرام كلمة واحدة من تحقيق الأستاذ بهاء، وبعد أسابيع كان بهاء في زيارة للقاهرة وذهب كالعادة لزيارة الأستاذ «علي حمدي الجمال» في مكتبه وروي له ما حدث قائلا: كان الرئيس السادات مجتمعا مع رؤساء تحرير الصحف والمجلات وكان «علي حمدي الجمال» جالسا بجواره ومال عليه السادات وسأله هامساً: هوه أحمد بهاء الدين مش لسه اجازة من الأهرام؟! وقال له «علي الجمال» أيوه يا ريس.. فرد عليه قائلا: طيب يبقي الأهرام مش ملزم بنشر مقالاته!! انتهت القصة المثيرة لكن دلالتها الصحفية والسياسة لا تنتهي.