لم يكن السيد يسين علي ما يرام هذه المرة. حين دخلت عليه في الثانية عشرة ظهرا ً، حسب الميعاد، كان يتحدث في الهاتف. ولما أنهي المكالمة قال لي: فؤاد زكريا فقد بصره، هو الذي كان معي علي الهاتف يشكو من عدم نشر مقال له في الأهرام. أخذني الخبر وآلمني وسألت عن سنه.. هل تخطي الثمانين، فقال يسين: بكثير. تمنيت للرجل الشفاء واستعذت من أرذل العمر. ولكن لم تكن هذه كل أسبابه. فعدت أسأل: لماذا هو متجهم علي غير العادة. شرد مني وبعد لحظة قال: هناك مشاكل عائلية. لم يقل أي شيء آخر، فهو لا يحكي أسراره لأحد، حتي لأصدقائه، ولست منهم، فنحن بالكاد نوشك علي أن نتبادل المودة. يسين أرمل الآن ويسكن معه في شقته بالهرم (20 ش الشيشيني ، ترعة المريوطية) ابنه وزوجة ابنه وحفيده، وله ابنة متزوجة. لا أدري لماذا أقحمت زوجتي في الكلام. قلت له: أنا وهي تزوجنا عن حب ولدينا الآن طفلتان هما كل حياتنا، ومع ذلك كلما تخاصمنا، عنّ لنا، قبل أي شيء، الانفصال. وأردت أن أسري عنه فتابعت.. يبدو فعلاً أن أفضل طريقة للتخلص من المشاكل هي وضعها في جيبك المثقوب. ولأنني أعرف أن يسين، مثلي، ممن يدفنون همومهم بالعمل، استدرجت مزاجه إلي الحوار. قلت: كل منا بناء أشد تعقيدا ًمن أي نظام اجتماعي ينتمي إليه. بمعني أن الطريقة التي نتكون بها أكثر تعقيدا ًمن إمكانية ردها إلي عناصر بعينها. هذا أمر يصعب تقريره. 2يوليو 2009 م ، مبني الأهرام. -هذه وجهة نظر. قد تكون البنية الاجتماعية أشد تعقيدا ًمن البنية النفسية للإنسان. يتوقف الأمر علي المرحلة التاريخية، ثم علي الإنسان.. أي نوع هو. هل هو إنسان بسيط، تكوينه النفسي عادي! وبالتالي يصبح طريقه في الحياة سهلا ً. هناك إنسان تجعله ظروف حياته يمر بأمور معقدة إلي أن يصل لبر الأمان. أقصد أن المسألة تتعلق بنوع الشخص وتكوينه النفسي. النشأة، الطبقة، الاتجاهات السياسية، وتتعلق بنوع المجتمع الذي نشأ فيه، والأهم المرحلة التاريخية التي يعيش في ظلها. بالنسبة لي..أنا من مواليد 1933م، عشت في العصر الملكي، كنت علي وعي به، عشت ازدهار الليبرالية وتابعت المعارضة. مثل هذا التكوين صعب تكراره. وبالتالي فالظرف التاريخي، نوعية المجتمع، نوعية النظام السياسي هي التي تحدد التكوين النفسي للأفراد. إذن بإمكانك رد تكوينك إلي عناصر محددة؟ - طبعا ً، العناصر الرئيسية في تكويني هي، كما قلت لك، النظام الملكي، ملكية دستورية، كانت هناك رأسمالية مبكرة نسبيا ً، وكان هناك صراع طبقي وصراع سياسي وحركة فكرية مزدهرة، أثر كل ذلك في جيلي، لكن ليس معني ذلك أن الناس يتشابهون، لأنهم أبناء مرحلة واحدة. يختلف الأمر بحسب الاستعداد. كان منا الإخواني، والشيوعي والليبرالي والاشتراكي ..إلخ، ليس هناك قالب يمكنك أن تصب فيه جيلاً. تتنوع الاهتمامات وتتعدد الاختيارات وفق العوامل التي ذكرتها لك. لعلي لم أكن واضحا ًبشكل كاف، أنا لست مختلفا ًمعك، إنما هذه العوامل من التداخل بحيث تشكل نسيجا ًيصعب فك عقده. مسألة التكوين تشبه التريكو إلي حد بعيد، نُغزل بانسيابية، بطريقة آلية تتشابك الخيوط وتتضافر ثم، في النهاية، نصبح ما نحن عليه، دون أن نتذكر حتي المادة التي صنعنا منها. أو هي مثل الطعام، لا يمكنك، بعد هضمه، معرفة أي الخراف كان أوفر حظا ًفي التمثل أو الالتهام. - ربما. علي كل، دعنا نضع أيدينا علي الفترة، أو الحادثة، التي شعرت فيها أنك غادرت طفولتك؟ - لحظة انضمامي للإخوان المسلمين . سنة 1950م؟ - بالضبط، هذه لحظة فارقة. كنت صبيا ًمنطويا ًوخجولا ً، حياتي هي العزلة والتأمل. وبانضمامي للإخوان اختلفت. نضجت وأصبحت أكثر قدرة علي التعامل مع الناس. لديك اعتقاد بأنك في حالة تكوين مستمرة. تقول، لا يصلح معها التوقف والتأمل في تجارب الماضي. هل يعني ذلك الاستغناء عن المراجعة. أعتقد أنها جزء من التكوين. - لا علاقة بين المراجعة وبين التكوين. التكوين هو التجدد المعرفي المستمر، والتجدد قد تصحبه المراجعة وقد لا تصحبه، أنت وظروفك. أنا راجعت نفسي بالنسبة للإخوان المسلمين، راجعت نفسي بالنسبة للمشروع الناصري قبل 67 وأنا في باريس. المراجعة، مهما تكن أهميتها، لا تغني عن التجدد، عن متابعة التحولات من حولك. ولهذا لا يقف التكوين بحصولك علي شهادة معينة. إنه عملية مستمرة، طالما أننا أحياء. هل أنت من ذلك النوع الذي يتقيد بالولاء للماضي؟ - لا، أنا أحاول استيعاب الماضي عبر القراءة النقدية له. هناك من يجعلون من أنفسهم أوصياء علي الماضي - هؤلاء مثيرون للشفقة. أحدهم، مؤرخ عسكري معروف، يدعي أنه كان وراء قيام ثورة يوليو. .... وهممت أن أنطق اسم الرجل، أو قلته بالفعل لكن يسين، الحذر أزيد من اللازم، طلب مني ألا أذكر الأسماء. إنه لا يحب أن يتورط. وبسرعة تفادياً للجهر والاشتباك أضاف: -ما يقوله هذا الرجل أكاذيب. والمؤسف أن الشباب هم الضحية. إن مسألة الماضي في غاية الأهمية، تحتاج منا للدقة والأمانة وكيف تري دور الماضي في الأحياء؟ - دور أساسي، دراسة الماضي تعطيك فرصة الوقوف علي ما حدث. لماذا وكيف حدث. خيوطه ممتدة في الحاضر. بل، أحيانا ً، نرفض أشياء في الحاضر بناء علي خبرة الماضي. خذ مثلا ً"الإخوان السلمين" ورغبتهم في إقامة حزب سياسي. لا بد من استفتاء الماضي في هذه الجماعة ودخولها لتيار العنف، قبل أن تتخلي عنه فيما بعد، لكي تحكم عليهم الآن. إذن يجب أن نقرأ الماضي نقدياً. دارت الحياة، في طفولتك، حول الوالد. من كان المثل الأعلي لمراهقتك؟ - هذا سؤال صعب. علي المستوي الشخصي ظل والدي مثلي الأعلي. لكنني لم أرتبط روحيا ًبكاتب معين. كانت علاقتي بالكتاب موضوعية لا تقوم علي الكره والحب، مع أنني أميل عاطفيا ًلطه حسين علي حساب العقاد. طه كان فنانا ً. ما زلت أحفظ، من أيام الجامعة، تعبيرا قرأته..أن العقاد مهندس معماري أما طه حسين فجنايني، يبني بيوته من الأغصان وقت الغروب. - أتفق مع هذا التعبير، لأن العقلية الصارمة للعقاد وطريقته في الكتابة تختلف عن طريقة طه حسين. طه هو المبدع، العقاد لم يكن مبدعا ً. كانت مكتبة "البلدية" بالإسكندرية أول حاضنة لشغفك بالقراءة،كلمني عن ارتعاشتك الأولي مع الكتب؟ -أظن أن خبرتي في المكتبة قد تكون فريدة. كنت أميل جدا ًلقراءة الشعر. وكان أبو القاسم الشابي يملأ علي حياتي. اشتريت "ديوان الحياة". أغاني الحياة؟ - أغاني الحياة، حفظته عن ظهر قلب، ساعدني علي ذلك شاعريته الصافية. كيف تعرف الشاعرية الصافية؟ - ما كان يسميه محمد مندور بالشعر الصافي. لا جلبة ولا صخب ولا ضوضاء فيه. يصل إلي قلبك مباشرة. ثم جمعتني ارتعاشات القراءة بمحمد عبدالمعطي الهمشري. جان كوكتو يعرف القراءة بأنها أطول رحلة في التاريخ. ماذا اكتشفت في هذه الرحلة؟ - اكتشفت التنوع . قرأت في الشعر وعلم النفس والفلسفة والتاريخ والاقتصاد، اكتشفت أن القراءة لا بد أن تكون متنوعة. وقد بدأت بذرة الموسوعية تنمو بداخلي مع رحلة القراءة. القراءة في شيء بعينه تشبه الحبس الانفرادي. استعرت من هذه المكتبة 300 كتاب، علي أي أساس كنت تختار ما تقرأ؟ - المؤلف والموضوع والتنوع. والكتاب الذي كان فارقا ًفي تكوينك؟ - "مقال في المنهج" لديكارت. ترجمة محمود محمد الخضيري؟ - بالضبط، ولكني قرأته في نسخته الإنجليزية، لم أكن أعرف الفرنسية بعد. أدهشني هذا الكتاب وأحدث بي ما يشبه الثورة الفكرية. كان أول كتاب يقنن التفكير العقلاني، وكيف تحل المشكلات، وكيف تنتقل من خطوة إلي أخري. مع ذلك لا أستطيع القول بأن هناك كتابا ًواحدا ًكان له تأثير حاسم علي تكويني. لا أقدر. نعود إلي العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وأحمد أمين والرافعي وسلامة موسي. كان هؤلاء آباء جيلك الروحيين. وكانوا بالنسبة لي كذلك، باستثناء الرافعي الذي كرهته حباً في العقاد. أولا ًهل تؤمن بالأبوة الروحية، وهل تعتقد في ضرورة "قتل الأب"، ثم ماذا بقي من هؤلاء؟ - أنا لا أؤمن بالأبوة الروحية. دائما ًكان عندي ميل للاستقلال الفكري. أن تكون بيني وبين الكاتب أو المفكر مسافة. وهذه المسافة كانت تسمح لي بالتقييم الموضوعي. لو غرقت في حب الكُتاب سيدفعني ذلك لتجاهل سلبياتهم. أما هؤلاء الرواد الكبار فكانوا متنوعي الإنتاج. العقاد مثلا ًفتح عقولنا علي باب جديد لما كتب العبقريات وكانت لديه جسارة. أهم أعماله في النقد الأدبي. لا أنسي كتابه الرائع عن الشعراء المصريين وبيئاتهم في الجيل الماضي. شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي؟ - مذاكر إنت. كنت عقادي الهوي قديماً. - المهم، هذا الكتاب من أجمل ما كتب العقاد، لكنه، لحرصه علي الاطلاع في مجالات عديدة، لم يكن لديه مشروع فكري. بينما طه حسين كان لديه مشروع منذ أن كتب "مستقبل الثقافة في مصر"، وحياته نفسها تشعر أنها كانت تدور حول هذا المشروع. علي فكرة أهم من أرخ لهذه الحقبة هو فتحي رضوان في كتابه الباذخ "عصر ورجال"، في هذا الكتاب فصل اسمه "روح العصر"، من أجمل ما كتب عن العصر الليبرالي. أتفق معك، "روح العصر"، هذا "التمهيد" الذي كتبه رضوان كان كتابا ًفي واقع الأمر. - كان نوعا ًمن التحليل الثقافي النادر، وضع يده فيه علي الثغرة الأساسية في تراث هؤلاء، إنهم لم يكونوا أصحاب مشاريع فكرية. يضرب مثلا ًبهيكل باشا الذي كتب عن حياة محمد وعن جاك روسو وعن وعن، كما فعل العقاد وغيره .. أين المشروع الفكري. أتصور أن هذا الجيل وقع عليه عبء التمهيد، رموا البذور. كانت مصر تبحث من خلالهم عن هويتها، بين أن ننتمي للماضي أم للحاضر، للاحتلال أم