وصل الرئيس بوتين مثقلاً بأعباء الحرب الروسية الأوكرانية؛ حرب كلفت بلاده ما يُقدَّر بمليون جندي بين قتيل وجريح، فيما واصل الأوكرانيون دفع ثمن يومي من الدماء والمعاناة. أما ترامب فقد دخل قاعة المحادثات مرتديًا عباءة «صانع الصفقات»، مفعمًا بالثقة التي لا تنفصل عن شخصيته. البعض اعتبره فرصة لإيقاف نزيف الحرب، وآخرون رأوا فيه بداية فوضى أكبر. ◄ لا تحالفات.. لا ثوابت.. فقط صفقات تُصنع على الطاولة ◄ «الإيكونوميست»: تقلبات ترامب تفتح أبواب الفوضى وتربك الحلفاء والخصوم المصافحة الأولى بينهما كانت عريضة مبتسمة أمام الكاميرات، لكن ما إن أُغلقت الأبواب حتى تكشّف المشهد الحقيقى؛ محادثات صعبة، وطلبات متعارضة، وغياب خريطة طريق واضحة. حرص ترامب على التباهى بأنه وحده القادر على «جلب السلام»، بينما ركّز بوتين على تثبيت مكاسب ميدانية قبل أي اتفاق مكتوب. ◄ دبلوماسية الصفقات ما خرج من اللقاء لم يكن وقف إطلاق نار واضحًا، ولا خطة سلام شاملة، بل كان اتفاقًا ضبابيًا مليئًا بالثغرات، أُعلن أمام الإعلام ك«خطوة تاريخية»، لكنه ترك المراقبين في حيرة. فالأوروبيون الذين تابعوا القمة من بعيد شعروا بأن واشنطن اختارت اختصار الطريق، وأن أوكرانيا تُركت لتواجه مصيرًا مجهولًا. وبرز المقال الأخير فى مجلة «الإيكونوميست» البريطانية بعنوان: «كيف تنتصر في السياسة الخارجية» ليؤكد كيف يفاقم تذبذب ترامب المتقلب التوترات الجيوسياسية، لا سيما فيما يتعلق بطموحات بوتين ونظيره الأوكرانى «فولوديمير زيلينسكى». إن فهم أسلوب ترامب في السياسة الخارجية ضروري لفهم تأثيراته العميقة على العلاقات الدولية، والتحالفات، والهيكل العام للسلام العالمي. في جوهرها تعكس سياسة ترامب الخارجية مبدأ التبادل التجاري. فهو يستوحى أسلوبه من خلفيته التجارية، حيث يتعامل مع العلاقات الدولية على أنها مفاوضات عند «طاولة تفاوض»، تُقاس كل صفقة فيها بالمصلحة الذاتية الفورية، وكأنها لعبة صفرية. وهذا يتناقض بشكل واضح مع لعبة الصبر الطويلة التى مارسها أغلب سلفه، التى اعتمدت على بناء ائتلافات تدريجية، واحترام الأعراف الدولية، واستراتيجية ثابتة. ومنذ بداية ولايته الثانية كان لأنصاره تصور واضح حول كيفية إعادة صياغة دور أمريكا على الساحة العالمية. بدلاً من الاعتماد على الدبلوماسية التقليدية القائمة على التحالفات والنصائح الخبيرة، كان ترامب يثق بحدسه. فهو يعتبر نفسه مفاوضًا بارعًا يقرأ مخاوف ورغبات الآخرين بمهارة استثنائية، ويعتقد أنه قادر على تجاوز المجاملات الدبلوماسية وممارسة ضغط قاسٍ ومباشر. فكل دولة تريد النفاذ إلى الأسواق الأمريكية الهائلة، وترامب كان يرى أنه بمجرد التهديد بإغلاق هذه الأبواب يمكنه إجبار الدول المترددة على إنهاء نزاعاتها أو إعادة التفاوض على صفقات تجارية بشروط تصب في مصلحة الولاياتالمتحدة. في هذا المنظور لا مكان للدبلوماسيين المحترفين أو الخبرات المتراكمة، بل ل«صُنّاع الصفقات» الذين يلعبون اللعبة بعقلية تجارية صارمة. ورغم أن هذا النهج فتح الباب أحيانًا للفساد أو التسويات المعقدة، إلا أن أنصاره كانوا يجادلون بأن النتيجة تبرر الوسيلة. ◄ اقرأ أيضًا | واشنطن تبرم صفقة مع أوغندا لاستقبال اللاجئين ◄ واقع معقد لكن الواقع كان أعقد؛ استخدام الرسوم الجمركية كسلاح أضر بالأعمال والمستهلكين الأمريكيين بقدر ما أضر بالخصوم. والأخطر من ذلك، أن التخلى عن المبادئ العالمية لصالح قاعدة «القوة هى الحق» أدى إلى نفور الحلفاء القدامى دون أن يردع بالضرورة الخصوم. إن عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات ترامب تحولاته السريعة وخياراته المزاجية جعل الوضع الجيوسياسى أقل استقرارًا، مما زاد من المخاطر بدلًا من أن يقللها. لم يكن ترامب عالميًا ولا انعزاليًا، كما أنه لم يقبل بمجالات النفوذ التقليدية؛ لقد تصرف ببساطة بدافع الاندفاع، مغيرًا اتجاهاته فى كثير من الأحيان دون مبرر واضح. ووفقًا للمجلة البريطانية لفهم نهج ترامب يمكن تقسيم جهوده فى