الاستقلال، وكان الأدب خارجا ًللتو من العصور الوسطي، وبينما هم يبحثون كان عليهم أن يجربوا.. أن يحرثوا الأرض، وعلي الأجيال اللاحقة أن تستكمل البناء. - أوافق علي هذا التوصيف، أنا لا أدينهم، بالعكس.. هؤلاء احتكوا، كل بطريقته، بالثقافة الغربية وأراد كل منهم أن يقدم ما يستحق التقديم للقارئ العربي. لهذا شرقوا وغربوا، فلم تكن لديهم وحدة المشروع. وقد أدي هذا إلي تشتتنا، لم نقرأ مشروعات متكاملة يمكنك أن تفهم منها الكاتب ، باستثناء طه حسين ، فيما أري. وسلامة موسي؟ - تأثرت جدا ًبكتابه "تربية سلامة موسي" ، قدم لي عالما ًلم أكن أعرفه .. دارون، ماركس، فرويد. لم يكن سلامة، هو الآخر، مبدعا ً، كان قارئا ًللفكر الغربي، وحاول، بأسلوب غير جذاب، تقديم هذا الفكر. لكن أحد أهم أعماله "المجلة الجديدة"، التي لعبت دورا ًتنويريا ًهاما ً. وماذا يبقي من توفيق الحكيم. أشعر أحيانا ًأنه كاتب خفيف، مهووس بالدعاية لنفسه؟ - لا، يهيأ لك. أنا لم أحب الحكيم في الأول. كان يكتب بابا ًسخيفا ًاسمه "حماري قال لي"، أراد ألا يتورط في الصراع الأيديولوجي الدائر من حوله. ولم يرد أن يأخذ موقفا ًواضحا ًبخبثه المعروف، فكان يضع آراءه علي لسان حماره المزعوم. - أو المسروق، لأن الشاعر الأسباني خيمينيث، سبقه بكثير إلي استخدام تيمة الحمار. ليس هذا هو المهم، المهم أنني لما كبرت قرأت أعماله. إنه كاتب أصيل ومبدع، "يوميات نائب في الأرياف" أثر في جيلي كله. كانت محاولة للإطلال علي الريف المصري ولكن من فوق مع يحيي حقي و "خليها علي الله" رأينا الريف من تحت. كتاب يحيي كان أكثر أصالة من يوميات الحكيم. كان توفيق بك وكيل نيابة فكان يحكم علي الفلاح من المنصة، أما يحيي فكان يمتلك الحس الشعبي، رغم جذوره التركية. وماذا عن أحمد أمين؟ - هذا الرجل هو رائد الكتابة العلمية عن الإسلام. في ظنك لماذا تحول هؤلاء الكتاب الليبراليون إلي كتاب إسلاميين؟ - هذا سؤال مهم في الحقيقة وقد انشغلت به. هناك مؤرخ أمريكي اسمه سميث، كانت أطروحته للدكتوراه عن هيكل باشا، وتوصل إلي نظرية مفادها أن هيكل والأحرار الدستوريين، بحكم وضعهم البرجوازي، كانت لديهم نظرية للتنمية من فوق، تنمية لا تشارك فيها الجماهير، ولما أسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين سنة 1928 م، أحسوا أنه سرق الجماهير، فأرادوا أن يستعيدوها بخطاب إسلامي، بالكتابة عن النبي محمد! هذا التفسير طبقي سياسي لتحول الكتاب الليبراليين إلي كتاب إسلاميين. طه حسين لديه تفسير.. أن هيكل باشا تأثر بكتاب فرنسي عن حياة الرسول ونشره ملخصا ًفي جريدة "السياسة"، فأراد أن يؤلف كتابا ًعلي غراره .."حياة محمد"، بمنهج علمي. ويعقب طه حسين قائلا ً.. ولكن ماذا يفعل هيكل باشا في قصة الإسراء والمعراج، بعبارة أخري.. كيف سيطبق المنهج العلمي علي هذه القصة! طه يتشكك في إمكانية إقامة منهج كهذا في مجال الدين. وهو نفسه يقول..أنا تأثرت بكتاب فرنسي اسمه "علي هامش الكتب القديمة"، فكتبت "علي هامش السيرة"، وتوفيق الحكيم.. إلخ. وما تفسيرك أنت لهذا التحول؟ - أعتقد أنه الرغبة في تنقية التراث علي ضوء الشك. هل يصلح الشك منهجا ًنري من خلاله الدين؟ - لدي قاعدة أرددها وأتمسك بها، هي أن الشك سمة العلم. ثمة نظرية، في البحث العلمي، صاغها الفيلسوف الإنجليزي الشهير كارل بوبر، تقول إن النظرية العلمية التي لا تقبل الدحض، ليست نظرية علمية، وبالتالي فالشك هو أساس التقدم العلمي.. أن تشك في النتيجة المعلنة وأن تعرضها علي التجربة الحاسمة crusal experiment? لكي تفصل بين الشك واليقين، هل التجربة صحيحة أو لا. إذن العلم يقوم علي الشك والدين يقوم علي اليقين. سنعود للشك لاحقا ً، الآن قل لي.. كان لك شغف خاص بجبران خليل جبران، هل تستطيع قراءته الآن، أنا لا أطيقه، إنه رومانتيكي مفتعل! - كان لجبران دور تاريخي في تحرير الأسلوب العربي من المحسنات البديعية، وقد تأثرت جدا ًبأسلوبه، كانت الأساليب من حوله ركيكة. جبران ليس شاعرا ًكبيرا ً، هو شاعر متواضع جدا ً، لكنه ناثر عظيم. وصاحب حس إنساني عظيم. جبران كان يمثل لي الكاتب الذي ينتصر للإنسان، ومنذ وقت مبكر دافع عن العدالة الاجتماعية. مكتبة "إخوان الصفا" بالعطارين، كانت حاضنة أخري لك، لفت نظري، وأنت تحدثني قبل التسجيل عن صاحبها، أنه كان يتقن الإنجليزية. الآن خريجو الجامعات وحملة الدكتوراه لا يعرفون لغة أجنبية واحدة علي الأقل! - الحاج إبراهيم وأمثاله انقرضوا، الجو العام كان يسمح بوجود البائع المثقف. تسألني عن اللغة الإنجليزية، اسألني عن تدهور اللغة العربية، حتي علي لسان من يعلمونها في الجامعات! زمان كان عندنا جمعيات الخطابة، تعلمك كيف تواجه الجماهير، وكانت هناك مسابقات للخطابة، أذكر أنني دخلت واحدة من هذه المسابقات وفزت بالمركز الثاني علي مستوي الإسكندرية، فأعطوني مجموعة كتب كان من بينها كتاب جميل للشيخ النجار عن قصص الأنبياء، من أجمل ما قرأت في حياتي. كان هناك تشجيع. الآن الوضع مختلف. الآن انتشر التعليم الأجنبي علي حساب اللغة القومية، علي حساب الهوية! - هذه هي الكارثة، الأولاد لا يعرفون اللغة العربية! أما زلت تذكر مسابقة اللغة العربية التي فزت بها في الثانوية العامة؟ - طبعا ً، كان الفوز بهذه المسابقة يضمن لك 20 درجة تضاف إلي مجموعك. امتحنت في ديوان حافظ إبراهيم، مصرع كليوباترا لأحمد شوقي، كتاب مع المتنبي لطه حسين. هذا هو الامتحان التحريري، وقد نجحت فيه، فأرسلت لي وزارة المعارف استمارة سفر للقاهرة، لأداء الامتحان الشفوي. كانت أول مرة تزور فيها القاهرة - نعم. في أي سنة؟ - سنة 1950م، كان رئيس اللجنة أ محمد خلف الله أحمد، عميد آداب الإسكندرية. بلدياتنا من سوهاج، وصاحب كتاب "من الوجهة النفسية في دراسة الأدب"؟ - الله يفتح عليك، كان جزء من الامتحان أن تلقي قصيدة مما حفظت، فألقيت ما حفظته من "مصرع كليوباترا"، وسألني: ما رأيك في المسرحية؟ فقلت له، بثقة، هذه ليست مسرحية. قال كيف، قلت له: إنها مجموعة منولوجات تفتقد للحبكة الدرامية، قال مازحا ً: يا سلام! طب إيه رأيك أنا شفت المسرحية وعجبتني! قلت له: أنت من الخاصة ورأيك لا يسري علي العامة. فقال: قم يابني، بارك الله فيك. ومنحني 20 من 20 فرجعت إلي الإسكندرية مزهوا ً، ولكن تعرف ماذا حدث. سقطت في الثانوية العامة . ثم انخرط يسين في نوبة ضحك، واستأنف: لم أستفد من الدرجات العشرين، قلت له: أنا بدوري دخلت مسابقة كهذه، اسمها "المستوي الخاص"، كان الامتحان تحريريا ً، لم ينجح غير اثنين، أنا وزميل آخر، ولكنني نجحت في الثانوية العامة، لم يقدر لي أن أصبح مفكراً. وعاودنا الضحك والأسئلة مع المشروبات التي لم يكن يسين يقصر في طلبها من بوفيه الدور الحادي عشر بمبني الأهرام الجديد، وإن لم يدعني أبدا ً إلي الغداء، لم أختبر بعد كرمه! لك رأي قاس في حافظ إبراهيم ؟ - حافظ شاعر متواضع جدا ًمقارنة بأحمد شوقي. أنا أري العكس، أحمد شوقي نفعته الوجاهة التي ولد في حجرها، والصحف التي كان يرشوها؟ - بغض النظر عن هذا كله، قاموس حافظ، وأنت شاعر وتعرف ذلك، محدود جدا ً، والصور الشعرية تكاد تكون منعدمة. أما شوقي فحديقته غنّاء. بيت لحافظ كهذا: لا تلم كفي إذا السيف نبا صح مني العزم والدهر أبي. أري أنه يساوي حديقة شوقي الصناعية. - غير صحيح، حديقة شوقي تملؤها الزهور الطبيعية، وحافظ رجل يناضل في سبيل الشعر، ولكنه غير موهوب بالقدر الكافي. وكيف تري القصيدة اليوم؟ - أنا لا اطيق قصيدة النثر. لم؟ - لست علي استعداد لقراءة مطولات من الكلام المجاني والثرثرة. هذا تعميم يظلم الموهوبين في هذا التيار الذي، وبغض النظر عن أنني أنتمي إليه، أنقذ القصيدة العربية من الركود؟ - ما زلت أعود إلي إليوت، كلما أردت قراءة الشعر. هل تعتقد أنه رجم العالم، لأنه لم يتخذ منه مسيحا ً. ثم جعل من مأساته الشخصية (الضعف الجنسي) مأساة لعصر لم يكن بالنسبة له غير أرض خراب؟ - أنا ضد تفسير الإبداع بالسيرة. إن كل ما في الفن، لا يمكن تفسيره تماماً عن طريق الفن وحده، كما يقول مالرو-25) بصوت لا يقبل النزاع). - لابد من الفصل بين الإبداع والسيرة، إليوت أنتج شعراً قادرا ًعلي البقاء. للشعر أسراره، طبقة من الغموض الشفيف، وضربات مكثفة توقظك، وعالم غير مستغلق، لكنه مفتوح، بعبارة أخري الشعر الأصيل يدعوك لاستكمال مهمة الشاعر، المشاركة في تأليف القصيدة. كما هو الحال في الفن التجريدي، إنك تقرأ في اللوحة أشياء ربما لم يقصدها الفنان. قصدية الفنان من عدمها ليست امتيازا؟ - أنا أحدثك عن التلقي الإيجابي الخلاق الذي يدفعك الفنان لممارسته، إليوت كان من هذا النوع الذي يوحي إليك بمعان متعددة. وكيف تري الغموض ؟ - أنا ضد الغموض المتعمد الذي يلجأ له ضعاف الموهبة. كان لك ب"هوايتهد" الفيلسوف الإنجليزي، ولع خاص، وأعتقد أنني أشاركك هذا الولع، خاصة بكتابه "مغامرات الأفكار"، وبنظريته prehension? أو انتقال الخصائص من حادثة في الماضي إلي حادثة في الحاضر إلي أخري في المستقبل، هذا الترابط الذي يقدم لك الزمن في نموه وصيرورته. ثم آراؤه في اللغة.. أن الكلمة غير دقيقة، أو هي مجرد كود للتراسل. فضلا ًعن نظرته للحضارة..إلخ، أنا مدين بالكثير مما أعرفه لهذا الرجل. - أعترف أنك تضيف لي الآن معرفة جديدة به. أنا لم أقرأ هوايتهد بالتفصيل، ولكن "مغامرات الأفكار"، دلني مبكرا ًعلي أن الفكر أشبه ما يكون بمغامرة، إن كان حقيقيا ً. ولعلي إلي اليوم أعتبر أي موضوع جديد بمثابة مغامرة.