السياسة الخارجية إلى ثلاث فئات: عالية المخاطر، ومتوسطة المخاطر، ومنخفضة المخاطر. فى أعلى هذه الفئات، تمثل العلاقات مع القوى الكبرى التى تواجه أمريكا كمنافسين أو مهددين وعلى رأسها الصينوروسيا. وتندرج إسرائيل أيضًا ضمن هذه الفئة نظرًا لأهميتها الاستراتيجية فى السياسة الأمريكية. كما برزت إيران، بطموحاتها الإقليمية المزعزعة للاستقرار، بشكل كبير. هذه العلاقات معقدة ومحفوفة بالتحديات. وسيكون النجاح فى أىٍ من هذه المجالات إنهاء الحرب فى أوكرانيا، أو التوسط فى السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، أو بناء علاقة مستقرة مع الصين نصرًا كبيرًا، مع مكاسب هائلة محتملة. أما الفئة التالية (متوسطة المخاطر) فتشمل دولًا مهمة وإن كانت أقل مركزية؛ مثل البرازيلوجنوب إفريقيا والهند، وهو أمر مفاجئ نوعًا ما. تتنافس كلٌ من الصينوالولاياتالمتحدة على النفوذ هنا. ومن الناحية المثالية، ينبغى أن تكون هذه العلاقات مفيدة للطرفين، ومع ذلك، تستاء هذه الدول من المحاولات الأمريكية للهيمنة عليها. وأخيرًا، تشمل فئة المخاطر المنخفضة الدول الأصغر أو الأفقر حيث يمكن للقوة العظمى أن تمارس نفوذًا هائلًا. وقد حقق ترامب بعض النجاحات الملحوظة هنا، المساعدة فى التوسط فى اتفاق سلام بين أذربيجان وأرمينيا بعد عقود من الصراع، والعمل على التوصل إلى هدنة بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا. كانت هذه الإنجازات ذات مغزى، فقد خاضت أذربيجان وأرمينيا قتالًا متقطعًا لمدة 35 عامًا، ويمكن لإعادة فتح طرق التجارة بوساطة ترامب أن تقلل من النفوذ الروسي في المنطقة. وكان وقف إطلاق النار بين الكونغو ورواندا، على الرغم من هشاشته وانتهاكه فى بعض الأحيان، خطوة إلى الأمام، حيث ترتبط الفوائد الأمريكية المحتملة بصفقات الموارد المعدنية. ◄ إخفاقات وتناقضات لكن نهج ترامب تعثر أكثر في المجموعة متوسطة المخاطر. فقد أدت خلافاته مع قيادة البرازيل إلى نفور لاعب إقليمي حاسم. واستندت شكواه بشأن السياسات العنصرية في جنوب إفريقيا إلى معلومات مضللة وأساءت إلى ديمقراطية مهمة. وأثارت تعريفاته الجمركية وخطابه العنيف غضب رئيس وزراء الهند لدرجة أن الهند اقتربت من روسيا مجددًا، مما أضعف آمال أمريكا في بناء ثقل موازن قوى للصين. ونما نفوذ الصين فى البرازيلوجنوب إفريقيا، حيث بدت واشنطن أقل موثوقية. كما أثارت تعريفاته الجمركية التى هدفت إلى إجبار الصين ردود فعل انتقامية. ومؤخرًا، تردّد ومدّد المواعيد النهائية، مما قوض موقفه المتشدد. وزاد الأمر سوءًا رفعه حظر تصدير رقائق «إنفيديا» المتطورة إلى الصين، مما فرض على الولاياتالمتحدة دفع مبالغ مالية كبيرة، لكنه أضعف السياسة الأمنية الأمريكية. وفيما يتعلق بأوكرانيا، تأرجح خطاب ترامب بشكل حاد بين إلقاء اللوم على كييف في إثارة الحرب والتهديد بقطع المساعدات العسكرية، وبين إدانة سوء نية بوتين واقتراح فرض عقوبات أشد على روسيا. أما بشأن إسرائيل فانحاز ترامب باستمرار إلى رئيس الوزراء «بنيامين نتنياهو»، ملبيًا جميع المطالب الإسرائيلية دون انتزاع تنازلات. وربما يكون استعداده لشن ضربات عسكرية ضد إيران قد خفف من بعض المخاوف الإسرائيلية، لكنه فشل فى استغلال نفوذه لكبح جماح العمليات العسكرية الإسرائيلية القاسية فى غزة. وفي غضون ذلك تعلمت الحكومات الأجنبية كيفية إرضاء ترامب والمناورة به لتحقيق أهدافها. حصلت باكستان على صفقة عملات مشفرة وترشيح لجائزة نوبل للسلام وظهر الفساد الذى كان يخشاه الكثيرون فى ظل رئاسة ترامب القائمة على الصفقات التجارية بشكل متزايد، وجادل النقاد بأن ترامب يهدف فى المقام الأول إلى تعزيز مصالحه الخاصة بدلاً من مصالح أمريكا. ويبقى كل هذا مجرد حكم أولى، لقد هندس أعظم صفقة فى مسيرته المهنية، وأعاد صياغة إرثه فى السياسة الخارجية. لكن الكثيرين يقيِّمون فرص نجاحه بأنها ضئيلة، فالعالم غارق فى حيرة عميقة حول ما إذا كانت صفقات ترامب غير المتوقعة ستجلب السلام أم ستزيد الفوضى.